خولة حسن الحديدصفحات سورية

ملحمة الشهادة السورية و تاريخ سورية الجديد

د. خولة حسن الحديد

خلال متابعتنا لما تنشره وسائل الإعلام العربية والعالمية بخصوص الحراك الشعبي السوري، يبدو لنا العالم وكأن ذاكرته مثقوبه إذ غالباً ما تبدأ التقارير بمقدمات تعبر عن الدهشة والاستغراب مما يحدث في الشارع السوري من حراك وما يقدم من تضحيات كما يعبر بعضها عن حقيقة أن ما يحدث لم يكن أحد يتصوره ولا حتى في الأحلام ولا شك إن النظام القمعي الشمولي الذي حكم سورية لعقود وسمعة أجهزة الأمن السورية التي بلغت الآفاق بمقدار وحشيتها ودرجة لا إنسانيتها في التعامل مع أي معارضة أو انتقاد كانت تلمسه للنظام يعطي تلك الدهشة وذاك التعجب مبرراً، وفي الآن نفسه يفصح عن مدى بطولة الشعب الذي نهض ليتحدى هكذا نظام.

لهذه الدرجة وأكثر بات العالم ينظر إلى المجتمع السوري وكأنه في حالة موات مجتمع اعتاد التصفيق والتهليل للرمز الأوحد والقائد الخالد مجتمع مشوه وممسوخ وكأنه قطيع من الأغنام التي تسير وراء مرياعها مطأطأة الرأس مكتفية بحمد ربها بما يجود عليها قائدها من مكرمات وهذا يشير أيضاً إلى أن غالبية تلك الوسائل الإعلامية قد وصّفت الشعب السوري بمعزل عن تاريخه البعيد والقريب هذا التاريخ الذي يحفل بقيم البطولة والشجاعة التي سطّرها السوريون في دفاتر التاريخ بدمائهم وأرزاقهم منذ الاحتلال العثماني مروراً بالاحتلال الفرنسي وصولاً إلى مرحلة ما بعد الاستقال وحتى وصول حزب البعث إلى دفة الحكم في سورية إذ بالرغم من كل التدجين والقمع الذي مورس على السوريين خلال خمسين عاماً لم يخل المجتمع السوري من بقع الضوء التي كانت تحاول أن تفتح هوة في الجدار وتخترق حواجز الصمت وهذا ما تشهد به أقبية السجون من عدرا وصيدنايا إلى سجن تدمرالعتيق الذي تشهد جدرانه على مجاز النظام البعثي الذي صفى في زنازينه خيرة الشباب السوريين من أطباء ومحامين واقتصاديين وفقهاء، وعلماء ومثقفين، وذلك في ليلة غاب بدرها لتحل العتمة التي جاءت بشائر أطفال درعا لتزيح ستارها وتعيد إلى سورية ضوء الشمس الذي غاب.

تكاد تقارب ملحمة الشهادة السورية في تراجيديتها الأساطير اليونانية القديمة بهيبتها وجلالها وإصرارها على الحياة من خلال الموت فمنذ انطلاقة الثورة السورية والسوريون يواجهون الرصاص الحي بصدور عارية ويتحدون الدبابات وآليات الجيش الثقيلة بشجاعة منقطعة النظير في كل أسبوع تتقدم قوافل الشهداء بالعشرات على امتداد التراب السوري، والتي تستولد شهداء جدد خلال تشييعهم ومراسم أعراس شهادتهم، إذ تأبى أجهزة القمع والإجرام إلا أن تستولد من الجنازات جنازات ومن الشهداء شهداء ..هؤلاء الشهداء الذين يتحدث عنهم أهاليهم بفخر واعتزاز كونهم يقدمون صورة مشرّفة للمقاومة السلمية الأسطورية لكل أساليب الإجرام والتنكيل التي تجسدها الآلة العسكرية والأمنية، ولم يبق للسوريين إلا هذه الصورة يتمسكون بها كونها الدواء الشافي لجراحاتهم النازفة بعد أن تخلى عنهم العالم كله الصورة التي تؤكد أيضاً فشل النظام في حلوله العسكرية والأمنية وفي محاولاته البائسة لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل 15 آذار/مارس الماضي.

تتجسد ملحمية الشهادة السورية في صمود الأهل وتماسكهم أمام ما يحيط بشهادة أبنائهم من ظروف لا تتوقف عند حد مسألة قتلهم بل تأبى إلا أن تزيد تنكيلاً فيهم وتوغل في أوجاعهم من خلال الاحتفاظ بجثامين الشهداء ولعدة أيام أحياناً مقابل أن يوقع الأهالي على وثائق أمنية تقرّ بأن عصابات مسلحة من قتلت أبناءهم أو التعهد بعدم التظاهر مرة أخرى، أوعدم تشييع الشهداء في جنازات جماعية ودفنهم تحت جنح الظلام وبمرافقة أمنية كونها تمثّل إدانة فاضحة لكل إدعاءات النظام حول تسلح المتظاهرين وخوفاً من تحوّل جنازات التشييع إلى مظاهرات حاشدة إنّ اختطاف جثامين الشهداء والاحتفاظ بها لأيام وسرقة أعضاء بعض منها يشكل وصمة عار على جبين قاتليهم وإنّما يعبرعن هلعهم ورعبهم من مواكب استشهادهم لأن كل شهيد أصبح منارة يستضيء بها أبناء حيّه أو بلدته أو مدينته لتزيد من ثورتهم، ورغم الحصار ومهاجمة الدبابات والجنود ورجال الأمن والمرتزقة ‘الشبيحة’ الذين باتوا يختبئون في دهاليز العتمة ليداروا عارهم و قبح أفعالهم بحق أبناء شعبهم يواصل السوريون الطريق الذي اختبروه بدماء أبنائهم بتصميم وإرادة لأنهم اكتشفوا إنه طريق الأحرار ..طريق دحر الظلم وكسر القيود ورفض الذل والعار،لذلك تتكثف الملحمة أمام أمهات الشهداء اللواتي يقفن أمام رؤوس أبنائهن التي فجرها رصاص الغدر بتماسك كبير حيث لا نواح ولا بكاء، يغمروهن بالدعاء أن يتقبلهم الله شهداء ويودعوهن بنثر الأرز والورود فوق جثامينهم الطاهرة ليزدن من عزيمة الأحرار وقدرتهم على مواصلة الطريق وكم تكبر الملحمة أمام أعيننا عندما نشاهد إحدى الأمهات الثكالى اللواتي فقدن أكثر من ابن في يوم واحد كما حدث مع عدد من العائلات في درعا وحمص وجسر الشغور .. أي قلب تحمله هؤلاء الأمهات ليبقين صامتات أمام جثامين الأبناء وهم في ريعان شبابهم يطلبن لهم الرحمة والمغفرة، ويعاهدوهم على ألا تذهب دمائهم هدراً وإن الهدف الذي استشهدوا من أجله لا رجوع عنه.

تلك هي ملحمة الشهادة السورية التي تكتب لسورية تاريخاً جديداً الملحمة التي تؤكد إنّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبيرة بحجم سموها ونبلها، ولا شك أنّ حرية السوريين وأملهم ببناء وطن حر ديمقراطي جدير بهم وبعصرهم هو هدف سام، وغاية نبيلة استحقت بنظر كل سوري التضحية بالنفس، وبذل الروح رخيصة في سبيل تحقيقه، هنيئاً لأمهات الشهداء ولهنّ الفخر والعزة، فبالرغم من فجيعة الفقد وألم وحزن الفراق إلا أنّ أبناءهن دخلوا وجدان كل سوري حر متطلع إلى العدالة والحرية والكرامة الإنسانية .. هؤلاء ماتوا لنحيا .. ماتوا ليحيا أبناؤههم حياة أخرى خالية من الذل والمهانة والقهر .. حياة يعيش فيها الطفل طفلاً دون أن تسرق منه طفولته، والرجل رجلاً دون أن تهان رجولته، والمرأة ‘امرأة’ وسيدة نفسها دوت أن تثكل بأبنائها أو تقضي عمرها تنتظر خروجهم من أقبية سجون الظلم والاستبداد وطن لا يستصرخ شيوخه ومسنيه الرحمة تحت أحذية العسكر والجلادين المرتزقة .. إنهم يكتبون لنا تاريخاً جديداً يتسق مع تاريخنا العظيم ويستولدون لنا حياة كريمة عزيزة … تحية إلى أرواح شهدائنا .. ألف قبلة على رؤوس أمهات شهدائنا …. أيها العالم انتظر السوري الجديد فهو قادم معمّد بجلال الشهادة ..أيها السوريون لا تنسوا: المجد للشهداء والخلود لهم .. المجد والخلود لهم.

‘ كاتبة سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى