صفحات سورية

ملحمة انتظار المجهول في الثورة السورية

 

عبد عرابي

صحيح أنّ الانتظار صعب ومؤلم ولكن ما يخفف من وطأته أنّ أجمل الأشيـاء هي تلك التي يطول انتظارها.

انتظار الشيء يعني المكث والتربص ترقباً لحضوره أو وقوعه، سواء كان خيراً أو شراً، وعليه فإن حالة الإنسان النفسية تختلف في حالة الانتظار بحسب نوع الأمر الذي ينتظره، فإذا كان ما ينتظره خيراً تمنى أن تختزل الساعات والأيام لتصير دقائق وثواني، وإن كان ما ينتظره شراً تمنى أن يتوقف الزمن وتنتهي الأيام، وأشدّ حالات الانتظار قسوة عندما يكون المنتظَر مجهولاً.

لاشكّ أنّ الشعب السوري حين قام بثورته لم يكن يتوقع أن يسقط نظام الطغيان والاستبداد في وقت قصير، لمعرفته التامّة والجازمة بمدى تجذّره وتمدده في كافّة مؤسسات الدولة وخصوصاً مؤسستي الجيش والأمن وما يتبعهما، وما يتعّلق بهما من مؤسسات اقتصادية واجتماعية وسياسية و….

توقّع السوريون أن يكون مخاض ثورتهم أطول وأكثر إيلاماً عندما كانوا يتابعون انتصار أكثر ثورات الربيع العربي الأخرى في وقت قصير، وبتكاليف قليلة بالنسبة لثورة على أنظمة مكثت عشرات السنين، فمنّوا أنفسهم بنجاح ثورتهم سيراً على درب باقي الثورات وتيمناً بها، ولكن الله أراد أمراً آخر، فجرت الرياح بما لا تشتهي سفن الثورة السورية – بغض النظر عن أسباب ذلك محلياً وإقليمياً ودولياً – و طال انتظار تحقق هذه الأمنية الجميلة، وفاقت تكلفتها كلّ التوقعات من دماء السوريين وأعراضهم وبيوتهم و…

بدأت ملحمة انتظار المجهول في الثورة السورية، وتفوقت في جزئياتها على عبثية ردّة فــــعل النظــام الهمجية في تعامله مع أحداث الثورة، ليدفع أهلها إلى اليأس والقنوط و وقطع الأمل في احتمال انتصار ثورتهم ونجاحها، أراد النظام بهذه الوحشية المرعبة أن يقول للسوريين: لا تنتظروا سقوطي، فلن يحصل ذلك إلا في أحلامكم، حتى قال أحد مؤيديه (من المحللين السياسيين): لن يسقط النظام ولو أشرقت الشمس من المغرب. ومع ذلك لم يكفر السوريون بثورتهم، ولم يكفّوا عن انتظار انتصارها و نجاحها القريب كما يأملون.

يعيش السوريون ملحمة الانتظار في جميع جزئيات حياتهم كنتيجة طبيعية لأحداث الثورة وانعكاساتها، فهم ينتظرون ساعات طويلة للحصول على قليل من الخبز، وينتظرون مثل تلك الساعات للحصول على عبوة غاز، وينتظرون مثلها للحصول على قليل من الوقود اللازم للتدفئة، وينتظرون مثل تلك الساعات عودة المياه الصالحة للشرب ليبدأ سباق مع الزمن لملء أكبر قدر ممكن من الأواني والبراميل، وينتظرون مثلها عودة التيار الكهربائي الذي يمر عليهم مرور مسافر يتعجّل الوصول إلى مقصده، وينتظرون أكثر منها في تنقّلهم عند حواجز التفتيش وما أكثرها فيما تبقى من مدن بيد النظام.

الأمّ تنتظر ولدها والزوجة تنتظر زوجها وهما في حالة قلق و اضطراب إذا خرجا من البيت ولو لفترة وجيزة، فهما تتوقعان ألا يعود من يخرج من بيته، و قصص اختفاء النّاس حديث كلّ يوم، فقد يخطف المرء طلباً للفدية، ولو لم يملكها أهله، وقد انتشرت العصابات المتخصصة في ذلك من المجرمين الذين أطلق سراحهم و فتحت لهم أبواب السجون عند بدء الثورة، أو ربّما يعتقل المرء ولا يعرف في أي فرع يحتجز، لتبدأ رحلة انتظار جديدة للبحث والابتزاز الذي لا ينتهي.

ينتظر الناشطون والإعلاميون والسياسيون المعارضون الاعتقال في أي لحظة، وخصوصاً عند اعتقال شخص ما كان يعمل معهم، فهم يعرفون أنّ لا أحد يستطيع أن يصمد – إلا نادراً جداً – أمام الأساليب الوحشية التي تستخدمها فروع الأمن في انتزاع المعلومات والأسماء، ومن ثمّ ينتظر أهل المعتقل في كثير من الحالات من يأتي ليخبرهم أنّ جثة قريبهم الذي اعتقل منذ فترة موجودة في المشفى العسكري أو قرب الحاجز الفلاني أو مرمية في المكان الفلاني…

ينتظر السوريون الآمنون في المناطق التي يسيطر عليه الثوار في أي لحظة قذيفة دبابة أو راجمة صواريخ أو طائرة أو صاروخ بعيد المدى ليجعل بيوتهم أثراً بعد عين، ويدفنهم مع أولادهم ومتاعهم وأموالهم تحت الأنقاض، أو يفاجؤون بصاروخ يحول العشرات إلى أشلاء تختلط بالخبز الذي كانوا ينتظرون الساعات الطويلة للحصول عليه، أو وهم ينتظرون استلام معونة غذائية أو دوائية- على ندرتها.

ينتظر السوريون الذين يحاصرهم جيش النظام والمليشيا الطائفية المؤيدة له في حمص من يفك الحصار عنهم من المؤسسات والهيئات الإنسانية الدولية والإقليمية منذ أشهر طويلة وقد أطلقوا مئات وآلاف النداءات اليومية وهم يستنجدون ويستغيثون وقد وصولوا إلى حال مزري من جميع الجوانب الإنسانية.

ينتظر الثوار السوريون الأسلحة النوعية التي وعدهم بها بعض أصدقاء سوريا من عدة أشهر من، ويألون جهداً في تفنيد الحجج التي يتذرّع بها هؤلاء الممتنعون ومع ذلك مازالوا ينتظرون.

ينتظر السوريون يقظة الضمير العربي والعالمي الذي ما زال يغط في نوم عميق مع أنّ الأعين تتابع يومياً على شاشات المحطات الفضائية ما يشيب لهوله الأطفال، مئات القتلى والجرحى ومجازر ومذابح يندى لها جبين الإنسانية، خراب ودمار وتشرد وتهجير وانعدام لأبسط مقومات الحياة الإنسانية، ومازالوا ينتظرون.

طال انتظار السوريين لتحرك إقليمي و دولي جاد ينهي معاناتهم المستمرة، منذ سنتين تقريباً وهم ينتظرون موقفاً دولياً حازماً تتخذه المؤسسات والهيئات الدولية للقيام بواجباتها التي وجدت من أجلها.

ينتظر السوريون انهيار النظام وسقوطه على أحرّ من الجمر وشعارهم وإنّ غداً لناظره قريب، ويقينهم أنّه إن تخلى عنهم البشر فإنّ ربّ البشر لن يتخلى عنهم، لأنهم مظلومون، وهم ينتظرون مفاجأة كبرى يأتي بها القدر تحقق لهم أملهم المنتظر.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى