إيلي عبدوبرهان غليونبكر صدقيخورشيد دليسلام الكواكبيسلامة كيلةسمير العيطةصبحي حديديصفحات مميزةطيب تيزينيعلي العبداللهعمر كوشغازي دحمانغسان المفلحفايز سارهميشيل كيلونائلة منصورهوشنك بروكاوائل السواحياسين الحاج صالح

ملف صفحات سورية الثاني عن الضربة الأميركية المرتقبة على سورية – كتاب سوريين

سورية في قلب الرهانات الدولية/ برهان غليون

تابعت اليوم مداخلات المسؤولين الدوليين الرئيسيين في مؤتمر مجموعة العشرين في سان بطرسبرغ . وكان من الطبيعي أن يكون محور اهتمامي مواقف الدول المختلفة مما يمثل اليوم الحدث الأبرز في السياسة الدولية، أعني الموقف من حرب الابادة الكيماوية التي دخل فيها النظام السوري بعد ٣٠ يشهرا من العنف المتعدد الاشكال ضد شعبه.

باستثناء روسيا والصين وبعض الدول الاخرى التي تشكك في امكانية أن يكون المسؤول عن ضرب الاسلحة الكيماوية النظام السوري، وهي تبرر بذلك موقفها الثابت في تأييد نظام الأسد الذي تستخدمه لتحقيق مصالح جيوستراتيجية أساسية، والذي لم تخفه يوما، لم أجد سوى حجتين:

الأولى أن أوروبا سئمت من الحروب والتدخلات التي لم تجلب لها اي فائدة ولم تحقق أي مصلحة، ومثالها افغانستان والعراق،

والثانية أن أوروبا مرهقة اقتصاديا وليس لديها القدرة على المغامرة بحروب جديدة قد تكون مكلفة.

كلتا الحجتين تؤكد أن المعترضين على العمل ضد النظام السوري لا ينطلقون من الالتزام بأي مبدأ أو قاعدة قانونية أو أخلاقية وإنما من الخوف على مصالح أنانية صرف. بل إن التخلي عن المباديء والالتزامات الدولية هو المبرر الوحيد لعدم القيام بأي عمل محفوف بالمخاطر.

نحترم رأي الجميع، ولا يمكننا أن نفرض عليهم القيام بتضحيات هم يرفضون القيام بها، ولا نستطيع أيضا أن نعترض على تمسكهم بمصالحهم القومية وخوفهم من التورط في معارك او مغامرات قد تكلفهم اكثر مما يحتملون. لكن في هذه المرحلة لا أرى فرقا بين موقف الروس والصينيين الذين يرفضون العمل الجماعي ضد النظام السوري من منطلق الدفاع عن مصالحهم القومية وبين الأوروبيين وغيرهم الذين يرفضونه من منطلق الخوف من الخسارة أو التضحية. كلاهما لا يقارب الموضوع إلا من زاوية الدفاع عن مصالحه الخاصة.

في هذه الحالة، أي إذا تصرفت كل دولة من وجهة نظر مصالحها الخاصة فحسب، ولم تعبأ بمصير الشعوب الأخرى، من سيتولى الدفاع عن القوانين والأعراف الدولية التي تنص عليها وثائق الأمم المتحدة، والتي تستمد منها هذه المنظمة شرعيتها، ولا وجود لمنظومة دولية من دونها؟

وإذا تخلت كل الدول عن الوفاء بالتزاماتها في تطبيق هذه المباديء والقوانين الدولية، وبالتالي في وقف العدوان الموجه للشعوب والدول الضعيفة، ما هي قيمة وجود الأمم المتحدة نفسها؟ وعلى أي أسس سنقيم السلام بين الدول؟

تخلي الدول عن التزاماتها الدولية، وهربها من مسؤولياتها في حماية الشعوب المنكوبة، خوفا من المخاطرة أو حفاظا على مصالح قومية يعني ببساطة نهاية النظام الدولي، وتقويض الأمم المتحدة، وفتح الباب أمام نظام دولي جديد قائم على سيطرة الأقوى والأكثر استعدادا لاستخدام العنف، أي فتح باب جحيم دولي هو ما حاولت هيئة الامم قبل الحرب الثانية، ثم الأمم المتحدة بعد الحرب، وقفه وتحصين العالم من عودة الحرب والعنف كمنظم وحيد للعلاقات بين الأفراد والطبقات والشعوب والدول.

لن تكون ثمرة الانانية القومية التي بدأت تسود اليوم في العالم، تحت تأثير الأزمة الاقتصادية والانكفاء على الذات، وتراجع مصالح الدول الصناعية في البلدان النامية، وبالتالي ترك الشعوب الضعيفة ضحية جلاديها، سوى تدمير منظمة الأمم المتحدة، وهي المحاولة الجدية الأولى لإقامة نظام دولي قائم على مفهوم القانون والحق والتعاون والتضامن بين الأمم.

وهذا يعني تحطيم للأمل الذي ولد بعد حربين عالميتين مدمرتين في وضع نظام للأمن والسلام العالميين، لا يقوم على أساس القوة وخضوع الأضعف للأقوى، وإنما على احترام حق الدول وحق الشعوب وحق الأفراد في حياة سيدة وكريمة وحرة.

سيكون ذلك تقويضا لمبدأ الحق مقابل عودة مظفرة لمبدأ القوة، والعودة إلى الحرب كاساس لتنظيم العلاقات بين الدول، وإلى العنف كوسيلة لتنظيم العلاقات بين النخب والشعوب، وهذا ما جاءت فكرة القانون الدولي، وحكم القانون، وحقوق الانسان، لتجاوزه، وما شكل تحقيقه أحد اكبر مظاهر التقدم في المدنية في حضارتنا العالمية الراهنة في القرنين الأخيرين.

المدن

تسوية ربع الساعة الأخير/ وائل السوّاح

 كل المؤشرات تدل على أن الضربة الأميركية-الفرنسية آتية، والمعلومات التي يتداولها المسؤولون والصحافيون في الولايات المتحدة تفيد بأنها ستكون محدودة في الزمان لكنها ستكون مكثفة ومدمِّرة. وثمة أرقام تتحدث عن 250 صاروخ من طراز “توماهوك” ستلقى في 24 ساعة. ورغم كل الدقة التي تتمتع بها هذه الصواريخ إلا أن احتمال الخطأ ممكن دائماً واحتمال إصابة مدنيين وارد حتماً.

حتى لو وضعنا المدنيين جانباً، فإن الصواريخ سوف تدمر البنية التحتيّة العسكرية لسوريا، من مطارات وأسلحة، وسوف تتجاوز ذلك إلى تدمير بنى تحيتة اقتصادية وتجارية حتماً.

مسؤولية  حماية المدنيين والبنية التحتية وتجنيب البلد هذا المصير هي مسؤولية النظام السوري بالدرجة الأولى. فمن جانب، النظام هو الذي بدأ الحرب على شعبه، وهو الذي قتل أكثر من 100 ألف سوري وهجّر نحو خمسة ملايين مواطن وهدم اقتصاد سوريا ونسيجها الاجتماعي وبنيتها الأخلاقية. أدنى مستوى من مستويات المسؤولية السياسية والأخلاقية تفترض من النظام أن يقف في ربع الساعة الأخير، ويسأل نفسه ما إذا كانت مكاسبه بالفعل تستأهل تدمير البلاد وتحويلها إلى ملعب دولي للقوى السياسية وقذفها إلى مستنقع من التوتر والكراهية الاجتماعيين اللذين لن يكون ثمة مخرج منهما في المدى المنظور.

 في أحسن أحواله، سيتحول النظام من نظام حاكم إلى ميليشيا، ويتحول مسؤولوه إلى أمراء حرب وفتوَّات يعيشون على الخوَّة والنهب الصغير. فهل سيكون ذلك جديراً بالثمن الذي يمكن للبلاد أن تدفعه؟

روسيا والصين، بدورهما، أمام استحقاق كبير ويتعين عليهما أن يسألا نفسيهما ما إذا كانت سوريا مدمَّرةً ومفتتةً ومفقرةً صالحة للحفاظ على مصالحهما السياسية والاقتصادية.

 كان من المستحيل أن يتمكن النظام من البقاء والصمود في مواجهة الثورة الشعبية العارمة التي انتفضت ضده لولا مساعدة هذين البلدين. ولا شك في أن جزءاً كبيراً من الدماء السورية التي سالت في الأشهر الثلاثين الفائتة تلقي بثقلها على كاهل المسؤولين في هذين البلدين. لذلك يتعين على موسكو وبكين أن تتساءلا إذا كان ثمن دعم نظام قاتل وفاقد للتأييد الشعبي والاحترام الدولي جديراً بالقضاء على ما تبقى من مصالحهما وصورتهما أمام السوريين والعرب والعالم بأسره.

 إيران أيضا تتحمل جزءاً كبيراً من وزر الدم السوري، سواء عن طريق دعمها المباشر – المادي والمعنوي –  للنظام السوري، أم من خلال أموال المالكي ومقاتلي حزب الله الذين شاركوا في النيل من السوريين وتسببوا في مقتل عدد كبير منهم، وتدمير مدن سورية بأكملها.

تحاول إيران اليوم أن تقدم صورة جديدة عبر انتخاب رئيس جديد يحاول ان يرسم لنفسه صورة مختلفة عن الرئيس المتشدّد الذي قاد دفة إيران نحو مصادمات لا تنتهي مع العالم ومع جيرانه العرب. وكان من اللافت أن روحاني قد أدان بشدة “استخدام اسلحة كيمياوية”، من دون أن يتطرق الى المسؤولين عن استخدامها، مما يجعل الاحتمال مفتوحاً على كلِّ الجهات.

إن من مصلحة الاتجاه الجديد في إيران تصحيح الصورة المشوّهة التي رسمها الرئيس أحمدي نجاد بتحالفه الظالم مع النظام السوري، لإعطاء صورة مختلفة عن البلد التي يريد أن يقودها.

 لا يبدو أن الضربة الأميركية ستكون في مصلحة النظام السوري أو أي من الأطراف التي دعمته وأيدته حتى اللحظة. ويبقى السؤال: هل تجنب الضربة ممكن؟ وهل ثمة مكان لحل مباغت يأتي في ربع الساعة الأخير؟

مثل هذا الاحتمال – على الرغم من كونه بعيداً ومثالياً – ليس مستحيلاً تماماً. هو يتطلب موقفاً شجاعاً وبراغماتياً من النظام وحلفائه. وثمة أساس جاهز يمكن البناء عليه هو المبادرة التي تقدم بها قبل أسابيع 100 مثقف سوري، عندما طالبوا في بيان لهم بحل سياسي يحقن الدماء ويحفظ وحدة التراب الوطني، مما يستلزم تنحّي بشار الأسد وأركان نظامه، وانتقال السلطة تحت إشراف الأمم المتحدة إلى حكومة مؤقتة كاملة الصلاحيات تهيئ الشروط اللازمة لانتخاب مجلس تأسيسي يقرّ دستوراً ديموقراطياً للبلاد ويشرف على انتخابات نيابية نزيهة.

مثل هذا الحل يمكن أن يضمن سلامة ما تبقى من سوريا، ويحمي ما تبقى من بنيتها التحتية وقوتها العسكرية، ويترك مجالاً للأمل في قيام نظام ديموقراطي تعدّدي يحرص على استقلال سوريا وأمنها ووحدة ترابها الوطني، ويكفل الحريات العامة والفردية والمساواة بين جميع المواطنين من دون أي شكل من أشكال التمييز بينهم.

القرار السوري المستقل/ فايز سارة

لم تكن سوريا في اي لحظة من تاريخها على نحو ماهي عليه الآن لجهة التدخلات الخارجية، اذ هي مسرح كبير لتدخلات قائمة بينها تدخلات روسية وايرانية الى جانب قوى محلية بينها حزب الله اللبناني والمليشيات الطائفية العراقية وجماعات اصولية متطرفة، وهي تستعد لمزيد منها، حيث يذهب النظام الى استدعاء تدخلات دولية واقليمية اخرى في الشأن السوري بينها الولايات المتحدة وفرنسا وبعض الدول الاقليمية.

ان فاتحة التدخلات الخارجية في سوريا، استندت اساساً الى سياسة الاعتماد على الآخرين بما تعنيه من تفريط بالسيادة الوطنية والقرار المستقل، ورهنة لقوى خارجية اعتمد عليها النظام في مواجهته لثورة السوريين، التي انطلقت في آذار 2011، عندما اختار استعمال القوة المفرطة لمواجهة الشعب بدل الذهاب الى حل سياسي، وتسويات داخلية اساسها الاصلاح والقبول بالمشاركة الشعبية لاخراج سوريا من ازماتها، التي دفعت لثورة السوريين، وكان الاهم في تلك التدخلات، هو طلب الاسلحة والذخائر لمواجهة الشعب، ثم تطور الامر الى طلب المعونات الاقتصادية للحد من التدهور المتزايد للاقتصاد السوري بفعل توقف اليات الانتاج والمرافق الخدمية في عموم البلاد بفعل طغيان الحل الامني ونتائجه الكارثية، وانتقل النظام في وقت لاحق الى طلب تدخلات عسكرية اجنبية من بينها خبراء روس وايرانيين في الشؤون العسكرية والامنية، قبل ان يطلب قوات ايرانية ومليشيات من حزب الله اللبناني والمليشيات الطائفية العراقية ومقاتلين مرتزقة للقتال الى جانب قوات النظام ومليشياته ضد قوات الجيش الحر وكتائب الثوار، ومن اجل اعادة احكام سيطرته على المدن والقرى التي خرجت من تحت سيطرته المباشرة.

لقد ادت التدخلات الخارجية في شوطها الاول الى الحفاظ على النظام والابقاء على سيطرته الهشة على سوريا، ومنعت محاسبة النظام على جرائمه وتجاوزاته من جانب مجلس الامن الدولي نتيجة الفيتو الروسي – الصيني، وفي جانب آخر، اطالت تلك التدخلات امد الازمة السورية، ومنعت سقوط النظام، وسمحت له المضي في سياسته الى الابعد والاعمق في القتل والتدمير، التي بلغت حداً اعلى باستخدام السلاح الكيماوي ضد السكان المدنيين مرات كثيرة اخرها مجزرة الغوطة التي اصيب فيها نحو تسعة الآف قتل منهم نحو الفين اغلبهم من النساء والاطفال.

وللحق، فان التدخلات الخارجية التي ناصرت النظام، ماكان لها ان تستمر، اذ حصل انكفاء جزئي فيها بعد جريمة استخدام الكيماوي التي تكررت وآخرها في الغوطة، واثارت سخط وغضب الرأي العام، وجلبت في اعقابها فكرة الضربة العسكرية للنظام باعتبارها الحلقة الاعنف من حلقات التدخلات الخارجية في الشؤون السورية، خاصة وان دولاً في مقدمتها الولايات المتحدة تبنت الفكرة، واخذت تدعو اليها، واتمت كل الاستعدادات لبدئها.

وبطبيعة الحال، فانه لايمكن رؤية هذا التطور في التدخلات الخارجية، الا باعتبارها ثمرة التشدد والتطرف الذي يمارسه النظام السوري، وهو المسؤول عنها وعن تداعياتها التي سيكون لها تأثيرات متناقضة في الواقع السوري. اذ يمكن لها ان تبدل في واقع الحال بعموميته، وتغير وقائع الازمة، واتجاهات معالجاتها، وكله مرهون بمحتوى الضربة وحدودها. واذا كانت الضربة محدودة الاهداف والنتائج، فانها سوف تقوي النظام، وتدفعه الى تصعيد سياسي عسكري وامني، سيطيل امد الازمة السورية، ويزيد نتائجها في القتل والتدمير. وستكون النتائج كارثية ايضاً، اذا اتخذت الضربة طابعاً عشوائياً ومدمراً، يؤدي الى سقوط النظام، مما سيحيل اجهزته العسكرية والامنية الى عصابات مسلحة، تتوفر لديها الاسلحة والامكانات المادية للانخراط في صراع اهلي واسع في مواجهة قوى اخرى، مما سيجعل سوريا ساحة حرب مفتوحة بلا قيود لمرحلة من الصعب التكهن بنهايتها.

اما اذا كانت الضربة مرسومة الحدود ومحددة الاهداف بالعمل على اخراج آلة حرب النظام الاساسية ولاسيما سلاحي الجو والصواريخ من الخدمة بحيث تضعف النظام الى ابعد الحدود، وتجعله قابلاً للدخول في عملية سياسية تعالج الازمة وفق محتويات جنيف 2، او ما يماثله، والوصول الى حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة وببرنامج زمني محدد، ينقل البلاد من نظام القتل والدمار الى نظام ديمقراطي، فان ذلك سيساعد سوريا والسوريين في انهاء الكارثة التي صاروا اليها، ويفتح الباب امام استعادة سوريا لوضعها الطبيعي ولو بعد وقت.

ان التدخلات الخارجية في الشؤون السورية، اصبحت حقيقة واقعة لافكاك منها في المدى المنظور لدرجة يمكن القول انه من الصعب مقاومتها وتقيدها، لكن من الممكن ومن المطلوب عقلنة تلك التدخلات ليس فقط لتخفيف اثارها السلبية وهي كثيرة، بل من اجل جعل هذه التدخلات اقل ضرراً، وهذا لايمكن الوصول اليه دون بناء قوة سياسية وعسكرية سورية، تستند الى فكرة القرار الوطني المستقل، وتصيغ علاقاتها مع القوى الخارجية بالاستناد الى تلك الفكرة، وهو توجه ليس بالسهل المضي به، لكنه ممكن وهو الاساس في الوطنية السورية، التي تتخذ لها هدف خلاص سوريا والسوريين واعادة بناء ما دمرته سياسة النظام وماجلبته التدخلات الخارجية من كوارث. فهل نشهد في المرحلة الحالية ولادة وطنية سورية قادرة على تجسيد فكرة القرار الوطني المستقل؟.

الفاشية الطائفية والمجتمع السوري/ غسان المفلح

الفاشية التي تمنع الديمقراطية والمجتمع المدني طوال فترة حكمها، تحتاج إلى إيديولوجيا متعصبة ذو طابع حربي. كما أنها ترفع من شأن القوة الجسدية والعسكرية، في امتهان خصومها ومحوهم. هذا ينطبق على كل الهياكل التي تداخلت وتشابكت في قتل الشعب السوري، الطغمة الحاكمة وكتلتها الصلدة السوداء. وحزب الله وإيران الخامنئي. الديكتاتورية تكون الطريق لانتصار الفاشية، لكنها تحتاج في تثبيت حكمها إلى اداوات أيديولوجية واجتماعية واقتصادية وقيمية. في سورية تمت هذه المسيرة- المجزرة عبر اربعة عقود ونصف، برضا نظام دولي له اعتباراته التي ليست في معرض حديثنا هنا.

لهذا كانت القومية الشعبوية- بعنصريتها- مفتاح الحل السحري لهذه الايديولوجية التي تحتاجها الفاشية، تعظيم المحاربين، واصبح منها في العالم نسخ هزيلة وأكثر دموية بعد موسوليني. في صيرورة انتاج النظام الاسدي، منذ مجيئه 1970 وماقبل طبعا وحتى الثورة، سقطت عنه برقع الايديولوجيا القومية، لأنه ولاعتبارات تمس الوضعية السورية وفساد النظام الكلي وانطلاق الثورة السورية، والتي ساهمت إلى حد كبير في انهيار الغطاء القومجي البعثي بشكل نهائي، عن هذه الطغمة، وظهرت على السطح مقتلة فاشية طائفية من نوع خاص، واصبحت الادلوجة الطائفية- الاقلاوية- التي كانت تعمل تحت ستار البعثية، طوال فترة الحكمهي السائدة. هذه تم تشريحها كثيرا من قبل كتاب ومعارضين سوريين وغير سوريين، ادلوجة طافية على سطح المشهد وادوات قتله. لهذا عجز كثر عن عدم فهم قلة التعاطف ربما انعدامه لدى التجمعات العلوية.

اضافة إلى بروز نفس كريه في التعاطي مع بقية المجتمع السوري، وخاصة لدى ثلة كانت تعتبر نفسها معارضة، وفاتحة مزاد الوطنية المطيفة. لهذا يحتفي المجتمع السوري بأي مثقف سوري أو معارض منحدر من الطائفة العلوية، يقف في صف الثورة. بينما يخونه ابناء الطائفة وجماهيرها لدرجة لا يستطيع العيش بين ظهرانيهم، تصبح حياته مهددة بالقتل. حلت الطائفية علنا محل القومية التي اصبحت مسخرة سوداء، ولا احد يصدقها بما فيها جماعة السلطة السوداء الحقيقية. لهذا كانت الجرائم بشعة بحق المعتقلين والمدنيين والشعب السوري عموما، حتى في مناطق الموالاة، احتقار للكائن من خارج الطائفة وعدم الثقة فيه مهما علت درجة ولاءه.

الصورة النمطية للفاشية شلة محاربين اشداء- ينتمون لنفس الطائفة- بقائد لم ينجب مثله التاريخ، يطرحون انفسهم كمشروع ابدي في حكم البلد، أنهم الصفوة. وهذه الصورة النمطية للفاشية الطائفية الاقلاوية، لم يعرف التاريخ مثلها من قبل. السبب واضح لأن منشأ النسخة السورية فعل اقلاوي، لم يستطع أن يبني مشروعا مجتمعيا، بل أفسد كل الحالة السورية،بحكم أن العدو الفعلي للسلطة هو هذا المجتمع، ومن منطق قومي كانت تضخ خطابا أنتي يهودي وإسرائيلي وامريكي( مركب العدو الصهيوني). لسببين السلام لايخدمها، والديمقراطية عدوتها الاولى. ولكون إسرائيل ذات وضع احتلالي مدعوم أمريكيا، كانت مادة خصبة للفاشية القوموية المعلنة، قبل ان تفضحها الثورة السورية لتكشف عن فاشية طائفية نموذجية. هذا المخطط الجاف للفاشية الطائفية، يحتاج إلى الكثير لشرحه وتفسيره، كنا كتبنا عنه الكثير كسوريين. الوضع الآن وصل إلى أن هذه الطغمة تريد تشويه صورة المجتمع السوري في كل العالم، ولهذا عملت وتعمل بشكل يومي على تصدير ما يمكننا توصيفه، بوساخة شعب بكامله ماعدا الطائفة المختارة، ألهيا ووضعيا.

منذ اول يوم في الثورة وصفت بأنها طائفية، ثم مسلحة ثم جهادية اسلاموية..الشباب العلوي ايضا داخل الطائفة يناله هذا التمييز العنصري، آل الاسد مهمتهم الحكم والشباب مهمتم الموت دفاعا عنهم، وتكثيف مصلحي يجد بؤرته في استمرار آل الاسد في حكم البلد. من المفترض ان هذه الشباب تموت لاجل الدفاع عن حياض الوطن وليس من اجل الدفاع عن فساد عائلة تحكم. تحدثنا في مقالات سابقة عن تفاعلية نشأت بين العائلة وجماهير الطائفية، عبر الترغيب والتمييز عن بقية افراد المجتمع السوري، وعبر الترهيب أيضا. لهذا الثورة كانت تدافع عن حرية الشعب السوري وحتى اللحظة، بكل مكوناته، وهذا ما أثار جنون الطغمة، حاول أن يستقطب الاقليات بمواجهة الاكثرية نجح عبر مسيحيي لبنان والاسلاموفوبيا في استقطاب اكثرية مسيحية، لكنه فشل في استقطاب بقية الاقليات.هذا ما يجعل كل الموالين الآن هم مجرد جنود صف ثاني في الدفاع عن حكم العائلة- الطائفة بالمعنى الفاشي للعبارة.

مرر كل سجناء الجريمة في سورية واطلق سراحهم لكي يعيثوا فسادا في المجتمع، جلب كل ارهابيي إيران والعراق ومن كان يرسلهم إلى هناك ورماهم في مجتمع الثورة. كي يقول لا يوجد في سورية سوى الطائفة العلوية، وعلى البقية أن يموتوا بكل انواع الاسلحة التقليدية والكيماوية.

الرأي العام العالمي والغربي، لايعرف شيئا عن كيفية ادارة سورية من قبل هذه الطغمة وهذا تقصير فاضح لدى المعارضة، علما أن اقطاب السياسة الدولية واداراتها يعرفون كل شيئ، لكن مصالحهم تقتضي السكوت عن هذه الجريمة  التي ترتكب بحق الشعب السوري منذ نكسة حزيران عام 1976.

فيديوهات تصور، فبركات كشفت الثورة معظمها، خطابات كاذبة، لوبيات مسيحية مصلحية وشخصيات تدعي المعارضة تنتشر في العالم لكي تحقر صورة المجتمع السوري والثورة، وتكثفه كمجتمع قاعدة وارهاب. إذا كان الموضوع كذلك هل يعقل أن نظام على فرض صحة كل هذا حكم بلد 45 عاما ونتج عن هذا الحكم مجتمعا كهذا يمكن الدفاع عنه بأي صورة من الصور، لا يمكن الدفاع عنه إلا من اجل قتل الشعب السوري.

يتذاكى هو ومعارضيه في اختلاق القصص والحكايا عن ارهاب وقاعدة، ونكاح الجهاد، لماذا ياسادة كل هذه ( العجقة)؟ فقط لكي يبقى آل الاسد يحكمون البلد وفق منظور فاشي طائفي. لنلاحظ من جهة أخرى وتعبيرا عن هذه الفاشية، صنع تماثيل للبوط العسكري ووضعها على رؤوس الموالين، وإعلان حملة عفوا على المفردة( خريها) ضد اوباما، فلدى الطائفة محاربين أشداء!! هكذا حكمت البلد وهكذا ستحكم في حال استمرت هذه الطغمة في حكمها ( بوط- خريها). وجود هذه الثلة من الجماعات الارهابية( المصنوعة استخباراتيا محليا ودوليا) لا يغير في معادلة أن هنالك في سورية سلطة فاسدة جعلت من سورية دولة فاشلة، وشعب يتوق للحرية والكرامة، وماتبقى كله صناعة على طريقة غوبلز..لايمكن للفاشية الطائفية ان تقبل بأي حل سياسي غير أن يعود كل شيئ إلى ماكان عليه. لا تضحكوا على أنفسكم جميعا وخاصة بعض تجار دمشق وحلب ومشايخهم في المعارضة وغيرها. المعارضة التي تتحدث عن حل سياسي من خارج هذه الطبقة، هي في صف البسطار وكل ما تقدمه في الواقع هو خدمة لهذا البسطار… مشكلة سورية والمنطقة هي في استمرار وجود هذه الفاشية الطائفية… هنا مربض الفرس..وهنا ستنتصر الثورة وإن لم تنتصر كل الخيارات مطروحة ما عدا خيار الفاشية السوداء…للحديث بقية.

ايلاف

هذا الفرق الكبير بين «حلفاء» النظام و «أصدقاء» الشعب/ إبراهيم حميدي *

لعل اكثر ما يميز «حلفاء» النظام السوري بعد حوالى سنتين ونصف السنة من الثورة، هو الالتزام المطلق بالدفاع عن «الحليف» في دمشق. بمعنى، أن هذه الكتلة، التي تضم روسيا وإيران و «حزب الله» وحكومة العراق برئاسة نوري المالكي، لن تسمح بانتقال سورية إلى المعسكر الآخر في منطقة الشرق الأوسط. ما يعني عملياً أنها لن تسمح بانتصار إرادة الثورة، على رغم تحولاتها من الحراك إلى السلمية إلى العسكرة.

منذ البداية، قدم «الحلفاء» من دون تردد كل أشكال الدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي ثم العسكري والأمني. إذ إن موسكو حافظت على التزام تنفيذ صفقات السلاح مدعومة بالخبرة الروسية، إضافة إلى غطاء الحماية في الأمم المتحدة، باستخدامها مع الصين حق النقض (فيتو) ثلاث مرات في سابقة في مجلس الأمن الدولي. كما التزمت موسكو تقديم المساعدات الاقتصادية. ولم تكن الرهانات على تغيير موقف موسكو لدى انتقال فلاديمير بوتين من رئاسة الحكومة إلى الكرملين، غير دقيقة فحسب، بل إن النتيجة جاءت عكسية، إذ إن بوتين أظهر التزاماً غير محدود في دعم النظام السوري في جميع المجالات.

وفي فترة سلمية الثورة، تكفلت طهران تقديم دعم الخبرة في قمع التظاهرات وفق تجربة «الثورة الخضراء» في عام 2009. وانتقلت لاحقاً إلى تزويد الخبرة الفنية والتدريبية في العمليات العسكرية، وصولاً إلى تدريب «قوات الدفاع الوطني» التي شكلت جيشاً رديفاً للجيش النظامي. وأعلن حاكم «مصرف سورية المركزي» أديب ميالة أن إيران قدمت للحكومة خط ائتمان بقيمة سبعة بلايين دولار أميركي. أيضاً، لم يتأثر موقفها لدى انتخاب حسن روحاني رئيساً، ذلك أن «الملف السوري» هو في عهدة المرشد الأعلى علي خامنئي والحرس الثوري.

أما بالنسبة إلى المالكي، فتعهد المشاركة في «الحرب على التكفيريين» وأغلق الحدود أمام المعارضة المسلحة، وتبادل المعلومات الاستخبارية مع السلطات السورية. وانتقل من اتهام دمشق بدعم «العمليات الإرهابية» في العراق في عام 2009 والمطالبة بفتح تحقيق دولي، إلى التعاون مع دمشق في «محاربة الإرهاب» والترويج لهذا الموقف اتصالاته الدولية. وتشير المعلومات إلى أن العراق شكل ممراً للدعم الإيراني، إضافة إلى دعم سياسي لتمرير المعلومات والاتصالات بين الحكومة السورية والجانب الأميركي. ويعتقد معارضون أن حملات تفتيش طائرات إيرانية، لا تعدو كونها استعراضية لتخفيف الضغط الأميركي. وتحدثت مصادر عن وصول بعض من صفقات الأسلحة مع موسكو إلى سورية، كان بينها واحدة بقيمة وصلت إلى 4.2 بليون دولار أميركي. يُضاف إلى ذلك، وصول شيعة للقتال إلى جانب القوات النظامية مع جهد لتعويض كثير من البضائع والمحروقات التي لم تعد موجودة في أسواق دمشق، واخترقت حكومة المالكي «المثلث السنّي» الذي كان سداً أمام وصول الإمداد إلى النظام.

صحيح أن رابطة هيكلية عقائدية لا تجمع هذه الأطراف مع النظام، بل ربما يكون هناك خلاف بين النظام السوري – العلماني والنظام الإيراني – الديني، لكن الذي يجمع مضلعات المستطيل، هو التعاطي مع سورية على أنها «معركة بقاء» والتزام الأطراف التزاماً كاملاً هذه المعركة مع التزام خيار واحد هو الإبقاء على النظام والاستعداد للذهاب إلى آخر المطاف داخلياً وإقليمياً ودولياً لتحقيق هذا الغرض.

اختزل محور طهران – بغداد – دمشق – بيروت الخطاب السياسي، في أن الحرب القائمة هي ضد «تكفيريين»، بعضهم من سلالة «القاعدة» يستهدفون «محور المقاومة»، وأن البديل من النظام هو «المجموعات السلفية»، في حين نجح خط روسيا – الصين في التمترس وراء عنوان «رفض تغيير الأنظمة من الخارج» وضرورة تنفيذ «الشرعية الدولية»، إضافة إلى التخوف من «تنامي دور الإسلاميين»، في وقت وفرت مجموعة «بريكس» التي تضم أيضاً البرازيل وجنوب أفريفيا والهند، حديقة خلفية لموقف بكين – موسكو في الأروقة الدولية.

وبينما، تبدو هذه الأطراف منسجمة وموحدة وملتزمة الهدف، ظهرت أطراف «أصدقاء» الشعب في وضع آخر. إذ إن عدد دول هذه المجموعة الذي وصل في عام 2011 إلى أكثر من مئة دولة اختزل إلى «مجموعة لندن» التي باتت تضم 11 دولة. وهي تعاني من «عدم الالتزام» السياسي والاقتصادي والعسكري بالمسألة السورية. بل اختصر بعض هذه الدول، خصوصاً الغربية، المسألة السورية في الفترة الأخيرة بـ «البعد الإنساني» وجرى التركيز على تداعيات الأزمة وليس جذورها، وخصصت مبالغ لتقديم مساعدات إلى اللاجئين السوريين في دول الجوار، مع تقيد هذه الدول بقواعد المساءلة وأقنية الدعم، الأمر الذي أخر وصول بعض المساعدات.

لكن الأهم، اختلاف آجندة كل من دول «الأصدقاء» إزاء مستقبل سورية. فما يريده رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يختلف عما يسعى إليه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، إضافة إلى أن التغيير الأخير في مصر غيّر من موقف القاهرة من المسألة، ووصل الاختلاف بين أعضاء هذه المجموعة في بعض الأحيان، إلى الصراع السياسي، الأمر الذي كان ينعكس في التحالفات داخل تكتلات المعارضة. بعض الدول يدعم «الإخوان المسلمين» ويريدها أن تلعب دوراً قيادياً في جسم المعارضة، في حين ترى دول أخرى أن «الإخوان» عدو أساسي، ولم تسع إلى تخفيف دور الإسلاميين فحسب، بل إلى هزيمتهم في مصر والمنطقة.

وترى أميركا وفرنسا وبريطانيا مشكلة في عدم وجود بديل للنظام، وتشكك في قدرة «الائتلاف» وتدعو إلى «جذب الأقليات» وتعبر عن قلقها من تنامي دور الإسلاميين، خصوصاً في الجسم العسكري، لذلك فإنها تتريث في الدفع نحو التغيير قبل نضوج البديل، مع عدم استثمارها وحزمها لتشكيل هذا البديل. في وقت لا تشاطر دول إقليمية هذا القلق وتدفع إلى أن يكون عماد الهيكل السياسي للمستقبل، إسلامياً تلعب فيه «الإخوان» دوراً رئيساً. ويصل الأمر أحياناً، في أن المواصفات التي تقول دول غربية إنها تريدها في المعارضة، تقترب كثيراً من دور النظام: محاربة الجهاديين وعزل المتطرفين وتوفر قيادة عسكرية موحدة قادرة على الوفاء بالتزاماتها واتباع سياسة معتدلة خارجياً في ما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي. أي، أن «الحلفاء» يدافعون عن مصالحهم ببقاء النظام، فيما يبحث «الأصدقاء» عن هذه المصالح لدى المعارضة.

كل هذا انعكس في العلاقة مع المعارضة المسلحة وسبل دعمها وفشل محاولات توحيد أقنية التمويل. كما فشلت سبل خلق كيان عسكري موحد بهيكلية واضحة. ويجري الحديث حالياً، عن الاقتصار على العلاقة مع الكتائب المسلحة بعيداً من الجسم السياسي. ولا شك، في أن معادلة المقارنة بين القدرات النارية للجيش النظامي وقوات المعارضة وخطوط الإمداد، تنتهي إلى مصلحة النظام وفي شكل كبير.

يرجع الفرق بين «الحلفاء» و «الأصدقاء» إلى أن معظم الأطراف الداعمة للنظام غير محكومة كثيراً بقواعد اللعبة الديموقراطية والمساءلة، بل إنها محكومة بالمصالح العميقة، في مقابل أن «أصدقاء» الشعب محكومون بمواعيد الانتخابات وقواعد الديموقراطية وتأثيرات الرأي العام ووسائل الإعلام. وكان آخر مثال التصويت في البرلمان البريطاني ولجوء الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الكونغرس. وبدا جلياً كيف أن معيار المسألة السورية ليس سورياً، بل إنه «شبح العراق» والأخطاء التي ارتكبتها إدارة جورج بوش وحكومة توني بلير، إضافة إلى أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون والمستشارة الألمانية أنغيلا مركل يأخذان حسابات الانتخابات المقبلة في الاعتبار. العامل المحلي مؤثر جداً لدى «الأصدقاء»، فيما العامل الخارجي هو الأبرز لدى «الحلفاء».

والأمر المثير، أن «الحلفاء» أظهروا قدرة لا يستهان بها في الإبحار داخل قواعد اللعبة الديموقراطية في البيت الداخلي لـ «أصدقاء» الشعب، من خلال بناء جماعات الضغط (لوبي) في هذه الدول. مد خطوط مع اليمين المتطرف في بعضها، ومع اليسار المناهض للإمبريالية في بعضها الآخر، ومع المسيحيين لـ «الحفاظ على وجودهم في المنطقة». ألم يذهب وفد روسي إلى واشنطن لإقناع الكونغرس بعدم التصويت على قرار أوباما القيام بعملية عسكرية، كما أن رئيس مجلس الشعب (البرلمان) السوري بعث برسالة إلى مجلس العموم البريطاني والجمعية الوطنية الفرنسية طالباً عدم دعم الموقف الأميركي. ألم يفتح النظام السوري خيطاً مع أحزاب المعارضة في تركيا.

لمَ لا، فـ «المسألة» السورية، تأتي في رأس أولويات الأجندة الاستراتيجية لـ «حلفاء» النظام والعمل فيها جار ليل نهار لأن خسارة سورية تعني انحساراً استراتيجياً لهم في الشرق الأوسط، فيما تعتبر «ملفاً» أو أحد الملفات في أجندة «الأصدقاء». ونجاح المعارضة في السيطرة على الحكم ليس مضموناً أنه يشكل فوزاً استراتيجياً في المنطقة.

وأمام معادلة الربح والخسارة بين «الحلفاء» و «الأصدقاء» واختلاف مستويات الالتزام والتصور، تعاني سورية منذ سنتين ونصف السنة من «حرب استنزاف» على أساس «اتفاق» لاعبي الكتلتين على الحد الأدنى في «المسرح السوري»: ألّا يبقى النظام مرتاحاً في محوره، وألّا يفوز الشعب بإرادته وثورته. هذه المعادلة القاتلة، دمرت قسماً كبيراً من البلاد وأزهقت آلاف الضحايا وأفرزت ملايين اللاجئين والنازحين والفقراء وخطفت طفولة الملايين ومستقبلهم. والأهم، أنها خطفت قرار السوريين، وبات مصيرهم مرهوناً لحسابات القوى الإقليمية والدولية.

* صحافي من أسرة «الحياة»

الحياة

رسالة إلى الرئيس بوتين/ ميشيل كيلو

الآن، واميركا على وشك القيام بضربة عسكرية ضد النظام السوري لا يعرف أحد بالضبط ما الذي ستتمخض عنه، وان كانت مؤشرات كــثيرة توحــي بان نتائجها يرجح ان تكون خطيرة العواقب على سوريا الدولة والمجتمع كما على المنطقة العربية وموازين القوى بين دولها، وبان روســيا لن تســتطيع أو تقدر على التصدي لها، وجر اميركا إلى صراع لا نهاية له، في منطقة هي الأكثر حساسية وحيوية في العالم، يصير من الضروري القيام بشيء اسعــافي يجنب سوريا ضربة قد تكون قاضية، ستتلقاها خلال ايام على يد القوة العسكرية الأعظم في التاريخ، بعد أن انزل نظامها بها كارثة وطنية وإنسانية شاملة لا سابقة لها في تاريخها وتاريخ المنطقة العربية والعالم الحديث .

لهذه الاعتبارات، ولافتراضي بأن موقفكم من سوريا، الذي انحاز إلى نظامها وتجاهل تماما شعبها ومصيره البائس، وفهم الأزمة بطريقة خاطئة يحار المراقب في إيجاد مسوغات له، اود أن اتقدم منكم باقتراح قد يخرجنا جميعا من معادلات قاتلة ربما فقدنا خلال الايام والاسابيع القادمة السيطرة عليها، يقوم على ما يلي: تخرجون انتم بشار الاسد ومجموعته السياسية والعائلية من السلطة وسوريا، ونطلب نحن من الولايات المتحدة الامتناع عن تسديد ضربتها إلى النظام، إلى السلطة القائمة وجيشها، فإن لم تستجب اعلنا بكل صراحة ووضوح معارضتنا لاي عمل عسكري تقوم به، وطلبنا من شعبنا وجيشنا الحر مقاومتها، في حال اصرت على القيام بما لا نريد.

السيد الرئيس: اعتقد أن هذا الاقتراح يحفظ ماء وجهكم، ويوفر عليكم حرج الامتناع عن نصرة بشار الاسد ونظامه، وقد يبقي على شيء من علاقاتكم ومصالحكم في بلادنا بعد زوال حكمها الحالي، ويحول بين الأصولية، التي تخشونها ونرفضها، وبين زج وطننا في فوضى مسلحة لن يكون من السهل تصديكم لها حتى في بلادكم، ويحفظ بعض توازن العلاقات والمصالح بينكم وبين الولايات المتحدة في منطقتنا وخارجها، ويحول بين واشنطن وبين جني ثمار أخطائكم السورية وإزاحتكم إلى خارج بلادنا وبقية بلدان المنطقة، إن هي تدخلت عسكريا واحرزت انتصاراً ساحقاً على نظام مهلهل، لم يعد يقوى حتى على مقاتلة «الجيش الحر» إلا بشق الأنفس، وفي مناطق بعينها، ولعلكم راقبتم بذعر تهاوي حلقة جيشه القيادية في خان العسل ومطار منغ ولمعركة الساحل وما تلاها من معارك، وفهمتم أنه بدأ انحداره النهائي، وأن الخلاص من الشخص الذي تسبب بهزيمتكم في بلادنا ربما كان افضل الحلول لبلوغ حل سياسي نرحب به ونتعهد بتنفيذه، إن قام على تطبيق البنود الستة التي توافقتم عليها في جنيف واحد، وهي البنود التي كانت قد قدمتها المعارضة السورية للنظام، ثم قُبِلت من الجامعة العربية قبل ان يتبناها في ما بعد كوفي عنان، وعلى قيام حكومة انتقاية تتولى صلاحيات الاسد، تنقل سوريا من نظامها الحالي إلى نظام ديموقراطية وحريات بديل هو مطلب الشعب السوري وهدف ثورته، والحل الحقيقي والمنشود لمعضلة تهدد وطننا ومنطقتنا وامن وسلام العالم، لن يكون لكم أي دور فيها، إن انتم واصلتم دعم الأسد ونظامه، وواظبتم على تحدي شعبنا المصصم على بلوغ حريته، مهما تطلب ذلك من تضحيات.

يقول الاميركيون إن الضربة ستقع خلال ايام. هذا يعني أن لديكم اياما قليلة كي تلعبوا دورا ايجابيا يسهم في خروجنا جميعا من مأزق طال واستحال حله باسلوبكم العنيف، الذي لم يحترم حقوق السوريين ولم يتفق مع مسؤولياتكم كقوة عظمى تجاه شعوب العالم عامة وشعبنا بصورة خاصة. بادروا إلى العمل، رحلوا الاسد وبطانته من سوريا إلى حيث تريدون، وسنقوم من جانبنا باعلان قبول حل سياسي يضع حدا لمأساة طالت وحان إخماد نارها المستعرة، التي شرعت تلتهم كل شيء عندنا، ويمكن لشررها ان يصل الى كل مكان من العالم، بما في ذلك بلادكم.

السيد الرئيس: هذا افضل خيار لكم، وليس من يخاطبكم محبا لبلادكم ومؤيدا لسياساتكم أو معجبا بنظامكم، لكن العقلانية السياسية تدفعه إلى مخاطبتكم، كي لا تسقط بلاده بين ايدي اميركا ويكون لكم دور في المحافظة على استقلالها وسيادتها، وبالتالي على شيء من مصالحكم فيها.

السفير

ضربة أميركية محدودة لنظام الأسد أم عملية واسعة؟/ عمر كوش

-المحدودية والضيق

-حيثيات التأجيل

بعد ارتكاب النظام الأسدي مجزرة في غوطتي دمشق الشرقية والغربية يوم 21 أغسطس/آب الماضي باستخدام السلاح الكيميائي، تتالت تصريحات المسؤولين الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين بضرورة معاقبة النظام على جريمته عبر توجيه ضربة عسكرية له.

وترافقت تصريحاتهم مع تحركات وحشود عسكرية لمدمرات وبوارج وطائرات، وعقد قادة جيوش عشر دول اجتماعات في الأردن لتدارس الخطط والعمليات والتداعيات، وحبس العالم أنفاسه طوال أيام، متوقعا أن تحدث الضربة بين لحظة وأخرى، إلى أن جاء تصويت مجلس العموم لبريطاني الرافض لاشتراك بريطانيا في أي عمل عسكري ضد النظام، لكي يخرج بريطانيا من تحالف دولي، أخذ في التشكل للمشاركة في الضربة، ثم جاء إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما استشارة الكونغرس وطلب موافقته، لكي يرهن أمر الضربة العسكرية بتصويت غرفتي الكونغرس، ولكي يلقي ظلالاً من الشك عليها.

المحدودية والضيق

منذ بداية التهديدات الغربية بمعاقبة نظام الأسد، تحدث جميع المسؤولين الأميركيين عن ضربة “محدودة” و”ضيقة” من جهة الزمان والمكان، بوصفها إجراء عقابيا للنظام لارتكابه جريمة استخدام السلاح الكيميائي المحظور دوليا، الهدف منها ليس إسقاطه، بل إضعافه وإرغامه على القبول بالذهاب إلى حل سياسي.

وفُهم من ذلك طمأنة الجانب الروسي على استمرار بقاء النظام، وردّ الساسة الروس بالقول إنهم لن يدخلوا الحرب، ولن يخوضوها من أجل نظام الأسد، لكنهم يدركون جيدا أن النظام الذي يدافعون عنه ويساندونه لن يقوى على الصمود أمام أي ضربة قوية، خاصة إذا استهدفت مفاصل قوة النظام ومراكزه الأمنية والتشبيحية.

لا شك أن توجيه ضربة عسكرية “محدودة” المكان والزمان لن يشكل العقاب المناسب للنظام الأسدي، الذي لم يتوقف عن قتل شعبه، ولو يوما واحدا، منذ أكثر من عامين ونصف العام، وأزهق أرواح أكثر من مائة ألف سوري، فضلا عن مئات آلاف الجرحى والمشوهين والمعاقين وملايين المشردين واللاجئين.

ولعل بعض الساسة الأميركيين يدركون تماما أن أي ضربة عسكرية محدودة وضيقة، قد يتمكن نظام الأسد من امتصاصها، ويخرج مدعيا الانتصار، وأنه تعرض لعدوان كوني، وعندها سيلجأ لانتقام شنيع ضد غالبية السوريين، لذلك حذر عضوا مجلس الشيوخ جون ماكين وليندسي غراهام من أنهما سيصوتان ضد أي قرار لا يهدف إلى زعزعة سلطة بشار الأسد، وطالبا بأن يكون العمل العسكري “جزءا من إستراتيجية شاملة تهدف إلى تغيير الوضع في ميدان القتال، وتحقيق الهدف الرئيسي في إجبار نظام الأسد على الرحيل ووقف النزاع”.

ومع ذلك، فإن من المستبعد أن يكون هدف أي ضربة عسكرية محدودة هو إسقاط النظام الأسدي، بل معاقبته، والفارق كبير بين المعاقبة والإسقاط، لكن السؤال يشمل مدى قدرة النظام على تحمل ضربة تجرده من صواريخه وطائراته وسلاحه الكيميائي.

ويشمل أيضا مدى قدرته على إعادة تنظيم قواته وشبيحته بعدها، حيث تشير المعطيات على الأرض إلى أن مجرد التلويح الجدي بالضربة العسكرية جعل العديد من الجنود والضباط في الجيش الأسدي ينشقون ويتخلون عنه، وهناك العديد من المقربين من النظام، ومن حاضنته الاجتماعية، هربوا إلى لبنان ودول عربية أخرى، حيث عبر عشرات الآلاف منهم الحدود السورية اللبنانية إثر سماعهم التهديد بشن ضربة عسكرية، فضلا عن عمليات تهريب أموال واسعة إلى المصارف اللبنانية وغيرها، قام بها بعض سارقي أموال الشعب السوري.

بالمقابل، فإن قوات الثوار السوريين على الأرض سيكون لها الدور الحاسم في العمل على إسقاط النظام، والمساهمة في التمهيد لبناء سوريا جديدة.

ولا خلاف في أن أي عملية عسكرية ضد قوات النظام ستساعدهم على التقدم نحو المواقع والمراكز التي تحتلها قوات النظام، وهناك معلومات عن وحدات من الجيش الحر جرى تدريبها في الأردن وتركيا من أجل القيام بمهمة السيطرة على مفاصل قوات النظام العسكرية والأمنية، والتقدم إلى دمشق وسواها، من أجل إنهاء وجود النظام الأسدي.

حيثيات التأجيل

لا شك أن لجوء الرئيس الأميركي إلى استشارة الكونغرس له حيثيات وأسباب داخلية وخارجية، إذ إن معاقبة النظام الأسدي في حقيقتها لا تتعلق بعملية محدودة، على الرغم من تركيز المسؤولين الأميركيين في تصريحاتهم عليها، ولو كان الأمر كذلك، فإن الرئيس الأميركي غير ملزم بالرجوع إلى الكونغرس، حيث سبق أن نفذت مختلف الإدارات الأميركية ضربات عسكرية محدودة في أكثر من مكان في العالم، دون أن تستشير أو تشرك أحدا.

ويبدو أن الإدارة الأميركية الحالية تريد تفويضا لعملية عسكرية أوسع مما تعلنه، زمانا ومكانا، وتتحسب لمدى تأثيرها على النظام ولتداعياتها المحتملة، لكن مهما اختلفت قوتها وتأثيرها، فإنها لن تصل إلى درجة إنزال جنود أميركيين على الأرض السورية كي لا تعيد إلى أذهان الأميركيين حربي العراق وأفغانستان.

والأمر مرهون برد فعل النظام وحلفائه في إيران وحزب الله اللبناني، خاصة إذا هدد أي منهم أمن إسرائيل، عندها ستتطور الأمور إلى حرب واسعة النطاق، لا يعلم أحد مداها ومفاعيلها.

ولعل حسابات العملية العسكرية الأميركية المحتملة لا تخرج عن تخوف الولايات المتحدة الأميركية من انحطاط هيبتها ومكانتها القيادية في العالم، ومن احتمال تهديد أمن إسرائيل، حيث عودتنا مختلف الإدارات الأميركية، التي تعاقبت على البيت الأبيض منذ أكثر نصف قرن على موازنتها الثابتة ما بين مصالحها الإستراتيجية ومصالح حليفتها إسرائيل.

ويمكن القول إنه ما من شيء يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط إلا وكان هدفه ضمان أمن إسرائيل ومصالحها، بوصفه العامل الرئيسي والمحدد لأي تحرك أميركي في المنطقة، وبالتالي يمكن تفهم رجوع الرئيس الأميركي إلى الكونغرس من جهة اعتباره الضربة العسكرية العقابية مسألة تدخل في حسابات الأمن القومي الأميركي، لذلك سيطلب موافقة مجلسي النواب والشيوخ على استخدام القوة، ويدعوهم للموافقة على طلبه باسم “الأمن القومي للولايات المتحدة”.

ولا يرغب الرئيس الأميركي باراك أوباما في تكرار أخطاء سلفه جورج بوش الابن، الذي خاض حروبا خاسرة في العراق وأفغانستان، لذلك يتوجب عليه أن يعيد حساباته بدقة، وأن لا يتخذ خطوة غير مدعومة من المشرعين الأميركيين ومن الشعب الأميركي، ومن الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية.

وهذا يعني أن هناك حاجة على المستوى الخارجي لدعم ومشاركة دول أوروبية وإقليمية وعربية في أي عمل عسكري محتمل ضد النظام.

وفي هذا السياق، يأتي تحميل الجامعة العربية النظام مسؤولية الهجوم الكيميائي على غوطتي دمشق، ومطالبة المجتمع الدولي بالاضطلاع بمسؤوليته، كي يقدم دعما لصانع القرار الأميركي، إلى جانب دعم ومشاركة كل من تركيا وفرنسا وأستراليا، وربما سيتخذ حلف شمال الأطلسي خطوة داعمة لقرار الرئيس الأميركي.

ومن المهم التذكر دوما أن الولايات المتحدة الأميركية حين تتخذ قرارا بتوجيه الضربة العسكرية، وتريد تنفيذه، فإن من السهل عليها إيجاد تحالف دولي واسع، مكون من عدة دول أوروبية وعربية.

قد يكون أعضاء الكونغرس الأميركي من أكثر الأميركيين رضى عن طلب الرئيس الأميركي موافقتهم على قراره قبل تنفيذ ضربة عسكرية ضد النظام الأسدي، وانعكس ذلك في ترحيب أوساط الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وفي سرعة تحرك البيت الأبيض نحو نواب الكونغرس بغية الحصول على غالبية تسمح له باستخدام القوة العسكرية، بما يتناسب مع “ردع انتشار السلاح الكيميائي وحماية الولايات المتحدة وحلفائها”.

لكن اللافت هو صيغة عنوان الرسالة التي وزعت إلى النواب، التي تطلب “السماح باستخدام القوة في ما يتعلق بالنزاع في سوريا”، ونصها يمنح الرئيس إطارا أوسع من النطاق “المحدود والضيق”، الذي كان أركان الإدارة الأميركية يتحدثون عنه، قبل طلب موافقة الكونغرس، الأمر الذي يمنح الرئيس الأميركي خيارات أوسع في تنفيذ عملية عسكرية، خاصة في حال حدوث ردود غير متوقعة من النظام الأسدي وحلفائه.

ويأمل النظام الأسدي وحلفاؤه أن لا يمنح الكونغرس موافقته على عملية عسكرية أميركية ضده، وهو يدرك تماما أنه لن يقوى على تحمل تبعاتها التي قد تفضي إلى نهاية قريبة لوجوده، خاصة وأن معنويات قواته منحطة، ولن تقوى المليشيات الإيرانية ومليشيات حزب الله وسواها على حمايته والقتال نيابة عنه، لأن معنوياتها أيضا منهارة، حيث لجأت مثلما لجأت قوات النظام إلى تغيير مواقعها والاحتماء بالمعتقلين والمدنيين السوريين، واستخدامهم دروعا بشرية، وكل ذلك لن ينفعها في حال حدوث عملية عسكرية أميركية.

والأهم أن الجيش السوري الحر يتحين الفرصة للانقضاض على ما يتبقى من قوات النظام والمليشيات المساندة له.

يبقى أن الأجدى هو أن يفهم النظام الأسدي أنه لن يفلت من العقاب هذه المرة، وأن نهايته اقتربت كثيرا، ولن يجديه نفعا الاستمرار في قتل السوريين، وأمامه حل سهل، يقتضي أن يرحل ويسلم السلطة لحكومة انتقالية، بما يجنب سوريا وناسها المزيد من القتل والتدمير، لكن سلوك النظام طوال أكثر من عامين ونصف العام من عمر الثورة السورية، ونهج القتل والإجرام الذي اتبعه، يشيران إلى أنه سيستمر فيما ما بدأه وصولا إلى نهايته وزواله.

الجزيرة نت

تركيا وحسابات الضربة العسكرية/ خورشيد دلي

– ضربة تسقط النظام

 – موقع تركيا من الضربة

-معارضة محدودة وخشية من تداعيات

تتصرف تركيا على أساس أن الضربة العسكرية الغربية (الأميركية) ضد النظام السوري واقعة لا محالة، لكنها تسعى بقوة إلى معرفة حجم هذه الضربة وما يمكن أن تحققه.

وفي جميع الأحوال تأمل حكومة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن تؤدي هذه الضربة إلى إسقاط النظام، إن لم يكن بشكل مباشر فجعله منهكا، يقبل برحيله ولو عبر عملية سياسية من طراز جنيف2، أو تمهد الطريق على الأرض للمعارضة العسكرية لإسقاطه.

ضربة تسقط النظام

تركيا التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري، وبنت حساباتها السياسية تجاه الأزمة السورية على أساس مرحلة ما بعد نظام الرئيس بشار الأسد، تبدو الدولة الإقليمية الأكثر حماسا لتوجيه ضربة عسكرية للنظام السوري.

فمع تفجر قضية استخدام الأسلحة الكيميائية، والإعلان الأميركي عن ضرورة معاقبة النظام السوري، سارعت تركيا على لسان وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو إلى الإعلان عن الاستعداد للانضمام لأي تحالف دولي، ولو من خارج الأمم المتحدة في حال عدم حصول توافق على الضربة.

واستبق رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الأمر بالقول إن “تسديد ضربات محدودة لسوريا لن يكون كافيا ولن يرضي تركيا”، مشيرا إلى أن الضربة يجب أن تكون شبيهة بتلك التي تمت ضد يوغسلافيا.

بموازاة هذا الاستعداد للمشاركة في أي عملية عسكرية ضد النظام السوري، تحركت تركيا سياسيا وقانونيا وأمنيا، في إطار الاستعداد للحرب من خلال النقاط التالية:

– تقديم الحكومة طلبا للبرلمان التركي لتجديد التفويض للجيش بالتدخل العسكري في سوريا إذا دعت الحاجة، وهو تفويض كان أعطي للجيش التركي أواخر العام الماضي وينتهي في بداية الشهر المقبل (أكتوبر/تشرين الثاني).

ورغم أن المعارضة التركية أعلنت رفضها مشاركة تركيا في التدخل العسكري ضد سوريا، فإنه من الواضح أن قضية تجديد التفويض للجيش بالتدخل تبدو عملية سهلة، في ظل الغالبية التي يملكها حزب العدالة والتنمية في البرلمان.

– تشكيل خلية أزمة تضم عسكريين وسياسيين لإدارة العملية، وإعلان حالة الاستنفار العسكري التام، إذ للمرة الأولى منذ عقد تم إعلان الإنذار البرتقالي في قاعدة ديار بكر الجوية.

وينم هذا الإنذار عن الخطر من الدرجة الثانية في إطار الاستعداد لأي هجوم تقوم به المقاتلات التركية داخل الأراضي السورية، حيث تقول تقارير تركية إن عدد الطائرات المستعدة للهجوم في قاعدة ديار بكر بلغ قرابة مائة طائرة، بعدما تم تجهيزها بالذخيرة والمؤن اللازمة للهجوم، وقد ألغيت الإجازات واستدعي من كان فيها.

– بموازاة هذه الخطوات لا تتوقف حركة الاجتماعات والمشاورات العسكرية، وكذلك إجراء اجتماعات متواصلة مع كبار القادة العسكريين من الحلف الأطلسي وبعض الدول العربية ومن المعارضة العسكرية السورية.

ومجمل هذه التحركات كما هو واضح تتجاوز في دلالاتها النية أو الرغبة في ضربة عسكرية محدودة بقدر ما تشير إلى الاستعداد لعملية عسكرية واسعة وربما الحرب الشاملة.

موقع تركيا من الضربة

تحتل تركيا -التي تربطها حدود طويلة مع سوريا تقارب 900 كيلومتر- موقعا إستراتيجيا حيويا في أي عملية عسكرية ضد سوريا، فهذه الدولة التي وقعت أول اتفاقية مع الولايات المتحدة في مايو/أيار عام 1830، وهي الاتفاقية التي حصلت من خلالها الولايات المتحدة على حقوق (الأمة المفضلة) توجد على أراضيها اليوم أكثر من مائة قاعدة أميركية وأطلسية مشتركة، وفيها أكثر من عشرة آلاف خبير وعسكري أميركي.

وبالإضافة إلى ذلك تحتل مكانة إستراتيجية في السياسة الأميركية تجاه مختلف الدوائر السياسية في العالم، واللافت هنا هو أن هذه القواعد العسكرية تتوزع في كافة الاتجاهات وعلى المنافذ البحرية.

ومن أهم هذه القواعد: قاعدة سينون على البحر الأسود والتي تعد من أهم مراكز التنصت في المنطقة، قاعدة إنجرليك على البحر المتوسط وهي من أكبر مخازن الأسلحة الثقيلة الأميركية في المنطقة، وهناك قاعدة أزمير على البحر المتوسط، وقاعدة ديار بكر في الشرق، وتعدان من أكبر القواعد الجوية للطيران الأميركي.

ومن هذه القواعد أيضا قاعدة سيجلي على بحر إيجه التي تعد مقر القيادة للقوة التركية التكتيكية السادسة للحلف الأطلسي، والمخصصة لأغراض المباغتة، إضافة لأعمال شبكات التجسس الإلكترونية لجمع المعلومات عن التحركات العسكرية، خدمة لبرنامج الدفاع الإستراتيجي الأميركي.

في الواقع، من الواضح أن هذه القواعد العسكرية الإستراتيجية، والعلاقة المتينة لتركيا بالمنظومة العسكرية الأميركية الأطلسية تعبران عن أهمية موقع تركيا في الإستراتيجية الأميركية من جهة، وفي الوقت نفسه تعبر عن المصالح التركية العليا من جهة ثانية، على اعتبار أنها تحقق لها التفوق العسكري على دول المنطقة، وتعطيها قوة التأثير والتحرك في الأزمات والحروب.

وانطلاقا من هذه الميزة العسكرية التركية، ودور تركيا المتقدم في الحلف الأطلسي شرقا، فإنه يتوقع أن تقوم تركيا بدور رأس الحربة في أي عملية عسكرية أو حرب ضد سوريا، خاصة وأن الجهود تصب في جعل قاعدة أزمير العسكرية مركزا لإدارة مثل هذه العملية.

وكانت قاعدة أزمير قد استضافت قبل أيام اجتماعا عسكريا لكبار القادة العسكريين من 12 دولة أطلسية وعربية في إطار التنسيق والتشاور الأمني والعسكري بشأن الأزمة السورية.

من الواضح أن تركيا -التي نشرت مؤخرا على أراضيها الدروع الصاروخية الأميركية وبطاريات باتريوت- تستعد للعملية العسكرية وكأنها واقعة غدا أو الأسبوع المقبل.

وفي سبيل ذلك قامت برفع درجة التأهب، إذ أن هدير محركات المقاتلات الحربية لم يعد يتوقف، فيما تتحرك الدبلوماسية التركية في كل الاتجاهات لجعل العملية العسكرية في أقرب وقت ممكن، بعد أن قطعت كل اتصالاتها مع النظام السوري، وجعلت من إسقاطه هدفا إستراتيجيا لها.

معارضة محدودة وخشية من تداعيات

عمليا لا توجد معارضة تركية قوية يمكن أن تؤثر على القرار التركي بالمشاركة في الحرب، خاصة في ظل التفويض الحاصل من قبل البرلمان للجيش بالتدخل العسكري في سوريا، على غرار التفويض الموجود بضرب حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق.

وعليه، فإن موقف المعارضة -الذي يتراوح ما بين الرفض (حزب السلام والديمقراطية الكردي) أو التحفظ دون قرار دولي (حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية)- يظهر وكأنه موقف فاقد للقدرة على إعاقة قرار المشاركة في العملية العسكرية.

كما أن الأوساط اليسارية التي تتخذ من مظاهرات ساحة تقسيم بإسطنبول قاعدة للرفض والاحتجاج لا يبدو لها تأثير في منع قرار المشاركة، طالما أن حزب العدالة والتنمية الذي يسيطر على الرئاسات الثلاث (البرلمان، الحكومة، الرئاسة) ويملك أكبر شعبية في البلاد قادر على وضع القرار في الإطارين القانوني والسياسي للمصلحة التركية العليا.

لكن ما سبق لا يعني عدم وجود تباين في أوساط الدولة التركية نفسها من الضربة كما تقول الصحف التركية، فهذه الصحف تتحدث عن تباين بين رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو والرئيس عبد الله غل بشأن نوعية الضربة وحجمها ومدى المشاركة التركية فيها.

وتنقل هذه الصحف عن الرئيس غل وأوغلو ضرورة أن تكون الضربة في إطار عملية إستراتيجية تأتي بنتيجة سياسية مدروسة، فيما تنقل عن أردوغان ضرورة حرب شاملة واستمرار العمليات العسكرية إلى حين إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد.

ولعل مصدر التباين -كما تقول الصحف التركية- هو خشية بعض الأوساط التركية من أن تتحول الأراضي التركية إلى ساحة مكشوفة للصواريخ السورية، وكذلك الخشية من أن تدخل إيران إلى ساحة المواجهة العسكرية في ظل الاستماتة الإيرانية في الدفاع عن النظام السوري، فضلا عن حزب العمال الكردستاني خاصة في ظل مؤشرات تعثر عملية السلام بين الحزب الكردستاني والحكومة التركية.

وبانتظار قرار الكونغرس الأميركي -الذي رمى الرئيس باراك أوباما الكرة في مرماه- فإن تركيا تسخن أراضيها لعملية عسكرية أو حتى حرب شاملة، بعد أن ربطت بوصلة سياستها الخارجية ومشاريعها الإقليمية المستقبلية بإسقاط النظام السوري.

الجزيرة نت

سوريا.. هل هي حربٌ بلا سلام؟/ هوشنك بروكا

كلّ العالم بات يدرك، وأولهم أميركا وحلفاؤها، الذين يحضرون لتوجيه “ضربة عسكرية محدودة” إلى “بنك” من الأهداف العسكرية الإستراتيجية لسوريا النظام، والسيطرة على ترسانتها الكيمياوية، بأنّ الضربة لن تؤدي إلى تغيير كبير في موازين القوى بين طرفي النزاع، في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، سيّما وأن “الضربة” لن تستهدف رأس النظام، بحسب ما أعلنته أميركا نفسها، وعلى لسان كبار مسؤولي البيت الأبيض وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما.

“الضربة”، إذا ما وافق عليه مجلس الشيوخ الأميركي، بعد انتهاء عطلته الصيفية في التاسع من الشهر الجاري، ستُنفذ بشرط عدم نشر قوات أميركية على الأرض، ما يعني بقاء الصراع مفتوحاً بين النظام والمعارضة على كلّ الإحتمالات.

في الوقت الذي يرى بعض المراقبين والباحثين الإستراتيجيين، بأنّ هذه “الضربة التأديبية قد تؤدي إلى نهاية الأسد”، نرى آخرون يقللون من شأن هذه الضربة، التي ستؤدي إلى احتدام المعارك بين طرفي الصراع، والدخول في حرب انتقامية متبادلة، قد تؤدي بالنتيجة إلى حدوث مجازر أبشع بكثير من تلك التي رأيناها، بين السوريتَين حتى الآن: “سوريا النظام (العلوية) و”سوريا الثورة” (السنية).

البعض يقرأ هذه “الضربة” المحتملة، بإعتبارها “ضربة نفسية” لكسر إرادة النظام وإرغامه على قبول شروط المعارضة السورية، ب”حل سياسي”، أو لنقل “حل ثوري” (كما ترى المعارضة)، يضمن إبعاد أهل النظام ورأسه وكلّ أركانه ومرتكزاته من أية مشاركة مباشرة أو غير مباشرة في سوريا المستقبل. تأسيساً على هذه القناعة “الثورية”، صرّح رئيس الإئتلاف السوري أحمد الجربا، قبل انتشار أخبار “الضربة” وبعدها، بأنّه لا يؤمن بأجندات “جنيف 1+2” التي صارت خلفهم، على حدّ قناعته.

فبقدر إصرار النظام على “الحل العسكري”، هناك إصرار “مضاد” من جهة المعارضة أيضاً على دفع الأمور نحو الخيار العسكري ذاته والحرب ذاتها. فلا النظام يقبل في السياسة ب”سوريا الثورة”، ولا المعارضة تقبل ب”سوريا النظام”، هذا ناهيك عن إصرار الطرفين، على قطع الطريق أمام “حلّ وسط” في “سوريا وسط”، من شأنه أن يوقف نزيف الدم السوري، ويطفئ نار الحرب الأهلية الدائرة في البلاد.

أكبر خطأ ارتكبته المعارضة السورية، هو انجرارها إلى فخ “الحسم العسكري” للنظام، وقطع الطريق أمام أيّ “حل سياسي”، وذلك بإتخاذ شعار “لا حوار مع النظام”، استراتيجية وخياراً وحيداً، لكلّ قيامها وقعودها السياسييَن.

الثورة اليمنية التي تزامنت مع الثورة السورية عانت في بداياتها من الديكتاتورية ذاتها، والفاشية ذاتها، والقتل ذاته، والفخ العسكري ذاته، إلا أنّ ارتفاع صوت العقل على صوت القتل، وجلوس الحكماء من الطرفين على طاولة يمن واحد، لشعب واحد، بثورة واحدة، وقطعهم الطريق أمام أية تدخلات إقليمية في شأن الثورة اليمنية، أنقذ، بالنتيجة، كلّ اليمن وكلّ اليمنيين، من أتون حربٍ أهلية، كادت أن تسقط البلاد في بحرٍ من الدماء، كما هو الحال، الآن، في سوريا، التي تحوّلت بفعل تحوّل السلاح إلى عقل ل”الثورة السورية”، وتدخل كلّ العالم في شؤونها، وانقسامه فيها بين “أصدقاء النظام” و”أصدقاء الثورة”، إلى أبواب جهنم مفتوحة على كلّ الجهات.

مشكلة الحرب السورية السورية، الأساس، هي أنها تحوّلت إلى “حربٌ بالوكالة”، بين طرفين بدأ كلّ منهما الحرب على الطرف الآخر (مع الأخذ بعين الإعتبار، بالطبع، أنّ النظام الفاشي بطبعته العربية، هو المسؤول الأول والأخير عما حصل وسيحصل في سوريا)، دون أن يملك أيّ طرف مفاتيح السلام.

كلاهما تحولاّ بفعل التدخل الإقليمي والدولي الهائل في الأزمة السورية، إلى “وكلاء حرب” في سوريا، يحاربان بعضهما البعض بسوريا ضد سوريا، وبشعبها ضد شعبها.

النظام دخل الحرب ضد شعبه، لكنّه لا يملك بيده مفاتيح الخروج منها. كذلك المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، ركبت خيار “الحسم العسكري”، واتخذت من السلاح “عقلاً” وسياسةً لها، لكنها لا تملك بيدها خيار “الحل السياسي”.

كان من الممكن بالطبع أن تؤدي هذه “الضربة العسكرية” التأديبية، إلى ترجيح الكفة في الأزمة السورية، لصالح “الحل السياسي”، وإنتشال سوريا، بالتالي، من تحت رماد الحرب الأكيدة، ودفعها نحو “السلام الممكن”، فيما لو كان المزاج الداخلي (السوري) والإقليمي والدولي يتجه بالفعل نحو السلام لسوريا ولشعبها، لكنّ المؤشرات على الأرض، لا تشي، بكلّ أسف، بإمكانية أيّ صعود للسلام على سوريا، في ظل تحوّل الحرب السورية المجنونة من صراعٍ بين نظامٍ وشعبه، إلى صراع طائفي إقليمي، يريد كلّ طرف محو الطرف الآخر عن بكرة أبيه.

بكلّ تأكيد، لن تكون هذه “الضربة” على النظام ك”وخزة دبوس” وربما “تقلص قدرات الرئيس بشار الأسد العسكرية”، على حدّ تعبير وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل، ولكنها أيضاً لن تكون على سوريا والسوريين برداً وسلاماً.

كلّ شيءٍ يمكن أن تجلب معها هذه الضربة، إلاّ السلام!

كلّ شيءٍ يمكن أن يُتوقع بعد هذه الضربة، إلا السلام!

لسوء حظ السوريين، أنّ الكلّ يقرع طبول الحرب في سوريا، والكلّ يعلن حرب الجميع ضد الجميع، فهل هي حربٌ بلا سلام؟

ايلاف

هل يتغير شكل الضربة الأميركية وهدفها؟/ علي العبد الله

أثار خطاب الرئيس الامريكي باراك اوباما الذي طلب فيه موافقة الكونغرس على قراره بتوجيه ضربة عسكرية الى النظام السوري، ضربة عقابية محدودة، ردود فعل صاخبة ومستهجنة ممن اراد الضربة وأستعجلها، وارتياحا شامتا ممن رفضها ووقف ضدها، دون انتظار المآل النهائي للخطوة وتداعياتها القادمة.

لكن لعل التعليق الاطرف والأكثر اثارة وفكاهة في آن ما كتبه الكاتب العراقي/الايراني محمد صادق الحسيني في جريدة القدس العربي(1/9/2013) تحت عنوان:”ماذا قال الايرانيون لفيلتمان وقابوس فتردد اوباما؟” والذي جاء فيه:( مخطئ من يفكر ان كاميرون تراجع احتراما لإرادة البرلمان!

ومخطئ ايضا من يفكر ان اسرائيل بلعت الموسى نزولا عند رغبة سيدها الامريكي!

تماما كما هو مخطئ من يفكر ان اوباما تراجع احتراما للكونغرس واللعبة الديمقراطية!

لا يا اخوان، اسألوا عن فحوى الرسائل التي ابلغها الايرانيون لجيفري فيلتمان والسلطان قابوس في زيارة “الصدفة” المزدوجة لطهران؟!

لجيفري فيلتمان قالوا له: ان كان رئيسك الاساس جادا بالحديث عن جنيف 2 فعليك ان تذهب الى دمشق وتفاوض فيصل المقداد ومن ثم يسارع رئيسك للدعوة للمؤتمر تحت سقف الاسد نقطة على اول السطر!

ولجلالة السلطان قالوا: ان كنت تريد منع الحروب وتبعد شظاياها ودخانها عن المياه الدافئة وهي رغبة ملحة ودائمة لديك فما عليك إلا ان تفهم اصدقاءك في لندن وواشنطن بان عليهما الاذعان بان دمشق اضيفت الى بنت جبيل باعتبارها خط الدفاع الاول لجبهة المقاومة!

وانطلقت ماكينة المشاورات والاتصالات حتى ارتجفت واصطكت ركبتا اوباما وركع عند بوابات دمشق يلتمس لنفسه عذرا بغطاء ديمقراطي!).

اوردنا كلام السيد الحسيني لا لنرد عليه بل لنقدم نموذجا عن سلوك بعض الكتّاب والصحافيين والنزعة الدونكيشوتية التي تضطرهم علاقاتهم الى اتباعها أثناء تناولهم لقضايا يدركون مدى أهميتها ومصيريتها.

واقع الحال ان خطوة الرئيس الامريكي تنطوي على احتمالات كبيرة وخطيرة تستدعي قراءة مدققة ومتأنية  وحساب الاحتمالات ومآلاتها والتصرف في ضوء ذلك، وأسوأ خيار للتعاطي معها ما حصل الى الآن من ندب وإحباط جهات وتهليل واستهزاء جهات اخرى.

في الحسابات الاستراتيجية هناك اكثر من ملف على طاولة الرئيس الامريكي ولعل اهمها وأكثرها راهنية وإلحاحا الملفات: السوري، الايراني، الصيني. وهي ملفات قد تستدعي، من بين امور أخرى، استخدام القوة العسكرية بشكل او بآخر، وهذا جعل الرئيس الامريكي، الذي فاز في انتخابات رئاسية لدورتين متتاليتين تحت شعار اعادة الجنود الى ارض الوطن، يكتشف ان هذا الشعار قد تحول الى قيد له وفرصة لخصوم الولايات المتحدة وأعدائها، وانه لابد من التحرر منه والاستعداد لمواجهة استحقاقات اقليمية ودولية باستثمار نقطة التفوق الامريكية: القدرة العسكرية.

لقد حاول طوال السنوات الماضية من رئاسته الالتزام بخياره الاستراتيجي بعدم اعادة تجربة سلفه جورج بوش الابن الذي زج بالولايات المتحدة في حروب متتالية هدر فيها مليارات الدولارات وأودى بها بأرواح آلاف الجنود الامريكيين دون تحقيق نتائج حاسمة ما رتب ضرب صورة الولايات المتحدة وتراجع قدراتها المالية والاقتصادية.

غير ان المرحلة الدقيقة التي يمر بها العالم والتي تنطوي على حالة سيولة ومتغيرات سياسية واقتصادية وعسكرية كبيرة وسريعة جعلت خياره الرئيس غير قابل للتحقق فلجأ الى بديل للقوة العسكرية الصريحة بإعادة الاعتبار لسياسة العمل السري الذي تقوم به اجهزة الاستخبارات، بما في ذلك التجسس الالكتروني على الدول والمنظمات والأفراد بمن فيهم الدول الصديقة والحليفة، لاحتواء الاخطار والرد بهجمات استباقية باستخدام الطائرات دون طيار التي لا تكلف الولايات المتحدة كثيرا وتجنبها التضحية بجنودها( رفع عدد الطائرات دون طيار الى 14000 طائرة).

في السياق انفجرت ثورات الربيع العربي وطرحت استحقاقات اضافية اساسها السيطرة على متغيرات الإقليم، وتوظيف هذه المتغيرات في مواجهة تحديات واستحقاقات اقليمية ودولية ضاغطة: التمدد الايراني في المشرق العربي، الملف النووي الإيراني، التحدي الروسي الصيني، منظمة شنغهاي، ودول البريكس. ما رتب تبني خيارات آنية( المشاركة في الحرب الليبية وإسقاط القذافي) ومديدة (الدخول في تحالفات سياسية مع حركات الاخوان المسلمين باعتبارها قوى سنية ما سيضعها في تضاد مع المشروع الايراني من جهة ومن جهة ثانية الدخول على خط قضايا المسلمين السنة في روسيا والصين) وتشكيل قوس سني من تونس الى أنقرة.

لكن ولما كان ليس وحيدا في العمل على توظيف ثورات الربيع العربي، وان ثمة دول وقوى دولية وإقليمية ومحلية لها مصالح وحسابات خاصة ومضادة فقد تعثرت استراتيجيته ودخلت في مآزق في أكثر من ساحة، خاصة سوريا ومصر، ووجد نفسه بين خيارين: التخلي عن خيار عدم الدخول في حرب وإرسال قوات امريكية جديدة الى ساحات جديدة، أو قبول خسارة كبيرة ليس في ساحة معينة بل في موقع ودور الولايات المتحدة. فاختار الأول وقرر ارسال قواته الى شرق المتوسط للرد على تحدي استخدام الاسلحة الكيماوية.

بدأ التحرك وفق حسابات اولية ترى القيام بحملة تأديبية ضد النظام السوري قبل ان تتطور تحت ضغط المواقف الاقليمية والدولية واحتمالات الانزلاق الى مواجهة واسعة في ضوء تداعيات الضربة وتفاعلاتها المحلية والإقليمية والدولية، واستخدام الحملة التأديبية  ضد النظام السوري لإعادة الاعتبار لقوة الردع الامريكية وإرسال رسائل متفجرة الى اكثر من عنوان من ايران الى الصين مرورا بروسيا. في هذا السياق جاءت خطوة مطالبة الكونغرس بإجازة قراره بتوجيه ضربة عسكرية الى النظام السوري، والتي – الاجازة- ستحدث ردة فعل اقليمية ودولية تدفع باتجاه تشكيل تحالف دولي، ومساعدة بريطانيا على الانضمام الى الحملة عبر اعادة التصويت على القرار بعد ان ادركوا انهم خسروا بتصويتهم ضد القرار.

تستند هذه القراءة الى عنصر واضح: تواتر عملية حشد القوات الامريكية في شرق المتوسط والبحر الاحمر كما ونوعا وتأجيل سحب قوات منتشرة في الخليج  العربي رغم انتهاء فترة مرابطتها فيه، تحسبا لتغير طبيعة الحملة والتوسع في اهدافها.

كل هذا يستدعي من الذين ارتاحوا لقرار اوباما دعوة الكونغرس لإجازة قراره، وشمتوا بخصومهم، ان يعيدوا حساباتهم ويقلقوا كثيرا لان مؤشرات كثيرة تشي بتحول في الضربة، قوتها وهدفها، مع احتمال توسعها لتطال اطرافا خارج سوريا.

* كاتب سوري

المدن

استراتيجية أعداد القتلى السوريين/ غازي دحمان *

ليس من ضمن رهانات نظام بشار الأسد، في مواجهته للتحالف الدولي الذي يقف ضده، ما يملك من أسلحة عسكرية متطورة وخطط وتكتيكات يفاجئ بها (المعتدي)، فهو يعرف قبل غيره أنه لم يؤسس بنية عسكرية قوية تواجه الخارج لا من حيث البنية ولا من حيث العقيدة القتالية. لكنه على رغم ذلك، وعلى رغم إدراكه حجم الضعف التقني لمشروع الصد الذي يدعيه، إلا أنه، ومن خلفه إعلام الممانعة، يصر على الادعاء بقدرته على النصر في المعركة.

التفسير المنطقي لهذه الحالة، أن النظام يُدرج مسألة الضربة العسكرية في إطار الفرص وليست بوصفها خطراً يحمل إمكان القضاء على النظام ورأسه. ولعل ما يدفع إلى هذا الترجيح، ويطمئن الجهات التي تتولى بناء التقديرات والحسابات داخل بنية صنع القرار النظامية، أن الضربة بالتكييف الذي وضعت فيه ستكون محدودة وسريعة ولن تغير موازين القوى في البلاد، وبالتالي فإنها والحال كذلك، تشكل فرصة للخلاص من حالة التهديد والرقابة الدولية على نظام الأسد في تعاطيه مع شعبه، الذي سيعاود بعد الضربة سيرته في قمع السوريين، ولكن هذه المرة بصفته بطلاً قومياً ممانعاً تحدى أميركا وعملاءها في المنطقة!

إضافة لهذا المعطى العملاني، يراهن النظام على مكره وقدرته الهائلة على الخداع، إذ بدا من خلال متابعة إجراءاته العملانية في ترتيب مسرح المعركة انه يجهز لإستراتيجية تقوم على أساس إحراج الحلف المعادي له من خلال توظيف واستغلال مشاهد القتل والموت التي ستحدثها الضربات العسكرية سواء ما قد يحصل عن طريق الخطأ وهو أمر مقدر له الحصول، أو من خلال استهداف بعض المراكز الأمنية التي قام بتفخيخها بعشرات آلاف السجناء الذين تم تقييدهم في هذه الأماكن التي غادرتها كل العناصر الأمنية واختبأت بين السكان المدنيين، أو من خلال المذابح التي يجهز لها النظام بحق الكثير من المناطق التي يعتبرها معادية، أو البيئات الحاضنة للثورة.

باستثناء ذلك، لا يمكن ملاحظة أي استعدادات جدية موازية لمواجهة التحالف الدولي، لقد استخدم كل مخزونه من الذكاء وعبقريته في الإجرام وذلك من أجل تكثيف واقعة الإحراج تلك وتوظيفها ما استطاع في خدمة بقائه، لذا عمد إلى زرع كتائبه وتشكيلاته العسكرية في المواقع المدنية ونشرها في كل أحياء المدن التي يسيطر عليها وبخاصة في العاصمة، وهو يدرك أن سورية كلها اليوم تحت مجهر الأقمار الاصطناعية العسكرية الأميركية التي تترصد تنقلات جيشه وعتاده.

ويعتقد دهاقنة النظام أن تلك آخر أوراقهم في النجاة، القتلى السوريين، كلما زاد عددهم أكثر كلما كانت فرصهم في النجاة أكبر وفي تقديرهم وقناعتهم أن هذا الأمر سينتج منه إثارة الرأي العام العالمي واضطرار الحلف إلى وقف عملياته، والأهم أنها تشكل رادعاً أمام أي محاولة أخرى للقيام بعمل عسكري، أي أن الحلف لن يستطيع تطوير عملياته وستهزمه النتائج الكارثية للقتلى السوريين، ولعل ما يشجع على مثل هذه القناعة حالة الغموض والارتباك في الرأي العام للدول المشاركة في الضربة العسكرية ضد النظام وبخاصة الرأي العام الأميركي.

ليس مفاجئاً أن هذا النظام غير جاهز تقنياً لمواجهة أي هجوم على سورية، ولا يملك غير الدم السوري يحتمي خلفه، على رغم كونه يصنف ضمن إطار الأنظمة العسكرية، فبالنسبة لنظام الأسدين العدو كان دائماً في الداخل السوري، الشعب السوري وما يمكن أن ينتجه من استجابات في مواجهة حالة الاستعمار الداخلي، تلك الحالة التي نقلها هذا النظام من حقل العلاقات الدولية ورسخها في الواقع السوري، فقد صمم نظاماً يقوم على النهب والقمع وانتهاك الحقوق وشراء الذمم وتركيب الواجهات من مختلف المكونات السورية، وفق هذه النمطية أدار النظام سورية على مدار العقود الأربعة الماضية، وجرى تصميم الجيش بوصفه جيش مستعمرات بأساليبه القتالية وعقيدته العسكرية.

أما الخارج فقد كان صفر أعداء، اللهم بعض الاستثناءات مع المكونات المحلية في الأقاليم المجاورة، وقد استطاع الأسد الأب تدشين هذه القاعدة منذ أن سلّم زعيم حزب العمال الكردستاني لتركيا وعقد اتفاقية أضنه الأمنية التي حولته إلى خادم لدى الجهاز العسكري التركي، أما إسرائيل فقد توصّل معها ضمنياً إلى هذه الحالة غير المعلنة. وبالنسبة لأميركا فقد توصل معها إلى مقاربة علاقاتية تقوم على مبدأ تكفل الخدمات القذرة في المنطقة وتحمله مسؤولية إنجازها بشرط عدم وضوح علاقة المشغل، وهو نمط من العلاقات ذات الطابع المافياوي الذي اعتمدته إدارات واشنطن مع بعض العصابات والعائلات في أميركا اللاتينية وآسيا.

يدرك نظام الأسد أن البنية العسكرية التي يمتلكها لن تستطيع مواجهة هجوم عسكري منظّم، حتى لو كان من دولة إقليمية ذات قدرات أصغر بكثير من قدرات أميركا، وليس سراً أن النظام كان يرفض الانجرار ومجاراة الاستفزازات الإسرائيلية، على رغم تعمد الأخيرة إذلاله في أكثر من حادثة وموقع، ذلك أن النظام يعرف تماماً حقيقة قدراته وتجهيزاته ومدى تهافتها أمام أي مواجهة جدية، حتى ما يدعى النواة الصلبة في بنيته العسكرية فهي لا تعدو كونها تشكيلات ذات تركيب طائفي يرفض النظام التضحية بها في حروب خارجية قد تؤدي إلى تدميرها وفقدانه تالياً لأهم أدوات قمعه تجاه السوريين.

العدو بالنسبة لنظام بشار الأسد من الداخل وهو الشعب، وهو وحده المطلوب منه دائماً أن يدفع ثمن بقاء النظام وحمايته والدفاع عنه رغب في ذلك أم كره. أما البوارج والأساطيل فهي تحمل للنظام وعداً بزيادة رصيده القومي والممانع.

* كاتب سوري / فلسطيني

الحياة

نتائج الحرب الأميركية/ غازي دحمان

حرب جديدة تخوضها أميركا في الشرق الأوسط بعد تردد طويل، وبعد انتظار مليء بتفاصيل موت السوريين وتشردهم. ومن الطرافة غير المحمودة في لجج النار، أن يكتشف السوريون أن هذا التدخل العسكري كان ممكناً من قبل، حينما كانت أعداد القتلى أقل بكثير ولم يكن حجم الدمار في الهيكل العمراني والنسيج الإجتماعي للبلد قد بلغ الحجم الراهن.

وتذهب غالبية التأكيدات الغربية إلى أن الضربة العسكرية هو نوع من العقاب وليس الانتقام، وأنها لا تهدف إلى إسقاط النظام بل معاقبته. وبناء عليه يذهب معظم الترجيحات إلى الاكتفاء بضربات نوعية لأهداف تابعة للنظام. وفي الواقع، يمكن تفسير هذه التوجهات كالآتي:

أن القوى الغربية، وعلى رأسها أميركا، لو صرحت علناً، وبوضوح، عن إصرارها على إسقاط نظام الأسد، فإن هذا الأمر يلزمها بتبعات أخرى تتعلق بتوافر البدائل عن هذا النظام. وهذا مأزق له تبعاته السياسية الأشد ضرراً من مجرد توجيه ضربة عسكرية، تساعد على تقهقر النظام وبالتالي زواله سريعاً. ويؤكد هذا التوجه تسريبات من اجتماع قيادات الأركان العسكرية في عمان، بأن غاية الضربة ليست إسقاط النظام السوري، وإنما ردعه، وإن كانت الضربة المقررة ستضعفه بشدة وتسرّع من سقوطه. وقد دعّم هذا التوجه تقدير سعودي يقوم على أساس أن لا مصلحة بسقوط سريع وفوري للنظام السوري، وإنما الأفضل ترجيح كفة الثوار، وتعزيز قدرات الفصائل غير المتشددة، لتشكّل بديلاً طبيعياً عن النظام حال سقوطه بعد مدة.

التفسير الثاني أن ذلك لا يبدو كونه مجرد تخدير للقوى الحليفة للنظام السوري خصوصاً روسيا وإيران، وعدم استفزازها بإعلان نية صريحة لإسقاط النظام، كما أنه محاولة لردع النظام عن تصرفات متهورة، ولمحاصرة أي أمل في صفوفه بأن بقاءه واستمراره أمر ممكن في حال تعامل مع الأمر على أنه مجرد ضربة وستنتهي.

وبعيداً من حجم الضربة وأهدافها، والتي قد تحتاج وقتاً لحصرها ومعرفة أبعادها، تنتصب مروحة واسعة من التقديرات للتداعيات. بعضها يقوم على بديهيات وحتميات، تفرضها طبيعة التحالفات القائمة في المنطقة، وبعضها الآخر يقوم على معادلات نظرية صرفة.

التقدير الأول: إنهيار النظام بعد فترة قصيرة من بدء الضربات، ويستند هذا التقدير إلى حقيقة فقدان النظام السيطرة على أجزاء مهمة من البلاد، إذ يتوقع كثيرون أن يكون أحد أهداف الضربة تعزيز الخرق الحاصل في جنوب البلاد مع الحدود الأردنية، حيث قوات المعارضة على مسافة قريبة، مما قد يساعدها في الإلتحام بالكتائب في جنوب العاصمةن ما يؤدي إلى إنجاز سيطرتها الكاملة على العاصمة. وقد تساعد في ذلك حالة الإنهاك التي أصابت مؤخراً قوات النظام وقاعدته المؤيدة.

التقدير الثاني: أن ينفذ الأسد وحلفاؤه خيار شمشون، “عليّ وعلى أعدائي”، فيقدمون على مهاجمة إسرائيل عسكرياً، في محاولة يائسة لجر المنطقة الى أتون كبير، فيندفع “حزب الله”، بأمر إيراني، إلى الإشتراك في هذه الحرب. وبذلك تقدم هذه الأطراف على الإنتحار سياسيا وعسكرياً.

 التقدير الثالث: يبقى من أخطر التداعيات المتوقعة، وهو أن يرتكب النظام مذابح في المناطق الواقعة تحت سيطرته، مرجعاً ذلك إلى أخطاء عسكرية ارتكبتها القوات المعادية، بهدف الضغط على هذه القوى لوقف عملياتها ضده وإحراجها أمام الرأي العام الدولي. وقد يحصل ذلك أصلاً، من خارج إرادة النظام، بدفع من تشكيلات عسكرية ميليشيوية شكلها النظام في الآونة الأخيرة، فتعمد إلى عمليات انتقامية واسعة ضد السكان المدنيين، خصوصاً في لحظات انهيار النظام الأخيرة.

المدن

الحرب في سوريا.. مساراتها وتقديراتها/ غازي دحمان

تستند الحملة العسكرية لضرب نظام الأسد في سورية على جملة من الاعتبارات القانونية والسياسية إذ يتأسّس الموقف الأميركي على مرجعية قانونية دولية تتمثل باتفاقية جنيف لحماية المدنيين واتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية، التي لم توقعها سورية. وبذلك فإن المبرر الأميركي للتدخل يستند بشكل كبير على استخدام السلاح الكيماوي وبناء قضية دولية لمنع انتشاره وإحياء قوة الردع الأميركية في هذا المجال. ولم يبتعد الموقف الفرنسي عن هذا الإطار حيث استند الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى مبدأ “مسؤولية حماية المدنيين” الذي أقرته الأمم المتحدة ليعلن مشاركة بلاده في العمل العسكري، في حين تتخذ مواقف بعض الدول طابعاً سياسياً أكثر وضوحاً إذ تعتبر أن السكوت على استعمال الأسد للكيماوي سيشجع ديكتاتوريين آخرين على أنه بإمكانهم أن يفلتوا من العقاب حتى لو استخدموا الأسلحة الكيماوية بشكل أوسع.

وتذهب معظم التأكيدات الغربية إلى أن الضربة العسكرية هي نوع من العقاب وليس الانتقام، ولا تهدف إلى إسقاط النظام بل معاقبته، وبناء عليه تذهب معظم الترجيحات إلى الاكتفاء بضربات نوعية لأهداف تتبع لهذا النظام. وفي الواقع يمكن تفسير هذه التوجهات كالآتي:

أن القوى الغربية وعلى رأسها أميركا لو صرحت علناً وبشكل واضح عن إصرارها على إسقاط نظام الأسد فإن هذا الأمر يلزمها بتبعات أخرى تتعلّق بتوافر البدائل عن هذا النظام، وهذا مأزق له تبعاته السياسية الأشد ضرراً من مجرد توجيه ضربة عسكرية، تساعد على تقهقر النظام وبالتالي زواله سريعاً. ويؤكد هذا التوجه تسريبات صدرت عن اجتماع قيادات الأركان العسكرية في عمان من أن غاية الضربة ليست إسقاط النظام السوري، وإنما ردعه، وإن كانت الضربة المقررة ستضعفه بشدة وتسرّع من سقوطه. وقد دعّم هذا التوجه تقدير سعودي يقوم على أساس أن لا مصلحة بسقوط سريع وفوري للنظام السوري، وإنما الأفضل ترجيح كفة الثوار، وتعزيز قدرات الفصائل غير المتشددة، لتشكل بديل طبيعي عن النظام حال سقوطه بعد مدة.

التفسير الثاني أن ذلك لا يبدو كونه مجرد تخدير للقوى الحليفة للنظام السوري وخاصة روسيا وإيران وعدم استفزازهما والإعلان عن النية الصريحة بإسقاط النظام، كما أنه محاولة لردع النظام عن أي تصرفات متهورة وبعث الأمل في صفوفه إلى أن بقاءه واستمراره أمر ممكن في حال تعامل مع الأمر أنه مجرد ضربة وسينتهي الأمر.

غير أنه وبعيداً عن حقيقة النيات التي تضمرها الأطراف من هذا التدخل العسكري، إلا أن ثمة حقائق سترسخها الضربة الأولى وستتأكد بشكل أوتوماتيكي من اليوم الأول للمعركة:

أولاً: التدخل سيجرّ تدخلاً آخر، وطالما أنه جرى كسر القاعدة وتجاوز كل التعقيدات الدولية والعملية والنفسية التي أحاطت بهذه الضربة يعني جعل أيّ ضربة أخرى مسألة بديهية وعادية وطبيعية، فالظروف لا تنضج كل يوم والقوى الكبرى عادة ما تعرف هذه المسألة تماماً وتعرف كيف تنتهز الفرص، وبلا شك تدرك القوى المشاركة في العملية أن الوقت ملح وقاطع سواء بالنسبة لرأيها العام أو بالنسبة للقوى الدولية الأخرى.

ثانياً: الضربة أصلاً ذات طابع سياسي، إذ إنها ستكسر مبدأ عدم التدخل الخارجي في سوريا لصالح التدخل، ما يعني أنها ستؤسس لواقع جديد لم تعرفه الأزمة السورية، وستشرّع الباب أمام مرحلة سياسية جديدة يبدأ معها العدّ العكسي لسقوط النظام السوري.

ثالثاً: الضربة العسكرية مهما كان حجمها ستولّد دينامية عسكرية وديبلوماسية، وتشكل تطوراً تأسيسياً في الملف السوري. فهي ستعني أنّ التوازن الذي نجحت روسيا في إقامته دولياً بتعطيل أيّ قرار يشرّع التدخل في سوريا، انكسر لصالح المحور الداعم لهذا التدخل. وفي معزل عما إذا كان تجاوز موسكو ينطوي على صفقة أو فرضته الأحداث المتصلة بالكيماوي، إلا أنّ النتيجة تبقى واحدة.

رابعاً: الضربة العسكرية تمنح المعارضة اندفاعة عسكرية وخاصة في ظل إمكانية تدفق العتاد العسكري لها، مقابل حالة الإحباط والتضعضع المتوقع أن تصاب بها قوات النظام وحلفائها.

أما على صعيد التداعيات المتوقعة، فثمة مروحة واسعة من التداعيات يتم تقديرها من قبل الأطراف المتابعة للحدث، بعضها يقوم على بدهيات وحتميات تفرضها طبيعة التحالفات القائمة في المنطقة، وبعضها يقوم على حسابات قائمة على معادلات نظرية صرفة:

التقدير الأول: انهيار النظام بعد فترة قصيرة من بدء الضربات ضده، ويستند هذا التقدير إلى حقيقة فقدانه السيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد، فضلاً عن الإنهاك الذي أصاب مؤيديه جراء المواجهة المستمرة منذ سنتين ونصف؛ الأمر الذي قد لا يؤدي إلى سقوط الحلقة الضيقة للنظام بفعل الضربات الجوية والصاروخية، لكنه قد يتسبب في تداعي القاعدة التي يرتكز عليها، وربما في حالات هروب واسعة في صفوف قواته وأجهزته الأمنية. هذا احتمال وارد جداً، ولا يبدو أن الإدارة الأميركية تحبّذه لأنه يخلّ بتصوراتها عن الحل السياسي الذي يحتفظ بجزء معتبر من النظام بعد تنحية رموزه، ولأنه أيضاً قد يؤدي إلى سيطرة شبه تامة لكتائب المعارضة غير الموحدة وغير المتفقة على البديل.

التقدير الثاني: أن ينفذ الأسد، وحلفاؤه، خيار شمشوم، علي وعلى أعدائي، فيهاجم عسكرياً إسرائيل كما قال سابقاً إنه سيفعل لجر المنطقة إلى أتون كبير، علماً أنه يٌقدِم على الانتحار بذلك؟ وتقلق أميركا أيضاً من تهديد إيران بالرد مباشرة عليها وعلى حلفائها في الخليج إذا ضربت سوريا، الذي جاء على لسان عسكري رفيع المستوى. وعمل كهذا سيكون انتحاراً لإيران، علماً أنه قد يكون جراء استحكام عقدة شمشوم نفسها بحكامها، ذلك أنه سيوفر لأميركا الذريعة لضرب البرنامج النووي الإيراني.

يبقى أنه من أخطر التداعيات المتوقعة، أن يعمد النظام إلى ارتكاب المذابح في المناطق التي تقع تحت سيطرته، ويقوم بإرجاعها إلى أخطاء عسكرية ارتكبتها القوات المعادية، وذلك بهدف الضغط على هذه القوى لوقف عملياتها ضده وإحراجها أمام الرأي العام الدولي، وقد يحصل ذلك أصلاً خارج إرادة النظام من قبل الكثير من التشكيلات العسكرية الميليشياوية ذات الطابع الطائفي التي شكّلها النظام في الآونة الأخيرة، والتي قد تعمد إلى القيام بعمليات انتقامية واسعة ضد السكان المدنيين وخاصة في لحظات انهيار النظام الأخيرة.

المستقبل

الطغاة يجلبون الغزاة/ د. رياض نعسان أغا

يصعب على السوري حتى وإن كان معارضاً للنظام أن يرى جيوش الولايات المتحدة وحلفائها تقصف بلده وتقتل وتدمر ما تبقى منه، وحتى الذين طلبوا من أميركا وأوروبا تدخلاً بحل عسكري، لن يكونوا فرحين وهم يشاهدون طائرات وصواريخ الغرب تنهمر على بلدهم، وحالهم مثل حال الأم التي تدعو على ولدها العاق، ولكنها تغضب ممن يقول «آمين»، وأعتقد أن هذا الشعور مفهوم، وسيردد كثير من الناس ذاك المثل الشهير «ما الذي أجبرك على المر؟ والجواب: ما هو أمرُّ منه». والأمر والأشد هنا هو ظلم ذوي القربى، وقد بلغ ذروة لا تطاق ولا تحتمل، وقد صبر السوريون عامين ونصف على كل ما لاقوه من تعسف وعنف وقتل، وتحملوا القصف اليومي بالهاون وبراميل المتفجرات التي لا تحدد هدفاً، ثم تحملوا صواريخ «سكود» التي تهدم المباني وتجعل سكانها قتلى وشهداء تحت أنقاضها، وتشرد ملايين السوريين، وتعرضوا لذل النزوح، وهدمت ملايين المنازل، وتقول الإحصاءات إن المنازل التي هدمت في سوريا تفوق ثلاثة ملايين منزل. وأخبرني أحد أصدقائي القدامى من الكاظمين الغيظ، قال «أنتم تتحدثون عن مائة ألف قتيل وشهيد، لكن العدد الصحيح بين من قضوا من المعارضين والمؤيدين ومن الجيش النظامي والشرطة ومن الشبيحة واللجان الشعبية، ومن العصابات بعجرها وبجرها، ومن اللائذين ببيوتهم من الصامتين الخائفين وهم الأغلبية يفوق أربعمائة ألف سوري، فضلاً عن مئات الآلاف من المعتقلين الذين لا يعرف أحد من أهلهم من تمت تصفيته منهم، ومن قضى تحت التعذيب. وكل ما تعرضت له سوريا من عذابات لا مثيل لها في التاريخ كان دفاعاً عن رجل يريد أن يبقى قائداً ورئيساً، غير قادر على الاعتراف بأن الشعب الذي خرج في مظاهراته الأولى لم يكن ثلة من الجراثيم، ولم يكن عصابات إرهابية، وإنما كان مجموعة من الشباب الغاضبين الذين ضاقوا بقبضة الأجهزة الأمنية التي ظلت تضغط على رقاب السورين حتى قطعتها ورمتها في مقابر جماعية. وكانت ردة الفعل الأولى على تظاهرة سلمية في درعا بداية الشر المستطير، وبوابة الدخول إلى الجحيم، ولكن شعراءنا قالوا: لكل داء دواء يستطب به، إلا الحماقة أعيت من يداويها. وكانت الحماقة نتاج صلف وغرور وتكبر وعناد.

وها هي ذي الحماقة تستدعي التدخل الأجنبي، والمسؤول عن هذا المصير هو النظام الذي أصر على الاستمرار في إبادة منظمة للشعب السوري الذي لم تتجاوز مطالبه الأولى الإصلاح وإسقاط المحافظ. ولكن العجرفة والصلف لم يسمحا بتقديم أي تلبية حكيمة سوى القتل لمن يرفع صوته مطالباً بحق، وبدا النظام غير قادر على قراءة الواقع والوقائع، مستخفاً بكل القيم والأعراف. وقد نجح في إغراق الثورة السورية بالطائفية بعد أن سمع هتافات الملايين «الشعب السوري واحد»، ونجح في إغراقها بالإرهاب يوم أطلق المجرمين من المساجين. ودهش السوريون حين رأوا بعض قادة الكتائب المتطرفة ضباط صف سابقين في بعض الأجهزة الأمنية، ومهمتهم تشويه صورة الثورة، والقيام بأعمال النهب والسلب والخطف. ثم اختلط الحابل بالنابل، وانقلب السحر على الساحر، وضاعت بوصلة الثورة حين تم اختطافها، ووصلت حماقة النظام مداها الأخطر حين استخدم أسلحة كيميائية تغافل عنها العالم حين كانت محدودة، ولكنه لم يستطع تجاهلها في الغوطة، بل رأى فيها تحدياً للمجتمع الدولي كله.

وكانت خطيئة النظام الكبرى أنه فتح الباب للتدخل الأجنبي في سوريا، فقد سارع للاستعانة بروسيا التي وجدتها فرصة لاستعادة حضورها الباهت في العالم، وللتعويض عن غيابها واستهتار أميركا وأوروبا بها في الماضي القريب، وعلى أمل أن تستعيد من خلال القضية السورية مكانة قديمة لها في زمن الحرب البادرة، وأن تعدل خصوصية النظام الدولي وسياسة القطب الواحد عبر الدم السوري، وقد بالغ الروس في تدخلهم في الشأن السوري الداخلي، لدرجة أن قال لافروف «لن نسمح لأهل السنة أن يصوا إلى الحكم في سوريا»!

وكذلك استحضر النظام إيران الدولة الدينية القائمة على المذهب الشيعي، والتي دخلت الحرب ضد السوريين تحت يافطة الحسين، والدفاع عن قبور الموتى من أربعة عشر قرناً، مع أنها في الحقيقة تبحث عن امتداد لحضورها في المنطقة، ولو على حساب الدم السوري أيضاً، وقد أمرت وكلاءها في لبنان «حزب الله» أن يدخلوا إلى سوريا غزاة محتلين، وكان إصرار النظام على الاستعانة بالأجنبي على شعبه مبرراً لكثيرين ممن ردوا بالمثل، فطلبوا استعانة بأجنبي آخر، وضاعت سوريا بين نظام يستعين بقوى الشرق ومعارضة تستعين بقوى الغرب، وبين شعب يستعين بالله، وينادي من عامين ونصف في الشوارع والساحات «يا الله ما لنا غيرك».

وليت بعض القادة الكبار في القيادة السورية التي تمتلك الصاعق يسهمون في نزع الفتيل، فما يزال بوسعهم أن يجنبوا سوريا تدمير ما تبقى منها، وتشريد من اعتصم ببيته مترقباً أن يقتل تحت أنقاضه، وهو متهيئ للموت على كل حال، فمن لم يمت بصواريخ أميركا، يتوقع أن يموت بصواريخ النظام وغازاته السامة. وبعض الناس يفضلون الموت الوطني على يد جيشهم الباسل! حتى وإن اعتبرهم إرهابيين مثل أطفال الغوطة، ويقول قائلهم «إذا كنت مقتولاً فكن أنت قاتلي»، وبعضهم الآخر يفضل أن يموت بيد الغريب الأجنبي، وأحب إلى نفسه أن يكون ضحية الغزاة بدل أن يكون ضحية الأشقاء. والمصيبة أن يرى الشعب نفسه بين نارين، فإن لم تحدث الضربة التي تغير الوقائع على الأرض، فإن ما سيجده السوريون من ضربات وطنية وإبادة محلية انتقامية قد يجعلهم أثراً بعد عين، والنظام لا يملك سوى التهديد بتدمير البلد وقد صار شعاره الرسمي «شبيحة للأبد». وإن حصلت الضربة الغربية فهي الساحقة الماحقة التي لن تبقي ولن تذر.

ويخطئ من يظن أن سوريا ستنجو إلى شاطئ الأمان بعد الضربة أو بدونها، فلا شيء مهيأ لتأمين المستقبل، وهذه كارثة كبرى أمام السوريين، ولا أرى خلاصاً أفضل من أن يغالب كبار قادة النظام عناده وجبروته، فيجنبوا ما تبقى من سوريا غير مدمر، مصيراً لا يعلم إلا الله مداه، والشعب كله يحمل النظام مسؤولية الضربة والضياع، وقد كان شعار مظاهرات الأمس «الطغاة يجلبون الغزاة». فإن أصر النظام على الاستمرار دون أي استجابة حكيمة عاقلة فلسان الشعب يقول «إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً، فما حيلة المضطر إلا ركوبها».

الاتحاد

في خارجية التدخل وخارجية الرفض/ ماهر مسعود

لا يأمل المرء كثيراً، في سياق التعاطي الغربي والدولي مع الثورة السورية وفي سياق الكاريزما الأوبامية المترددة، من حصول انقلاب قيمي أو تقويمي أو استراتيجي تجاه الأزمة الإنسانية الكبرى والمستمرة في سوريا. فالضربة الموعودة للنظام تنذر بعقاب أخوي على قسوة الكيماوي أكثر من كونها إيقاف مجرم دموي لم يتوقف ساعة عن القتل ونشر ثقافة القتل منذ ثلاثين شهراً  إلى اليوم.

خارجية الضربة لا تكمن في العدوان الكلاسيكي الخارجي على دولة ذات سيادة، فالدولة المذكورة هي خارجية أصلاً ومتخارجة تجاه داخلها البشري العام، ونصف سكانها خارج منازلهم أو حدودها اليوم، ولم يعد فيها ما هو داخلي سوى تجمعات بشرية مكشوفة نحو خارجيات متعددة صارت داخلاً، ولا يحميها قانون أو حكومة أو جيش نظامي، ولا جيش حرّ بالطبع. هذه «الدولة» باتت مستباحة طبقاً لكل الروايات حولها، إن كان من قبل الجماعات الإرهابية المنظمة والمدعومة من روسيا وإيران ولبنان والعراق، أو من قبل الجماعات الإرهابية شبه المنظمة والمدعومة من السعودية وقطر وتركيا والقاعدة طبقاً للرواية المضادة.

إذاً، نحن لدينا دولة ليست ذات سيادة على أراضيها، محكومة بنظام غير شرعي بالنسبة لأكثر من نصف سكانها على الأقل، وفيها تدخلات دولية وإقليمية وقُطرية وفردية من كل بقاع الأرض، وهي تدخلات سيادية وعسكرية وعدوانية وليست تداخلات ثقافية أو سياحية على كل حال. ولذلك تصبح خارجية الضربة المتوقعة شكلية وبلا مضمون متميز، أي أنها تنطلق من خارج وتصبّ في خارج آخر. يُمطر هذا الأخير مدنيي الداخل بجميع أنواع الأسلحة دون محرًّمات ويشرِّد مدنيين داخليين آخرين في جميع بقاع الأرض، ولا يمكن مشابهة التدخل هنا بما حصل في العراق أو في ليبيا مثلاً، حيث أن زمن الضربة المتأخر جداً وطبيعتها المحدودة –كما يكرر أوباما وغيره دون توقف– تجعلها عنصر خارجي بين عشرات العناصر الخارجية الأخرى، ولا تشبه حتى التدخل «الاحتلالي» لحزب الله وإيران ضمن السياق الإستراتيجي للهيمنة الإقليمية للأخيرة، أو السياق الاستراتيجي الروسي لاستعادة النفوذ وكسر الإرادة والمركزية الغربية في توجيه العالم. فالاستراتيجية الأمريكية واضحة بعدم الدخول في احتلال جديد في الشرق الأوسط بعد الفشل العراقي والأفغاني، وسياق الضربة يأتي كرد على تجاوز الأسد للخط الأحمر الأوباموي ليس إلا، مع أن خطوط القانون الدولي الذي يسمح بحماية المدنيين تم تجاوزها في سوريا منذ زمن طويل دون أن تفعل أمريكا أو «المجتمع الدولي» شيئاً يذكر.

ترتفع أصوات نخبوية كثيرة في سوريا وخارج سوريا لرفض التدخل الغربي، ويمكن بالمعنى المجرد تفهم الجانب «الأخلاقي» و«الوطني» لهذا الرفض، لكن هاته الجوانب تسقط مباشرة، بل تنقلب رأساً على عقب، عندما نعرف عدة أمور. أولها: أن هذه الأصوات ذاتها لم يسمعها أحد، كتابةً أو شفاهةً أو ضمن أي وسيلة تعبير أخرى، أثناء التدخل الاحتلالي للروس والإيرانيين وحزب الله، بل إن تلك الأصوات انغمست في تبرير تلك التدخلات بشتى الوسائل الأيديولوجية والعقلانية والعاطفية وغيرها؛ وثانيها: أن سياق الرفض يأتي ضمن اعتبار، غير معلن غالباً، وهو خارجية «أهل البلد» ممن يُقصفون بالكيماوي والأسلحة غير التقليدية كافة، أي «تخريجهم» من الوطنية السورية وتحميلهم مسؤولية ما يجري بشكل مباشر كثيراً وغير مباشر قليلاً، فهم من رفع السلاح بوجه الدولة وهم من يجلبون التدخل، أما النظام «الوطني» فهو يدافع عن نفسه ضد هؤلاء الخارجين عن عبوديته والخارجيين، وكل ذلك في سياق قلب قيمي وأخلاقي أقل ما يقال فيه هو الانحطاط وروح العبودية والمازوخية والاستعباد.

السمة الأخرى لخارجية الرفض عند تلك النخبة على تلوناتها هي اشتراكها مع الغرب، الذي يفترض أنه العدو في هذه الحالة، في احتقار المقصوفين بالكيماوي والقابعين تحت القصف منذ بداية الثورة وتخفيض إنسانيتهم بطريقة لا إنسانية بأقل تعبير، فهم إسلاميون وإسلامويون قروسطيون و«رعويون» على حد تعبير أحد عتاة هذا المنهج، مقابل أناقة وحضارة هذه الفئات ومن خلفها النظام، «العلماني» بالطبع. وفي أحسن حالات التعاطف مع الأطفال النائمين إلى الأبد من رائحة الكيماوي، يخرج «معارض» عتيق وبكامل قواه العقلية ليبرر ويقول أن النصرة هي من قامت بالفعل، في حين يردد ببغاوات آخرون أن المسلحين قصفوا أطفالهم ليجلبوا التدخل.

ليس الغرب و«أمريكا تحديداً» رعاة تحرير، ولا يختلفون إنسانياً في النظرة لشعوب المنطقة عن الروس والإيرانيين ربما، ويعرف الجميع بنوع من البداهة السياسية أن المصالح الدولية هي حاملة المواقف بين الدول، وليس الأخلاق. ولكن، إن استثنينا الأخلاق لرافضي الضربة الغربية من الأشخاص كما نفعل مع الدول، يبقى السؤال: هل تقوم المصلحة الوطنية السورية على السكوت عن تدخل قوى خارجية ورفض أخرى؟ وهل تقوم المصلحة الوطنية السورية على السكوت عن قصف النظام الذي لا يتوقف تجاه المدنيين، وتشريد ملايين السوريين خارج بلادهم أو منازلهم؟ إذا كان عنف النظام جلب داعش والنصرة كعنصر مهدد للمجتمع السوري، فإن سكوت وعدم تدخل هؤلاء الذين يصرخون ضد التدخل اليوم هو أيضاً من فسح المجال الواسع أمام تفرد وتزايد السلاح أولاً ثم المتطرفين ثانياً في جسم الثورة.

ليوقف أحد ما هذا النظام عن القتل لدقيقة واحدة، ونتمنى أن يكون من رافضي التدخل الغربي، وبعدها «سنوزع البقلاوة”» لمن نختلف معهم اليوم في رؤية الوطن والوطنية، ثم ندعوهم لكي نتشارك معاً أيضاً في طرد التطرف من جسم سوريا المريض.

الجمهورية

هل بشار الأسد مخير أم مسير؟/ بكر صدقي

كان بوسع نظام بشار الأسد أن يعلن الحداد الرسمي على ضحايا الهجوم الكيماوي في الغوطتين، لو أراد الإمعان في إنكار مسؤوليته وتحميلها لما يسميه بالعصابات المسلحة، ولم يفعل. بدلاً من ذلك وزّع مؤيدوه الحلوى على المارة في شوارع دمشق احتفالاً بنصرهم المؤزر على العدو. والعدو، كما يتبين من التصريح الرسمي الذي اتهم العصابات بالهجوم الكيماوي، ليس هذه العصابات، بل «الشعب» الذي لم يستحق من النظام دمعةً كاذبة للتغطية على مشاعر البهجة التي أسكرته وقاعدته الاجتماعية.

إذا كان هذا المسلك يشكل دليلاً كافياً بذاته على السفاح الذي أمر بضرب سكان الغوطتين بالكيماوي ويعفي فريق المفتشين من التوجه إلى مكان الجريمة للتحقق مما هو محقق، فهو أيضاً الدليل الوحيد الذي لا يجرؤ النظام على طمس معالمه، خشية فقدان شرعيته الوحيدة المتبقية عند قسم من السوريين لن يقبل به ممثلاً لها ما لم يلبِّ عطشها للدم السوري الآخر.

صمد النظام طويلاً في وجه قاعدته الاجتماعية التي طالما طالبته بالضرب بيد من حديد. وهناك مطالبات علنية للضرب بالكيماوي بالذات ولإزالة مدن وقرى من الخريطة، لأن كل أنواع الأسلحة، بما فيها قطعان الذئاب متعددة الجنسيات التي ارتكبت المجازر الجماعية المتنقلة، لم تنفع في تحويل الأكثرية إلى أقلية، بموازاة محدودية قدرة الأقلية على التكاثر الطبيعي في وقت قصير لتتحول إلى أكثرية. ذلك أن ولادة كائن أقلي جديد تتطلب تسعة أشهر. وفي ظل الرعب الأقلي من الأكثرية التكفيرية المتعطشة لدماء الأقليات، من المحتمل ألا تنجح عمليات التلقيح الجنسي، في حين أن المطلوب حمل متعدد التوائم لتلافي الفارق العددي بسرعة. في المقابل لا تتوقف الأكثرية عن التكاثر تحت القصف الجوي والصاروخي المتواصل وفي غياب أبسط شروط الحياة، بل إنها لجأت إلى حالة طوارئ لمضاعفة التكاثر بواسطة فتوى جهاد النكاح.

قد يتم القضاء على العصابات الإرهابية المسلحة ذات يوم، إذا واصل النظام قتلهم طوال سنوات. ولكن من المشكوك فيه أن يتمكن من تحويل الأكثرية إلى أقلية عن طريق القتل، خاصة وأن هذه الأكثرية الخبيثة قد نقلت احتياطيها الاستراتيجي إلى الدول المجاورة على شكل لاجئين سيطالبون بحق العودة على غرار الفلسطينيين، يعدون بالملايين ويتكاثرون بلا توقف. ولن تنفع أمام هذه الخطة كل محاولات التكثير المصطنعة عن طريق تجنيس شيعة لبنانيين أو غيرهم من أمم الأرض.

علمانية الأقليات وتسامحها وسعة صدرها لم تنفع، خلال أربعين عاماً، في إقناع الأكثرية المتخلفة بقيادتها من قبل نظام أقلي متنور وحديث، وحرب تطهير لمدة سنتين لم تنفع في إقناعهم بالتخلي عن جشعهم إلى السلطة. الأمل معدوم إذن في تلافي خطرهم المقبل.

الرأي الشائع في سوريا هو شتم المشروع الفرنسي لتقسيم سوريا وتمجيد شخصية صالح العلي لأنه رفض التقسيم في مواجهة فرنسا، مقابل تيار طالب الانتداب الفرنسي بإقامة دولة للعلويين، ضم إلى من ضم جد مؤسس الدولة الأسدية.

لنتخيل الآن مصيراً لسوريا لو تحقق حلم الجد. كانت سوريا تجنبت كابوس الحفيد وابنه، ووفرت مئات آلاف القتلى والمعطوبين والمشردين. وكان الأقليون تحولوا إلى أكثرية في دولتهم، وتجنبوا فقدان صفتهم البشرية، وتصالحوا مع فكرة الشرعية المستمدة من الشعب لا من الدم الأزرق والتفوق الحضاري على أكثرية متخلفة لا تجيد غير النكاح والإنجاب.

هل نحن الآن أمام تكرار الفرصة التاريخية التي وئدت في مهدها ليولد على أنقاضها الكيان السوري الذي نعرفه؟ إلى الآن لا يبدو النظام راغباً في الاكتفاء بحكم جزء من سوريا، بل ما زال مصراً على تدمير كل سوريا.

هل خلع الرئيس الأميركي البيجاما أخيراً وارتدى بذته العسكرية النظيفة ليرغم السفاح على القبول بحل سوريا بدلاً من تدميرها؟

الجمهورية

التواصل والتوصيل/ سلام الكواكبي

من خلال ملاحظة «التهيجات» الإعلامية المتنوعة حول مسألة الضربة المرتقبة التى من الممكن أن تشنّها القوى الغربية ضد النظام السورى بعد تعدد الدلائل على لجوئه إلى استخدام السلاح الكيميائى ضد المدنيين، يمكن تبيّن أهمية عملية التواصل والتوصيل لدى أطراف المشهد السياسى أو العسكرى أو الأمنى أو المدنى فى هذا الحقل الملىء بالألغام. يشتد عتب بعض المحللين السياسيين، من أصدقاء السوريين، على أطراف مدنية وسياسية فى المعارضة السورية، لقصورها الإعلامى، وخصوصا تجاه الغرب، فى شرح عدالة قضيتها. وفى هذا كل الحق والصواب، وفيه أيضا كل الظلم والخطأ.  فمنذ قضية العرب الأولى، القضية الفلسطينية، أثبت أصحابها أولا، ومن ثم من لف لفّهم ثانيا، ومن أزرهم ثالثا، على عقم جزئى لمحاولاتهم فى نقل وجهة نظرهم وفى توصيل مشروعية نضالهم إلى هذا الجمهور «الغربى» المُكتسب لقضية دولة صهيونية نشأت من «رحم» جرائم أجداده تجاه يهوديى مجتمعاته أولا. وقد «أبدع» العرب فى خسارة مسارح تعبير واسعة اعلاميا أو فنيا أو علميا بسبب الافتقار إلى لغة المخاطبة بالمعنى الذهنى، بمعنى الاستناد إلى مفاهيم مشتركة، بمعنى الاعتماد على منطق يحاكى، يجذب، يدغدغ مشاعر وأحاسيس هذا الغربى «البسيط». وعوضا عن القيام بعملية نقد ذاتى، تطورت المناهج لنقد هذا الآخر واتهامه بكل الموبقات لأنه لم يستمع إلى خطابنا الذى صغناه بلغة «صوت العرب» أو فى أحسن الحالات، بلغة أغنيات النضال والمقاومة. ومن لم تطربه أناشيدنا الحماسية أو من لم تؤثر فيه عباراتنا المستندة إلى رياضة كمال الأجسام أكثر من اعتمادها على رياضة العقل، فهو عميل، مُشترى أو مُباع، جزءٌ من لوبى صهيونى أو ماسونى أو مريخى، وبالنتيجة، الخطأ ليس من طرفنا البتة. الآخر هو الذى على خطأ ودائما.

●●●

بعض السوريين، والمعارضين منهم حتى لا أتشعّب، ليسوا باستثناء، ولهم الفخر بألا يكونوا كذلك. فلماذا نقسو عليهم فى هذه المرحلة الحرجة بالذات؟ إضافة إلى هذا وذاك، فهم أمضوا عقودا محاطين بأبدع الأساليب الغوغائية إعلاميا وعقائديا ودينيا. وما خروجهم بفضل ثورتهم إلى الحياة الإعلامية الحقيقية التى تعتمد على إيصال الرسالة الواضحة المكونة من كلمات محددة ومن دون مترادفات وتكررات، إلا بعملية مخاض صعبة ومعقدة. لا تنقذها إلا الخبرة والممارسة.

فإن سعينا إلى تنظيم فعالية نشرح من خلالها وجهة نظرنا العادلة، فنحن نتسابق ليكون لكل منا حيّزه، وبالتالى، فعوضا من أن يدوم اللقاء 45 دقيقة أو ساعة كما هو متعارف عليه حتى لا يكلّ ويملّ المتابع، فنحن نوسّعه ليمتد ساعتان أو أكثر. وإن طُلب منا أن نأخذ الكلام فى منبر عام إعلامى أو شعبى، نحتاج حتما لتذكير المتابع المتشوق ليسمع جملتين مفيدتين، بتاريخ شعبنا الأشم منذ الحثييّن وحتى يومنا هذا. فيفصل، بالمعنى الفيزيائى للكلمة، المتابع، ويغادر أريكته إن كان كلامنا متلفزا، أو ينصرف إلى النظر إلى جمالية القاعة إن كنا على الهواء الممسرح.

●●●

جلد الذات هذا حان وقته رغم ما ستتعرض اليه هذه الكلمات من جلد المحبين وغيرهم. وبالمقابل، فجلد الذات هذا لا يغفل وجود طاقات فاعلة وقادرة على مخاطبة هذا الآخر المعضلة. وهذه الطاقات المتحدثة أو الكاتبة أو الناشطة، تحمل القدر الكافى من الوطنية ومن الانتماء إلى قضية الشعب السورى العادلة. وهى إن سعت إلى التعبير بالطريقة الفعّالة والمتجاوبة مع التركيبة الذهنية للمتابع الغربى، فيجب عليها أيضا أن تحظى بثقة وبدعم من قبل جمهورها الذى تتصدى لقضيته. والتشاطر فى التخوين أو التشكيك أو التثبيط، ما هو إلا من أسوأ العقبات التى تعيق كل الجهود الطيبة لعرض القضية السورية كما يجب.

الشارع الفرنسى أو البريطانى وغيرهم من الشوارع والأزقة والطرق السريعة الغربية، لم تخضع لدورات طلائع البعث ولا إلى معسكرات شبيبة الثورة، وبالتالى فهى لا تفهم خطاباتنا المنمقة المستندة إلى عبق التاريخ وغنى الماضى وبكاء الأطلال وأغانى الشوق ومآثر الأندلس.

إن العقل الغربى، يريد أن تصله الفكرة بوضوح ويريد معها عناصر تدعم شرعيتها ولا يمنع ذلك من عرض خلفية تاريخية مبّسطة ومختصرة.

إنها فعلا ثورة، فالسوريون يثورون حتى على ذواتهم ويتعلمون من خيباتهم ومن نواقصهم، فلا تعتبوا علينا أيها الأصدقاء، «فلسنا الوحيدين فى هذا المجال، ولكن ربما كنا الأفضل».:

الشروق

التهديد بالضربة أجدى منها؟/ سمير العيطة

ستأتي الضربة بعد يوم أو بعد أسبوع أو ربّما بعد شهر. فهل هذا يعني تردّداً من قبل الرئيس الأميركي أوباما أو يعبّر عن صلب الموضوع تجاه الملفّ السوريّ؟ في كلّ الحالات إنّه يعرف، على عكس بعض قادة الدول الذاهبين أصلاً إلى الحرب حتّى قبل الكيميائيّ، أنّ الحرب لن تحلّ المشكلة بل ستضعها في سياق آخر.

بعض هذه الدول كان يريد منذ البداية الاقتداء بالنموذج الليبيّ لدرء تداعيات الربيع العربي عليها، أو لدفع سوريا كي تضحي سنيّة بدل شيعيّة، أو في محاولة لاستعادة حلم استعماريّ أو امبراطوريّ قديم. من منع تلك الدول عن ذلك في الحقيقة كانت الولايات المتحدة أكثر من روسيا، فاستبدلت الأمر بتأجيج نيران الحرب الأهليّة وبدفع الجهاديين من كلّ صوب وحدب، لأنّهم الأقدر على تقويض أركان النظام السوريّ. في المقابل يتمّ تقاذف ما يسمّى “المعارضة السوريّة” بين هيمنة هذه الدولة أو تلك. وواجهت بذلك الاتّهام أنّ عدم توحّدها هو المشكلة.

بدا الأمر وكأنّه قدرٌ محتومٌ على سوريا. تورّطت جميع الأطراف حتّى النهاية. السلطة القائمة التي كان الجميع يعرف أنّها ستفعل كلّ شيء للحفاظ على سيطرتها وستنغلق على منطقها، اختارت حلّها الأمنيّ العسكريّ المجنون. والقوى الخارجيّة دخلت في صراع على سوريا حتّى وإن بدت في حلف ضدّ هذه السلطة، بحجّة الإنسانيّة ومساندة الثورة. الطرفان كانا قد خرّبا مهمّة المراقبين العرب ثمّ الدوليين التي لم تكن إلاّ محاولة لتجنّب انفلات العنف من أيّ عقال. والإثنان فعلا فعلهما في أذهان السوريين بفضل وسائل الإعلام حتّى أضحى التطرّف والطائفيّة والقتل والتدخّل الخارجيّ أموراً عاديّة.

وها قد تخطّت الأهوال كلّ الاعتبارات وضاق السوريّون ذرعاً بحالهم. و”ضاعت البلد” كما يردّدون جميعاً، موالين أو معارضين. وها هم يقبلون أيّ شيء كي يتوقّف القتل! وجاء هذا الشيء بالكيميائيّ والضربة العسكريّة الأميركيّة – الفرنسيّة المتوقّعة، التي لا يدينونها بالرغم أنّهم كانوا يوماً نبض مناهضة الاستعمار في المنطقة كلّها. يبقى السؤال: ماذا بعد؟ وهل سيتوقّف القتل؟

إذا كانت الضربة قويّة فسينهار ما بقي من الدولة وتضيع سوريا في الفوضى، وإن كانت ضعيفة فسيقوى النظام على أساس أنّه امتصّها، وإن كانت بين بين ستذهب الأمور إلى تورّطٍ دامٍ طويل. بالتالي التهويل بالضربة وإثبات الجديّة للشروع بها أجدى من القيام بها. حتّى تحدث تحوّلات داخليّة هي التي تقلب المعادلة وتوقف القتل والقتال.

لماذا الولايات المتحدة وروسيا هما الأقدر على فهم المعادلة السوريّة من غيرهما، والرئيس أوباما تحديداً؟ لأنّهما بالضبط دولتان قائمتان على نسيج متعدّد من الانتماءات والأديان والمذاهب في ظلّ مواطنة راسخة. مثل سوريا الأمس… وسوريا الغد.

النهار

الصحاف السوري لم يظهر بعد/ إيلي عبدو

كأننا نشاهد التلفزيون العراقي عشية الدخول الأميركي إلى بلاد الرافدين في 2003. المذيعة الشابة تصطنع ابتسامة مزيفة لتظهر للعالم أن بلادها قوية، صامدة ولا تبالي بالتهديدات الأوبامية. نشرة الأخبار تستعرض التظاهرات التي اجتاحت العالم رفضاً للعدوان الأميركي على سوريا. ثمة مواقف من هناك وهناك لمثقفين وصحافيين وصنّاع رأي يشتمون الإمبريالية والاستعمار والصهيونية العالمية. لا برامج ترفيهية، لا مسلسلات درامية، أهلاً بكم في تلفزيون سوريا الممانعة قبيل الضربة الأميركية المحتملة على النظام.

بسرعة استعادت الميديا البعثية بعضاً من أدبيات شقيقتها في العراق الصدّامي الزائل. قبل عشر سنوات تقريباً، كانت التهديدات الأميركية بغزو بري دولي للعراق تملأ الفضاء العربي. وحده التلفزيون العراقي راح يشحذ الهمم آنذاك للتصدي والصمود في وجه “العلوج”، بحسب تعبير وزير إعلام النظام وقتها محمد سعيد الصحاف. استحضار الشاشة الصدّامية حصل بعد إعطاء وزارة الإعلام السورية تعليماتها لوسائل الإعلام الرسمية باعتماد لغة الإعلام الحربي لمواجهة الهجمة الشرسة على سوريا.

  بالتأكيد لن يرتدي وزير الإعلام السوري عمران الزعبي البزة العسكرية كما فعل نظيره العراقي. فالحرب لم تبدأ بعد، إنها مجرد تصريحات تهويلية لا أكثر، بحسب المحللين الذين يمرون على الشاشة البعثية.

وإذا صح أن التلفزيون السوري عشية الضربة يسير على خطى نظيره العراقي أيام صدام عبر رصد تحركات الناس على الأرض واستطلاع آرائهم الرافضة لأي تدخل في سوريا فإن فروقاً عدة تتبدى بين الشاشتين. لقد ركزت الميديا البعثية العراقية على شخص الرئيس الراحل صدام حسين وراحت التلفزيونات الرسمية تستقبل المحللين السياسيين لاستقراء حكمة “السيد الرئيس” وبُعد نظره في التعاطي مع الدول الغربية ومكائدها الخبيثة. حتى وصل الأمر الى إستقبال محللين نفسانين لقراءة شخصية “القائد”، حركات وجهه ، كيف يرفع يده.. لفهم عبقرية شخصيته وقدرته على الصمود.

 إعلام البعث الدمشقي كان أكثر خبثاً في تعامله مع التدخل الخارجي المرتقب. غاب الكلام عن الرئيس بوصفه شخصاً خارقاً، لصالح لغة قومية عروبية ممانعة تُعلي شعارات يمثّل بشار الأسد أحد رموزها. فالبلد مهدد، ليس لأن رئيسه بشار، بل لأنه يقف في وجه إسرائيل ويتصدى لها، والثوار هم وكلاء إسرائيل ومنفذو مخططاتها التخريبية.

القائد هنا جزء من منظومة قيم قومية وليس شخصاً، كما قال أحد الضيوف. كل ذلك على النقيض من الحالة العراقية حيث ظهر صدّام باعتباره القائد المنتصر مهما كثر أعداؤه. وعليه، فإن الإعلام الأسدي لم يفوت فرصة الكلام عن التحالف مع روسيا ضد جبهة “الاستكبار” العالمي. يقول أحد المحللين على شاشة البعث: “الدب الروسي لن يتخلى عنا، لقد نصب فخاً للأميركي وسيوقعه فيه”.. مثل هذا الامر لم يكن متاحاً في التلفزيون العراقي قبيل الدخول الأميركي لأن العالم كله كان ضد صدّام، عدا بعض الحركات الراديكالية التي لا يؤخذ بها.

 اللغة الإيديولوجية الحربية التي اعتمدها البعثيين من الناحية الإعلامية بدت في الحالة السورية أكثر تسييساً، فهنا “حزب الله” والمقاومة والممانعة وإيران وروسيا والصين. مرتكزات، مهما فرغت من مدلولاتها بالنسبة إلى المعارضة، تبقى ذات صلاحية في لحظات الحرب المقبلة على النظام.

هذه الترسانة لم تكن حاضرة في الإعلام العراقي العام 2003، استعيض عنها بصورة مضخمة لصدّام حسين تطرحه كمنقذ ومخلص يوشك على إنهاء المعركة بنصر حتمي. كما أن إعلام صدام لم يترك بعثياً إلا وسعى إلى استنطاقه على الشاشات الرسمية ليبدي ولاءه للقائد. على عكس الإعلام الأسدي الذي وزع مراسليه بطريقة خبيثة في مناطق الأقليات الطائفية/المذهبية لينقل آراء السكّان الداعمين للنظام.

 تلفزيون الأسد يريد أن يدافع عن بشار عبر شعارات الممانعة والمقاومة ومواقف الأقليات وصور الجنود النظاميين وراء الجبهات، على النقيض من التلفزيون العراقي الذي أراد الدفاع عن صدّام بصدّام نفسه، ما جعله يخسر بسرعة .

هذا التكتيك السوري قد يؤخر وجود صحّاف أسدي على الشاشات الصامدة، لكنه بالتأكيد لن يلغي هذا الإحتمال.

المدن

الضربة القادمة للتأديب أم للعدالة؟/ وائل السوَّاح *

قتل النظام السوري مائة ألف سوري وسورية، وجرح وشوَّه أضعافهم وشرَّد أربعة ملايين مواطن، واعتقل مئات الألوف وعذبهم وأهانهم، وقتل بعضهم تحت التعذيب. وزاد على ذلك تدميره للبنية التحتية وللاقتصاد الوطني وتفريغه للمصرف المركزي من الاحتياطات النقدية، وشوَّه صورة سورية والسوريين، فصار السوري مادة للإذلال والإهانة في الدول المجاورة وغير المجاورة. صار السوري، بنظر كثيرين، إما إرهابياً أو شبيحاً، وصارت المرأة السورية مشروع مومس، وقسَّم النظام السوريين طائفياً وجهوياً وقومياً، وأحلَّ التوجُّس والكراهية والحقد محلَّ التسامح والعيش المشترك. وأخرج النظام سورية من جامعة الدول العربية، وأضعف صورتها في الأمم المتحدة، وجعلها رهينة بيد الإيرانيين وحزب الله. أُغلقت المصانع وأهملت الزراعة، وتوقفت السياحة، وهاجرت رؤوس الأموال والخبرات وانحدر معظم السوريين إلى ما دون حد الفقر، حتى بلغوا حدَّ المسغبة.

كل واحدة من هذه الجرائم كانت كفيلة بمعاقبة هذا النظام الفاجر. كل واحدة منها كانت مدعاة لخطوط حمراء حقيقية، إذا ما تجاوزها النظام كان مبرراً لتدخل دولي يساهم في وقف القتل وتدمير البلاد ومحاسبة القتلة وإعادة المصالحة الوطنية بين السوريين.

ولم يكن ذلك منَّة من أحد على السوريين، بل تطبيقاً للقانون الدولي، فمنذ حزيران (يونيو) 2011، كتبت لويز أربور، رئيسة مجموعة الأزمات الدولية، أن السبيل الأمثل لحماية السوريين يتمثل في إحلال السلام وفض الصراع لإيقاف المذابح. وذكَّرت بمبدأ «مسؤولية الحماية» الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005 على خلفيات أحداث يوغوسلافيا السابقة ورواندا والكونغو والصومال وكوسوفو وغيرها. ويجيز هذا المبدأ للدول التدخل في شؤون دول أخرى لمنع ارتكاب الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وحماية المدنيين.

ولكن الغرب انتظر ثلاثين شهراً، متبعاً سياسة مائعة ومتلونة وغير واضحة، إلى أن أقدم النظام على استخدام الأسلحة الكيماوية في إبادة نحو 1300 من مواطنيه في غوطة دمشق، فبدأت المشاورات والاجتماعات والتصريحات والاستعدادات للتدخل العسكري وتوجيه ضربة ضدَّ النظام السوري. هذا التحرك الأخير قابله السوريون المعارضون لنظام الرئيس بشار الأسد في الداخل والخارج بالتأييد والدعم. وبدا ذلك من خلال الآراء التي صيغت على مواقع التواصل الاجتماعي.

ولكن السؤال الملح الآن هو ما الغاية من الضربة العسكرية؟ هل هي لتأديب الرئيس السوري أم لتغيير النظام في سورية. هل هي لتقليم أظفار النظام الكيماوية وتبرئة ذمة الغرب من دم السوريين أم لمساعدة السوريين على إسقاط النظام الذي قتلهم وشردهم وهدم مستقبل أولادهم؟

ثمة من يرى أن الرئيس أوباما الذي وضع الخط الأحمر تلو الآخر وصل إلى مرحلة باتت معها صورته باهتة وهيبة الولايات المتحدة كأعظم قوة في العالم مهددة بالزوال، ما حتَّم عليه توجيه ضربة ربما لا تعدو كونها خطوة رمزية هدفها «تلقين الرئيس بشار الأسد وإيران درساً في عواقب تحدِّي الغرب وليس تغيير دفة الحرب الأهلية،» وتذكير الأسد أن الكلمة العليا ليست في نهاية المطاف له.

إذا كان ذلك التحليل صائباً، فإن مثل هذه الضربة يمكن أن تؤدي إلى تنازلات من النظام على صعيد الخارج، ولكنها ستزيد من مستوى عنفه وتوحشه على الصعيد الداخل، وهو أمر يستهجنه السوريون. أما إذا كانت الضربة مصممة على إسقاط النظام أو إجباره على التراجع والعمل فوراً على نقل السلطة بشكل سلمي إلى حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، تعمل قبل كل شيء على عودة السوريين من منافيهم، ومن ثم التمهيد لبناء سورية جديدة تقوم على مبدأ المواطنة والعدالة والمساءلة والمصالحة الوطنية والغفران المتبادل وبناء اقتصاد جديد قوي يؤمن العمل والكرامة لجميع السوريين.

وإذا كان لا بدَّ من معاقبة الأسد، فلا يمكن ذلك أن يكون فقط لاستخدامه السلاح الكيماوي، وإنما لاستخدامه كل أشكال العنف الممنهج ضد شعبه، ولأنه أساساً ليس رئيساً منتخباً ولأنه دمَّر مقدرات بلده وحوّله إلى مشروع دولة فاشلة: باختصار لإحقاق حق السوريين في تطبيق مبدأ مسؤولية الحماية.

لا يطلب السوريون منَّة. السوريون في الملاجئ والمخيمات، في الغوطة الشرقية التي أمطرها النظام بالموت الأصفر، في حمص والقصير وأريحا وحلب، التي قصفها النظام مؤخراً بقنابل النابالم، الواقعون تحت بطش النظام أو بطش وتسلط دولة الإسلام في العراق والشام، هؤلاء جميعاً لا يريدون منَّة أو صنيعاً من أحد. هم يطالبون بما يتعين على العالم فعله لتخليص العالم كلِّه من شر نظام فاجر، لا يقتصر شره على شعبه بل يتعداه إلى العالم بأسره.

لا يطلب السوريون، إذن، تأديب الأسد، ولا يسعون إلى انتقام رخيص يحكُّ على جروحهم من دون أن يداويها. وهم بالتأكيد لا يريدون أن يحلَّ أحد محلهم في عملية إسقاط النظام. يحتاج السوريون إلى موقف دولي واضح وصلب ولا هوادة فيه في حماية المدنيين وتجريد النظام من أسلحته المتفوقة، وبخاصة سلاح الجو، وليس فقط الكيماوية، والضغط بكل الأشكال، بما فيها القوة العسكرية، لإجبار النظام على تسليم مقاليد الأمور للسوريين الذين صوتوا بدمائهم ضد الرئيس الأسد ونظامه وتحالفاته الداخلية والخارجية.

* كاتب سوري

الحياة

سوريا والحرب النفسية/ د. طيب تيزيني

تستفيق سوريا هذه الأيام وكل صباح على انتظار ما يمكن أن يحدث: ضرب من الأميركي أو ضرب الكيماوي. وتشعر أنها في كلتا الحالتين خاسرة، ففي حالة الكيماوي رأينا ما حدث وما زال في طور الحدث. أما في حالة الأميركي، فيبدو الأمر أو يريد البعض إظهاره كأنه حالة سريعة طارئة تتم وتنتهي في حقل ضيق وبهدف إزالة «الأذى»، الذي لحق بالوطن السوري على مدى ما يقرب من سنتين ونصف السنة.

وتأتي حالة الإرجاء المفتوحة للضرب الأميركي لتحدث اضراباً وبلبلة نفسيين فظيعين في أوساط الكبار والصغار، وفي حقول الاقتصاد والقضاء والتعليم بل في سائر الحقول، مع حالة من الإرعاب المقترنة بارتفاع نسبة نزوح السوريين إلى بلدان الجوار. هكذا يبدو الأمر حرباً نفسية يمارسها الفريقان مع فرقاء آخرين يختصون برفع الأسعار وبنشر الرعب، وباليأس والفقر بل كذلك الجوع الماحق والذل المهين… إلخ.

وثمة أطراف شاركت منذ البدء في إشعال النار والحيلولة دون الوصول إلى حدود الخلاص أو التوافق، فهذه عقدت الوضعية السياسية والعسكرية والأيديولوجية من خلال تغييب الحدود بين الحقيقة والباطل، وتعقيد الحياة العامة بين الطوائف والمذاهب والأديان وغيرها.

فإلى جانب المعارك العسكرية، برزت معارك طائفية ودينية وعملت على تعمية اللوحة بخطوطها وتعرجاتها وحيثياتها. وفي هذا وذاك راح البعض في قلب النظام السوري وفي خارجه يسوق لنمط آخر من التدمير، وهو التقسيمية، وشيئاً فشيئاً بدت سوريا كأنها «لعبة جديدة للأمم»، الكل يسعى لاقتطاع قسم أو طرف منها، ليجعل منه كياناً مستقلاً زائفاً.

وإذا كان الطرف الأميركي والدولي الأوروبي سائراً في طريق إرجاء «الضربة» واللعب، بذلك، على أعصاب السوريين، فإن طرف النظام لا يتوقف عن اللعب بالنار المتفرّخة عن الصواريخ والطائرات والدبابات، وفي هذا وذاك، يعيش الأطفال والكبار حالة من الذعر والفزع، جنباً إلى جنب مع خروج أعداد متصاعدة في الكثرة من الناس، ويبقى القول بأن الأطراف الأخرى التي حرضت – لمدة طويلة اشتغلت فيها بـ«الفيتوهات»، فأفسدت المواقف وزورت الوقائع -انقلبت الآن على الطرف الحكومي، بدعوى أنها تريد إصلاح مواقفها المتمثلة بتلك الفيتوهات. لكنه اتضح أن ذلك هو صيغة ملفقة من آراء مزعومة. ويلاحظ أن ذلك في كل صيغه وأشكاله لم يحمل إلى الشعب السوري إلا الألم والقسوة وإطالة التدمير للمجتمع السوري.

في هذه الحال من التعقيد ترسل رسائل بين الحين والآخر، إلى الشعب السوري تحمل مآسي تزيد القلق والغموض والأذى، ولسان حال هذا الشعب يقول: يمكن أن نخطئ ونتعثر في طريقنا المليء بالمصاعب، ولكن النصر لن يكون إلا نهايتنا.

فلقد اتضح سابقاً، وسيتضح دائماً أن طريق النصر، هو طريق الآلام والمخاطر، التي تجسد ضريبة النصر الغالي. فلقد خرج من سوريا أعداد ضخمة من البشر، باحثين عن بقعة سلام وأمان. وأدرك الكثيرون أن الأزمة السورية الفظيعة لم تعد قابلة للحل إلا إذا استؤصل الشر من حيث هو، أي إلا إذا اجتث الفساد والإفساد والاستبداد، تلك الركائز الكبرى لحكم «يبقى إلى الأبد»، ولا يقبل بأي خيار آخر سوى ذلك الذي يقوم على ثنائية المستبد والمُستبد به.

وسيتعين على السوريين لاحقاً أن يستنبطوا مبادئ الحرية والديمقراطية والآليات التي تحققها حسب الركائز الكبرى لـ «الحكم المدني»، وذلك على أساس رؤية عقلانية تاريخية ووطنية، وكما أن التاريخ ينتج مآسيه الكبرى والصغرى، فإنه كذلك ينتج لحظاته ومراحله، التي تهيء لنشوء مجتمع تتطابق فيه مآلاته السعيدة، وهذه الطريق هي – في حقيقة الأمر ينجز فيها التقدم التاريخي هنا متآخياً مع العدالة الاجتماعية والحرية. وهنا نريد القول بأن الوضع السوري الراهن لا يتطلب أن ننظر إليه من المعجزات، بقدر ما يستدعي العمل على إنجاز ولادة سوريا الجديدة في إطار من المجتمع المدني، الذي يكون القانون والديمقراطية فيه سيدي الموقف.

الاتحاد

الأسد أو لا أحد كأيديولوجية سلطوية/ سلامة كيلة *

الشعار «الصغير» الذي رُفع في «سورية الأسد» منذ بدء الثورة، والذي يقول: الأسد أو نحرق البلد، هو الأيديولوجية التي تعبّر بدقة عن فهم الرأسمالية المافيوية التي تحكم، والتي ربما عبّرت عن جوهر النظام منذ أن شكّله حافظ الأسد في 16/11/1970. فقد تبلور مفهوم أن السلطة باتت ملكاً وراثياً لا يجوز التمرّد عليه. وبات الهم الأساسي للسياسة التي تتبعها هذه السلطة هو الحفاظ على استمراريتها، و «قتل» كل إمكانية لنشوء قوة قادرة على تغييرها.

هذا ما ظهر واضحاً في تدمير حماة عام 1982، وفي تدمير الأحزاب السياسية بعد ذلك. ولقد تصاعدت أهمية ذلك بعد تشكل «رجال الأعمال الجدد» من رحمها، الذين باتوا يهيمنون عليها في شكل واضح، خصوصاً أنهم من رحم العائلة، حيث كان الاستبداد الطويل هو الذي سمح بتحقيق عملية نهب واسعة أنتجت هؤلاء، ومن ثم سمحت لهم بأن يتحكموا بآلياتها بعد أن كان الرئيس هو «القائد الملهم» الذي يتحكم في كل شيء.

لقد كان هذا الشعار مضمراً زمن حافظ الأسد، ومغطى بـ «أيديولوجية قومية»، وبنية حققت مصالح قطاع كبير من الشعب، لكنه ظهر واضحاً منذ بداية الثورة، ولقد كتب في كل سورية، بعد أن تلاشت «الأيديولوجية القومية» وانهار الوضع المعيشي للشعب. لهذا حين تمرّد ووجه بالرصاص منذ اللحظة الأولى، وكان القتل هو الوسيلة الوحيدة لإخماد الثورة. كان الهدف هو «ردع» الشعب عن التمرد، وإفهامه أن الثورة مكلفة.

لكن حين توسعت الثورة أدخل الجيش في الصراع، وتحوّل الرصاص إلى قذائف، والقتل إلى تدمير. وحين شعر بالضعف نتيجة تصاعد تمرد الشعب وشموله سورية برمتها، ومن ثم عجزه عن استخدام الجيش نتيجة التوتر الذي بات يعانيه الجنود وصغار الضباط، انتقل إلى أن يكون الطيران الحربي هو الوسيلة الأساسية في الصراع ضد الشعب، وهو الأمر الذي كان يزيد في القتل والتدمير، واتخاذه شكلاً عشوائياً. ثم حين لم يعد الطيران الحربي يكفي، أدخل الصواريخ البالستية التي وجدت من أجل تحقيق «التوازن الإستراتيجي» مع الدولة الصهيونية.

لكن كل ذلك لم يوقف الثورة على رغم الثمن الباهظ الذي قدمه الشعب، وطاول سورية بمجملها. فالثورة مستمرة، والسلطة تعجز عن السيطرة على البلد وتضطر للانسحاب من منطقة بعد أخرى، وقواها «الصلبة» تكسرت (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري)، الأمر الذي فرض استدعاء «الحلفاء»، من «حزب الله» إلى إيران مروراً بالطائفيين العراقيين. في هذا الوضع انتقلت السلطة إلى استخدام الأسلحة الكيماوية في مناطق معينة من أجل هزيمة الشعب. ولا شك في أن من قتل أكثر من مئة ألف مواطن، ودمر مدناً ومناطق، لا يتورع عن الانتقال إلى ذلك من أجل تدمير الشعب كله. فالسلطة بدت في لحظة أنها توصلت إلى أنها انتهت، وهو الأمر الذي دفعها إلى «سياسة الانتقام» من الشعب الذي تمرّد.

هنا جوهر الشعار: الأسد أو نحرق البلد، أو الأسد أو لا أحد. لقد انتهى الأسد، بالتالي يجب حرق البلد، وقتل كل أحد. الآن باتت الأيديولوجية الحاكمة لوعي السلطة واضحة كل الوضوح، ولقد مورست في كل سورية بأشكال مختلفة، من القتل المباشر إلى القصف والتدمير، إلى براميل المتفجرات وصواريخ الطائرات، إلى صواريخ سكود الإستراتيجية، إلى السلاح الكيماوي. السلطة استخدمت كل ذلك، وما زالت، فهي تدمر ما اعتقدت أنها بنته، وتقتل لكي تعيد سورية إلى الحجم الذي كانت فيه حين اعتلى حافظ الأسد السلطة بزج رفاقه في السجن لعقود.

بالتالي إذا كان حافظ الأسد ينطلق من «وعي ريفي» يتسم بأنه «بطريركي»، يقوم على السلطة المطلقة للأب (الأب القائد كما تسمى)، ويتصاعد إلى أن يصل إلى الألوهية في شكل أو في آخر، ومن ثم يعتقد بأن البلد هو ملكه الشخصي، والأرض قد ورثها من «الله»، ليتعامل مع الدولة والسلطة والأرض والبشر انطلاقاً من هذا المنطق، ليصبح الحاكم المطلق الذي يجعل كل الآخرين عبيداً لسلطته. إذا كان حافظ الأسد كذلك ففرض سلطة ديكتاتورية شمولية استبدادية محورها أجهزة المخابرات التي تستمد سلطتها منه، فإن كل ذلك قد أنجب مولوداً هو المافيا الرأسمالية العائلية التي استفادت من كل هذا الاستبداد والشمولية لنهب الثروة الوطنية التي باتت بيد الدولة، والتحكم بالاقتصاد والسلطة، التي بدورها لم تغيّر من بنية السلطة جوهرياً بل قدمت متنفسات هامشية وهي تزيد النهب ومراكمة الثروة، وورثت الأيديولوجيا ذاتها التي تعتبر سورية مزرعة لها.

ومن ثم إذا كان «الوعي البطريركي» هو الذي فرض هذا الشكل من السلطة الاستبدادية الشمولية (والأبوية)، فقد كان يتضمن الميل الذي يسكن الفئات المفقرة والمتوسطة في الريف نحو الملكية الخاصة والارتقاء الطبقي، وكان يتخفى به.

هذا الأمر هو الذي جعل السياسة التي جرى إتباعها تقوم على مصادرات عشوائية شاملة للرأسمال، ومركزتها بيد الدولة (أي السلطة التي باتت تملكها هذه الفئات)، ومن ثم يجري الصراع عليها، بين من يؤمن بالمساواة «المطلقة»، وبالتالي التمسك بملكية الدولة لها في موقف تطهري، وبين فئات وجدت أن سيطرتها على السلطة تفرض تعزيز تماسك الدولة حولها من خلال السماح بـ «تحسين الوضع»، ومن ثم نهب ملكية الدولة وتحويلها إلى ملك خاص.

الاستبداد بالتالي كان الغطاء لمصالح كامنة لدى فئات ريفية مفقرة أو وسطى، وأفضى إلى أن تنهب «القطاع العام» وتتحوّل إلى «رجال أعمال جدد». هؤلاء ورثوا «الوعي البطريركي» مع وراثة الاقتصاد، وباتوا يعتقدون بأن سورية هي ملكية خاصة (أو قطاع خاص مقابل القطاع العام). بالتالي ظلوا يحملون «الوعي الوحشي» للملكية الخاصة (أو الميل الوحشي للملكية الخاصة)، خصوصاً أن النمط الاقتصادي الذي تشكّل (بالتوافق مع النمط الرأسمالي العالمي في مرحلته العولمية) هو نمط نهب وليس إنتاج. فقد انتهى عصر الصناعة والزراعة وبات الاقتصاد الريعي هو الاقتصاد المناسب للتكيف مع النمط الرأسمالي الذي بات يقع تحت هيمنة المال المضارب وليس الرأسمال.

لهذا تمركز نشاط «رجال الأعمال الجدد» في قطاعات الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد والبنوك. وهي قطاعات لا تنتج فائضاً رغم أنها تحقق أرباحاً هائلة، وفي جزء منها تقوم على النهب (نهب القطاع العام، شراء الأرض بأسعار بخسة وتشييد العقارات وتحقيق أرباح هائلة، التحكم بأسعار السلع المستوردة)، حيث إن الأرباح هي نتاج استغلال السلطة من أجل الحصول على الأرض ومقدرات الدولة بأسعار بخسة، والتحكم في السوق لفرض الاحتكار، والمضاربة في سوق العقارات.

هذا النمط من الاقتصاد يولّد بالضرورة الميل لنشوء «الحق الطبيعي» بملكية المجتمع ككل، وبالشعور بوجود «زوائد بشرية» لا بد من تدميرها. هذا ما ظهر في أيديولوجية العولمة التي انطلقت من أن هناك كتلة بشرية زائدة يجب أن تنتهي عبر الفقر والأمراض والحروب الطائفية والقبلية والقومية والمناطقية. بالتالي يصبح «التنازع» في سورية هو بين فئة تعتقد ملكيتها الكاملة للثروة والشعب الذي انحدر إلى حالة فظيعة من الإفقار والتهميش. وليبدو الشعب كعبيد لا يجوز لهم التمرّد والاحتجاج وإلا أبيدوا.

هذا ما جرى منذ أن بدأت الثورة، وخصوصاً منذ أن بدأت السلطة تشعر بأن وضعها يتضعضع، ومن ثم احساسها أنها انتهت وبات انهيارها مسألة منتهية. لينتقل القتل الفردي خلال التظاهرات إلى القتل والتدمير عبر الصواريخ والطائرات إلى القتل الجماعي من خلال استخدام الأسلحة الكيماوية.

* كاتب سوري فلسطيني

الحياة

أمام الضربة العسكرية: السوريون بين الخوف والرجاء/ برهان غليون

لا يمكن لأي إنسان أن يدافع، بأي اسم كان، أو تحت أي ذريعة، عن حماية نظام سياسي يستخدم السلاح الكيماوي، بعد ثلاثين شهرا من استخدام كل الأسلحة الثقيلة، من أجل إخضاع شعبه وكسر إرادته والبقاء في السلطة، من دون تغيير، بعد نصف قرن من حكم العنف والقهر.

يدفع الشعب السوري ثمن انعدام الثقة بالسياسات الغربية في الشرق الأوسط بشكل خاص، التي نادرا ما أخذت في الاعتبار مصالح الشعوب. وهذا ما يفسر موقف الخوف والحذر، وأحيانا الرفض والتشكيك بالنوايا، عند قطاعات واسعة من الرأي العام السوري والعربي والدولي أيضا.

ويدفع الشعب السوري الشهيد ثمن صعود مطامع الدول الاستعمارية الجديدة، وتكالبها على الحلول محل القوى الاستعمارية الغربية المتراجعة، وتحويل سوريا إلى منصة للهجوم على بقية الدول العربية. وهذا على ما يبدو هو وضع روسيا بعد أن تحررت من سياسة الاشتراكية والأممية ورشحت نفسها لتكون الدولة المنافسة لأميركا في تقرير جدول أعمال السياسة الدولية.

ويدفع الشعب السوري المنكوب أيضا ثمن الجبن والتردد وضمور الشعور الأخلاقي والتقوقع حول الذات وتنامي روح الأنانية عند الكثير من الدول المكونة للمجتمع الدولي، التي تخشى من مخاطر المشاركة في المسؤولية عن أي عمل جماعي قد يكلفها بعض التضحيات أو أن يقود إلى سقوط العديد من الضحايا.

ما كان للشعب السوري أن يجد نفسه في هذا الموقف الذليل، وأن يستجدي تدخلا من أي نوع، حتى من دون تغطية دولية قانونية، وأن يراهن، من أجل إضعاف نظام همجي نادر المثيل، على نتائج ضربة عقابية أميركية – فرنسية، تعرف نفسها منذ البداية بأنها محدودة وموضعية، وتفتقر للإجماع العالمي، ولا يعرف أحد حدودها ولا عواقبها، أقول ما كان الشعب السوري سيجد نفسه في هذا الوضع لو أن المجتمع الدولي قام بواجبه، كما تنص عليه مواثيق الأمم المتحدة، ونفذ بشكل جماعي ومتسق مبدأ مسؤولية الحماية، الذي يلزم المنظمة الدولية بحماية الشعوب المعرضة لجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية، وهو ما تؤكد عليه تقارير منظمات حقوق الإنسان منذ أشهر طويلة. ولا كان السوريون سيعلقون كل هذه الآمال على ضربات عسكرية يتيمة لو نجح مجلس الأمن في اتخاذ القرار الذي كان ينتظر منه، وكان عليه أن يتخذه، تحت بند التدخل الإنساني، أو التضامن مع ضحايا استخدام السلاح الكيماوي.

لكن الرد على تعطيل مجلس الأمن والمنظمة الدولية من قبل الفيتو الروسي، والجبن الذي أصبح سمة ملازمة لحكومات ضعيفة أو فاشلة وفاقدة للصدقية في عيون رأيها العام في مختلف أرجاء العالم، لا يكون برفض أي شكل من أشكال التضامن، والاستسلام أمام الجريمة المنظمة، والتسليم بتعميم استخدام السلاح الكيماوي، ولا بالاستقالة السياسية والأخلاقية الجماعية، والاستمرار في مؤامرة الصمت والسكوت على ما يجري من انتهاكات أكثر من خطيرة وفاضحة ويومية لحقوق السوريين من دون استثناء.

لن تكون الضربة للنظام من دون ثمن بالنسبة للسوريين. ولا نعرف عدد الضحايا ولا حجم الأضرار التي ستتسبب بها. وسوف يدفع الشعب السوري ثمنا إضافيا كبيرا، بعد الثمن الهائل الذي دفعه حتى الآن، من حياة أبنائه ودمار دولته وتهديم منشآته وتحطيم وطنه.

لذلك لن يكون لهذه الضربة قيمة ولا فائدة إلا بمقدار ما تساعد على الحسم، وتنهي عذابات الشعب السوري ومعاناته الطويلة. لكن البديل عنها، سواء أكان ترك الأمور تسير كما سارت منذ ثلاثين شهرا، أو السماح لنظام الأسد بتحقيق نصر حاسم، ليس خيارا محتملا بأي حال. وكلاهما إجرامي ولا أخلاقي؛ فالأول يعني استمرار القتال بما يعنيه من مضاعفة أعداد الضحايا ودمار البلاد، والثاني يقود إلى تسليم شعب كامل مقيد اليدين والرجلين لانتقام طاغية همجي، يقتل أبناءه ويذبح أطفاله ويغتصب نساءه، من دون أي رادع من قانون أو عقل أو ضمير.

لا يزال من الممكن تجنب الضربات الأميركية – الفرنسية ومعها المزيد من الضحايا والدمار. لكن ليس بتمديد الوضع الراهن والاستمرار في الحرب والقتال والدمار، ولا بتسوية لم يعد لها أي أساس ممكن، سياسي أو أخلاقي، بين النظام والمعارضة. يستدعي تجنب الضربة الاعتراف بأن المرحلة السابقة قد انتهت، وأن لسوريا الحق في الانتقال الفوري نحو نظام جديد يعبر عن إرادة شعبها، ويستجيب لتطلعاته وآماله في حكم القانون، وفي الكرامة والحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية.

مهما كانت نتيجة الضربة التي يزمع التحالف الغربي توجيهها لدفاعات النظام السوري، ومهما فعل النظام للرد عليها، مباشرة أو بعد وقت، ومهما كان موقف روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول، وبصرف النظر عن حجم الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لنظام الأسد، تشير اللحظة إلى أن الأزمة السورية بلغت ذروتها، وأنها لن تنتهي إلا بنهاية النظام الذي كان في أساسها، وصانعها.

لكن إذا لم يكن من حقنا أن نحرم شعبا روَّعته خلال سنوات البراميل المتفجرة وصواريخ السكود ومدفعية الميدان، وأخيرا الأسلحة الكيماوية، من حقه في حد أدنى من المساعدة، إن لم يكن من التضامن الإنساني الكامل الذي حرم منه بسبب المصالح القومية الضيقة والمخاوف المختلفة، المشروعة وغير المشروعة، فمن حقنا أن نحذر الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، التي قوضت سياسات الأسد مصداقية سياستها ومركزها في الشرق الأوسط، من الوقوع في الفخ الذي نصبه لها النظام وحلفاؤه، بتحويل الشعب السوري إلى دروع بشرية، ونقول لهم إنهم أمام فرصة نادرة لاستعادة بعض الثقة التي فقدوها عند الرأي العام العربي، وإثبات أنهم قادرون أيضا على العمل انطلاقا من الحرص على مبادئ التضامن الإنساني وتأكيد احترام المواثيق الدولية وصدقية المنظومة الدولية.

أما لتلك الأطراف المتعددة التي تظهر اهتماما أكبر بمصالحها وبمكاسب قومية مضمونة، أو بمخاوفها السياسية أو بسبب ذاكرتها المحنطة أو مفاهيمها الموثنة، مما تبدى من التعاطف مع شعب يذبح منذ ثلاثين شهرا أمام أعينها، من دون دعم يذكر، فليس لدينا ما نقول سوى: الشعب السوري لن ينسى، وعاجلا أم آجلا، ستنتهي المأساة وتظهر تكلفة المواقف الأنانية والجبانة. فما عرفناه حتى الآن عن المأساة السورية ليس إلا الجزء البارز من جبل جليد سيهز خروجه إلى العلن ضمير الإنسانية جمعاء.

* رئيس المجلس الوطني السوري السابق

الشرق ألأوسط

سورية: تناسي الضحية/ حواس محمود

في هذا المشهد السياسي الدولي والإقليمي المتشابك والمعقد، وفي خضم التحركات الدبلوماسية الداخلية والخارجية، تمهيدا للضربة التي ستوجه للنظام السوري في الأيام القليلة القادمة، منم دون معرفة الموعد المحدد لهذه الضربة، في أجواء هذه التحركات التي يتخللها ارتباك سياسي، وربما مخاتلة سياسية من الولايات المتحدة الأمريكية، لخلق جو للنظام يظن أن الفرصة مواتية له لأن يجري تحركاته العسكرية الاختبائية، ولو بين المدنيين والمؤسسات المدنية ليحتمي بها، بعد أن كان يقصفها ويضربها، لأنها كانت تقف في وجهه، وتريد إسقاطه. في كل هذا المناخ المختلط الأصوات والمواقف والترقبات والهواجس والتحركات المختلفة، نسي الإعلام أو تناسى ضحايا السلاح الكيماوي، وهم سكان الغوطتين بدمشق، لم نقرأ ولم نسمع أو نشاهد مقابلات مع الأطباء أو مع المصابين بالسلاح الكيماوي، وآثار هذا السلاح عليهم، وكيف كان حالهم عندما بدأت اثار هذا السلاح تنتشر بينهم وتؤثر فيهم واحدا بعد آخر، لم نأخذ الصورة الكافية لكارثية المشهد الكيماوي بتفاصيله الموتية المؤلمة، ولم يُترك مجال للحديث في هذا الموضوع الانساني الكبير، لم نشاهد مقارنة مثلا بين المدن المنكوبة بالسلاح الكيماوي والنووي في حلبجة هيروشيما الغوطتين بدمشق.

كان الأمر يتطلب إلى جانب الحديث عن الآثار السياسية أو العواقب السياسية والعسكرية للهجوم الكيماوي، حديثا عن الجانب الإنساني وكيف أنه في القرن الواحد والعشرين يتجرأ نظام على أن يستخدم هذا السلاح المحرم دوليا بقوانين دولية رادعة. ولكثرة اللغط والمماحكات والأخذ والرد والتصويتات في البرلمانات الغربية، بين من يخفق ومن ينجح في الموافقة على اشتراك دوله في توجيه الضربة إلى النظام السوري، ولكثرة هذا اللغط بات يسيطر على أذهان الكثير وهم أو شعور أنه من الممكن أن يفلت النظام السوري من العقاب، ومباشرة يغزو عقلهم سؤال آخر منافح وقوي ومتعاطف مع الضحية، وهو هل من الممكن أن تذهب دماء الضحايا (الذين بلغوا 1429 شخصا، اغلبهم أطفال ونساء، بحسب تصريح وزير الخارجية الأمريكي الأخير جون كيري) هدرا، من دون أن يثأر لهم أشقاؤهم في الإنسانية، وإذا كان ذلك يمر من دون عقاب، أفلا يعني ذلك أن تتحمس وتتحفز دول أخرى ضد هذا السلوك الإجرامي المقيت؟

كل هذه الأسئلة تطرح والعالم نسي الضحية واستغرق في تصويتاته البرلمانية وتحركاته العسكرية ومباحثاته الدبلوماسية والسياسية، والضحايا مرميون على قارعة طريق الانسانية مهمشين، لا احد يهتم بما جرى لهم إلا كوسيلة استغلالية لتنفيذ تحركات متأخرة تريد أن ترسم لها طريقا إلى تحقيق أجندات معينة بأمان واطمئنان بعيدا عن المجابهة الخاسرة أو الوقوع في الفخ السوري، من دون أخذ كل شيء بالاعتبار والحسبان.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

ديمقراطية أوباما: سراء أم ضراء؟/ صبحي حديدي

فشل دافيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، في الحصول على تخويل من مجلس العموم، يتيح له مشاركة الولايات المتحدة الامريكية في توجيه ضربة عسكرية؛ هو هزيمة، بالطبع، سياسية ومعنوية وحزبية، فضلاً عن كونها شخصية تصيب كاميرون نفسه. ولكنّ صفتها الأخرى المتلازمة هي أنها انتصار للديمقراطية البريطانية، أياً كانت تحفظات المرء ضدّ أحفاد أوليفر كرومويل وميثاق الـ’ماغنا كارتا’، وبصرف النظر عن المظانّ التي قد تطعن في مصداقية هذا البرلماني الرافض، أو ذاك الموافق. الأساس، في كلّ حال، أنّ كاميرون كان ملزَماً بالرجوع إلى المجلس، على أصعدة دستورية وأخلاقية، قبل أن تكون رمزية صرفة، ولم يكن حرّاً طليق اليدين.

من جانبه، لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما مجبراً على العودة إلى الكونغرس بصدد الأمر ذاته، وكان يكفيه التشاور الشكلي مع زعماء الأغلبية ورؤساء اللجان المختصة بالأمن القومي والقوات المسلحة والسياسة الخارجية؛ وثمة سابقة حديثة العهد، في هذا المضمار، هي انخراط أمريكا في عمليات الحلف الأطلسي ضدّ نظام معمّر القذافي، دون أيّ تخويل من الكونغرس. لكنّ أوباما فاجأ العالم، وغالبية معاونيه ورجالات إدارته (باستثناء رئيس أركان البيت الأبيض، دنيس ماكدونو، كما تردد)، حين أعلن أنه ينوي إرسال مشروع قرار إلى الكونغرس، مجلسَيْ النوّاب والشيوخ، يتضمن طلب التفويض بعملية عسكرية (محدودة، ضيّقة النطاق، ولا تستهدف إسقاط الأسد، أو تغيير نظامه… للتذكير الضروري!)، بعد تنظيم نقاش، وإجراء تصويت.

هل تراجع، إذاً، وصرف النظر عن الضربة العسكرية، وعَكَس تيّار الإدارة التي لم تعد تصريحات كبار ممثليها تتحدّث عن ‘هل’، بل ‘متى’ و’كيف’ سيتمّ تنفيذها؟ أم أنّ الرجوع إلى الكونغرس يستهدف تأمين غطاء دستوري، وشرعية عابرة للخلافات الحزبية، إذا تطوّرت الضربة المحدودة إلى ما هو أبعد أثراً، وأطول زمناً، وأشدّ عاقبة على القائد الأعلى للقوّات المسلحة الأمريكية؟ أم أنّ غرض أوباما هو ممارسة التمرين الديمقراطي، وتكريم رأي ممثّلي الشعب، وإظهار بلده بمظهر أقوى من الوحدة والتلاحم بين الرئيس والمشرّعين، كما قال؛ خاصة وأنّ الديمقراطية الأمريكية ليست أقلّ من نظيرتها البريطانية حرصاً على دستورية قرارات كبرى مثل الانخراط في عمل عسكري خارجي؟

الحال أنّ تصريحات أوباما لا توفّر إجابة صريحة على هذه الأسئلة، ولكنها لا تغلق احتمالاتها، أو هي بالأحرى لا تغلق أيّ احتمال؛ خاصة تلك الفقرة التي تشير إلى أنه ‘اتخذ القرار’ بالفعل، حول ضرورة معاقبة النظام السوري بضربة عسكرية، ثمّ اتخذ قراراً تالياً هو الرجوع إلى الكونغرس. المحزن، في هذه الرياضة بأسرها، أنّ بعض أقطاب المعارضة السورية الخارجية ممّن يتوجب أن يدفعهم برنامجهم السياسي والأخلاقي، من أجل سورية المستقبل الديمقراطية، إلى امتداح هذا الطراز من السلوك الديمقراطي الذي لجأ إليه أوباما أعربوا عن ‘خيبة أمل’ لأنه انحنى أمام مؤسسة التشريع الأعلى في بلده!

بيد أنّ سلوك أوباما هذا يقودنا إلى واحد من دروس التاريخ البليغة: أنّ بين أشدّ خلائط السياسة خطراً، وشذوذاً وغرابة، تلك التي تجعل الولايات المتحدة ديمقراطية داخلية وإمبريالية خارجية، في آن معاً؛ الأمر الذي تناوله شالمرز جونسون، أحد أذكى متابعي مخاطر صعود الإمبراطورية الأمريكية، على نحو ثاقب ومعمّق في كتابه ‘نيميسيس: الأيام الأخيرة للجمهورية الأمريكية’. وهذا العمل، الذي قد يكون التحليل الأعمق والأشجع والأشدّ قتامة لانحطاط الديمقراطية الأمريكية، خاصة في ولايتَيْ جورج بوش الابن، هو الجزء الأخير من ثلاثية بدأها جونسون سنة 2000 بكتاب ‘ردّ الصاع: أكلاف وعواقب الإمبراطورية الأمريكية’؛ ثمّ أعقبها بكتاب ‘ضرّاء الإمبراطورية: النزعة العسكرية، الكتمان، ونهاية الجمهورية’.

ويرسم جونسون المشهد التالي الذي لا ينطوي على أيّ تهويل أو مبالغة: ثمة خليط من جيوش هائلة منتشرة خارج البلاد، موضوعة في حالة حرب؛ واعتماد اقتصادي متزايد على المجمّعات الصناعية العسكرية، وتصنيع الأسلحة خصوصاً؛ وإنفاق خرافي على القواعد العسكرية، مع تضخّم هائل غير مسبوق في ميزانية البنتاغون؛ إذا وضع المرء جانباً ذلك الانتشار السرطاني لنفوذ وزارة الأمن الداخلي وصلاحياتها، والتدمير المنظم لبنية الحكم الجمهوري لصالح رئاسة إمبريالية أكثر فأكثر… ولا يتردد جونسون في إنذار أبناء جلدته: ‘نحن على حافة خسران ديمقراطيتنا من أجل الحفاظ على إمبراطوريتنا. وحين تسير الأمّة على هذا الدرب، فإنّ الديناميات التي تنطبق على كلّ الإمبراطوريات السالفة لا بدّ ان تنطبق علينا: العزلة، الإفراط في التوسع، توحيد العناصر المحلية والكونية المناهضة للإمبريالية، والإفلاس في الختام’.

وهكذا، إذا جاز افتراض الباعث الديمقراطي في لجوء أوباما إلى تخويل الكونغرس، حول عقاب النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية؛ فإنّ ما يجوز التفكير به، استطراداً، هو أنّ هذه الديمقراطية الأمريكية هي، ذاتها، التي استخدمت القنبلة النووية، وأشكال أخرى من أسلحة الدمار الشامل؛ أو زوّدت الجيوش الحليفة بأنماط مختلفة منها، أو تغاضت عن استخدامها في حروب شتى. وهي ديمقراطية فظائع سجون ‘أبو غريب’ العراقي، و’باغرام’ الأفغاني، و’غوانتانامو’ الأمريكي، والمعتقلات الطائرة، والسجون السرّية…

وهذه، في نهاية المطاف، بعض تناقضات شخصية نيميسيس، ربّة الثأر والعقاب في الأسطورة الإغريقية، حيث السراء ضراء… والعكس!

الأكروبات في سيرك المجتمع الدولي/ نائلة منصور

صباح يوم الأربعاء 21 آب، خرج الأب والأم وطفلاهما من منزلهم الكائن على سفح جبل قاسيون في دمشق، لا يلوون على شيء، لم يعودوا يسمعون أصوات بعضهم البعض من شدة القصف غير المعتادة، كان القصف موجّهاً نحو الغوطتين الشرقية والغربية، هذا ما علموه فيما بعد. نظر الزوجان لبعضهما ولسان حالهما يقول: «إليك تمرينات القرن القادم!».

قبل 21 آب

فهم السوريون مبكراً نسبياً أن معركتهم عسيرة ودامية وطويلة، وفهموا كذلك أن عليهم اجتراح كل شيء، بدءاً من سبل الحياة اليومية ومقاومة الحصار إلى تصنيع أسلحة محلية. كتبت رزان زيتونة في عدد تموز من جريدة لجان التنسيق المحلية «طلعنا ع الحرية» أن فريقاً للدعم الفني يعمل على تعميم تجارب بديلة لإنتاج الطاقة في محاولة لتجاوز مشكلة انقطاع الكهرباء المستمرة منذ ثمانية أشهر في الغوطة الشرقية، ويسعى لإنتاج غاز الميثان من النفايات العضوية المنزلية ولنشر تجربة الأفران الشمسية لطبخ الطعام على الطاقة الشمسية، هل تتخيلون ذلك؟ هل تتخيلون ماذا يعني نشر ثقافة بديلة بقيم بديلة كريمة وبيئية تحت القصف والموت والحصار؟ هل تتخيلون أن بعض الناشطات المشرفات على هذا النوع من الأعمال، وفي أعمال تشغيل النساء اللواتي بقين دون معيل، يفكرن بنشر الثقافة التعاونية في آليات إنتاج وإدارة موارد أولئك النسوة؟ بعض الناشطين المدنيين يقومون بزراعة بضع دونمات من الأرض، بمحاصيل جديدة على المنطقة وعلى التراب السوري، ولكنها سريعة الدورة الإنتاجية للحصول سريعاً على الطحين اللازم لصنع الخبز… هل تتخيلون ماذا يعني هذا الجهد؟ هناك بعض الناشطين في مجال التعليم البديل في المناطق التي انسحبت فيها مظاهر الدولة المركزية رأوا ما ارتجلوه من مدارس يتدمّر مرة وراء مرة بفعل القصف اليومي من قبل قوات النظام، وفي كل مرّة كانوا يعيدون تأهيلها على عجل لإكمال التدريس.

بعض الأطباء في بعض المشافي الميدانية المحيطة بدمشق يعملون لوحدهم ما يقارب العشرين ساعة في اليوم، دون عون يذكر، ورغم شحٍّ لا يوصف في الكوادر النوعية، حيث معظم الكوادر من المتطوعين من أبناء المنطقة، وليسوا غالباً أطباء أو ممرضين. الأنفاق التي بناها بعض الثوار في بعض المناطق، للحؤول دون محاصرة قوات النظام لمناطقهم، تكاد تثير الذهول من حجم العمل الذي لزم لإنجازها. كل هذه الإرادة في صنع الحياة واستمرارها لم يوازنها ويحصّنها ويحرص على تكريسها تراكم سياسي بنفس القدر. صحيح، هناك فراغ سياسي كبير على الأرض لا يجذب سوى القوى التكفيرية الجهادية، وهناك ضعف وتهلهل في الأداء السياسي التمثيلي للثورة في الخارج، سببه التصحر المديد للسياسة في سوريا خلال عقود… إلا أن الشرط الأول والبديهي لتراكم التجربة السياسية على الأرض هي وقف آلة القتل، كي يصبح للقوى الشبابية المدنية (المتبقية في البلد) فعل متراكم يعطيها حق إعلاء الصوت مقابل قوى ظلامية مسلحة عليها أن تنجز أكثر مما تنجزه بين قذيفتين وبين مجزرتين. ازدحام جدول أعمال السوريين اليومي بالمجازر يجعلهم في حالة انتظار مبهمة غير واضحة المعالم للسعادة والخلاص. ينبغي أن تتوقف آلة القتل بالقدر الكافي الذي يمكّن الإنسان السوري من رؤية البدائل الثورية، كي تتمكن تلك البدائل من استكمال عرضها لما بعد الثورة وتثبيته، كي يتمكن النشطاء الثوريون من رؤية ثمار ما يزرعوه.

بعد 21 آب

بعد 21 آب وضرب النظام السوري الغوطتين الدمشقيتين بالغازات السامة ورحيل أكثر من 1500 إنسان سوري دفعة واحدة، سيغادر أي إنسان عاقل بقايا سذاجة أو براءة أو حسن نية، وسيفهم أن النظام الأسدي وحلفائه وميليشياته مستعدون لأقصى ما يمكن للمخيلة تصوره. 21 آب هي «خط أحمر»، ليس بمعنى أن من قضى ذبحاً بالسكاكين الطائفية لا يستثير الذهول والغضب، ولكننا هنا أمام إرادة في الجنون وأدوات متاحة لخدمة الجنون الإنساني لا يسبقها معادل إلا المحارق النازية. ذُهل السوريون لأنهم أدركوا عميقاً أن «الحل النهائي» كان يراود «عقل» النظام منذ البداية، وأنها كانت مسألة وقت واختبار طويل ومستمر لسلبية المجتمع الدولي، بدءاً بقتل أول متظاهر سلمي وصولاً إلى المجزرة الكيماوية، ولكن مروراً بمئات المجازر ومئات الشهداء الذين قتلوا تحت التعذيب في أقبية الأمن السوري. سيفهم الإنسان العاقل كذلك أنه لن تتاح له بعد الآن ثغرات نجاة بين قذيفتين أو برميلين أو مجزرتين يتسلل من بينهما لصنع حياة ما. الموت ينتشر في الهواء ليطال الجميع دون استثناء، وبشكل لحظي فوري.

ما العمل؟

«السؤال ينبغي أن يبحث في كيفية الخروج من خانة الضحية العاجزة الواقعة بين أنياب ذئاب الداخل والخارج، والانتقال إلى موقع الفعل والتأثير وتقرير المصير والقدرة على رد غوائل القتل المجاني وجوائح القتلة» (حسام عيتاني، اسم القاتل، الحياة 23 آب أغسطس). في الحقيقة وفي باب الفعل والخروج من خانة الضحية، وأمام استعصاء الشرط السوري بوجود هكذا نظام مجنون لا عقلاني، لا يمكن لكفاح السوريين في أول القرن الواحد والعشرين إلا أن ينضوي في جزء مهم منه على بعد كوني إنساني: إعادة النظر الجذرية في شكل العلاقة بين الفرد وكتلة البشر الأخرى، في الهيئات الأممية ودورها، ومسح الصدأ عنها بعد أن تحولت إلى بيروقراطية ورواتب عالية لموظفين قلقين ضمن خط بياني أفقي مستقر للقلق لا يرتفع ولا ينخفض، وفيتو واستبداد بعض الدول بالمؤسسات الدولية لحماية مصالحها الاستراتيجية وطموحاتها الامبراطورية.

اليوم، ومع ظهور احتمال توجيه ضربة أميركية عسكرية، هبّت الكثير من القوى السلمية والمعادية للحرب واليسارية المعادية للامبريالية الأميركية لمناهضة هكذا احتمال، احتمال ضربة عسكرية موجّهة للنظام السوري، وكأن لسان حالهم يقول: «ألا يوجد في أول القرن الواحد والعشرين آليات وصيغ للتكافل البشري بعيداً عن بوارج وتوماهوكات وكروزات الأمريكان؟ أيمكن أن تستمر أميركا بالاضطلاع بمهمة الشرطي العالمي المؤدب للدول المارقة؟».

في الحقيقة، كنا، نحن السوريين، لا نفتأ نطرح نفس السؤال على الإنسانية منذ سنتين ونصف دون تعب. إن كان هناك إرادة حقيقية ودينامية وفكر حقيقين لإحقاق الندية بين الدول، ألم يكن بالإمكان توجيه الزخم الذي نشهده في اليومين الأخيرين من مظاهرات مناهضة للحرب الأميركية في اتجاه «السيادة» السورية، أي احتكار النظام لقتل محكوميه، وذلك منذ أول فيتو قامت به روسيا والصين في مجلس الأمن بصدد الوضع السوري، في شكل مظاهرات معمّمة تنسف هذه البيروقراطية وهذا الفجور المستبد في مجلس الأمن، المسمى «حق الفيتو»؟ ألم يكن بالإمكان العمل الدؤوب والمثابر والملتزم لتطوير الأطر والآليات الحقوقية، لتصبح نافذة المفعول، ولها قدرة تنفيذية ضمن هيئة الأمم المتحدة؟ هناك نصوص موجودة كان يمكن العمل عليها وتطويرها، لكن لا شيء من هذا حدث. ألم يكن بالإمكان النزول في مظاهرات جماعية والمطالبة بقوات فصل وحفظ سلام؟ ألا يمكن لكل هذه القوى المبدعة أن تقترح شيئاً جديداً كل الجدة يناسب التقدم التكنولوجي الذي حققته الإنسانية؟ مثلاً استفتاء يقام عن بعد، وبواسطة الأمم المتحدة، لاختبار شرعية النظام وأخذ إجراءات معينة بناءً على ذلك؟ وإلا فإن الحروب تغدو مناسبة موسمية لتكريس طقوس المعاداة لأميركا والامبريالية في عُطَل نهاية الأسبوع، طقس أجوف إن لم يترافق بعمل مواز يقوّي الإجماع الدولي وتشاركية قرار المجتمع الدولي حول القضايا الكبرى.

ماذا؟ محض خيال علمي مستقبلي؟ نعم عزيزتي البشرية، هو خيال مستقبلي، ولكن هناك نوعان من هذا الخيال: خيال كالذي ذكرته، وخيال آخر عولمته قصة نوح وعولمته هوليوود بأفلام ستيفن سبيلبرغ، ويبدو أنك استمرأته، أيتها البشرية العزيزة، حيث يعمّ الطوفان، فيهدد الكوكب ويقتل معظم من عليه، وتبقى مجموعة مصطفاة من البشر تعيد الحياة الإنسانية من جديد! المثير في الموضوع أن كل من ماتوا، ومن سيموتون في المستقبل القريب على يد النظام الكيماوي، كانوا على الأرجح يظنون أنفسهم من جماعة الناجين.

كان على المجتمع الدولي أن يستعجل في اختراعه لصيغ تُعادل هَول المقتلة السورية المستمرة، والآن ما زال بإمكانه ذلك إن أراد. ماذا بقي للسوريين ليعملوه سواءً نجحت معارضتهم في جذب الرأي العالمي لقضيتهم أو لم تنجح؟ لم يبق لهم سوى لعب الأكروبات بأحشائهم في سيرك المجتمع الدولي للفت النظر! السوريون أوصلوا رسالة التكليف السديدة للإنسانية، بدم أطفالهم، والكرة الآن في ملعب الإنسانية، فأبناء سورية مشغولون اليوم بعدّ موتاهم وإيجاد مقابر مرتجلة تتسع للموت الجماعي.

موقع الجمهورية

المعضلة الغربية حيال الصراع السوري/ ياسين الحاج صالح *

يبدو أن القوى الغربية تواجه معضلة صعبة في تعاملها مع الوضع السوري إثر المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية في 21 من آب (أغسطس) الماضي. فإذا اكتفت بضربات عقابية محددة لمواقع عسكرية للنظام، كان مستبعداً أن يؤدي ذلك إلى تغيير مهم في مسار الصراع السوري. وهو ما يحكم على الضربة بأن تكون مثل قلّتها، ويعود على القوى الغربية ذاتها بتراجع في الصدقية التي يفترض أن الضربة تعمل على إنقاذها. وهذا لأنها استنفرت العالم واستعرضت قواها، ثم لم تستطع ممارسة تأثير حاسم على سير الأوضاع السورية. فما تكسبه من صدقية على مستوى ردع النظام تخسره على مستوى محدودية التأثير.

أما إذا استهدفت الضربة الغربية إسقاط النظام، فإنها في الحسابات الغربية تكون قد أزالت عائقا أمام مجموعات جهادية، يظن في الغرب أنها تشكل متن المقاومة المسلحة في البلد. هذا غير صحيح، وعدا أنه الفكرة التي يحب النظام السوري إعطاءها عن الثورة، فإن توسع مراتب هذه المجموعات الجهادية مرتبط بصورة مباشرة بالعطالة الدولية حيال تمادي النظام في العنف والإجرام ضد محكوميه المتمردين.

ويبدو أن القوى الغربية على أرضية حساباتها الخاصة لا تستطيع استهداف النظام من دون استهداف المجموعات الجهادية، ما يوجب تدخلاً أوسع نطاقاً، وأطول أمداً وأعلى كلفة، ويقتضي من تلك القوى التزاماً سياسياً وأمنياً واقتصادياً حيال البلد الممزق. وهذا ما لا تبدو مستعدة لتحمله بعد تجاربها العراقية والأفغانية، وما يتعذر كل التعذر بناء حداً أدنى من الإجماع الداخلي في أي منها حوله.

وفي المحصلة لا يبدو أن هناك خياراً غير معضل أمام القوى الغربية والمركز الأميركي. فإذا تدخل الغرب قليلاً كان تدخله معدوم النتيجة حتى على استعادة هيبته. أما إذا تدخل أكثر واستهدف النظام، فسيتعين عليه أن يتدخل أكثر من أكثر ويستهدف الجهاديين أيضاً.

قد يمكن القول إن القوى الغربية تحصد اليوم ما زرعت طوال عامين ونصف العام، وأن الامتناع عن فعل شيء مهم طوال هذه الفترة كان فعلاً سيئاً جداً. وأن هذا الامتناع هو ما غذى نزعات عدمية وجذرية في المجتمع السوري، وولد بيئات مرحبة بجهاديين أجانب ومنتجة لجهاديين محليين.

بعيداً عن أن تفعل أي شيء للتقليل من ظهور التيارات الجهادية، تنسجم محصلة السياسة الغربية بالأحرى مع تكاثر الجهاديين وانتشارهم. نتذكر طلبات المساعدة منذ خريف 2011: حظر جوي، ممرات إنسانية آمنة… ثم في وقت لاحق أسلحة دفاعية أكثر فاعلية، وكلها لم تلق استجابة تذكر أو لقيت استجابة واهنة بلا تأثير. كان من شأن استجابة مثمرة أن تقوي مواقع وتأثير تشكيلات المعارضة الأقل تطرفاً، وتقطع الطريق على ظهور وتجذر الاستعدادات العدمية.

اليوم، ومع صعود الجهاديين، يبدو أنه توافر للقوى الغربية مسوغ وجيه لأن تقف في وضع هاملت، عاجزة عن حسم خياراتها.

والحال أن هذه الخيارات تنحصر في واحد من اثنين. إن كان العدو هو الجهاديون، فإن المسلك الصحيح يتمثل في إعادة تأهيل النظام ومساندته ضدهم، وإن ربما بعد تأديبه. يقايض بقاءه مع أدبه. هذا يوجب قطيعة مع السياسات التي أخذت تتبلور منذ بدايات «الربيع العربي»، وتميل إلى الترحيب بالتغير السياسي في البلدان التي شهدت ثورات. مآل الأوضاع في مصر وليبيا، واليمن، قبل سورية ذاتها، يبدو أنه يدفع نحو مراجعة هذه السياسات، لمصلحة دعم الاستقرار والجهات التي توفره. لكن يبدو عسيراً على القوى الغربية التحول نحو هذا الخيار في الوقت الراهن لأنها وجهت سياساتها طوال عامين وأكثر ضد النظام وإلى جانب معارضيه من جهة، ولأن من شأن ذلك أن يمنح إيران ووكيلها اللبناني انتصاراً يبدو أن تلك القوى غير مستعدة الآن لقبوله. أما أن في ذلك خيانة للشعب السوري وخذلاناً للمعارضة، فمن يبالي؟

لكن هناك خيار آخر معاكس، ينطلق من افتـراض أن نـهايـة النظام هي نـقطة بـدايـة نهاية الجهاديين، وأن سوريـة تحتاج إلى بـدايـة دولـة أو مـركز وطنـي شرعـي، تـتـجه إليه الأنـظار والجهود، ويعمل عـلى نـزع الشرـعيـة من التـشكيـلات الجهــادية والمتـطرفة، وعـــلى تطوير سياسات اجتماعية واقتصادية وأمنية لمواجهتهم. سورية اليوم لا تملك أي شيء في مواجهة هذه التشكيلات.

تملك فقط النظام الأسدي، وهذا نهاية دولة وليس بدايتها، وهو بالقطع ليس مركزاً وطنياً عاماً، واستمراره، وهو عدوان مستمر، يشكل مناخاً مناسباً لظهور واتساع مراتب الجهاديين.

الافتراض الغربي بأن النظام متراس متقدم في الحرب ضد الجهاديين صوري وخاطئ. حتى لو تغاضينا عن أشكال من التواطؤ والألعاب الخفية بين الطرفين، فإن بقاء النظام مصدر قضية عادلة للجهاديين وشرطهم الوجودي.

السياسة الصحيحة، تالياً، هي المساعدة على تخليص سورية من نظام يثور ضده السوريون فعلاً منذ عامين ونصف، ودخل الجهاديون المشهد بعد نحو عام من الثورة، واتسع دورهم بعد نحو عامين، ومراتبهم ليست مرشحة لغير التوسع كلما طال عمر النظام. من شأن طي الصفحة الأسدية أن يغير البيئة السياسية والنفسية داخل سورية وحولها، ويطلق تفاعلات أكثر اعتدالاً وأقل ثأرية وغضباً.

لعله فات الوقت منذ الآن على توقع نتائج إيجابية سريعة لتغيير المسار في هذا الاتجاه. لكن لا نتائج إيجابية لغير السير في هذا الاتجاه. يتعين تغيير النموذج الهادي للسياسة أو افتراضاتها الأساسية، وتحديداً التحول من افتراض أن العلاقة بين النظام والجهاديين محكومة بمحصلة صفرية، بحيث أن المزيد من النظام يعني القليل من الجهاديين، والقليل منه يعني الكثير منهم، إلى الافتراض المعاكس: الكثير من النظام يعني الكثير من الجهاديين، والخلاص من النظام هو باب وقف صعودهم وتخفيف وزنهم. هذا ما يمكن أن يكون الأساس العقلي لسياسة مغايرة، ينتفع منها السوريون، ولا تتضرر منها أية مصالح غربية مستنيرة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى