صفحات الرأي

ملف مجلة الجديد عن “الأنوثة المقموعة”

 

 

الأنثى والمؤنث في الثقافة العربية

في هذا الملف تعود “الجديد” إلى تكريس حيز للنقاش حول الأنوثة من خلال استعادة نص فكري نافذ كتب ونشر قبل نحو ربع قرن، في مجلة “الكاتبة” التي صدرت في لندن ما بين 1993-1995 تحت شعار “مغامرة المرأة في الكتابة/مغامرة الكتابة في المرأة”.

والنص الموقع بقلم المفكر عزيز العظمة حمل عنوان “الأنوثة المقموعة-العفة للرجل والشبق للمرأة”.

أهمية استعادة هذا النص وإدارة حوار من حوله تتأتّى من أمرين هما قيمة الأفكار المطروحة فيه ونكوص الواقع العربي بحيث يبدو هذا النص شديد الجرأة اليوم، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى حاجتنا الماسة إلى تسليط الضوء على واحدة من أعقد القضايا التي حار بها العقل العربي في القرن العشرين وضرورة مساءلة الثقافة العربية وواقعها الاجتماعي في ضوء الأفكار المطروحة في النص.

إذن نحن بإزاء نصّ مستعاد من ربع قرن مضى ونصوص راهنة تناقش الأفكار المطروحة في هذا النص من زوايا متعددة ومستويات مختلفة.

عندما كتب عزيز العظمة “الأنوثة المقموعة” كان يشغل كرسيّ الدراسات الإسلامية في جامعة إكستر. صوت أكاديمي جريء، غنيّ عن التعريف لجلّ القراء المهتمين بقضايا التراث والإسلام والحداثة، وهو صاحب صولات وجولات في الجدل حول المسائل الشائكة المطروحة في الحياة الفكرية العربية.

وهذا النص الإشكالي المنشور هنا يدور حول عدد من التساؤلات المتصلة بموقع الأنوثة من الثقافة العربية، ولقد كان في أصله حواراً دار بين عزيز العظمة ومحرر مجلة “الكاتبة”.

ولئن اتخذ النص بفعل قلم المحرر شيئاً من صفات المقال، فإن الفضل في ذلك يعود أيضاً إلى عزيز العظمة الذي مرّ على النص بشيء من المراجعة والتنقيح.

يجتهد المقال في محاولة الإجابة عن طائفة من الأسئلة الحارة المتعلقة بقضايا الأنوثة والمرأة والتخلف والحداثة والسلفية وظواهر النكوص الفكري والاجتماعي.

ومن دون أن نستبق القارئ إلى فحوى النص واستهدافاته، نشير إلى أن بعض ما يشغل العظمة هنا، هو السؤال حول أسباب فشل العقل العربي الحديث في تخليص الجسد الإنساني من الأوهام والمقولات المستبدة به التي تناوبت قمعه على مرّ التاريخ، لا سيما جسد الأنثى بوصفه الموضوع المركزي للمخيلة الجمالية العربية، والمفصول بتعسف عن الكيان الكلي للمرأة بفعل الإقصاء والإلحاق والتشييء الذي مارسه الفكر القمعي ومجتمعاته المتقادمة ضد الأنوثة.

المقالات التي علقت على النص، واعتبره أصحابها مناسبة للمشاركة في نقاش راهن حول الأفكار المطروحة، جاءت من: خولة الفرفيشي، أبوبكر العيادي (تونس)، عامر عبد زيد الوائلي (العراق)، جادالكريم الجباعي، عمار المأمون، خالد النبواني (سوريا).

و”الجديد” تترك الباب مفتوحا لمناقشة هذا الملف لكونها تعتبر أن القضية التي يثيرها هي من القضايا التي لا ينبغي لباب النقاش فيها أن يقفل، بل أن يبقى مفتوحا على شتى الأفكار الباحثة في تجليات القضية ثقافة واجتماعاً.

ثقافة الأنثى الغائبة والوجود المحتجب/ نوري الجراح

هل يوجد خطاب ثقافي عربي حول الأنوثة؟ هل أسعفت أولويات الثقافة العربية المعاصرة العقل العربي وجماعات من مثقفي التنوير والتطوير أو ممّن اعتنقوا أفكار التجديد والحداثة على بلورة خطاب فكري عربي حول الأنوثة يمكن أن يقيّض له أن يكون مركزياً في المجتمع أو منافساً قويا لفكر غيبي نكوصي ما برح ينشط في وسط تيار التفكير العام حاقناً مخيال الجماعة باستيهامات ماضوية لتكريس مشروع “استعادة الماضي” ومنتجاً مكانته المتفاقمة في أذهان الناس؟

أسئلة تبدو وجيهة فكرياً. لكن كيف لنا أن نطرح السؤال حول الأنوثة في ظل حريق عربي هائل من دون أن يبدو هذا السؤال ضرباً من الترف، بل كيف يمكن لنا النجاة بهذا السؤال من تهمة كهذه في ظل تقهر عربي مريع انحدر بأولويات الوجود الإنساني إلى درجة حفظ النوعين معاً الذكورة والأنوثة من فناء فعلي، وقد استثمر الاستبداد الحاكم في الأمة جحيم مخيلتها وجهنم أشباحها وأبالسة أفكارها لينتج الزنزانة والمعتقل والمذبحة وحقول الجماجم. ومعها غرف الاغتصاب الفردي والجماعي الذي شمل الأنوثة والذكورة معاً هادفاً سحق كرامة الفرد والجماعة.

***

هناك أحيانا خلط مفهومي في تعريف طائفة من المصطلحات المتداولة في النقاش الثقافي العربي، وخصوصاً مصطلح “الأنوثة”، ففي هذا الحيز غالباً ما يلجأ المثقفون العرب إلى الترجمة انطلاقاً من قوة حضور المصادر الغربية في ثقافتهم وأحياناً هيمنتها على بقية المرجعيات التي تشكل الثقافة التي ينتمون إليها.

لن ندخل في هذا، هنا. ولكنّني أستعين في تقليب مصطلح الأنوثة وقراءته إلى جذور ومصادر عربية. حتى لا يقودنا الكسل في البحث بعيداً عن حقيقة الثقافة نفسها وعن مواطن القوة والإشراق المتحققة والكامنة فيها التي يمكن أن تنافس مواطن العتمة في هذه الثقافة، وهو ما يمكن أن يعطي الأمل بإمكان ربط ماضي الثقافة بحاضرها، وحاضرها بمستقبلها انطلاقا من تلك الصّوى والعلامات المضيئة. لكي لا يكون التحديث بالتالي فعلا خارجيا اغتصابيا، وتعبيراً مرضياً عن الانخلاع من الذات.

***

“إنا إناثُ لما فينا يولّده فلنحمد

الله، ما في الكون من رجل”.

هذا البيت لابن عربي، المولود سنة 560 هجرية 1165 ميلادية في مدينة مُرْسيه في الأندلس، والمتوفى في دمشق سنة 638 هجرية 1240 ميلادية والمدفون اليوم بتربة جامع يحمل اسمه في سفح جبل قاسيون.

يضيف ابن عربي:

“إن الرجال الذين العُرف عيَّنهمْ

هم الإناثُ وهم نفسي، وهم أملي”.

لا أجد صوتاً في الثقافة العربية بأسرها منذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى اليوم يمكن أن يكون أكثر عمقا وإشراقاً في فهمه وانشغاله بمفردتي المؤنث والمذكر وفي علاقته بذاته المكونة من هذين العنصرين وبالعالم، من الشيخ محيي الدين بن عربي، المعتقد بمبدأ وحدة الوجود، لما تفصح عنه نظرة ابن عربي إلى المؤنث من فهم خاص للإسلام في رؤيته إلى الأنوثة والذكورة والمرأة والرجل. والمعتقد في الوقت نفسه بإمكان الوصول إلى ما يسميه المتصوفة المسلمون بـ”الحق”، عبر طرق كثيرة:

“عقد الخلائق في الإله عقائد

وأنا عقدت جميع ما عقدوه”.

لقد قاد هذا الفهم للوجود ابن عربي (الذي جرى تكفيره مراراً من قبل غوغائيي التيار السائد في عصره، ولاحقاً على ذلك العصر) إلى ابتكار توصيفات خلاقة للمؤنث في علاقته بالمذكر، وللموقف من الأنوثة، حتى ليمكننا القول إن حضور الأنوثة والمؤنث في فكر ابن عربي وفي ثنيّات من خطابه الديني والفلسفي والأدبي يجعلنا على يقين من أنه متصل عميقا بتصوراته الكلية نحو الوجود والإنسان.

***

لربّما كانت ضآلة الوعي النقدي وضعف الاستعداد لفحص ومراجعة المقولات التي تسيطر على الوعي الجمعي وتأسر المخيلة الجماعية للمثقفين سببين لافتين في تخلف تلك الذهنية التي دأبت على إنتاج وإعادة إنتاج الأوهام حول الآخر/المرأة، وحول الوجود المؤنث في سياق نظرة إلى الأشياء تسلِّم بالمعطى من دون فحص، وتأخذ بالأشياء على عواهنها وعلاّتها. يستوي في ذلك (وإن بدرجات متفاوتة) المثقف الإسلامي والمثقف العلماني (قومياً) كان أم ماركسياً، أو هو ليبرالي، سلفيا كان أم حداثياً.

والسؤال، الآن، ما الذي يجعل النظرة إلى المرأة والسلوك إزاءها لدى هؤلاء الذكور جميعاً، محكومين، في الجوهر منهما، بمقاييس ومعايير متقاربة، حتى لا نقول متشابهة؟ (قيم الرجولة ومقاييسها السائدة) بما يجعلنا نتخيل أن الفجوات القائمة بين فكرٍ وفكرٍ يتخالف معه تبقى نظرية، حتى لا نقول قِشريّة، وبالتالي لا تجد ما يردمها إلا بما في ذلك السلوك المشترك من تسييد لقيم ذكورة معتدّة بتفوّقها.

بداهة، يبدو لي أن الموقف من الأنوثة والمرأة لا بد أن يعتبر معيارياً مادام وعينا يسلم بحقيقة أن الوجود ينهض على عنصري الذكورة والأنوثة، وأن الحياة لها صانعان متساويان في الجوهر رغم اختلافهما البيولوجي والنفسي وفي بعض الوظائف وعبر الأوضاع التاريخية المحيطة بها مجتمعياً.

وإذا كانت خبرة الوعي بالشيء هي المدخل لتغيير جوهري في الموقف من الأشياء فإن المثقف النقدي، بوعيه المتجدد، هو، من حيث المبدأ، الأقدر على التخلي عمّا اغتصبه (الرجل) عبر التاريخ من حقوق المرأة واعتبره حقاً مكتسباً، ممزِّقاً بذلك النسيج الروحي والنفسي المضيء الذي ظلّ يلوّن الكائن بألوان الأنوثة والذكورة ويصنع المتعدد فيه. لكن فئات المثقفين ظلت في هامشية التأثير في المجتمعات العربية عندما كان الأمر يعلق بالمرأة، خصوصاً أن الأنثى لطالما واجهت بنى مجتمعية متقادمة ذات طبيعة أبوية متسلطة ومتمسكة إلى أبعد الحدود بما اغتصبت من حقوق المرأة ووجودها المؤنث، وهي ما تزال غير مستعدة للمساومة على حدود هيمنتها.

***

بالعودة إلى السؤال الأساس حول الأنوثة والمؤنث والخطاب الغائب في فوضى خطابات التسلط والتشدد والإرهاب والجريمة، نسأل مجدداً: كيف لمثل هذا التفكير في خطاب عربي حول الأنوثة أن يوجد مادام واقع المرأة إلى تقهقر ومكانتها في الثقافة والاجتماع تدخل أكثر فأكثر في تشويش كبير في ظل ثقافة مجتمعية منافقة تسودها سلسلة لا نهاية لها من الازدواجيات في التفكير والسلوك، وأكثر ما تتجلى هذه النفاقية في صفوف المثقفين أنفسهم والأمثلة على ذلك لا تحصى.

إنه، إذن، لسؤال آخر لا بدّ من طرحه وتبيان السبل في التعامل معه، وهو ما ينبهنا باستمرار إلى تداخل وتشابك، بل وتعقيد لا نهاية له بين كيان الأنثى وحضورها في الثقافة والاجتماع، وبقية الكيانات التي هيمنت عليها قوانين الذكورة وقيمها التسلطية.

لكأنّ الأنثى بإزاء (رجولة الرجل) في العالم العربي ما تزال الأدنى بإزاء الأعلى، والأضعف بإزاء الأقوى، والقاصر بإزاء الحامي، بل والناقص عقلاً بإزاء الحكيم

***

لنأت الآن إلى السؤال الجوهري: ما الذي يجعل المثقف العربي خائفاً ومرتاباً من المؤنث والأنوثة؟

لنكن أكثر صراحة ونعترف بأن الشخص الموصوف تقدميا في ثقافتنا العربية يسلّم بالأفكار الجديدة والجريئة، وعندما يصل الأمر إلى السلوك تتبدّى مظاهر عجزه عن المغامرة وخوفه من الأخذ بها أخذ السالك، حتى لتبدو الهوة بين الفكر وفعله في الواقع والوقائع سمةَ ثقافةٍ ودليلاً إلى شرخ عميق في الشخصية الثقافية العربية.

إن السؤال، هنا، حول المؤنث والرجل يتيح فرصة لامتحان مدى استعداد المثقفين العرب وجديّتهم في مراجعة منظومة كاملة من الأفكار والتصوّرات والأعراف التي أسست لقيمهم ومبادئهم ونظراتهم الخاصة إلى الوجود، بدءاً من وجودهم الخاص. وهذا، بداهة، لا بد أن يجد ترجمته في مجمل المواقف من الحياة والمجتمع والثقافة والتاريخ، وفي الأساس منها النظرة إلى الآخر/الأنثى وموقعها الاجتماعي.

***

أخيراً لا بد أن نعترف أن الثقافة المجتمعية العربية تحتشد بجملة من التصوّرات المتناقضة والمتضاربة حول “الكيان الأنثوي” المغيّب والمحتجب وراء غلالات سميكة من الاستلاب الأبوي والسلطوي والديني بتجليات ثقافية وحقوقية يسندها واقع اجتماعي وسياسي عربي بلغ ذروة الاضطراب. والخلاصة المؤلمة هي تأبيد الخلل:

لكأنّ الأنثى بإزاء (رجولة الرجل) في العالم العربي ما تزال الأدنى بإزاء الأعلى، والأضعف بإزاء الأقوى، والقاصر بإزاء الحامي، بل والناقص عقلاً بإزاء الحكيم. ولها في ختام هذه السلسلة من الصفات والأوضاع مقعد المربية المنضبطة امتداداً لوظيفتها النهائية كحاضنة أطفال، ومعه مرآتها المشوهة وصورتها الحزينة. أما عالمها الذاتي فهو لن يحضر إلا كتفصيل في عالم الرجل.

****

“المرأة مستقبل العالم”.

هذا سطر في قصيدة الشاعر الفرنسي أراغون. لقد كان على حق. إنما لكي تكون المرأة مستقبل العالم لا بد أولا أن تكسر تلك المرآة المشوهة، مرآة الوهم وتخرج من وراء حجاب الماضي السميك الذي غيّب وجودها الموجود ليشعّ على العالم النور الكلي للمؤنث الذي رآه ابن عربي وتشبّع به حتى قال “كل مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه”.

شاعر من سوريا مقيم في لندن

هل العفة للرجل والشبق للمرأة/ عزيز العظمة

عزيز العظمة أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة أكستر. صوت جريء، غنيّ عن التعريف لجلّ القراء المهتمين بقضايا التراث والإسلام والحداثة، وهو صاحب جولات في الجدل حول المسائل المثارة والمطروحة في الحياة الفكرية العربية. وهذا النص الإشكالي المنشور هنا بقلمه كتبه أساسا بصوته في جلسة بيننا تركّزت حول عدد من التساؤلات المتصلة بموقع الأنوثة من الثقافة العربية، ولئن اتخذ النص شيئا من صفات المقال، فذلك بفضل عودة العظمة إلى قوله بشيء من المراجعة والتنقيح.

يجتهد النص هنا في محاولة الإجابة عن طائفة من الأسئلة الحارة المتعلقة بقضايا الأنوثة والمرأة والتخلف والحداثة والسلفية وظواهر النكوص الفكري والاجتماعي.

ومن دون أن نستبق القارئ إلى فحوى النص، واستهدافاته، نشير إلى أن بعض ما يشغل العظمة هنا، هو السؤال حول أسباب فشل العقل العربي الحديث في تخليص الجسد الإنساني من الأوهام والمقولات المستبدة به التي تناوبت قمعه على مر التاريخ، لا سيما جسد المرأة بصفته الموضوع المركزي للمخيّلة الجمالية العربية، والمفصول عن الكيان الكلي للمرأة بفعل الإقصاء والإلحاق والتشييء الذي مارسه الكفر القمعي ومجتمعاته المتقادمة ضدها.

الأنوثة حيز اجتماعي يتكون من جملة أدوار، قد تكون سلبية وقد تكون إيجابية في جماليتها. فالبشاعة جمالية سلبية. ولا أتكلم عن الجمالية السلبية، وإنما أتكلم عن الأنوثة كخلق، أو كطينة مفترضة. التراث العربي -وله استمراريات أساسية في هذا العصر بالنسبة إلى التشكل الجمالي للأنوثة ليس فقط كمفهوم مجرد، وإنما كمفهوم معيش- هناك عنصران، وهذا ليس جديداً، وقاله أناس كثيرون عرب وإفرنج: الأنثى كمخلوق متصور نجده في العبارات الشعبية، وفي الكلام الشعبي بين الناس، نراه في ألف ليلة وليلة وفي الحديث الشريف، وفي القرآن وفي الأدب.

فهذه الأنثى المتصورة والمتخيلة، مخلوق برأسين: ملاك وأفعى، لا واسطة أو صلة بينهما. أو حورية وأفعى، هناك الأنثى الأم ضامن الاستقرار النفسي والاجتماعي، ضامن مفهوم الجماعة عبر مفهوم الشرف وإعادة إنتاج الجماعة القيمية، ونرى طبعاً، أن الجماعة إنما هي جماعة الذكور الأشداء الأبطال، يضمن شرفها مخلوق ناقص، هو المرأة! وهذا طبعاً يودي بنا إلى وجه آخر إلى وجه أفعوي فظيع للمرأة، وهذا الوجه الأفعوي هو المخلوقة المتآمرة والمحتالة الشبقة ليلا ونهاراً (دون إذن من البعل أو الوليّ) المتحايلة على القوانين والأعراف، وعلى البعل وبعولة هذا البعل وإخوته وأهله. لدينا هذان التصوران، ونراهما منسابين في كل زوايا الخطاب العربي العالم والجاهل على حد سواء.

ينتمي هذا التصور إلى عالم مخيالي تشاركه فيه صورة المرأة الجميلة في التراث، أو المرأة الشهية، فنراها مركبة من عناصر لو تكاملت بشكل صورة لكانت مسخاً للهيئة الجسدية للبشرية، كما رأينا مسخاً للهيئة الوجدانية.

فالمرأة الجميلة في عرف هذا الوصف (ونحن للمناسبة نرى مجمل هذه العناصر مجتمعة في صورة حورية الجنة) هي من ناحية كاعب، أي ذات نهدين صغيرين، وليس هذان النهدان بنهدي امرأة صغيرة النهدين، ولكنهما نهدا فتاة على عتبة البلوغ، كنهدي عائشة وهي عروس. وهي ذات ردفين يجتمعان في عجيزة فخمة، لعل أبلغ من وصفها هو نجيب محفوظ في معرض كلامه عن الذوق النسائي للسيد أحمد عبدالجواد.

وهي أيضاً، أي هذه المرأة، مثالية الجمال، ذات فخذين لعظمهما عجزت عن القيام أو كادت. لكأنما الرجل المهلوس على هذه الصورة يروم دخول بحر متلاطم الأمواج، وكأن كل ثنية من ثنايا الشحم المترامي تحت الجلد بمثابة رحم مستأنف لرجل طفولي أوديبي على الدوام.

ما أعتقده أن كل المصادمات التي حصلت في التراث، وعلى الأقل المصادمات التي نعرف عنها شيئاً، كانت حول مواقع موضعية. علينا أن نتذكر أن القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل.

ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن. وعلى ذلك فإن الطريقة الوحيدة التي كانت في متناولهن لإقامة نوع من التوازن في العلاقات، كانت عن طريق الإغواء بالمعنى المكيافيلي للعبارة، أي دولة الحريم، وحيز الحريم في الحياة العامة وعلينا أن نستذكر أن العلاقات بين القيان والرجال كانت بالغة الصراحة وكان فيها كلام متطور ونقاش للأدب والجسد والشعر والموسيقى، ولكن الأمر الذي لم يتعرض إلى أيّ مسألة، وهذا ليس مستغرباً على الإطلاق، كان تصور الأنوثة، والدونية الدنيوية التي انطوى عليها هذا التصور، إذن هو تصور قائم على إتاحة المجال لخيال الرجل دون مساءلة.

وفي الأحيان القليلة التي حصلت فيها مساءلة على نحو جدي، لم تنته على خير، بل سجّل خطابها وكأنه هجاء للذات، كما حصل في بعض الحكايات البغدادية التي يروي لنا الجاحظ بعضاً منها، كحكاية الجارية التي سلكت مع غلام سلوك اللائط بالملاط به، شهّرت في الأسواق على ظهر جمل، وإن كانت لم تحجم عن الاستمرار في الاعتراض وفي التنديد، وهي مشهّر بها.

فالعنصر الأساسي هنا، في هذا الموضوع، هو أن من المفترض أن يكون تصور الأنوثة ثابتا، ومنه الموضعي المنفعل، والمفعول به رسمياً، حتى لو كانت العلاقات الاجتماعية غير الرسمية تشي بغير ذلك. فإذا كان أيّ خروج على هذه العبارة الرسمية بغض النظر عن تمثيلها أو عدم تمثيلها للواقع المعيش (لأننا جميعاً نعلم موقع النساء وسلطة النساء في العلاقات الاجتماعية الفعلية في البيت، وفي علاقات القوى المنزلية، وهذه العلاقات التي نراها في التعلق المرضي أو شبه المرضي للرجال العرب بأمهاتهم، تماماً كالرجال اليهود) فيجب على هذا الخروج أن يدرج في سجل الاعتبار الثاني لتصور المرأة: وهو المرأة الشر/ والمرأة الفتنة/ المرأة الخراب، المرأة التلبيس على سوية المجتمع. وبالتالي المرأة الخطر.

فإذا لم يكن ممكناً إرجاع صورة المرأة إلى دور “الأنوثة” المنطوي على الإذعان والانفعال، صورت وكأنها إما شيطان وإما امرأة مسترجلة تُغلب تطبعاً إيلاجياً قاهراً مسيطراً على طبع مولج به مذعن. أي أن الخطاب الأدبي والفقهي واليومي عن المرأة نزع عنها إنسانيتها -أي فاعليتها وشخصيتها وكيانها الوضعي- واختصرها في أنوثتها المفهومة على أنها انفعال، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي. ولذا أصبح من الصعب الكلام عن المرأة في واقعها، أو التعامل معها على أساس من هذا الواقع، إلا أن وصم هذا الموقع بالخروج على الأنوثة -أي بما يخيف الرجل الناقص من خشية عدم دوام صورة السيطرة- تصبح المرأة الحقيقية لعنة، أو فتنة أو شيطنة، وكل هذا مواضع للوجل والكراهية.

من نافل القول إن هذه أمور ليست تستقيم إلا بناء على مفهوم مكمل للرجولة، وهو مفهوم بدائي يرى الرجولة مرادفاً للفظاظة والخشونة والنفور من الأدب والفن، ويرى بذلك في علاقة الرجل بالمرأة علاقة تملّك، ومن جهة أخرى علاقة استيلاء واصطياد. وكأن ظاهر التملك هذا هو عين ضمان الرجولة، وكأن ضمان الرجولة لا يتأتى إلى بالجدية البالغة اللاهية عن واقع المرأة المعيش: لا لهو ولا لعب في هذه العلاقة إلا للأنثى (وليس غريباً ضجرها من ذلك الرجل).

فالأنثى وحدها اللعوب دون الرجل في هذا التصور. نحن هنا بإزاء رجل قاصر يحاول استصلاح سلطة اجتماعية في سبيل التهرب من تعامل إنساني ونديّ مع المرأة. هناك نقائض لهذا القصور في الخطاب النسائي حول النساء والرجال غير المدون المتداول حصراً بين النساء (خصوصاً في القرى ولدى بعض النساء الطليعيات والمثقفات) والذي يرشح لنا أحياناً البعض منه. ولذلك فإننا عندما نجد أن كل حركات النكوص الاجتماعي وعلى رأسها الحركات السياسية الإسلامية تجعل من المرأة ومن السيطرة على المرأة عنوان السوية الاجتماعية والصحة المجتمعية وعنوان الوفاء للتراث وللجماعة المتخيلة.

والواقع أن هناك علاقة مرضية بين النكوصية الاجتماعية والأيديولوجية وبين النساء. ومن الطبيعي أننا نرى أن النساء العربيات على مر العصور استثمرن هاتين الصورتين للمرأة لتثبيت وضع اجتماعي مريح في البيت وأيّ أثر كان من النساء على الحياة العامة كان من خلال التأثير عن طريق الرجال، أي عبر أزواجهن وأبنائهن وإخوتهن. وهذا هو ما أعنيه بالضبط بسياسة الحريم.

أي ممارسة الأثر في الحياة العامة عن طريق القنوات التي تسمح بها العناصر العلنية في هذه الحياة، أي بتكوينهن جماعات ضغط منزلية، ولو لم يكن بين هذه الجماعات تكامل نسوي يشمل المجتمع، فقد كانت هناك تكافلات أو تعاضدات بيتية. طبعا البيت يشمل أبناء العمومة، إلخ… وهذا، طبعا، أمر كان يجري تبعا لطبيعة المجتمعات العربية الإسلامية القديمة التي لا تتمايز عن غيرها من المجتمعات الوسيطية، بل هي تشترك معها بكونها قائمة على تراتبية اجتماعية معلومة، عبّر عنها الفقه الإسلامي في فصله للقابلية القانونية للأفراد بين الحرّ والعبد والمرأة والرجل، والمسلم والذمي والمستأمن.. إلخ.

ولكن التاريخ قد منّ علينا في القرنين الأخيرين بتصور مغاير يقوم على اعتبار المرأة بوصفها مواطنة، أي دون تمييز قانوني بينها وبين الرجل، في وضع ليس هناك فيه تفريق بين الحرّ والعبد، والمؤمن والملحد. وعلى ذلك فإن سياق المواطنة هو الشرط الأساسي لجعل شخصية المرأة العربية تخرج عن سياق معوقات المجتمعات العربية المتقادمة، وتدخل في سياق الحداثة. في هذا الأمر صعوبات على كل حال، إذ أن هناك تمايزا ولكنه تفاضلي بين الأفكار السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية (وأنا أستثني هنا النكوصية الإسلامية) وبين الواقع الاجتماعي المعيش والخطاب اليومي حول المرأة.

هناك تفوق تاريخي للفكر السياسي على الفكر الاجتماعي في حاضر العرب، وهناك تفوق تاريخي لمبادئ التنظيم الثقافي والسياسي العربي على الخطاب اليومي.

فنحن نعيش في مجتمعات عربية متفاوتة وتائر التحول، ولو كانت كل هذه الوتائر بالغة السرعة. ونحن نرى اليوم أنه حتى التحول باتجاه النكوص هو بالغ السرعة أيضا. ومن نتائج هذا التفاوت في وتائر التحول تفوّق نسبي لقطاع السياسة والفكر على قطاع المجتمع. ونحن نرى ذلك حتى في الحركات السياسية الإسلامية التي نرى لأنماط تنظيمها عقلانية حركية لا يضاهيها فكر هذه الحركات.

الإسلام والمرأة

الإسلام على شاكلة معظم الأديان، خصوصا التوحيدية منها، يذكر السلطة الإلهية بالسليقة، ويجعل منها سلطة أبوية. ثمة دور بالغ الأهمية، في بعض الأحيان، لشخصيات مقدسة نسائية كالعذراء مريم. ولكننا نرى أن الدور الذي تلعبه العذراء ليس دور المقرر والفاعل، بل هو دور الشفيع. أما ما يقال من أن الإسلام دين تقدمي في تصوره للمرأة ودورها الاجتماعي، فهذا أمر فيه نظر.

أولا: لأن النصوص الإسلامية تقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكما للعبد، وقانونا للحر، وحكما للمرأة وقانونا للرجل وحكما للذمي وحكما للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها وبعض إلهام منها (الزواج، الشهادة، الميراث).

ولئن كان الفقه الإسلامي لا يحجر حرية المرأة في التصرف بالممتلكات والأموال الخاصة بها ولا ينيط هذا التصرف بموافقة الزوج (كما الحال في القانون الفرنسي مثلا حتى غير بعيد)، إلا أن هذا -كالمواريث- أمر ذو بواعث دنيوية. وهذان على كل حال يشيران إلى ارتباط الأمور الحاصلة في الماضي بتواريخها. وهذه تواريخ فاتت وتقادمت.

ونحن نرى أن الحديث، والتراث الإسلامي بعامة، يحذر من المرأة، ويقوم عليها حفاظا عليها وعلى غيرها ممن قد تفتن. وإذا استثنينا عادة الوأد عند عرب الجاهلية، فإنني لست على يقين تام بأن ما شرّعه الإسلام المبكّر للمرأة العربية يعتبر بالضرورة أمرا متقدما على ما كان قبل ذلك، خصوصا في ما يتعلق بعلاقتها بالرجل.

كما أننا يجب أن نعتبر قوانين الإرث وما إلى ذلك من الأمور التي تمت ليس بأثر من التشريع الديني، بل من ضروريات اجتماعية معينة. وتشير الدراسات التاريخية الأخيرة إلى أن قوانين الميراث الإسلامية المبكرة كانت ذات علاقة وثيقة بالخلاف على إرث النبي، هو دنيوي وليس بالخلاف الشرعي، أو الديني، ولو قنّن بعد ذلك واعتبر شرعا.

وعلى ذلك، فإنني أعترض على كتابات بعض التقدميات العربيات ممن يحاولن أن يضارعن الخطاب الإسلامي حول المرأة بخطاب ذي منطوق تقدمي استنادا إلى أقوال معزوّة إلى النبي، وأعمال منسوبة إلى صحبه. أرى أن في ذلك تجاوزا لاعتبار الوقائع التاريخية واعتمادا على عين المصادر الإسلامية القديمة التي لم تعرض، بعد، للتمحيص التاريخي الدقيق، وبالتالي لا يمكن الركون إلى حقيقة ما جاءت به.

ثم إن هؤلاء التقدميات والتقدميين يشرعنون بهذا العمل المنطق النصي للاحتجاج، ومنطق إلزام الاحتكام إلى النصوص الذي يشكل أرضية الخطاب النكوصي الإسلامي. بعبارة أخرى أرى ضرورة الركون إلى واقع كون الماضي ماضيا، وإلى ضرورات الحاضر والمستقبل الموضوعية، بدلا من اعتماد تاريخ فات ومضى، كمحك لسلوكنا اليوم. وعلينا أن نكون على يقين تام بأن ما حدث في مكة والمدينة منذ ألف وأربعمئة سنة أمر ليس على العاقل أن يعتمده في تصور سلوكه اليوم، لتحوّل الدنيا واختلاف الأزمنة ومقتضيات العيش.

ولذلك، فإننا نرى، للأسف، أن هذه الكتابات تقدمية النوايا، تدخل في باب مشروع هيمنة منهج الاحتكام للنصوص، وبالتالي هيمنة من يقوم بالاحتكام للنصوص على نحو أكثر حزما وإحكاما واتساقا. هي تشكل بذلك رديفا ضمنيا لمشروع الهيمنة الاجتماعية والثقافية للإسلام السياسي، ولو اعتبرها صاحباتها وأصحابها من ذوي النوايا الطيبة ضربا من التشاطر على الإسلاميين ومن الفهلوة الفكرية. وفي أحسن الأحوال، نرى في هذه المحاولات عودة إلى قاسم أمين، دون الالتفات إلى أن هذا الرجل، على تواضع ما طالب به، كتب منذ ما يقرب القرن، وأعتقد أنه عليها أن نتحرك بعض الشيء ونتقدم.

إنني أعتقد إذن بالضرورة الحاسمة لإيجاد نص بديل وتام الغربة عن نص النص التراثي، ودون ذلك سنستمر في الدوران في حلقة مفرغة هي حلقة تربيع الدوائر. وأعني بالنص البديل أيّ نص جديد يستشرف واقع الحياة وضرورات المستقبل الذي يجب ألاّ يعتبر محاولة إحياء لماض هو في الواقع قد فات. نص يبني نفسه، ولا يحاول أن يلزم القرآن والحديث بما لا يمكن أن يقويا على قوله، أو الذهاب إلى أن القرآن ما عنى ما يقول، أو أن نص القرن السابع قادر على أن يتكلم بلسان القرن الحادي والعشرين.

شرف الرجولة

منذ أيام محمد رشيد رضا (بعد انقضاء فترة استنارته وتتلمذه على محمد عبده) جعل الإسلاميون من قضية المرأة المسألة المحورية لإدارة الصراع الاجتماعي والفكري، فصارت قضية المرأة وحقوقها وتحررها الاجتماعي والفكري والسياسي والجسدي كناية -وأعني كناية بأكثر المعاني صرامة- عن مجمل المجالات الأخرى في الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين.

فباستشارة قضية المرأة يصار إلى استدعاء جملة أوسع كثيرا من القضايا الخلافية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مرجعية السلوك الاجتماعي والسياسي. ولذلك فإننا نرى أن الحجر، بأشكاله المختلفة، على المرأة وحركتها، والتشديد على الحجاب، والفصل بين الجنسين في المعاهد والمسابح وأماكن العمل يعتبر لبنة أساسية، أو بالأحرى اللبنة الأساسية للمشروع الاجتماعي والفكري الإسلامي.

إذ أن رؤية المرأة المغلقة على جسدها الضامنة لشرف رجلها ورجولته يعتبر على الصعيد الرمزي التعبير عن مجمل النواحي الأخرى من المشروع السياسي والاجتماعي الإسلامي، وأن تنفيذ عملية الحجر الرمزي هذه، إنما هي دوما المحطة الأولى والأخيرة للتأكيد على مدى نجاح هذا المشروع بالنسبة إلى أصحابه. ذلك أننا نرى فئات اجتماعية مدينية أو قريبة التمدن قد رُمي بها من بنى اجتماعية صلبة نسبيا إلى فضاء من التخلخل الاجتماعي والاقتصادي، مما لا يترك لبعض هؤلاء الرجال ذوي الشخصيات غير القوية كفاية من مجال للتأكيد على تماسك كيانهم إلا مفهوم متخلف للرجولة قائم على دونية المرأة، مهما كانت هذه الدونية خداعة أو مقنعة للواقع.

من نافل القول إن العلاقة بين الأصولية وبين الكبت الجنسي علاقة قوية ومباشرة، علاقة تضافر يصار فيها إلى إزاحة الرغبة الدنيوية وإعلائها إلى تجريد لاإنساني.

ويذكرني هذا الموضوع بفيلم سينمائي أعتبره أروع أفلام فليني الراحل، وهو فيلم واقعي أبيض وأسود أخرج أوائل الخمسينات تحت عنوان I VITELLONI (أي العجول)، ويحكي قصة رجل صقلي (أيّ رجل من مجتمع مضارع لمجتمعاتنا العربية) أغوى ابنته أحد الأشقياء فحملت منه، ونقضي بقية الفيلم مع هذا الأب الصقلي وهو يرتّب الوضع في البلدة بحيث يظهر أن ابنته شريفة ونقية وفي النهاية ينجح في فبركة هذا الوضع، وهو عارف، والقرية، كلها عارفة أن هذه المظاهر كاذبة، ولكن البلدة بأكملها تعاونت في هذا الأمر، وتواطأت مع الأب.

والواضح هنا أن “شرف البنت” كان يحمل دلالة رمزية تعني القرية بأكملها. وهي كذلك في بعض قطاعات المجتمع العربي. وهي مستجدة في قطاعات الخيال الاجتماعي المستحدثة القائمة تحت عنوان الشريعة، التي قد لا تذبح الأخت السائبة بل تروم رجمها ولو رجما رمزيا، وهي تقوم بالرجم الرمزي لأكثرية المجتمع غير المنتمي إلى مجال خيالها الشرعي.

أنوثة وذكورة

لا أعتقد أن ثقافتنا العربية المعاصرة بلورت خطاباً حول الأنوثة. هناك صوت أنثوي، وهناك خطابات كثيرة ذكرت، وأخرى انثنت، وقد قدم لنا جورج طرابيشي دراسة ممتازة للعلاقة بين التأنيث وتصوّر الغرب لبعض النصوص الروائية.

والذي يبدو أن التذكير والتأنيث كالأبيض والأسود، واليمين والشمال والفوق والتحت إحداثيات ذات دلالات رمزية كبيرة في كل الثقافات. وقد قرأنا نصوصاً كولونيالية أوروبية تنتمي إلى القرن التاسع عشر نرى فيها تذكيراً للذات الكولونيالية القاهرة الفاعلة، وتأنيثاً أو تخنيثاً للذوات المستعمرة والمقهورة والمفعول بها.

ثم نحن نرى في الخطاب الأيديولوجي المعاصر، خصوصاً خطاب الأصالة، فعلاً أساسياً لعمليتي التذكير والتأنيث هذه، بحيث تبدو “الذات” العربية، أو الإسلامية عند البعض، مذكرة مبدئياً، ومؤنثة في واقع الأمر، أو مخنثة في أحسن الأحوال، إن اعتبرنا الذكورة مرادفة للفعل دون الانفعال بقاهر غربي.

لذلك أعتقد أن من الأجدى أن نتكلم حول التذكير والتأنيث ومجالات الفعل الخطابية والرمزية لهاتين العمليتين بدلاً من الكلام حول مفاهيم قارة للذكورة والأنوثة. ولكن لو أردنا أن نتطرق إلى الممارسة الاجتماعية أو الوجود الاجتماعي لمفهوم الذكورة والأنوثة، فهذا ينقلنا إلى مجال آخر.

هناك الكثير من الخطابات العربية المعاصرة التي تتناول قضايا متعلقة بالأنوثة، ولكنها ليست خطابات نسوية أو أنثوية، بل هي خطابات اجتماعية تتعلق بواقع المرأة والأنوثة، خصوصا بقصورها القانوني في ما يختص بالأحوال الشخصية، وليس هذا بالخطاب النسوي أساسا ولا بالضرورة، كما ليس فيه تصور للأنوثة ولا للرجولة، بل هو خطاب أعتقد أنه أساسي وبالغ الأهمية يتعلق بحقوق المواطنة، أي بضرورة اعتبار المساواة الحقوقية والاجتماعية لجميع المواطنين بغض النظر عن جنسهم ودونما استثناءات. ولذلك هناك خطابات، ولو خفتت أصوات بعضها، تنادي بمزيد من التقدم في إصلاح قوانين الأحوال الشخصية، واستكمال رفعها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. بل نرى أن الكثيرين يعتقدون، أو على الأقل يقولون إنهم يعتقدون أن قانون الأحوال الشخصية التونسي (وهو على علاته الأكثر تقدما في عالمنا العربي) هو سقف ما تجب المطالبة به. وأعتقد أن ذلك إجحاف منهن بحقهن وبحقوقهن المنشودة، بل الضرورية التأسيس وإن كان لنا أن نبني مجتمعات متكاملة وحديثة وقابلة للديمقراطية، ذلك أن الديمقراطية يجب أن تبتدئ في الخلية الاجتماعية الأساسية التي هي الأسرة.

ثمة هناك خطابات نسوية عربية: خطابات أنثوية غير مدونة ومتداولة شفهياً. وخطابات نسوية تحريضية مكتوبة ومتداولة. وهذه الأخيرة على أهميتها وفائدتها في مجال التوعية والإعلان عن وقائع ونتائج الدونية الاجتماعية للمرأة، وصفاقة وحتى همجية العلاقات الاجتماعية البطريركية، إلا أنني أرى أنها فكرياً -أي في مجال التحليل الاجتماعي والنفسي والسياسي- ضعيفة نسبياً بل وساذجة أو حتى بدائية في بعض الأحيان.

ريادة الرجل خطاب تحرر المرأة

هناك خطاب نسائي عربي قويّ وفعّال، وهو خطاب أدبي في المصاف الأول، وأذكر على سبيل المثال اثنتين من أعلامه هما غادة السمان وليلى بعلبكي. ليس هذا الخطاب خطاباً نسوياً بالضرورة، بل هو صوت نسائي، أو أنثوي، يؤنسن المرأة بما يضاف على كونها أنثى. وهو خطاب يخرّب خطاب الأنوثة المطلقة، تتبدى فيه الأنثى كائناً فاعلاً، فاعلاً في سلوك وشخصية وثورة في بعض الأحيان، كائناً واعياً سخّف معظم الرجال حولها ممن يتمنى لها الأنوثة المطلقة ولنفسه الذكورة الصرفة. وفي هذا الخطاب إفصاح عن الواقع الاجتماعي والإنساني الذي ليس بجدي أبداً، بل هو إخراج إلى العلن والتداول لما هو مضمر. أرى مذكرات فدوى طوقان مثلاً جيداً آخر على ذلك.

ولكنني أعتقد في النهاية أن الصوت الرجولي أكبر وقعا وأكثر إقناعا للكافة. ذلك أن اعتقادا مازال سائدا (وهو اعتقاد سلوكي وحياتي، وليس فكريا بالضرورة) يرى أن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني. ونرى تلك القناعة السلوكية مترجمة في سياسات المؤسسات والاتحادات الرسمية للمرأة في الدول العربية المختلفة، ومنها الدول اللادينية، حيث تقتصر فيها برامج التأهيل المهني على حرف كالخياطة والتطريز والسكرتارية، وشيء من التمريض، وما أشبه من الحرف “اللائقة” بالسيدات.

الخطاب التحرري النسوي

الثورات ليست بالضرورة حركات كليّة. وحتى لو نظرنا إلى المجتمعات المتقدمة، فإننا نرى أن قطاع الراديكالية النسوية مازال قطاعا هامشيا، ولو أن له مواضع مؤسساتية هامة، في إطار ما يدعى في الولايات المتحدة بـ”التعددية الثقافية”، فيصار إلى اعتبار النسوية وكأنّها شأن مضارع ثقافيا للوحدات الإثنية المختلفة، أو الفرق الدينية، أو الجماعات القائمة على المثلية الجنسية، ويصار بالتالي إلى إقصاء هذا الخطاب عن التيارات المركزية الفاعلة في المجتمع، ويصبح تأثيرها في ذلك، بمثابة التأثير لا في الحياة اليومية، بل عن طريق مقايضة الامتيازات والحقوق، كما تقايض بها جماعات الضغط على أساس من الحصصية المؤسسية، وليس على أساس من الاندماج في نسيج المجتمع.

أما لدينا، فما زلنا نعاني من درجة عالية من التخلف الاجتماعي والمؤسسي، مما لم يسمح، حتى الآن، بتبلور جماعات ضغط فعلية، ناهيك عن جماعات الضغط التي تستند إلى اعتبارات نسوية، وبالتالي فإذا كانت صورة المرأة في الغرب هي نظير صورة الآخر… فإن المرأة العربية هي آخر الآخر.

ولكن طبعا، ليس هناك شك في أن خطابا نسويا ما من قبل النساء يبث في أطر اجتماعية متميزة يعتبر حينها علامة على تميز اجتماعي مضاعف.

ولكن كان في الحياة العربية الحديثة خطاب نسائي تحرري قام في الحركات اليسارية، وخصوصا الماركسية منها، إلا أن مصير هذا الخطاب اندرج في مسار الحركات، ولا ينفصل عنها سياسيا ولا اجتماعيا، علما أن هذا الخطاب قام في إطار منظمات سياسية آل فيها، في كثير من الأحيان، دور الرفيقات إلى صنع القهوة والشاي، ولو أنه في أحيان أخرى أدى إلى انعتاق فعلي لبعض النساء وبعض الرجال ولقيام علاقات سوية، بقيت هامشية على مستوى المجتمع الأوسع.

حركة التفكير النقدي الحديث، بل والتحديثي، استبعدت قضية المرأة إلى حد كبير، ولو أشارت إلى ضرورة تنمية نصف المجتمع بما هي ضرورة أخلاقية عامة، ولكنها ظلت مستبعدة من التحليل والنقاش العيني للواقع، لأن الفكر التحديثي العربي الحديث، وخصوصا السياسي منه، قد جفل أمام حقائق التخلف الاجتماعي، ولم ينتقد إلا في صورة الشعارات والعناوين العامة، أو ما أراد في معظم تياراته أن يبرز أولوية التحول الاجتماعي الشامل، ومحور هذا التحول الشامل هو تحرر المرأة، لأن مقياس تقدم الأمة هو تحرر المرأة فيها.

فالمرأة عقدة عقد المجتمع. يرتبط هذا الأمر بوجل مرضيّ في الثقافية العربية الحديثة تجاه أركان التخلف الاجتماعي، وتسامح بالغ مع من يتباهى بمظاهر التخلف كالحجاب، باسم الأصالة والديانة. ونجد حتى نصيرا كبيرا للمرأة مثل محمد أمين بيهم، وهو زوج نازك العابد (الوحيدة التي بقيت من فلول العساكر والرجال العرب لمعالجة يوسف العظمة في جرحه في معركة ميسلون) قد أفصح عن الضرورة الظرفية لتغييب قضية المرأة من واجهة العمل الفكري والوطني بحجة عدم الإجماع الاجتماعي عليها في فترة حصار وانتداب أجنبيين.

أما في نظري أنا، فإنني أعتقد أن أيّ نهوض بالمجتمعات العربية، وأيّ مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا إلى نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركنا أساسيا فيه.

لكن ما حصل، عمليا، هو تأجيل هذه القضايا الأساسية بحجة ضرورات الظرف، عقدا بعد عقد إلى ما وصلنا إليه اليوم. فقد كان همود التحديثيين في ما يختص بإحياء المجتمع، وإحياء نصفه أمرا ساهم مساهمة أكيدة في إيجاد خلاء فكري ملأته الدعوات النكوصية.

وكمثال، فإن قضية نظيرة زين الدين استوعبت كليا في إطار الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، بل وفي إطار حاول فيه الدينيون أن يلغوا ما قالت به نظيرة، وذلك بإدراجه، على صورة كلية في خانة الخطاب الكولونيالي. وهذا أمر بالغ الحساسية لدينا. وعلينا في اعتقادي ألا نفزع من تهمة التغرّب فأنا لا أعتقد أنها تهمة.

ليس فقط لأنني لا أرى في الغرب نموذجا، أو لأنني أرى الخطاب الغربي في الحريات خطابا أصبح عالميا، بل أيضا لأنني أرى أن هذا الخطاب ليس حكرا على الغرب، ولو كان نشأ في الغرب، فهو خطاب عالمي إنساني نشترك فيه، دون أن يعني هذا الاشتراك على الإطلاق بأننا مرتهنون بالظروف الغربية الآنية التي قد ينتج بعض هذا الخطاب فيها.

بعبارة أخرى، لا أرى في الغرب، وفي الخطاب الغربي سقفا لخطاب الحريات، أو وعاء شاملا له. بل إن الواضح هو أن الخطاب الغربي في الحريات، في معظم الأحيان، يقتصر تطبيقه الغربي إن تم ذلك على الغربيين وتستثنى منه الشعوب الأخرى التي يصار إلى اعتبارها على أنها متخلفة بالسليقة وبالطبيعة، وبأن المجتمعات العربية، على سبيل المثال محكومة بسقف تاريخي هو التجربة الإسلامية المبكرة.

مما يفيد بالنسبة إلى أصحاب هذا الخطاب الحصري للحريات بأن الشكل السياسي والاجتماعي المناسب لنا هو ما قد تتفتق عنه مخيلة السلطة الشاملة للإسلاميين. ونرى هنا محطة أخرى من محطات اللقاء الموضوعي بين الخطاب العنصري في الغرب، وبين توصيف الإسلاميين لنفسهم وأصالتهم المزعومتين.

أما سبب استثناء الصوت النسائي من مجال التداول العام، فهو يعود إلى ما أسلفت القول فيه حول قصور الفكر التقدمي العربي عن مجابهة التخلف الاجتماعي، وعلى إيلاء العادات الاجتماعية الصوت النائي موضعا هامشيا، أي موضعا آخر، لا مجال له في هذا التصور إلا في “حديث النسوان”.

أما المقبول في حديث النسوان هذا لدى الكافة، فهو الكلام الرسمي عن الحب ولوعته وناره كما تتغنى به أم كلثوم وغيرها (وهذا كلام أقوله رغما من متعتي بالاستماع إلى أغانيها) من كلام يرضي الرجال المتخلفين في وجدانهم، كلام فيد للاحتباس الأنثوي والتعبير عن الرضا بهذا الاحتباس وإعلائه إلى ذرى روحية.

 

بذلك تصبح أم كلثوم معشوقة وأمّا في آن. ولعل المبيعات الضخمة لشريط فيروز الأخير “كيف إنت” -وفيه بعض أجمل أغاني الحب العربية- يدل على شيء من التقدم الاجتماعي الذي يشي به وضوح الصوت الأنثوي في هذه المجموعة.

‌اللغة والجنس

أعتقد أن كل اللغات تساوق تطور (أو نكوص) حركة المجتمع. وأتكلم، طبعاً، حول حركة المجتمع على الآماد الطويلة. لا أعتقد -إجابة على سؤالك- أن أيّ لغة قادرة على مقاومة صياغة الخطاب العلمي بها، إن كان هذا الخطاب قد تأصل في مؤسسات الفكر التي تستخدم هذه اللغة. وأرى ذلك، حسبما أفهم من العارفين في التحول البالغ الذي طرأ على اللغة العبرية (وكانت لغة عبادة صرفة في نصف القرن الماضي)، وبالمعنى نفسه، لا أرى أن أيّ لغة غير قابلة في جوهرها لصياغة أيّ خطاب كان ومن ذلك خطاب التحرر والمساواة وغيرها من الخطابات.

ولذلك، فإني لا أرى في اللغة العربية أيّ مواضع تتعالى على التاريخ، وعلى الواقع. وبذلك تكون قادرة على صياغة خطاب مساواتي إن تجذّر في مؤسسات الفكر والمجتمع. لذلك أرى ما يحدث في الولايات المتحدة شأناً مضحكاً عندما يصار إلى سن قوانين تتعلق بنزع صفة التأنيث أو التذكير عن بعض العبارات، مثل رئيس الجلسة أي تحويل (CHAIR WOMAN) إلى (CHAIR PERSON) ولا أرى في ذلك إلا نوعاً من القسر غير الطبيعي للغة، ولو أنني لا أستبعد أن يكون لهذا العمل بعض النتائج الإيجابية على المدى القصير فقط.

تصور ما سيحدث إن حاولنا تذكير الذبابة والأفعى والعنكبوت توخياً لعدم تحقير المرأة، أو تأنيث ابن آوى أو الصرصار (تجدر الإشارة إلى أن اللفظ العربي القديم للصراصير كان “بنات وردان”) توخياً الانتقام منها.

ثم إن في نزع الصفة الجنسية عن العبارة نوعا من رفض. وهو رفض تحقيري للنعت المؤنث لهذه العبارة فإن كان ولا بد، لا مانع من أن تترأس الجلسة سيدة تدعى (CHAIR WOMAN) أو السيدة رئيسة الجلسة. المقصود في أميركا هو “موضعة” رئاسة الجلسة، ولكن هذا أمر ممكن إن نزع عن التذكير والتأنيث الحكم التفاضلي. وليس غريباً هذا الأمر في أميركا على كل حال حيث القسر التشريعي أمر مألوف.

دعوني بالمناسبة أن أضيف ملاحظة أو ملاحظتين حول النسوية الأميركية وما شاكلها أو تأثر بها في أوروبا وغيرها. ويبدو لي أن سمة تكاد تغلب على هذا الخطاب النسوي هي سمة طهرانية غير تحررية قائمة على اتقاء الرجل، سمة تقدم نقداً أخلاقياً للرجل بوصفه منحطاً بالسليقة، هو خطاب ذم للرجل ومساجلة له وهو خطاب يشبه ما كان متداولاً في الأوساط الأخلاقية البرجوازية المحافظة في أوروبا وأميركا (البروتستانتينية على وجه الخصوص) منذ أكثر من نصف قرن.

بل نرى في هذا الخطاب تشديداً على عفة المرأة وغياب هذه العفة عند الرجل، وكأننا بموازاة الخطاب الإسلامي الذي يعزو العفة للرجل والشبق المنحل للمرأة. ثم إن المنتهى العملي لهذا الخطاب – في أميركا خصوصاً- يستتبع (كالإسلام) إقامة العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس تقنين حقوقي ينطوي على ذكورة متخيلة وأنوثة هي الأخرى بدورها متخيلة، تقنين يشدد على ضرورة قمع حيز العلاقة بين الجنسين، باسم سد ذرائع التحرش العفوية (على أهمية احترام الجنس للجنس الآخر، وعلى سماجة وفجاجة ما هو معهود من التحرش).

خطاب الجسد

ليس غريبا ألاّ يكون ثمة خطاب يتعلق بالجسد، ولو كانت هناك خطابات كثيرة في التراث العربي والتراث الإسلامي تتناول بعض فاعليات الجسد وأعضائه. هناك في المصاف الأول الخطاب الفقهي الذي يقنن علاقات الأعضاء المختلفة بما عداها من الجسد.

وهناك خطاب حكائي تهييجي يتناول علاقة أعضاء جسد بأعضاء جسد آخر. وهناك أيضا خطاب فقهي بالغ السعة في هذا المضمار. ولكن الجسد كوحدة متكاملة، ما كان موضوعا لخطاب متكامل، ولو كان كلّ من أعضاء هذا الجسد وأطرافه ومواضعه وحيّزاته مواضيع الخطاب أكان خطابا فقهيا أو خطابا بصاصا. بذلك يقتطع الجسد إلى مناطق ويقنن إما عن طريق مفاهيم فقهية، أو عن طريق مناطق غير مترابطة للرؤية وللفعل (مثال ذلك ما أسلفته حول نموذج المرأة الجميلة الشهية في التراث، ووصف تسمية أعضاء المرأة الجنسية استنادا إما إلى شكلها أو حجمها، أو الصوت الذي تصدره عندما تخضع لعمليات شتى).

يستثني هذا الخطاب مفهوم اللذة بالمعنى الفعلي للعنوان. لأن اللذة يستعاض عنها في هذا الخطاب بمراقبة الممارسة التامة السيطرة على الجسد المتخيل للآخر. ونحن نرى بذلك كيف يرتبط هذا التصور البلاستيكي البحت للجسد بمفاهيم الجمال التي سبق وتكلّمت عليها. فالرجال في الجنة لا يرغبون ولا يرتوون. بل إنهم يراقبون أنفسهم، فاعلين في موضوعات للفعل، هي تلك الأصنام المصنوعة من المسك والعنبر ذات النهود الكاعبة والأرداف الضخمة التي تسمى بـ”الحوريات”.

وهنا أذكّر بالحديث الذي يعزو للنبي إجابة حول كيفية نكاح الناس في الجنة على أنه “لا منيّ ولا منية دحما دحما”. وهذا تمنّ نرجسي ساذج من قبل واضعي هذا الحديث، مع التشديد على أنني لست ضد النرجسية فهي، ضمن حدود، حق طبيعي للجميع، بغض النظر عما إذا استحقها أصحابها أم لا. ولكنني أشدد على سذاجة هذه النرجسية المبتغاة، وكونها ضربا من حلم يقظة بصاص الطابع، كأن يبصبص الرجل على نفسه وهو يمارس فعلا مطلقا، أي ذكورة فجة صرفة بالمعنى الذي أسلفت.

أما الوصف المجازي لصلة المحبّ الصوفي بربه، فهو جماع خطاب الشهوة واللذة بمعناه الحقيقي. أما لماذا أزحنا الرغبة عن موضعها فهذا شأن يتعلق بتدين المخيلة. وفي هذا الوجد الصوفي جمالية مرهفة وشاملة لكيان المحب والمحبوب في آن، ومجال للاجتماع بين شبق الشهوة ولذة الوصال وتحقق هذه اللذة. في هذا الوضع ليس الاغتلام إلا عرضا حدثيا بينما هو في وصف الجنة محور لذة الانتشاء بالتفكير في مشهد مقدرة النفس على الإنعاظ الأبدي.

كاتب من سوريا

ما بعد السيطرة على جسد المرأة/ جاد الكريم الجباعي

تحت عنوانيْ “العفَّة للرجل والشَّبق للمرأة، السَّيطرة على المرأة عنوان السَّويَّة الاجتماعية والوفاء للتراث والجماعة المُتخيَّلة”، أدلى الدكتور عزيز العظمة، وهو علم من أعلام الثقافة العربية المعاصرة، بحديث، صار أقرب إلى مقالة، تطرح أسئلة، وتفتح مسائل اجتماعية-سياسية وأخلاقية، تعاملت معها الثقافة العربية تعاملاً مراوغاً، ينوس بين الفقه والفكر، ويخلط هذا بذاك، فيكون الناتج لا هذا ولا ذاك. ولم يفطن معظم المثقفين “العلمانيين” أنهم جعلوا من أنفسهم فقهاء، يعملون عبثاً على وصل ما انقطع من علاقات بين “التراث” القديم والعصر الحديث. لا يتعلق الأمر هنا بموقف إيجابي أو سلبي من التراث، بل بطريقة إدراك الزمان وعلاقته بالمكان، وتعيين إحداثياتهما المعرفية والثقافية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، والتراث واحد منها بلا شك.

نميل، في هذا السياق، إلى أن “الحاضر هو اللحظة التي تملأ الوجود”، في كل عصر وأوان، فلا وجود للماضي إلا في فجواته، ولا معنى للمستقبل إلا ممكناته، وليس معظم “التراث”، غير المادي، سوى الخلايا الميتة، في نسيج الثقافة الحي. ومن ثم، يكون الحاضر هو مسرح التاريخ الواقعي، وما عدا ذلك حكايا وسرديات.

هل ثمة علاقة بين كيفية إدراك الزمن وبين حرية الفرد، ذكراً وأنثى، أو حرية الجسد، جسد الذكر وجسد الأنثى على السواء؟ تتلخص المسألة، في اعتقادنا، في كيفية النظر إلى الفرد الإنساني العياني، زيد أو هند، إما من خلال تصور سكوني لزمن مستمر، بإحداثياته ذاتها، ومستقل عن المكان، وإما من خلال تصور للزمن على أنه سيرورة تشكل وانحلال متناوبين، لا ينفصل فيها الزمان عن المكان؛ هاتان رؤيتان: تيولوجية (لاهوتية) وعلمانية، لا سبيل إلى التوفيق بينهما. محاولات التوفيق هي ما جعلت مجتمعاتنا تراوح في مكانٍ، لا هو خارجَ العصر ولا هو داخلَه، لا هو خارجَ الحداثة ولا هو داخلَها.

مشكلة العرب المعاصرين وأمثالهم ليست في عجزهم عن اكتساب قيم الحداثة ومبادئها ومناهجها، أو عجزهم عن التمتع بمنجزاتها، وليست في قصور لغتهم، بل هي، بالضبط، عجزهم عن المشاركة فيها وإعادة إنتاجها. فيغدو السؤال: لمَ لا يزال العرب وأمثالهم من الأمم والشعوب عاجزين عن المشاركة في الحداثة، بحلوها ومرِّها؟ من البديهي أن تكون غالبية العرب الممنوعين من ممارسة حياتهم النوعية (الإنسانية)، في دولهم، والممنوعين من المشاركة في تدبير شؤونهم العامة، وتقرير مصائرهم، عاجزين عن المشاركة في الحداثة، ومشاركة المرأة في صلب الموضوع، ومن البديهي أن يكون طغاتهم، الذين يمنعونهم عن ذلك، حرَّاسَ تأخرهم وحماتَه، والحداثةُ، من أحد وجوهها، ثورةٌ على الطغيان. العرب وأمثالهم لا يشاركون العالم المتقدم في شيء، إلا في كونهم عاهته ومرضه العضال، ودليل على تشوهاته الأخلاقية، بصفتهم موضوعه، لم يرتقوا بعدُ إلى ذوات حرة ومستقلة.

كيفية إدراكنا للزمن تحدّد كيفية إدراكنا للعالم، عالم الإنسان، المجتمع والدولة، ومجتمع الدول، ومدى انتمائنا إليه ومشاركتنا في إنتاجه وإعادة إنتاجه، بل في خلقه أو ابتكاره، إذا شئتم. ثمة زمن تيولوجي، يبدأ بخلق العالم وخلق الإنسان، وينحدر إلى الحضيض، كلما ابتعد عن اللحظة/اللحظات التدشينية أو البدئية، التي يعيد البشر تحيينها رمزياً، بشعائر وطقوس فولكلورية، كأعياد الميلاد، مثلاً.. وزمن آخر هو الزمن العلماني، باعتباره “شكل حركة المادة”، والوجه الآخر للوجود، الملازم لوجهه الأول (المكان) والمتصل به، وسيرورة التحسن الذاتي للإنسان، بما هي سيرورة نموّ وتقدم مطَّردان، مع انقطاعات وانتكاسات وتراجعات، هنا وهناك، وبين الحين والحين.

الزمن التيولوجي هو زمن الحكاية، أو السردية التي تغدو خرافية أكثر فأكثر كلما جف نسغها الأسطوري والشعري والإبداعي، والإنسان (الذكر) هو موضوع الحكاية، مخلوق من طينها، ومن الروح القدس،على صورة من خلقه وهيئته، والمرأة مصنوعة من ضلعه القاصرة؛ المرأة رحم الحكاية وثدياها، ودميتها، أمّ الأبطال والشهداء ومتعة المحاربين وسكن القاعدين. الجسده، جسد الرجل”مادي”، طيني، وروحه، عقله، قبس من نور الله، والمرأة بلا عقل، بلا نفس أو روح. أما الزمن العلماني فهو التاريخ، الذي يصنعه الإنسان بنفسه، ولكنه لا يصنعه على هواه دوماً. التاريخ هو ظل الإنسان، وتوقيع ممكناته على حساب ممكنات أخرى لا متناهية، في كل لحظة من لحظات تطوره التاريخي. “المجتمع هو الإنسان مموضعاً” والدولة هي حياته الأخلاقية، العامة، النوعية (= الإنسانية)، حسب ماركس، هذا في المبدأ والمنطلق، الذي ليس مبدأ حياتنا المعاصرة بعد، لأن الإنسان ليس بعدا.

الإنسان في الزمن-التاريخ هو الخالق، يخلق العالم، عالمه، ويعيد خلقه، في كل مرة، على صورته ومثاله، وهو من خلق الله على صورته ومثاله أيضاً، وقد حدس برمنيدس بذلك، منذ عشرات القرون. هذا الفارق الجذري بين زمنين، بإحداثياتهما المشار إليها، هو الفارق بين نموذجين للإنسان: نموذج المخلوق ونموذج الخالق. الروح، في النموذج الأول مغايرة للجسد، تحل فيه وتفارقه، أما في النموذج الثاني فالروح هي الجسد والجسد هو الروح أو النفس، وبحسب التوحيدي، الروح أو النفس لطيف الجسد، والجسد كثيفها. الثقافة العربية، بالمعنى الواسع للثقافة، وثقافتنا هنا في سوريا، ممنوعة حتى اليوم من النظر إلى الفرد الإنساني، بوجه عام، وإلى المرأة، بوجه خاص على أنه وأنها النموذج الكامل للإنسان، وسيظل أمرنا كذلك ما لم تتخط ثقافتنا هذه العتبة.

البنى البطريركية والبطريركية الجديدة، والسلطة/السلطات المنبثقة منها، لا تعترف باستقلال الفرد الذكر وحريته، أي بإنسانيته، إلا اعترافاً مشروطاً، ولكنها لا تستطيع أن تعترف أبداً بحرية المرأة واستقلالها الكياني، لأنها إذ تفعل ذلك تتفسخ، وتكف عن كونها بنى بطريركية، ما يمنعها من ذلك ثقافة راسخة سمتها العامة التكرار والاجترار المقدس، وسلطة/سلطات مستبدة أتفه ما يكون الاستبداد، وأكثر أشكاله شيناً وعاراً. البنى البطريركية، ولا سيما الإثنية والمذهبية، هي شكل التوسط بين الإنسان وجسده، بين الإنسان وذاته، بين الإنسان وحريته، لا يعرف الإنسان ذاته ولا يعرِّفها إلا من خلالها، ولا يدرك جسده إلا بها، على أنه جزء منها.

الجسد، الذي يعتبر إلى اليوم موضوعاً للطب، والطب النفسي وغيرهما من العلوم، وموضوعاً للنظر إليه جمالياً، وتشكيله اجتماعياً، وفقاً للوظائف المنوطة به، ولا سيما جسد المرأة، هذا الجسد المُشيَّأ، أي المجعول شيئاً، هو بيت الوجود الفسيح، وشكل الحياة، وهو الذي يمنح الفرد هويته الجذرية، التي يطمسها المجتمع. إذ كل فرد، أنثى كان أم ذكراً هو النموذج الكامل للإنسان. على هذه القاعدة فقط، تتأسس المساواة، وتتعين الحرية، وتنفتح إمكانية العدالة، وبموجبها فقط، تتحدد قيم الحق والخير والجمال.

وجود الإنسان جسدي. والمعالجة الاجتماعية والثقافية التي يعد موضوعاً لها، والصور التي تتكلم عن عمقه المخبَّأ، والقيم التي تميزه، تحدثنا أيضاً عن الشخص، وعن التغيرات التي يمر بها تعريفه وأنماط وجوده من بنية اجتماعية لأخرى. ولأن الجسد يوجد في قلب العمل الفردي والنشاط الاجتماعي والإنساني، وفي قلب الرمزية الاجتماعية، فإن لمعرفته أهمية كبيرة في فهم أفضل للحاضر [1]. وجود الإنسان فردي. الفرد معطى وجودي، لكن الفردية ليست كذلك، ليست بدهية أصلية، بل هي معطى اجتماعي وتاريخي. الجسد هو الشخص، من دون أيّ سمة أخرى، أو اسم أو صفة أو حال. وهو بنية مركبة من الفردية والرمزية الاجتماعية والثقافية. الجسد مطاوع/مقاوم للسلطة.

بهذه التعيينات يكون الجسد شكل الوجود الإنساني والروح مضمونه؛ الجسد مكان الذات والذات زمانه وقوامه (مكان الفاعلية والانفعال، الرفاهية أو الشقاء، النضارة أو الذبول، الحسن أو الدمامة، الرشاقة أو الترهل، الشهوة أو التقشف، القوة أو الضعف والجهد والمخاطرة أو الكسل والخمول الرهافة أو البلادة الرشاقة أو البدانة …) فإن الذات أو الأنا هي زمان الجسد، إذ لا قرين للمكان سوى الزمان، ولا يكون أيّ منهما بمفرده، وهذا مما يضع نهاية للثنائية الديكارتية: الفكر والامتداد، فلا يسوغ التفكير في زمان مستقل عن المكان أو مكان مستقل عن الزمان. متصل الزمان والمكان يؤسس أو سوف يؤسس رؤية فلسفية جديدة، تتجاوز الحداثة المتحققة بالفعل، ما يؤكد أن الحداثة سيرورة لا تتوقف. وحدة المكان والزمان هي وحدة النفس والجسد أو وحدة اللطيف والكثيف، بكلمات أبي حيان التوحيدي، أشبه ما تكون بالطبيعة المزدوجة للمادة: الموجية والجسيمية. وإذ يعد الجسد علامة الفرد ومكان اختلافه وتميزه، فإنه سيطرح علينا من جديد مسألة فرادة الزمكان وأفراديته واختلافه وتميزه.

ليس الوضع البشري وحده وضعاً جسدياً، بل وضع سائر الكائنات. وهذا يعني أفرادية العالم، ويعني أن أفرادية العالم قوام وحدته [2]. إذ من دون هذه الأفرادية لا محل للصلات والروابط والعلاقات المتبادلة، على اختلاف مضامينها، التي هي نسيج العالم. الأفرادية هي البنية الابتدائية للنزعة الجمعية والاجتماعية، والبنية الابتدائية للعلاقات الإنسانية، لأنها حاملة الاختلاف، وهو المغزى العميق للحرية، بل هو شكل تعيُّن الحرية، إذ العلاقات الإنسانية السليمة علاقات بين حرائر وأحرار، والعلاقات الاجتماعية السليمة علاقات بين مواطنات حرائر ومواطنين أحرارا. هنا، في واقعية الأفرادية، وواقعية الاختلاف، تتموضع قضية المرأة، وقضية الجسد، جسد المرأة وجسد الرجل وجسد المجتمع، وينكشف سر السلطة، ويرتفع السحر عن العالم.

التصور الحديث للجسد مرتبط بصعود الفردية، مفهومة فهماً صحيحاً، بصفتها كينونة وجودية، وبنية اجتماعية، كما يرتبط بانبثاق تصور علماني للكون والطبيعة والعالم، يقطع مع الكوزمولوجيا التقليدية، ببعديها الأسطوري والديني، وفكر عقلاني منفتح على الإمكان الأخلاقي للأسرة والمجتمع، يمكن أن يؤسس ما يسميه كمال عبداللطيف “روحانيات الحداثة”، بانفتاحه على علوم الجسد أو علوم الإنسان، ولا سيما العلوم الطبية، وعلم الحياة والنيروبيولوجيا أو علم الأعصاب وغيرها. التصور الحديث للجسد نتاج أوضاع اجتماعية-اقتصادية وثقافية وأخلاقية سمحت بولادته، هذه الأوضاع ممكنة في كل مكان من العالم ولكل مجتمع من المجتمعات، ما دامت منجزاً إنسانياً، إذا نظرنا إليها من منظور التاريخ، لا من منظور الهوية. الهوية التي لا تتمحور على فكرة الإنسان عائق معرفي وأخلاقي.

هل الإناث جنس آخر؟ وهل ثمة في الواقع أنواع وأجناس وأصناف ورتب وصفوف وفصائل أم هذه كلها مقولات “كلية”، ونماذج صورية من عمل الذهن أو العقل الذي لا يعمل إلا بالكليات، ولا يمكنه إلا أن يقوم بعمليات نمذجة وتنويع وتجنيس وتصنيف لمقاربة الواقع العياني، الأفرادي، والإمكاني أو الاحتمالي، والمتغير على الدوام، للتغلب على واقع الكثرة والاختلاف ومحاولة تنظيمه؟ ثم أليست هذه العمليات نفسها عمليات تنميط واختزال لصفات الأفراد وخصائصهم ممهورة بختم العلم والمعرفة الموضوعية؟ وما سر جنسنة العلوم التي تعنى بالكائن البشري، في حين لا نقع على مثل هذه الجنسنة في علوم الحيوان والنبات، مع أن وظيفة التكاثر و”حفظ النوع″، أو حفظ الحياة، هي نفسها في جميع الأحوال؟ لا بد هنا من البحث عن القاع الإبستيمولوجي الذي يكشف عن نزوع ما إلى الكلية والشمول والتجريد والتعميم، والجمع والتوحيد، ومحاولة القبض على الكلي والمطلق واللانهائي، الثابت والدائم، الذي لا يعباً باختلاف الأفراد وتغيّر أحوالهم، فلا ينظر إليهم إلا على أنهم أعراض ومظاهر لجوهر خالد، مع أن جميع العلوم التجريبية تبدأ بدراسة الأفراد والحالات الخاصة.

على صعيد اللغة لا يهتم المتكلم أو المتكلمة بواقع أن الفرق هو، بمعنى ما، نتيجة الاختلاف ومتعلق به. كل اختلاف يضع أو يعيِّن فرقاً، مهما يكن الاختلاف طفيفاً؛ وأن هذا الأخير قد يكون اختلافاً كيفياً أو كمياً. الاختلافات الطبيعية بين الكائنات تعين فروقاً مورفولوجية بين أفراد كل (نوع)، أو فروقاً في الشكل تقوم عليها تصنيفات وضعية، من عمل الذهن. فالإيحاء الدلالي (السيميائي) للفرق يوهم بأن الفروق الجنسية أو غيرها فروق نوعية، جوهرية ومطلقة. وعبارة الفرق توحي بالفصل والقطع والبعاد، ومنها الفراق، وتفريق الشمل، ومفرق الطريق والطلاق والموت .. (راجع/ي لسان العرب، مادة فرق).

من يرون الفروق الجنسية بين الإناث والذكور، باستثناء الحمل والولادة وشكل الجهاز التناسلي، فروقاً مطلقة، إنما ينظرون إليها على أنها فروق نوعية أو جنسية [3] (من النوع Kind والجنس sort) مبنية كلها على هذا الاستثناء، أي فروق بين نوعين أو جنسين من البشر، ومن هنا، على الأرجح درج الحديث عن جنسين، وصار يشار إلى الإناث على أنهن “جنس آخر”. نعتقد أن الفروق الجنسية (differencessexual) (البيولوجية) وفروق الجنوسة (الاجتماعية والسلوكية) كلها نسبية، وقابلة للملاحظة والقياس بنية ووظيفة، باستثناء شكل الجهاز التناسلي، لا وظيفته، التي لا تتحقق إلا بتضافر الأنوثة والذكورة وتضافر جميع الأجهزة الحيوية الأخرى. إن قابلية الفروق للقياس الكمي هي ما يؤكد كونها فروقاً نسبية.

عمليات التنويع والتجنيس والتصنيف ترجع إلى عملية “التعقيل” الأرسطية، أو عملية تقعيد وقوننة ما هو قائم بالفعل، التي قامت على ثنوية الهيولى والصورة أو المادة والصورة، أو الجوهر والعَرَض، ومبدأ الوظيفة، والتراتب الهيرارشي الصاعد من الأدنى إلى الأعلى [4]: من الجمادات فالنباتات فالحيوانات فالإنسان، فالآلهة. وهذه جميعاً سرت في الفكر البشري والعقائد الدينية، ولا سيما التوحيدية منها، ولا تزال حاكمة في الثقافات التقليدية، لدى مختلف الشعوب، ولا سيما الثقافة “العربية الإسلامية”، بمختلف فروعها.

كل رجل ذكر بنسبة ما وأنثى بنسبة أخرى، وكذلك كل امرأة؛ لذلك نتحاشى دوماً الحديث عن أو الإشارة إلى جنسين أو إلى “الجنس الآخر”، و”الجنس اللطيف”.. إلخ، مع أن إحدى الغايات التي يتوخاها هذا النص، هي إبراز الاختلاف والاحتفاء به. لكن الاختلاف النسبي شيء والاختلاف المطلق أو الجذري، شيء آخر. واختلاف الأنوثة عن الذكورة شيء، واختلاف الأنثى عن الذكر أو المرأة عن الرجل شيء آخر.

معنى الأنوثة لا يطابق معنى المرأة، فيستبعد الذكورة من بنيتها الكيانية أو كينونتها. ومعنى الذكورة لا يطابق معنى الرجل فيستبعد الأنوثة من بنيته الكينونية. هذا أمر غاية في الدقة والأهمية، يدل تفويته على اختلاط في الوعي وتشوُّش والتباس في المعرفة. ومن ثم، فالخصائص التي تنسب إلى الأنوثة ليست خصائص المرأة حصراً، ناهيك عن المرأة س أو ص أو ع. والخصائص التي تنسب إلى الذكورة ليست خصائص الرجل حصراً، ناهيك عن الرجل س أو ص أو ع. وإلا باتت الفروق بين الأنوثة والذكورة، وبين الرجال والنساء فروقاً مطلقة، والبيولوجيا سيدة الموقف: المرأة تحيض، فهي مدنَّسة؛ انتهى الأمر. المرأة تحمل وتلد، فهي مقدَّسة؛ انتهى الأمر. في الحالين لا يمكن أن يجمعها شيء مع الرجل. المرأة ليس لها قضيب؛ المرأة ليس (= سلب)؛ انتهى الأمر. التدنيس والتقديس والليْس (= السلب) مبنية كلها على بيولوجيا مبسطة ومسطحة، بل جاهلة، دعونا نسمها “بيولوجيا اجتماعية”، عامة، والعمومية هنا هي عماء. البيولوجيا الاجتماعية عنصرية، كالداروينية الاجتماعية، التي تبنتها النازية. أليس هذا جذر ما يسمى “التمييز ضد المرأة”؟

إن مصطلحات “فرق جنسي” و”تمايز جنسي” و”فرق جنوسة” يمكن أن تستعمل بالتبادل لوصف سمات “جسمانية” وخصائص نفسية وسلوكية تختلف في المتوسط بين الإناث والذكور [5]. فثمة فرق بين النساء والرجال في الطول، مثلاً، لكنه فرق في متوسط الطول، ولا يعني أبداً أن جميع الرجال أطول من جميع النساء، أو أن الطول صفة خاصة بالرجال. فالفروق ليست نسبية فقط، بل هي فروق في المتوسط الحسابي. وإذا كان قياس الفروق القابلة للملاحظة والقياس يسيراً فإن قياس الفروق النفسية بالغ الصعوبة. فالخصائص النفسية لا تظهر مباشرة، بل يستدل عليها من السلوك، وليس لها معايير ثابتة ومتفق عليها، كمقاييس الطول أو الحجم أو الوزن. والأهم من ذلك أن معايير الخصائص النفسية محكومة بآراء شائعة، وأفكار مسبقة أو منمِّطة (stereotype)، يتبناها العامة وكثير من العلماء، بلا تمحيص، وبعضها فروض أساسية لدراسات وبحوث توصف بالعلمية والموضوعية، تتناول عينة عشوائية أو منتقاة. نعتقد أن الفروق الذهنية والنفسية والسلوكية فروق فردية أساساً، فمن التعسف اعتبارها فروقاً بين النساء والرجال، واصطناع نماذج صورية من السواء النفسي والسلوكي، لكل من “الجنسين” المفترضين.

ثمة “مشكلة سياقية” يعانيها الناس عامة والباحثون خاصة، كافتراض أن الألعاب العنيفة أو الميول العدوانية، مثلاً، مقصورة على الذكور. مع أنه يمكن افتراض أنها خصائص ذكورية، كامنة في خافية الأولاد والبنات والرجال والنساء، في مقابل خصائص أخرى معاكسة، في الأولاد والبنات والنساء والرجال، تتفاوت نسبها، حسب البيئة والتربية والثقافة. فلا يمكن فصل هذه الميول أو غيرها عن شروط تنميتها أو كفِّها.لا مفر من افتراض أن أكثر ما يسمى خصائص ذكورية وخصائص أنثوية متأصلة في المطالب والتوقعات الاجتماعية من الذكور والإناث، على مر القرون ومئات القرون، ومعززة أو مكفوفة بالتربية والثقافة. ولا مفر من الاعتراف بأن هذه المطالب والتوقعات قابلة للتطور والتغير، تبعاً لتطور أنماط الحياة الاجتماعية وتغيرها.

كل اختلاف بين الأفراد قابل للملاحظة والإدراك الحسي المباشر، بالحواس المجردة أو بوساطة الأدوات المكبِّرة يعيِّن فرقاً قابلاً للقياس، وقد يرقى إلى تناقض جدلي. اللافت في موضوعنا أن من يتحدثون عن وجوه الاختلاف والفروق الناجمة عن كل منها، يسكتون عن وجوه التشابه بين الإناث والذكور، سواء في الصفات التي يمكن ملاحظتها وإدراكها بالحواس وأدواتها، أو في الخصائص النفسية والسلوكية؛ فلا اختلاف بلا تشابه، وإلا كانت الأحكام تعسفية. لذلك لا ينبغي إهمال الفروق والتشابهات، بما في ذلك الطفيفة منها، سواء في الصفات التي يمكن ملاحظتها أو في الخصائص النفسية والسلوكية. ثمة مستويان من الفروق: فروق بين الذكور والإناث، وبين الرجال والنساء، وفروق بين الأفراد بغض النظر عن الجنوسة، والثانية لا تقل أهمية عن الأولى، لأنها تبين أثر العوامل الطبيعية والاجتماعية والثقافية، وأثر التربية والتنشئة في الأفراد، ونعتقد أنها أولى بالدراسة لأنها أكثر شمولاً.

أكثر الفروق الجنسية وضوحاً تلك المتعلقة بهوية الجنوسة المركزية والميول الجنسية، أي بشعور الذكر بأنه ذكر والأنثى بأنها أنثى، والاهتمام بالشريكة أو الشريك، باستثناء اضطرابات الهوية الجنسية، وهي أقل، قياساً بالحالات العامة [6]. غير أن اضطراب الهوية الجنسية، أي إصرار الأنثى على تعريف نفسها بأنها ذكر ورغبتها في التحول إلى ذكر، أو العكس، يجب أن تقوم دليلاً، لا على نسبية الفروق فقط، بل على وحدة الأنوثة والذكورة أساساً، وكذلك الميول المثلية والثنائية، على الرغم من ضآلتها النسبية. وهذا ما نشير إليه بإمكانية تأنُّث الخصائص الذكورية وتذكُّر الخصائص الأنثوية، في الفرد، أو في “الكلية العينية”. “فعلى الرغم من أن معظم الناس يبدون إما على أنهم ذكور بوضوح وإما على أنهن إناث بوضوح، فإن كلاً منهم أو منهن فسيفساء معقدة من الخصائص الأنثوية والذكرية، إضافة إلى أن هناك من تولد أو يولد خنثى” [7]. الاستثناء هنا لا يؤكد القاعدة، بل ينفي عنها صفة العمومية، إذ يدل إما على ميل في التطور ينحِّي صفات أو خصائص بعينها، وإما على إمكان قد يتحقق غداً أو بعد غد، لذلك لا يجوز إهماله على نحو ما هو شائع. والاستثناء، من جهة أخرى، يضع الاستقراء، الذي تربع على عرش المعرفة “العلمية”، تحت السؤال. وإلى ذلك، لاحظ فرويد (1856-1939) أن مفهومي المذكر والمؤنثة، اللذين لا يحيط بهما ظل من شك في نظر العامة، هما من أشد المفاهيم تعقيداً، من وجهة النظر العلمية. فهذان اللفظان يستعملان بثلاثة معان مختلفة؛ “.. فيمكن أن يعنيا “الإيجاب” و”السلب”، وقد يؤخذان أيضاً بالمعنى البيولوجي، أو أخيراً، بالمعنى السوسيولوجي” [8].

لعل الآراء الشائعة والأفكار المسبَّقة أو المنمِّطة ترتكز كلها على شكل الجهاز التناسلي ووظيفته، لدى الرجل والمرأة، مع أنه في الحالين جهاز تناسلي، يتحدد شكله بوظيفته البيولوجية، مثلما يتحدد شكل جهاز التنفس وجهاز الدوران وجهاز الهضم، التي تتضافر كلها في إنتاج الطاقة الحيوية. وما دام الرجل هو من يحكم ويصنف، فإن هذه الآراء والأفكار تصدر عن “مركزية قضيبية”، تبدو المرأة، من منظورها، ناقصة، (ليس لها قضيب). وينجرُّ عن هذا “النقص” نقص في العقل والدين، وفي كل ما يتصف به الرجل. (ألا يعني شيئاً هذا التواشج بين نقص القضيب ونقص العقل والدين؟). نحن إذاً إزاء أحكام وتصنيفات ذكورية ومركزية قضيبية، تنبثق منها الأحكام وتنبني عليها المواقف. لنتصور، على سبيل التدريب الذهني، لو أن النساء أعلى منزلة، ولهن سلطة الحكم والتصنيف وتشكيل الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي وضبط أجساد الرجال ومراقبتها ومعاقبتها، ألن نكون إزاء مركزية فرجية تلون الأحكام، وتحتكر الموضوعية؟

من جانب آخر، لا يزال الطب وما يحيط به من رؤى وضعوية، يقدم تصوراً فظاً عن الإنسان-الجسد، فهو يهتم بالمرض، لا بالمريض، فيجعل من الجسد “أنا آخر” للمريض، ومن ثم للإنسان، وموضوعاً للعلم، بتوسط الأطباء والأدوات والأدوية، وهذه الأدوات والأدوية وهؤلاء الأطباء لا يعنيها ولا يعنيهم الفرق بين الإنسان والحيوان. الجسد هنا مجرد كتلة، أو بنية من الأعضاء والأجهزة والعظام والعضلات والأنسجة والأعصاب. هذا أيضاً مرتبط بأوضاع اجتماعية وثقافية تسمح بتجيير الصحة وتشييء الإنسان، علاوة على التدخل الفظ للهندسة البيولوجية وفقاً للهندسة الاجتماعية. هذا ما يسمح بتخيل مشفى يوضع فيه المرضى حسب أرقامهم على سرير متحرك ويُدخلون في مختبر مجهز بالمجسات الحساسة والمناظير الدقيقة وأدوات القياس والتصوير والتحليل، فتذهب النتائج إلى قاعة الأطباء ويذهب المرضى الأرقام إلى أسرتهم، فتأتيهم وصفاتهم وأدويتهم إليها، أو إلى غرف عمليات مجهزة بأدوات ذكية يديرها الأطباء من بعيد، ويمكن أن نتخيل حلول الأدوات الذكية محل الأطباء أيضاً. هذا البعد التقني المسيطر على الحداثة، خطر على الإنسان وعلى الحداثة ذاتها. وعلى الثقافة العربية أن تدرك أنها معنية بهذا أشد العناية، لأن كل ما يحدث في العالم يحدث لنا.

هذا التخيل مبني على أوضاع قائمة، لا يهتم فيها الأطباء بالمرضى أدنى اهتمام. “من هنا تأتي النقاشات الأخلاقية المعاصرة حول دور الطب في الميدان الاجتماعي، ومفهومه للإنسان، وإمكاناته الأخلاقية، ولا سيما أن الطب لا يزال يرتكز على رواسب أنتروبولوجية، ويراهن على الجسد الشيء أو المكان معتبراً أن بالإمكان معالجة المرض، لا المريض. الجسد-المكان، هنا، هو مكان المرض، مكان الشر أو اللعنة، ومكان الخطيئة والابتلاء وتجربة الألم والعذاب ومكان العجز والضعف واللاجدوى والشيخوخة والموت، ومكان الشهوة الحيوانية، التي تفصح عنها عمليات التحرش والاغتصاب، التي تنتهك كرامة أجساد النساء والطفلات والأطفال خاصة.

والأدهى من ذلك أن يكون الجسد، من حيث رمزيته الاجتماعية، مكاناً للثأر والانتقام، بوصفه كوناً طائفياً وكائناً طائفياً، سنياً أو شيعياً أو علوياً أو درزياً أو غير ذلك، حسب من يمارس التنكيل والتعذيب والقتل، كما حدث ويحدث في بعض المشافي السورية، ناهيكم عن المعتقلات والسجون، مما كشفت عنه الوثائق والصور ومقاطع الفيديو، ولكنها ظلت أفعالاً مُسندة إلى مجهول. الضحية هي نائب الفاعل، شاهد فحسب أو مجرد قرينة على الفعل، الضحية شاهد محايد أشد ما يكون الحياد، ولا مُبالَى به أشد ما تكون اللامبالاة، لذلك لا يختلج الضمير الفردي والاجتماعي أي اختلاج، لضحايا القتل والتمثيل بجثث القتلى، ولم يكن يختلج لعمليات الاعتقال والتعذيب والموت تحت التعذيب، التي تمادت، منذ عام 2011.

“تخصص التصورات الاجتماعية للجسد وضعاً محدداً داخل الرمزية العامة للمجتمع؛ فهي تسمي أجزاءه المختلفة والوظائف التي تقوم بها وتبين علاقاتها، وتنفذ إلى الداخل غير المرئي للجسد لتودع فيه صوراً دقيقة وتحدد موقعه في الكون أو بيئة الجماعة. إن هذه المعرفة معرفة ثقافية.. تسمح بإعطاء معنى لعمق لحمه ومما صنع وبربط أمراضه وأوجاعه بأسباب دقيقة تتفق ورؤية مجتمعه للعالم، كما تسمح بمعرفة موقعه تجاه الطبيعة والناس الآخرين عبر نظام من القيم” [9].

الجسد من وجهة نظر المجتمع بناء رمزي، يتخطى حقيقته الواقعية أو كينونته. ومن هنا تنشأ التصورات المختلفة وفقاً لاختلاف المجتمعات والبيئات، التي تسعى إلى إعطائه معنى وقيمة، فهو بناء اجتماعي وثقافي. المفهوم الحديث للجسد (الإشكالي والغامض) هو نتيجة للبنية الفردية للميدان الاجتماعي، وانقطاع التضامن الذي يمزج الشخصي بالجماعي أو الجمعي وبالكون، بتوسط نسيج من الصلات يستقيم به كل شيء. تنبثق هنا مسألة الحياة الخاصة للفرد (خصوصية شخصيته وفرادتها وتميزها) وحق الشخص في الحفاظ على هذه الخصوصية وعدم انتهاكها أو الاعتداء عليها من قبل أي سلطة خارجية. هكذا ينظر إلى المسألة في المجتمعات الحديثة، التي باتت تعاني من تطرف فردوي، وولع مبالغ فيه بالخصوصية، تقابله لامبالاة بالعام والعمومية.

نعتقد أن جذر هذين التطرف والولع، في المجتمعات المتنثِّرة والتي على حافة التنثُّر، جراء الميل المتنامي إلى السلطوية، وتحكم التكنولوجيا والميديا والدعاية والإعلام وتهميش المجتمع المدني، وإفقار شرائح واسعه منه، وتآكل الديمقراطية، وانبعاث الشعبوية والنزعات العنصرية، يمتد إلى قسمة الإنسان على ذاته، وتمييز الجسد من النفس، أو فصل الوجود عن الماهية (فصلُ سقراط عن الإنسان، في الجملة الاسمية: “سقراط إنسان”، وعدم إدراك أن عموميَّ المجتمع المدني وخصوصيَّه إنسان، وعموميَّ الدولة إنسان). ترجمة هذه الحال هي “القصور الذاتي”، أي عجز الفرد والمجتمع عن إدراك الطابع المركب للشخصية الفردية من الفردي والنوعي، نعني بالتحديد ضمور البعد الإنساني في شخصية الفرد وبنية المجتمع المدني والدولة، بالتلازم الضروري بين هذه المستويات: الشخصية والخاصة والعامة. جذر هذين التطرف الفردوي والولع المبالغ فيه بالخصوصية هو ضمور الإنسانية، في الفرد والمجتمع والدولة. ما يحيل على أزمة أخلاقية عالمية الطابع، لا يمكن تجاوزها إلا بتقصي جميع أسبابها المشار إلى بعضها ومعالجتها. هنا تتوجب إعادة بناء مفهوم الصحة العامة ومفهوم الطب وعلوم الحياة على أولوية الإنسان، أولوية الفرد الإنساني، بما هو كائن كلي، يجسد وحدة الفرد والنوع.

لا قوام للفرد الإنساني من دون علاقاته الإنسانية والاجتماعية وعلاقاته بالطبيعة، فهذه كلها هي التي تشكل فرديته وشخصيته الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، التي تنسج وجوده الإنساني، وتشكله أشكالاً، يدل كل منها على بعد من أبعاد شخصيته، أو على ملكة من ملكاته، وليس المجتمع، والمجتمع المدني سوى هذه الأشكال. لكن هذه الأشكال ليست ثابتة ولا نهائية، وقبل ذلك، ليست بدهيات أصلية، بل هي أشكال متغيرة تشكلها علاقات بين أفراد مختلفات ومختلفين، اختلافهن واختلافهم هو ما يمنح هذه الأشكال حيويتها وطابعها الديناميكي، أو طابعها البيوديناميكي والجدلي أو الديالكتي، إنها أشبه ما تكون بالمجموعات الرياضية والجمل الموسيقية، في كل لحظة من لحظات نموها.

العلاقة بين الشكل والمضمون، هنا، هي بالضبط علاقة الزمان بالمكان، التي انطلقنا منها في تعريف الجسد، أو تعيُّن هذه العلاقة، وهي نفسها العلاقة التي يتحدد بها الجسد الاجتماعي، جسد الجماعة، وجسد المجتمع الكلي، بصفته منظومة إيكولوجية وسيعة وشديدة التعقيد، ينبع تعقيدها من تعقيد أساسها الفردي، وتشابك منظوماتها الفرعية، بتناسب محكم، إذ كلما ازداد تعقيد الكائن، أو المنظومة الإيكولوجية، ازداد استقلاله، ونمت حريته، واتسع مجال ممارستها. بهذين الحرية والاستقلال وهذا الاتساع يتحرر الجسد من الضغوط التي تحف به من كل جانب، وتحد من إمكاناته.

تجب الملاحظة أن اختلاف الأمكنة هو اختلاف الأزمنة، واختلال العلاقة بينهما هو مرض الجسد الفردي والاجتماعي. مشكلة الحداثة تكمن هنا، في مرض الجسد الفردي والاجتماعي ومرض الروح، في التناقض بين تعقيد المجتمع وحيويته ولامحدودية إمكاناته وبين تيبس مفاصل الدولة وضعف حساسيتها لمضمونها، أي للمجتمع المدني، وانتكاسها إلى بنية أقل تعقيداً من تعقيد المجتمع، أي إلى دولة قومية، بالمعنى الذي كانته القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

إذا لم توضع المسألة على هذا النحو لمعالجة أزمة الحداثة وقصورها الذاتي ستتسع الهوة بين المجتمع والدولة. هذه الهوة هي العدم الذي تملؤه قوى عدمية، متطرفة وعنصرية وإرهابية، قوى عمياء، كالتي يعاني العالم منها اليوم. والنتيجة هي تآكل الدولة والمجتمع معاً. الوضع السوري والأوضاع التي تشبهه صور مصغرة عن مرض الحداثة العالمي وجفاف نسغها الإنساني. “شكل الماء شكل الإناء” [10]. والجسد هو مورفولوجيا الروح، شكل الروح، شكل الإنسان.

الزمان والمكان وجهان متلازمان للجسد بوجه عام، والجسد الإنساني بوجه خاص. علاقة الإنسان بالطبيعة وكائناتها جميعاً علاقة اجتماعية أو محددة اجتماعياً، وهي علاقة الإنسان بشروط وجوده ومصدر حياته، ولنقل إنها علاقة المخلوق بخالقه، أو الكائن بكونه. وعلاقة الإنسان بالناس الأخريات والآخرين هي علاقته بتجليات ماهيته الإنسانية أو النوعية العامة، اللغة وما يتصل بها هي ما تجعلها علاقة خاصة، واللسان هو ما يؤسس ارتقاءها إلى علاقة نوعية عامة. بهذين البعدين: الإنساني العام والاجتماعي الخاص يتمكّن الزمان ويتزمّن المكان، هذان التمكن والتزمن يضعان تاريخية الكائن في الكون الاجتماعي والإنساني. (الزمان هنا أكثر من بعد رابع، لأنه قوام المكان وتاريخه)

تناقض الحداثة على الصعيد الأفرادي، هو تناقض الشكل الاجتماعي، أو الشكل الذي يفرضه المجتمع على الجسد، تحت مقولة “لنصنع الإنسان”، قل لنصنع الجسد، وبين مضمونه الإنساني، أو النوعي، الكلي والعام. الشكل الاجتماعي ظاهر جداً والمضمون الإنساني ضامر جداً، عندنا على الأقل، الشكل حاضر والمضمون غائب. قلما يتنبه الناس إلى اختلاف القيم والمعايير التي يتبناها هذا المجتمع أو ذاك عن القيم الإنسانية المشتركة بين أفراد الجماعة الإنسانية؛ إذ القيم والمعايير الجمعية والاجتماعية الخاصة هي التي “تصنع الجسد” وتضبط إيقاع حركاته وسكناته، وتضفي عليه معاني خاصة وقيماً خاصة، لكي يحوز الاعتراف والأهلية. الأهلية هنا من التأهيل = التدجين، ولا تمضي إلى الجدارة والاستحقاق ونموّ الإمكانات الأخلاقية والإبداعية.

لنستعرض بعض أسماء الجسد وأعضائه ودلالاتها في اللغة والثقافة، لفحص موقفهما من الإنسان؛ الرأس يعني العلو والشرف والرئاسة والسيادة والعناد هو ركوب الرأس، وفيه معنى الكثرة والعزة. ويقال رأس من الثوم وغيره أو من الإبل وغيرها. والعين آلة البصر ونبع الماء وكبير القوم وطليعتهم الذي يرعى أمورهم، وقرة العين الراحة، وامرأة عيناء من العين الحور، والعين الشيء المعين، ومنه فرض العين، أي الواجب على كل فرد، وعكس النقد في البيوع، ويقال أصابته عين إذا مرض الإنسان أو قتل (عان بمعنى قتل أو أصاب طريدته) وهي مصدر الومض والبريق. والعين مبينة التهم. والرؤية نظر بالعين والقلب. ورأى رؤية العين، ورأي العين، أي تيقن، وارتأى رأى بقلبه أو رأي القلب. والعين بمعنى المرآة: امرأة حسنة في مرآة العين. واليد جناح (واضمم إليك جناحك من الرهب) وفلان خفيف اليد أي رشيق الحركة، واليد أداة الضرب، وهي خلاف الرجل. ويقال ليس الأمر بيدي، أي لا حيلة لي فيه، ووضع اليد تملك بلا وجه حق أو غصب. والقلب هو الفؤاد أي الرباط، كأن الجسم كله ربط به، ورباطة الجأش قوة القلب وشجاعته وحزمه واشتداده، وهو موضع الحب والكره والخوف والجزع. والروع هو القلب والعقل، ويقال وقع في روعي أي في نفسي وخلدي وبالي، ورواع القلب وروعه ذهنه وخلده، ورقة القلب الرحمة والعطف على عكس قسوته، ويقال حبة القلب وسويداؤه وسواده أي عمقه. ويوصف القلب بالبياض والسواد، وهو كالعين آلة الرؤية أو الرأي. وتنسب إلى القلب صفات الإماتة والإحياء والرضا والسخط. وأما الصَّدْر فهو أَعلى مقدَّم كل شيء وأَوَّله، حتى إِنهم ليقولون: صَدْر النهار والليل، وصَدْر الشتاء والصيف وما أَشبه ذلك مذكّراً ويوصف بالسعة والرحابة أو بالضيق. وصدر الأمر أوله وصدر كل شيء أوله، وكل ما واجهك فهو صدر، والصدر ما أسرف من أعلاه. ومنه قول امرأَة طائيَّة كانت تحت امرئ القيس، فَفَرِكَتْهُ (أي هجرته) وقالت: إِني ما عَلِمْتُكَ إِلاَّ ثَقِيل الصُّدْرة سريع الهِدافَةَ بَطِيء الإِفاقة. بَنَات الصدر: خَلَل عِظامه… ورجل أَصْدَرُ: عظيم الصَّدْرِ، ومُصَدَّر: قويّ الصَّدْر شديده؛ وكذلك الأَسَد والذئب. والتَّصَدُّر: نصْب الصَّدْر في الجُلوس. وصَدَّر كتابه: جعل له صَدْراً؛ وصَدَّره في المجلس فتصدَّر. وصَدْرُ القَدَمِ: مُقَدَّمُها ما بين أَصابعها إِلي الحِمارَة. وصَدْرُ النعل: ما قُدَّام الخُرْت منها. وصَدْرُ السَّهْم: ما جاوز وسَطَه إِلى مُسْتَدَقِّهِ، وهو الذي يَلي النَّصْلَ إِذا رُمِيَ به، وسُمي بذلك لأَنه المتقدِّم إِذا رُمِي، وقيل: صَدْرُ السهم ما فوق نصفه إِلى المَرَاش. وسهم مُصَدَّر: غليظ الصَّدْر، وصَدْرُ الرمح: مثله. والنهد من نهد: نَهَدَ الثدْيُ يَنْهُد، بالضم، نُهُوداً إِذا كَعَبَ وانتَبَرَ وأَشْرَفَ (ارتفع). يقال: نَهَدَ الثديُ إذا ارتفع عن الصدر وصار له حَجْم.وفرس نَهْد: جَسِيمٌ مُشْرِفٌ. تقول منه: نَهُدَ الفرس، بالضم، نُهُودة؛ وقيل: كثير اللحم حسَن الجسم مع ارتفاع، .. وإِذا قارَبَتِ الدَّلْوُ المَلْءَ فهو نَهْدُها، والمُناهَدَةُ في الحرب: المُناهِضةُ، وفي المحكم: المُناهَدةُ في الحرب أَنْ يَنْهَدَ بعض إِلى بعض، وهو في معنى نَهَضَ . والنَّهْداء من الرمل، الرَّابية.. ورجل نَهْدٌ: كريم يَنْهَضُ إِلى مَعالي الأُمور.. والجلد الخشن هو الأرض الجاسئة والنبات الجاف، ويدل على الاحتواء، إذ تصنع من جلود الحيوانات القرب والأجربة (ج جراب) والمزاود، وتغلف به التعاويذ والكتب.. والجلدة هي الطائفة (فلان من بني جلدتنا). الجماعة تحيط بالفرد كما يحيط الجلد بالجسم.

أتينا بهذه المعاني لنبين أن الجسد في ثقافتنا يستعير خصائصه من البيئة والأوضاع العشائرية والقبلية، التي كانت على عتبة التحضر، لا التمدن، حين جمعت اللغة وقعدت قواعدها، فالجسد غير منفصل عن العالم الذي يغمره، إنه يحبك وجوده من البوادي والواحات وما فيها من الأشجار والثمار والنبات والحيوان، ويخضع لنبض هذا العالم الممزوج بالجماعة. وإن استمرار البنى العشائرية والقبلية حتى يومنا لدليل على استمرار النظرة إلى الجسد. ولو مضينا قدما إلى معاني الغزو والحرب والتجارة ومعاني الجنس والمعاشرة لتبينت وضعية الجسد، على أنه بنية رمزية، بأكثر ما يمكن من الوضوح، وأن حقيقته الاجتماعية تطغى على حقيقته البيولوجية، وتنأى كثيراً عن وظائفه الفيزيولوجية وطبيعته الفسيولوجية (التشريحية)، وتنأى أكثر وأكثر عن ماهيته الإنسانية. وسوف يختلف الأمر إذا ما تقصينا وضعية الجسد في الفلسفة، فسيبدو الجسد في الدرك الأسفل مادةً طينيةً، هي مطرح الشهوات والغرائز واللذات أو الآلام العابرة، فهو من طبيعة الدنيا الدنية والزائلة، لا يسمو إلى شرف النفس والروح والعقل، إلا عند قلة نادرة، كأبي حيان التوحيدي وبعض المتصوفة.

الفلسفة العربية-الإسلامية تشطِّر الإنسان وتجزِّئه أجزاءً هي العقل والنفس والجسد، حتى العقل فاعل بغيره، لا بذاته، والنفس منفعلة بهذا الفعل، ولكنها أمارة بالسوء، لاتصالها بالجسد وغواياته.

أخيراً، لفتتنا في مقالة العظمة مقولات مضطربة وأحكام قطعية، نشير إلى بعضها: فقد ذهب العظمة إلى أن “القيان وبعض الجواري، وخصوصاً غاليات الثمن الفارهات منهن، كن قادرات على إقامة علاقات متكافئة فكرياً وجماعياً مع الرجل. ولكن علينا أن نتذكر دائماً القصور القانوني لوجودهن”. فهل انعكست الآية اليوم: تكافؤ قانوني، ودونية اجتماعية؟! فقد تجاهل العظمة الشرط العبدي لهؤلاء القيان والجواري، الذي لا ينفصل عن تدهور الشرط الإنساني، بصفته أبرز عوامل الانحطاط وأبرز معالمه؛ فأي تكافؤ فكري وجماعي بين المالك والمملوك، بين الشاري والسلعة؟ كما أن مفهوم الانفعال المنسوب إلى المرأة أو إلى الأنوثة، يبدو في السياق صفة سلبية، ما يشي بأن الفعل إيجابي (ذكورة) والانفعال سلبي (أنوثة)، مع أن الانفعال هو ما يهيئ إمكان الفعل، لا فعل بلا انفعال. ازدراء الانفعال وجه آخر لازدراء المرأة وازدراء الأنوثة. ومقولتا “الأنوثة المطلقة” و”الذكورة الصرفة”، غير دقيقتين وغير واقعيتين، بدليل إمكان تحول الأنثى إلى ذكر وبالعكس، على الأقل.

في سياق “الدعوة” إلى تحرر المرأة يرى العظمة أن “الصوت الرجولي أكبر وقعا وأكثر إقناعا للكافة”. نعتقد أن هذا الحكم جزافي، لم يجد له العظمة سنداً سوى “أن اعتقاداً ما زال سائداً يرى بأن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني”، وهو حكم يضمر أحكاماً جزافية أيضاً على الخياطة والسكرتارية والتعليم وروايات الحب وشعر نزار قباني. والأهم من هذا أن قضية حرية المرأة واستقلالها وجدارتها واستحقاقها لا تزال في إطار “الدعوة”، و”الصوت الرجولي” مجرد صوت رجولي. نعتقد أن قضية المرأة اليوم هي قضية النساء والرجال بالتساوي، قضية الخروج من الحكاية إلى التاريخ وابتكار الحياة.

الجنة المتخيَّلة مكان بلا زمان؛ عالم بلا روح، (تشبه، في هذا، جحيمنا الراهن، ويباسنا المعرفي والثقافي والأخلاقي، ونحن في عز “حيويتنا” وشبقنا)، والمرأة،التي أغوت آدم، وتسببت بسقوطه من الجنة، هي علة وجود الزمان، لولا تلك الغواية، وذلك السقوط، لما كان زمان الحكاية، ولما كانت الحكاية. فحين تكف السيطرة على المرأة عن كونها الطريق الوحيد المؤدي إلى الجنة، تنكسر دائرة الخرافة، وينفتح الزمان مرة أخرى، وتستأنف المرأة والرجل عمل الآلهة في الخلق، وتدخل مجتمعاتنا في التاريخ. حرية المرأة واستقلالها الكياني، في أوضاعنا، شرط لازم لحرية الرجل واستقلاله، شرط لازم لأنوثة معافاة وذكورة معافاة، وحياة تليق بكرامة الإنسان، وشرط لازم للتمتع بالحقوق المدنية: الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. والله أعلم.

[1] – دافيد لوبرتون، أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2 -1997، ص 6.

[2]- لا يتعارض هذا القول مع قولة إنغلز: “وحدة العالم في ماديته”، ولكن بشرط أن نعيد تعريف المادة في ضوء منجزات العلم الأحدث، وتفنيد التصورات الشيئية والكتلية، وإعادة تعريف الديالكتيك، على أنه منطق النمو التضميني، وإقامة الحد على التناقضات التعادمية، التي تنسب إلى الديالكتيك أيديولوجياً.

[3]- ليس هنالك اتفاق على أيهما أكثر شمولاً، النوع أم الجنس، وليس من معيار غير اصطلاحي لذلك.

[4]- راجع/ي، إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996، ص 25 وما بعدها.

[5]- ميليسيا هاينز، جنوسة الدماغ، ترجمة ليلى الموسوي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 333، يوليو 2008، ص 8 وما بعدها.

[6]- ميليسيا هاينز، المصدر السابق، ص 14 وما بعدها.

[7]- ميليسيا هاينز، المصدر السابق، 24.

[8]- سيغموند فرويد، ثلاثة مباحث في النظرية الجنسية، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1983، الهامش (9)، ص 92.

[9]- لوبروتون، ص11.

[10]- محي الدين بن عربي، فصوص الحكم.

مفكر من سوريا

المرأة هوس المخيال العربي الإسلامي/ أبو بكر العيادي

حديث المفكر السوري عزيز العظمة لم يفقد راهنيته، ولولا إشارة الأستاذ نوري الجراح إلى تاريخ إجرائه، أي منذ ربع قرن، لخلنا أن الرجل يدلي به الآن. ربع قرن من الزمان، لم يفلح خلاله العرب في تحقيق نهضتهم المنشودة للحاق بركب الحضارة، ولا في جعل الحلم الذي راودنا جميعا، حلمِ الوحدة العربية، واقعًا ملموسا. بل إنهم انجرّوا، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، إلى منزلق لا تلوح لانحداره نهاية. هو ارتداد على شتى الأصعدة، وانهيار حضاري شامل لعب في تكريسه ”الإسلام السياسي” الدور الأكبر، وتفرق العرب أشتاتا إلى شعوب وقبائل وجهات وعرقيات، وانتماءات عقدية وحزبية متصارعة، وتهاوى حلم الوحدة إلى الدرك الأسفل من الوجود التاريخي، وتصدرت المشهد حركات إسلامية رجعية استطاعت في ظرف وجيز أن تدمّر ما تحقق من إنجازات، وتقوّض ما تجسّد من مكتسبات، وتحوّل عقيدة التوحيد إلى فتنة، حتى في الأقطار التي كنّا نحسبها متماسكة الهوية، حداثية القوانين، علمانية تقريبا، تحلّ المرأة موقعا متميزا أشبه بنظيرتها في الغرب، عدا بعض الاستثناءات.

اكتشفنا بعد الثورة أن واقع تونس مثلا، كبلد حديث متفتح مسالم يسكنه شعب متعلم ونخب متميزة ومجتمع مدني نشيط وازن، ونساء حُزْن قوانين تضاهي، وفي بعض الأحيان تفوق، ما حققته المرأة في الغرب، لم يكن سوى صورة سياحية، تُعرض على الأجانب، وتدغدغ نرجسية التونسيين. ففي ظرف وجيز، انكشف المستور، واجتاحت الساحة عناصر لم يسبق للتونسيين أن رأوها حتى أيام الاستعمار، إذ نابت عن اللباس والشعارات وخطاب التسامح المعهود والإسلام المعتدل لشعب سنيّ مالكي أشعري، أزياء أفغانية ولحى إخوانية ورايات داعشية وخطاب سلفي تكفيري وجمعيات تدّعي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقابة أئمة تقاضي المبدعين.

خلال هذه السنوات القليلة، تألّب الإسلاميون، في شتى نِحلهم، على المرأة، فأنكروا عليها مكتسبات تفخر التونسية أنها الأكثر حداثة في العالم العربي الإسلامي، وسعوا إلى إلغاء مساواتها بالرجل لجعلها مكمّلا له، ثم استقدموا أكثر الدعاة تزمّتا ليشرّعوا أنماطا غريبة على المجتمع التونسي منذ الفتوحات الإسلامية الأولى، كختان البنات الذي عدّوه عملية تجميل، وتعدد الزوجات كحل للعنوسة وما قد ينجر عنها من انحراف نحو الرذيلة، ونكاح المتعة وجهاد النكاح، وكلاهما بغاء متستّر بالدين، فضلا عن الزواج العرفي الذي ألغي في فجر الاستقلال. وعمّ الضيق بالرأي الآخر، الذي خال التونسيون أنه رحل مع العهد البائد، وتوالى قذف من يخالف أهواءهم بالكفر والردة والإلحاد والزندقة، مع الدعوة من منابر المساجد التي احتلّوها بالقوة إلى هدر دماء كل خارج عن شرعهم، وملاحقة الفنانين وتدمير المقابر والزوايا والأضرحة الصوفية وحرق ما فيها من مصاحف. ورأينا خروج النساء محجّبات للمطالبة بجعل المرأة مكمّلة للرجل، وتظاهرهن مندّداتٍ باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) وهي معاهدة دولية تم اعتمادها في 18 ديسمبر 1979 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة للدفاع عن حقوق النساء في كل مكان.

وتساءل الملاحظون كيف حصل ذلك؟ كيف انخدع هذا المجتمع التونسي المتعلم المتسامح المعتدل، وهذه الشبيبة المثقفة اللامعة في شتى المجالات، وهذه الأحزاب التقدمية، وهذا المجتمع المدني بتقدمييه وجمعياته النسائية المناضلة، حتى يتفوّق عليه إخوان جهلة، ويفتك منهم السلطة متدينون دجالون لا خبرة لهم بتسيير أبسط إدارة، فما البال بتسيير دواليب الدولة؟ وكيف صارت المرأة المتعلمة، تقبل بما يسمّيه إتيان دولابواسي الرقّ الإرادي، وتتنازل عن حقوق ناضل رجال ونساء أفذاذ للحصول عليها، قبل أن تسجل بأحرف من ذهب في مجلّة الأحوال الشخصية منذ فجر الاستقلال؟ وكيف أمكن لأفكار رجعية ظلامية مستوردة أن تتجذر في بلاد سبقت الغرب من جهة إلغاء الرق وعتق العبيد (1846)، وحق المرأة في الإجهاض (1957)، وتميزت عن سائر المجتمعات العربية بإلغاء تعدد الزوجات (1957 أي قبل سنّ الدستور)، وأرست قوانين علمانية أعطت للمواطن ميزات ليست أقلها حرية الضمير؟

قد يرى بعضهم أن المجتمع التونسي قبل الثورة كان مغتربا خاضعا لإملاءات الغرب وأنماط عيشه في الثقافة والهندام والتشريعات، وألاّ تثريب إن أخذ التونسيون اليوم عن إخوانهم في المشرق (مصر والسعودية وقطر) فهمهم للدين وأزياءهم ونمط عيشهم: العمق الاستراتيجي عن الأولى، والفكر الوهابي عن الثانية، والأيديولوجيا الإخوانية مع الدعم المالي واللوجستي من الثالثة. ولكنّ المسألة أعمق بكثير. فقد ذهب بعض المحللين التونسيين إلى القول إن حداثتنا المزعومة تبين أنها مجرد قشرة، تقبع تحتها نواة صلبة لم يفلح المصلحون والحداثيون في تفكيكها أو تفتيتها، فهي في نظرهم حداثة سطحية لم تصمد أمام تأحُّد إسلاموي uniformisation كظاهرة من ظواهر العولمة، ومن ثم أمكن لعملية الزرع أن تثبت، وما انتخاب أغلب التونسيين والتونسيات لحركة النهضة إلا تعبيرٌ عن واقع لم ينجح العهد البائد في دولة الاستقلال والسيادة ولا في دولة العهد الجديد اقتلاع جذوره بالكامل، حتى بعد إلغاء التعليم الزيتوني القديم. أي أن بذور التأسلم كامنة كمون النار في الحجر، فلم تجد الحركات الإسلامية بتفرعاتها الوهابية والسلفية والجهادية صعوبة في خلق الظروف المواتية لعودة المكبوت.

وفي رأينا أن هذا هو ما عناه عزيز العظمة في قوله “إن هناك تمايزا تفاضليّا بين الأفكار السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات العربية وبين الواقع الاجتماعي المعيش والخطاب اليومي حول المرأة… ومن نتائج هذا التفاوت في وتائر التحول تفوّق نسبي لقطاع السياسة والفكر على قطاع المجتمع″. فالقوانين الإصلاحية التي ظهرت في بعض البلدان العربية فرضها الحاكم، ولكن لم تستفد من تطبيقها إلا النخب العارفة بالقوانين، وفي أقصى الحالات الطبقة المتعلمة من سكان المدن الكبرى، كما في المغرب، حيث طورت “المدونة” نظريا وضعية المرأة، ولكن تطبيقها ظل يواجه صعوبات في غياب تربية توعوية تشمل كل قطاعات المجتمع، وتوفّر سبل نجاحها، لأن القوانين وحدها لا تكفي. أو في تونس، حيث القوانين الواردة في مجلة الأحوال الشخصية في واد، والمرأة البائسة سواء في الأرياف، أو العاملة في بيوت الموسرين بالمدن الكبرى، المقيمة في الأحياء الشعبية الفقيرة، في واد آخر.

أولئك النسوة هنّ من صوّتن لإخوان النهضة، لا عن يقين ديني بل لوعود -كاذبة- بإخراجهن وأسرهن من حالة العوز والتهميش. أو في اليمن، حيث ظلت الإصلاحات الاجتماعية حبرا على ورق، وظل تزويج البنات القاصرات سائدا، لا سيما خارج العمران، ما يعني انقطاعهن عن التعليم في مرحلة مبكرة، وانسداد آفاقهن، وتبدد مطامحهن. فالفتاة في رأي الإسلاميين المتشددين، كما عبّر عن ذلك أحد نواب الشعب من حركة النهضة، لا بدّ أن تتزوج في سن لا يتجاوز الثالثة عشرة، لأن مآلها أن تكون ربة بيت، ولا فائدة حينئذ من مواصلة الدراسة. وهو ما لا يختلف فيه كثيرا عن رئيس حركته، راشد الغنوشي، الذي اعتبر المرأة في كتاباته مجرد كائن تناسلي، لا يصلح إلا للإنجاب.

ثمة حركات نسوية إسلامية، كاتحادات النساء الرسمية، تنتقد التقليد الديني البطريركي وقراءته المسيسة، مثلما تنتقد الأسس الاجتماعية والثقافية للمظالم والميز تجاه كل المحرومين والمهمشين، لا سيما النساء، ولكنها ظلت في عمومها نسويةَ دولة، أي يستغلها هذا النظام أو ذاك لغايات ومصالح سياسية بالدرجة الأولى، ولا تخدم بالتالي قضية السواد الأعظم من النساء اللاتي يعشن أوضاعا اجتماعية واقتصادية صعبة. فالمرأة التونسية في الجهات المنسية لا يعنيها أن تكون مساوية للرجل أو مكمّلة له، فهي تابعة، خاضعة، لا تملك لمصيرها حيلة إلا في السعي ليلَ نهار في الأعمال الفلاحية الشاقة، وجلب الماء والحطب من عيون ماء وأدغال بعيدة، كي تساعد زوجها على عيشة كفاف، لا تعلم مما يُسن من قوانين في البرلمان، وإن علمت لا ترعيه سمعها، لأن البطن الخاوي لا أذن له كما يقول المثل الفرنسي.

من السهل أن نردد مع المفكر السوري أن “سياق المواطنة هو الشرط الأساس لجعل شخصية المرأة العربية تخرج عن سياق معوقات المجتمعات العربية المتقادمة، وتدخل في سياق الحداثة”، ولكن أي مواطنة لنسوة لا يزلن يعشن في مناطق تفتقر لأبسط مرافق الحياة الكريمة، ويتنازلن عن كل شيء خوف التطليق، الذي ليس بعده غير ضياع أشبه بالموت؟ وأي مواطنة ونحن نشهد انهيار البنيان الحضاري والمجتمعي العربي في أكثر من بلد، من ليبيا واليمن إلى العراق وسوريا؟ وأيّ حداثة وأنظمتنا التعليمية على اختلافها لا تنشئ الفرد على المسؤولية بل على تفوق الرجال على النساء؟ وأيّ حرية والمرأة المسلمة، حتى المتعلمة، ترضى لنفسها بضرائر وجواري؟ ألم تقل أمينة أوردوغان، زوجة الرئيس التركي رجب طيب أوردوغان، في شهر آذار الماضي، إن “الحريم مدرسة حياة؟”.

من بين معوقات المجتمعات العربية المتقادمة، ركز العظمة على دور المرجعية الدينية في تكريس وضع متدنّ للمرأة العربية، وكيف أن النصوص الإسلامية قنّنت الدونية الدنيوية للمرأة. وفي رأينا أن الأديان كلها تشترك في اعتبار المرأة قاصرا، لا يحق لها ما يحق للرجل. وإذا كانت المسائل الشائكة في الإسلام تكاد تنحصر في الحجاب والميراث والإجهاض وتعدّد الزوجات والزواج المختلط وقوامة الرجل على المرأة، وإن كان الفقهاء منذ القدم قد تكسرت أسنانهم على صخرة تفسير آيتين أخريين عن جواز ضرب المرأة، ومِلك اليمين، فإن الديانات الأخرى ليست أفضل حالا. فقد ورد في رسائل بولس مثلا أن المرأة ينبغي أن تكون متواضعة، حيّية، خاضعة لزوجها خضوعَها للرب، محجبة عند أداء الصلاة، لا حق لها أن تتكلم في المجالس، وبإمكانها أن تكفّر عن خطيئة حوّاء إذا ما أصبحت أمًّا. أما الرجل فهو ربّ الأسرة، له سلطة تزويج ابنته أو الحفاظ عليها عذراء كامل حياتها. وليس للمرأة في التلمود كبير قيمة في ذاتها، فهي كما ورد في كتاب اليهود فضولية، مِهذارٌ، كسول، غيور، ميالة إلى السحر والعناية بمظهرها الخارجي. وهي تحت سلطة الأب ثم الزوج الذي يحق له تطليقها، ودورها يقتصر على البيت لتكون أمًّا وزوجة، فلا يحق لها أن تكون قاضية ولا شاهدة، ولا أن تتعلم إلا بمقدار. بل يقول صراحة إن الرجل من بني إسرائيل ينبغي أن يحمد الرب لكونه لم يخلقه امرأة. ويقول أيضا: سعيدٌ مَن ذُرّيتُه ذكور، وتعِسٌ من لم ينجب سوى البنات. كذلك هي في الديانة البوذية، فقد جاء في الجواهر الثلاث، كوصايا للملك الذي يريد تسيير مُلكه بحكمة، ألا شيءَ طاهرٌ في جسد المرأة، فهو مليء بالقاذورات ولا يمكن بالتالي أن يرغب في جسد قذر إلا الجاهل والأحمق والمتفسخ. أي أن المرأة، في كل الأديان، ينبغي أن تخضع لسلطة الرجل.

ولكن تلك الأديان قامت بمراجعات جذرية، وبما يطلق عليه بالإيطالية aggiornamento بمعنى التحديث والإصلاح ومواكبة التطور، وسنت تشريعات لا تلغي الدين ولكن تحله حيثما ينبغي أن يحل، أي للطقوس والعبادة، ولا تعتمده في سن القوانين لتسيير الدولة وتنظيم شؤون الحياة. وبذلك أمكن للمرأة في الغرب أن تحوز حريتها وحقوقها كحق الانتخاب والعمل والتصرف في جسدها كما تهوى، ليس للإنجاب وحده وإنما للمتعة أيضا. واعترف لها المجتمع بأنها ذات عقل قادر على التمييز والتأمل، والتفكير الذاتي، حتى وإن كان داخل جسد يثير الرغبة. واكتسبت حقها في اقتحام مختلف المجالات فضلا عن مواصلة إنجابها الأطفال وتربيتهم.

مثل هذا التحديث لا يزال في العالم العربي والإسلامي منذ أكثر من قرن بين تقدم محتشم، ونكوص احتدّ مع اندلاع الثورة الإيرانية، ثم بلغ ذروته مع ظهور دعاة الفضائيات، وانتشار خطاب سلفي راديكالي يرى في العودة إلى الأصول الأولى تأكيدا للهوية، وتأصيلا لمجتمع الصفاء والنقاء، وعادت قضية المرأة لتحتل جدلا عقيما لا ينتهي، وعادت حركات النكوص الاجتماعي وعلى رأسها حركات الإسلام السياسي لتجعل من المرأة ومن السيطرة عليها عنوان السوية الاجتماعية والصحة المجتمعية وعنوان الوفاء للتراث وللجماعة المتخيلة، على حدّ تعبير العظمة.

ومهما تعددت التأويلات والقراءات، فإن قضية المرأة لا تزال رهينة ثلاثة إرغامات، كما يقول المفكر الجزائري مالك شبل، هي الآيات القرآنية التي لا تخدم مصلحة المرأة، والفقه السلفي الذي يفرض قراءة رجعية لتلك الآيات، ومخيال الجارية الذي يوهم بتقديم تبرير تاريخي وأيديولوجي لفكرة دونية المرأة العربية الإسلامية ثقافيا.

لقد وقفت القراءات الحديثة على خلل جوهري في الفقه الإسلامي الكلاسيكي يتمثل في تهميشه طوال قرون البعدَ الإيثيقي اللازمني للقرآن، لصالح قراءة فقهية ظرفية تجاوزها الزمن، حتى أن المكاسب التحديثية للقرن العشرين، كحقوق المرأة، تراجعت بأثر عودة المكبوت بشكل خطير، وتحركِ السلفية بعدوانية تجنح من خلالها لحبس المرأة، وفصلها عن حقوقها الإنسانية الأساسية. وإذا كان بعض المفكرين، مثل المغربية أسماء المرابط، يرون ألاّ حل لمسألة الإرث والحجاب وتعدد الزوجات إلا بتفكيك القراءة الدغمائية والبطريركية التي تعطل كل الفكر الإسلامي، أي تفكيك الأرثودوكسية الإسلامية باستعمال منطقها نفسه؛ فإن آخرين، مثل التونسي يوسف الصديق، يرى وجوب تقسيم القرآن إلى سور مكية ذات محمل روحاني تنشر قيما إنسانية صالحة لكل زمان ومكان، وسور مدنية ذات مرجعية تاريخية لمرحلة السياسة والسلطة والتحالفات، يُكتفى باستعمالها في التلاوة. وبذلك يمكن تجاوز الآيات الخلافية، كالإرث وتعدّد الزوجات وقوامة الرجل على المرأة وما إلى ذلك، ولكن هذا مطمح طوباوي عسير المنال في شعوب تغلغل في أعماقها الوازع الديني منذ خمسة عشر قرنا.

مقاربة أخرى تجتهد في بيان وجوه الارتباط السببي بين وقائع التاريخ المعيشة وانسياب آثارها في الوعي وما تحت الوعي الجمعي، وفي الأبنية الثقافية حتى يفضي تراكمها إلى التفريط في المبادئ السامية، كما جاء في حديث أدلى به المفكر التونسي حمادي بن جاء بالله لإحدى الصحف العربية، والمبدأ هنا، كما يقول، هو رد “اللامعقول” الاجتماعي والسياسي إلى “المعقول” الديني المتعالي اللاهوتي أو الفلسفي. وهذا الضرب من المقاربة يفضي بطرق شتّى إلى تأثيم الحاضر وإدانة التاريخ لتبرئة الدين والحضّ على العودة إلى “منابعه الصافية”. وينتهي بالمجتهد إلى وضع الواعظ العاجز. ومن ثم فإن المحتكم إلى النصوص، كما يقول العظمة، هو رديف ضمني لهيمنة الإسلام السياسي. وفي رأينا أن الحل لا يكون إلا بإقرار العلمانية، التي غالبا ما تُفهم على أنها نفيٌ لوجود الله فيما هي تصورٌ لتنظيم السلطات العمومية. يقول المفكر التونسي رضا الشنوفي في كتابه “تونس الدين أو الدولة” إن “الفصل بين التيولوجيا والدولة ضمانة إجرائية ضد استبداد الأشخاص الطبيعيين”، (والإسلاميون بشتى فرقهم وتنظيماتهم مستبدون)، لأن “الخلط بين التيولوجيا والدولة يؤذي الدين فيَفقد روحانيتَه، ويؤذي الدولة فتفقد حيادَها”.

ولا نوافق ما ذهب إليه العظمة من تمثل العربي للمرأة كجسد مكتنز يفيض بالشحم واللحم، جاهز لإشباع نهم الرجل، فتصوّر المرأة المثال جسديا يختلف من عصر إلى عصر، ومن شاعر إلى شاعر، فإذا كان المخضرم كعب بن زهير يقول في قصيدته المعروفة بالبُردة:

هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً ** لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ

ثم جاراه قيس بن الملوح، من فجر الإسلام، حين أنشد:

فقلت لها مُنّـي عليّ بقبلةٍ**أداوي بها قلبي فقالت تغنُّـــــــــجا:

بُليتُ برِدْفٍ لستُ أستطيع حَملهُ**يُجاذب أعضائي إذا ما تَرجرجا

فإن المرأة تبدو ضامرة البطن دقيقة الخصر عند الجاهلي امرئ القيس في قوله:

مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفَاضَــةٍ**تَرائِبُهَا مصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَـلِ

وهي كذلك لدى بعض شعراء العصر العباسي كقول عبدالسلام بن زَغْبان الملقَّب بديكِ الجنّ:

ومَعْـدُولةٍ مَهما أمـــالَتْ إزارَها**فغُصْنٌ وأمّا قَــــــــدُّها فقضِيبُ

بل إن منهم من تَغزّل بِحِسانٍ سُود. سُئِلَ أبو حاتَم الْمَدَني: كيف رغِبْتُم في السواد؟ فقال: لو وجدْنا بيضاءَ لَسَوّدْناها، وأنشَد:

يكونُ الْخــــــالُ في خـدٍّ قبيحٍ**فيَكْسُوهُ الْمَلاحَةَ والجَمالاَ

فكيفَ يُلامُ ذو عِشْقٍ على مَنْ**يَراها كُلَّها في الْخَدِّ خـالا

ولكنهم يلتقون في معظمهم حول الفحولة العربية المزعومة، وهيمنة الرجل على المرأة، يستوي في ذلك شاعر من العصر الأموي هو الفرزدق في قوله:

ثَلاثٌ واثنتان فَهُنَّ خَمْسٌ**وَسادِسةٌ تميل إلى شِمامِي

دُفِعْنَ إليّ لم يَطمثهنّ قَبلي**وهنَّ أَصحُّ من بيض النَّعامِ

فَبِتْنَ بِجانِـــــبِيَّ مَصرَّعاتٍ**وبتُّ أَفضُّ أَغلاَقَ الخِتاَمِ

كأَنّ مَغالِقَ الرّمّـــان فيه**وَجمرَ غضًى قَعدْن عليه حَامِ

وشاعر من العصر الحديث هو نزار قباني في قوله:

ليس لك زمانٌ حقيقيٌّ خارج لهفتي

أنا زمانُك

ليس لك أبعادٌ واضحة

خارجَ امتدادِ ذراعي

أنا أبعادُك كلُّها.

ثم إن العرب في تمثلهم لجسد المرأة لا يختلفون عن سائر البشر، وحسبنا أن نتأمل مفاضلة الشعوب الأوروبية لهذه السمة أو تلك عبر تاريخها الفني. ففي العصر الوسيط كانت المرأة المثال حورية ذات كتفين عريضتين ونهدين صغيرين، متينين متباعدين، وخصر ضامر مع ردفين حسيرين وبطن قليل البروز، ثم صارت في عهد كاترين دوميدسيس لحيمة شاحبة السحنة ذهبية الشعر. وفي عصر النهضة، كما في لوحات بوتّيتشيلّي وروبانس، تحولت إلى ما يشبه جمالا من المرمر، حيث صلابة الساقين والفخذين واتساع الحوض وثقل النهدين وبياض البشرة. وفي القرن الكلاسيكي، أي القرن السابع عشر، صارت البشرة اللبنية والصدر الوافر والذراعين الممتلئتين مع خصر تجهد النساء في شدّه بمُخصّر رمزا للجمال. وفي عصر الأنوار عاد تمثل المرأة إلى شكل أقرب إلى الطبيعي، أي حوض أعرض من الكتفين مع تغطية الرأس ببرّوكة. بعد الثورة الفرنسية كان المثال مشخصا في لوحة دولاكروا “الحرية وهي تقود الشعب” حيث الحوض الخصب، والثدي الممتلئ، والذراعان القويتان. ولم يظهر الشغف بالجسد المشبق إلا مع ظهور السينما ونجومها، حيث بات التشبه بهن هوسا اجتاح العالم. ولعل الصورة الغالبة في آداب الأمم حتى النصف الأول من القرن العشرين، حتى المتقدمة منها، مزدوجة: شطرها الأول ميال إلى القوة والمتانة للإنجاب والمساعدة في الأعمال الفلاحية، ويُشترط في من ستكون زوجة؛ والشطر الثاني هيَفُ قدٍّ ورشاقة ومشاقة تختص بها العشيقة، يفعل معها الرجل ما لا يجوز له فعله أخلاقيا مع زوجته. على غرار ثنائية الحرائر والجواري عند العرب.

ومن التعسف، بدعوى الانتصار للمرأة، أن نزعم أن صورتها ثابتة، لا من جهة الجسد ولا من جهة السلوك. فلئن كانت وقائع التاريخ تزخر بسير نساء عظيمات خالدات، فإنها تطفح أيضا بضديداتها الشريرات المتواطئات الساعيات إلى التخريب. تماما كفئات من الرجال، لا تختص النساء بالسوء وحدهن، وتلك سنة الله في خلقه. ولكن الفرق بيننا، نحن العرب، وبين الشعوب الأخرى أننا لا نبرح ثنائية مانوية تنزّل المرأة في الناحية الأسوأ، لتلقى على عاتقها كل الذنوب، تعنتا وجهالة، وترمى بالظنون كلما غادرت الصورة التي رسمها لها المجتمع البطريركي المترهل، حتى تظل مقموعة فعليا ورمزيا، ولا مجال للخروج من هذه المطلقية إلا بالتوعية، ومقارعة الدجل الديني، فمقاومة الجهل لا تكون إلا بالعلم، ومقاومة الفكر الراديكالي المنغلق لا تكون إلا بتكوين الفكر النقدي، ومقاومة انتشار ثقافة التحريم التي تروجها الفضائيات والكتب الصُّفر لا تكون إلا بنشر ثقافة الحرية.

كاتب من تونس

في ‘الأنوثة المقموعة’ عند عزيز العظمة/ عامر عبد زيد

إعادة قراءة نص مرّت عليه حقبة من الزمن تصل إلى قرابة ربع قرن كما يظهر في شعار الاستكتاب، أمر أجده علامة مهمة على صعيد المشروع أي الاستكتاب وعلى صعيد المنهج. على الصعيد الأول إنه مشروع يقارب واقعنا بين ما قيل وما هو قائم مقاربة تبين نجاعة الخطاب الثقافي العربي من عدمه، أي تبين بجهد تحقيبي أن كثيراً من الإشكالات الثقافية والاجتماعية كان للثقافة العربيّة دورها السبّاق بها بالمقارنة مع نظيراتها من الثقافات.

إلا أنها لم تظهر أثراً محموداً على الواقع بالمقارنة مع غيرها من المجتمعات، فالقراءة بهذا الشكل تبين أمرين سبق ثقافتنا لغيرها في طرح ومناقشة أمور مهمة كان لها السبق على غيرها من الثقافات، إلا أنها لم يكن لها التأثير نفسه بالمقارنة مع غيرها من الثقافات والمجتمعات مما يبين عدم نجاعة الثقافة العربية من حيث التأثير والقدرة على إحداث المغايرة الحقيقية وكان المجتمع العربي يعاني من استفحال التخلف وتأبيده له، وهنا تكمن أهمية الاستكتاب فهو يقدم إعادة قراءة للمشاريع الثقافية وقياس أثرها من عدمه في الواقع المجتمعي وهذا جهد محمود وسباق.

أما الأمر الثاني فإن قراءة المشاريع الثقافية السابقة ونقدها يعد من الأمور المنهجيّة والحيويّة وظاهرة صحيّة من الناحية الثقافيّة، فبدلا من أن تكون ثقافتنا مجرد ترديد للثقافات الأُخرى تمر بمظاهر تقليد المشاكل والأجواء الثقافية التي لم تعشها أصلا وتترك الرهانات الحيويّة داخل الثقافة العربية وبهذا المشروع النقدي يتم تحقيق المراكمة والقراءة لما تم طرحه من مشاريع تحقق تقويما وتمثل استيعابا وإعادة إنتاج نقدي يحقق التقويم وإعادة طرح لمشاكل بعد فحص الآليات والمنهج وتقويم عدم النجاح أو تحليل إمكانيات النجاح من حيث راهنية المشكلة وحضورها الطيفي في الواقع العربي.

انطلاقا من الأمرين معا أجد أني أقف بإزاء مشروع ثقافي قدّمه مثقف كان له مشروعه الذي يشكل إضافة على صعيد المنهج والرؤية، فهو منفتح على المتغيرات الثقافيّة المعاصرة من ناحية ومشتبك بالواقع ومشاكله من ناحية ثانية أي أنه مطلع على المتغيرات العالمية بكل حداثتها وعلى الواقع بكل محليته مع إدراك المؤثرات الثقافية للماضي واشتباكه مع الحاضر والقوى الاجتماعية الحاضرة التي تقدم مقاربات مختلفة انطلاقا من مصالحها؛ وإن كانت توظف الماضي أو الحداثة من زاوية براغماتية طبقيّة من ناحية ثانية.

وهذا يتطلب منا أن نقدم تعريفاً للمثقف ورهاناته الثقافية والاجتماعية أولاً ومنها الرهان الحاضر في مقالة موضوعها المقاربة النقدية: أولاً من هو؟ ثانياً ما هو الرهان الذي حضر بقوة هنا في هذا المقال؟

أما على صعيد السؤال الأول الذي هو مقاربة منهجية لما هو علم من أعلام الثقافة العربية كان حاضراً بشكل بارز في الواقع الثقافي والأكاديمي، فإن عزيز العظمة هو كاتب ومفكّر وباحث سوري ولد في دمشق عام 1947، والتحق بمدرسة برمانا العالية في لبنان وهو في الثامنة من عمره، ودرس التاريخ والفلسفة في جامعة بيروت قبل أن يلتحق بجامعة توبنغن الألمانيّة إذ تحصّل على درجة الماجستير في الفلسفة تحديداً في الدراسات الإسلاميّة والعلوم السياسيّة. وواصل تعليمه بجامعة أكسفورد التي تخرّج منها بنيله شهادة الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف ألبرت حوراني وكان موضوع رسالته “ابن خلدون في الدراسات الحديثة”. (انظر: موقع مؤمنون بلا حدود).

وقد تناول العظمة في مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة شخصيّات ومشاكل لها أثرها في الواقع العربي ومن هذه المؤلفات التي يمكن أن يكون لها أثر في -دراسته هنا- وهي من ضمن كتبه: (ابن تيمية، الماوردي، محمد بن عبدالوهاب، ابن خلدون وتاريخيته، أبوبكر الرازي، المسعودي، التراث بين السلطان والتاريخ، الإسلام والحداثة، العلمانية في الفكر العربي الحديث، العرب والبرابرة، إفصاح الاستشراق، المستقبل العربي)، والشعوبية ضد الديمقراطية (عن كتاب ديمقراطية من دون ديمقراطيين-سياسات الانفتاح في العالم العربي الإسلامي).

درّس في جامعات بيروت والكويت انطلاقاً من سنة 1985 ودرّس العلوم الإسلاميّة في جامعة الشارقة فضلاً عن تدريسه لمادة التاريخ المقارن في جامعة بودابست. ودعي أستاذا زائرا في جامعات ييل وكولومبيا وكاليفورنيا وجورج تاون. ودرّس وحاضر في العديد من الجامعات والمؤسسات العربيّة والأجنبيّة. وعمل في هيئات تحرير عدد من المجلات العلميّة الأكاديميّة. وشغل منصب أستاذ كرسي الحضارات الإسلاميّة في جامعة إكستر ببريطانيا. وترأّس المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان/فرع بريطانيا. (المصدر السابق.)

هذه المؤلفات تنطلق من مقاربة حداثية في قراءة الواقع العربي ومشاكله الثقافية بالانفتاح على الآخر سواء كان التراث وحاكميّة النص أم الآخر وهو الغرب وتمركزاته.

ثانياً: ما هو الرهان الذي حضر بقوة هنا في هذا المقال؟ لقد تمركز المقال على نقد التمركز الذكوري في الثقافة العربية قديمها وحديثها في تهميشها دور المرأة، بكل ما يتعلق بحق المرأة ونقد التمثيل القائم ضدها ثقافيا واجتماعيا، القائم على نفيها وإخفاء صوتها، وقد يكون الملفوظ المشترك بين الرجل والمرأة هو الحرية والكرامة في مجتمع حرّ، بعيدا عن كل تهميش وإقصاء هذه هي أطروحته المركزية في هذا المقال.

العنوان الفرعي يكثف كل المقال “العفة للرجل والشبق للمرأة، السيطرة على المرأة عنوان السويّة الاجتماعية والوفاء للتراث والجماعة المتخيلة“. يقول بارت إن العنوان هو ثريا النص، بمعنى أنه يكثِف النص، وهذا العنوان الفرعي هو بمثابة تكثيف لمحاور المقال الذي يدور حول ثنائيّة نمطيّة تخيليّة إقصائيّة، الرجل/العفة تقابلها ثنائيّة سلبيّة المرأة/الشبق، هذه المقابلة تمنح الرجل وثقافته الذكورية دورا يتمثل في المركز وتجعله يتحلى بالعفة فيما تجعل من المرأة بعدا إيروسيا رهينة إلى الشبق الجنسي. والهدف المرجو من هذا التنميط التخيلي ارتهان إلى الأحكام التراثيّة من ناحية ومن ناحية أخرى جعل كل هذا يصب في الحفاظ على الهويّة للجماعة المتخيلة تلك الجماعة التي يعرفها بندكت أندرسن، “الأمة هي جماعة سياسية متخيلة، حيث يشتمل التخيل أنها محددة وسيدة أصلا” (الجماعات المتخيلة، ص63).

فهذا الخطاب التخيلي للجماعة منح المرأة دوراً نمطياً إقصائياً تجلى في ثلاثة خطابات هي الخطاب الأدبي والفقهي واليومي، وقد نزع عن المرأة إنسانيتها في صورها الخطاب الأدبي بوصفها “الأنثى المتصورة والمتخيلة، مخلوق برأسين: ملاك وأفعى، لا واسطة أو صلة بينهما. أو حورية وأفعى، هناك الأنثى الأم ضامن الاستقرار النفسي والاجتماعي ضامن مفهوم الجماعة عبر مفهوم الشرف وإعادة إنتاج الجماعة القيمية، ونرى طبعاً، أن الجماعة إنما هي جماعة الذكور الأشداء الأبطال، يضمن شرفها مخلوق ناقص، هو المرأة!” وهو يرى أن هذا الخطاب المتخيل بهذه الصور النمطية منساب في “في كل زوايا الخطاب العربي العالم والجاهل على حد سواء”.

أما على مستوى المخيال الشعبي العربي في الخطاب الشفاهي نراه يصور المرأة تصويراً غير إنساني بل هو مجرد موضوع للرغبة والإثارة والشبق “وهي ذات ردفين يجتمعان في عجيزة فخمة، لعل أبلغ من وصفها هو نجيب محفوظ في معرض كلامه عن الذوق النسائي للسيد أحمد عبدالجواد”.

يقدم عزيز العظمة تفسيراً عن مسوغات إنتاج تلك الصورة النمطية حول المرأة بوصفه “تصوراً قائماً على إتاحة المجال لخيال الرجل من دون مساءلة. وفي الأحيان القليلة التي حصلت فيها مساءلة على نحو جدي، لم تنته على خير، بل سجّل خطابها وكأنه هجاء للذات، كما حصل في بعض الحكايات البغدادية التي يروي لنا الجاحظ بعضاً منها، كحكاية الجارية التي سلكت مع غلام سلوك اللائط بالملاط به، شهّرت في الأسواق على ظهر جمل، وإن كانت لم تحجم عن الاستمرار في الاعتراض وفي التنديد، وهي مشهّر بها”.

أما على المستوى الفقهي “وهذا، طبعا، أمر كان يجري تبعا لطبيعة المجتمعات العربية الإسلامية القديمة التي لا تتمايز عن غيرها من المجتمعات الوسيطية، بل هي تشترك معها بكونها قائمة على تراتبية اجتماعية معلومة، عبّر عنها الفقه الإسلامي في فصله للقابلية القانونية للأفراد بين الحرّ والعبد والمرأة والرجل، والمسلم والذمي والمستأمن.. إلخ”.

والنتيجة التي يخرج بها “أن الخطاب الأدبي والفقهي واليومي عن المرأة نزع عنها إنسانيتها -أي فاعليتها وشخصيتها وكيانها الوضعي- واختصرها في أنوثتها المفهومة على كونها انفعالا، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي”.

وهذا الأحكام تشهد اليوم تحولا مهما إذ جاء التصور المعاصر وقد شكّل قطيعة مع الفهم القديم بقوله “ولكنّ التاريخ قد منّ علينا في القرنين الأخيرين بتصور مغاير يقوم على اعتبار المرأة بوصفها مواطنة، أي من دون تمييز قانوني بينها وبين الرجل، في وضع ليس هناك فيه تفريق بين الحرّ والعبد، والمؤمن والملحد”. إن تلك المقاربة النقدية تقوم على ثوابت أساسيّة يمكن إجمالها بالآتي:

الإسلام والمرأة

أولا “الإسلام والمرأة“: في هذه المقاربة يؤكد “الإسلام على شاكلة معظم الأديان، خصوصا التوحيديّة منها، يذكر السلطة الإلهية بالسليقة، ويجعل منها سلطة أبوية. وثمة دور بالغ الأهمية، في بعض الأحيان، لشخصيات مقدّسة نسائية كالعذراء مريم. ولكننا نرى أن الدور الذي تؤديه العذراء ليس دورها المقرّر والفعال، بل هو دور الشفيع″. فهو يقارب الدين مقاربة تاريخية ويرى أنه “يقنّن الدونية الدنيوية للمرأة، وذلك كدأب كل المجتمعات السابقة على الحداثة التي تجعل من الصفة القانونية للناس صفة تفاضلية. أي أن هناك حكماً للعبد، وقانوناً للحر، وحكماً للمرأة وقانوناً للرجل وحكماً للذمي وحكماً للمسلم، إن لم يكن في كل الأمور ففي بعضها وبعض إلهام منها (الزواج، الشهادة، الميراث)”. وبالآتي فهو يعترض على أي مقاربة تتجاوز تاريخية النص ويقول “فإنني أعترض على كتابات بعض التقدميات العربيات ممن يحاولن أن يضارعن الخطاب الإسلامي حول المرأة بخطاب ذي منطوق تقدمي”.

شرف الرجولة

ثانيا “شرف الرجولة“: في مقاربته هنا يفصل بين استنارة عصر النهضة والقراءة الإسلامية فيقول “منذ أيام محمد رشيد رضا (بعد انقضاء فترة استنارته وتتلمذه على محمد عبده) جعل الإسلاميون من قضية المرأة المسألة المحورية لإدارة الصراع الاجتماعي والفكري، فأصبحت قضيّة المرأة وحقوقها وتحرّرها الاجتماعي والفكري والسياسي والجسدي كناية -وأعني كناية بأكثر المعاني صرامة- عن مجمل المجالات الأخرى في الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. فباستشارة قضية المرأة يصار إلى استدعاء جملة أوسع كثيرا من القضايا الخلافية في المجتمعات العربية، وعلى رأسها مرجعيّة السلوك الاجتماعي والسياسي”.

أنوثة وذكورة

ثالثا “أنوثة وذكورة “: في هذه المقاربة نجده يؤكد على إنه لا يعتقد: أن ثقافتنا العربية المعاصرة بلورت خطاباً حول الأنوثة. هناك صوت أنثوي، وهناك خطابات كثيرة ذكرت، وأخرى انثنت…”، وهو هنا يركز على التمثيل الذي قدّمه الغرب عن الآخر بوصفه صوت أنثويا كما تجلّت تلك الصورة في النصوص “الكولونيالية الأوروبية التي تنتمي إلى القرن التاسع عشر نرى فيها تذكيراً بالذات الكولونيالية القاهرة الفعالة، وتأنيثاً أو تخنيثاً للذوات المستعمرة والمقهورة والمفعول بها”.

إلا أنه يؤكد على إن الخطابات العربية الاجتماعية التي يجب أن تنشغل بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق الاجتماعية التي تتجاوز الجنس بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق من دون استثناءات وتأكيده هنا على ضرورة أن تكون الديمقراطية “أن تبتدئ في الخليّة الاجتماعية الأساسية التي هي الأسرة.. وهذه الأخيرة على أهميتها وفائدتها في مجال التوعية والإعلان عن وقائع ونتائج الدونية الاجتماعية للمرأة، وصفاقة وحتى همجية العلاقات الاجتماعية البطريركية”.

ريادة الرجل

رابعاً “ريادة الرجل خطاب تحرر المرأة“: هناك دور فعال للرجل في تحرير المرأة والمطالبة بحقوقها، إلا أن الواقع الاجتماعي أقام تصوراً للمرأة وما يمكن أن تؤديه من أدوار اجتماعية أو تمارسه من مهن، إذ يرى الباحث العظمة “أن للمرأة في المجتمع حيزات معينة كالقيام على البيت والخياطة والسكرتارية والتدريس (الابتدائي خصوصا) وكتابة روايات الحب وتذوق شعر نزار قباني. ونرى تلك القناعة السلوكية مترجمة في سياسات المؤسسات والاتحادات الرسمية للمرأة في الدول العربية المختلفة، ومنها الدول اللادينية، حيث تقتصر فيها برامج التأهيل المهني على حرف كالخياطة والتطريز والسكرتارية، وشيء من التمريض، وما أشبه من الحرف “اللائقة” بالسيدات”.

الخطاب التحرري

خامساً “الخطاب التحرري النسوي”: نجده هنا يقارب بين الحركات النسوية بين الغرب وعالمنا العربي ويدرك طبيعة الرهان النسوي في الغرب ومواضعاته ونقاط القوة فيه ونقاط الضعف، فهي تبقى نقاطا ترتبط بالإشكالية الغربية التي تسم تلك الحركات النسوية وبحسب توصيفه لها بالرادكالية وعلى الرغم من كل هذا فهي بنظره “مازال قطاعا هامشيا” رغم مؤسساته في إطار ما يدعى في الولايات المتحدة بـ”التعددية الثقافية”، فيصار إلى اعتبار النسوية وكأنّها شأن مضارع ثقافيا للوحدات الإثنية المختلفة، أو الفرق الدينية وبالآتي فهي “بمثابة التأثير لا في الحياة اليومية، بل عن طريق مقايضة الامتيازات والحقوق، كما تقايض بها جماعات الضغط على أساس من المحاصصة المؤسساتيّة، وليس على أساس من الاندماج في نسيج المجتمع″.

أما حالها في عالمنا العربي فيبدو أكثر ضعفاً “فما زلنا نعاني من درجة عالية من التخلف الاجتماعي والمؤسساتي، مما لم يسمح، حتى الآن، بتبلور جماعات ضغط فعليّة، ناهيك عن جماعات الضغط التي تستند على اعتبارات نسوية، وبالآتي فإذا كانت صورة المرأة في الغرب هي نظير صورة الآخر… فإن المرأة العربية هي آخر الآخر”؛ فإنه يجعل من إصلاح حال المرأة خطوة مهمة من أجل تقويم الحال من “مقاومة لعمليات السلب والسيطرة الأجنبيتين يجب أن يستندا على نهوض اجتماعي شامل تشكل قضية المرأة ركناً أساسيا فيه”.

‌اللغة والجنس

سادساً “‌اللغة والجنس“: إذا كانت اللغة تحتل مكانة مهمة؛ نظراً إلى كونها تمثل الخزين اللاشعوري للعقل العربي وهي بالآتي تبين نقاط الضعف والعجز التي تعاني منها الثقافة العربية بقوله “أعتقد أن كل اللغات تساوق تطور (أو نكوص) حركة المجتمع. وأتكلم، طبعاً، حول حركة المجتمع على الآماد الطويلة. لا أعتقد -إجابة عن سؤالك- أن أيّ لغة قادرة على مقاومة صياغة الخطاب العلمي بها، إن كان هذا الخطاب قد تأصّل في مؤسسات الفكر التي تستعمل هذه اللغة.. لذلك أرى ما يحدث في الولايات المتحدة شأناً مضحكاً عندما يصار إلى سن قوانين تتعلق بنزع صفة التأنيث أو التذكير عن بعض العبارات، مثل رئيس الجلسة أي تحويل (CHAIR WOMAN) إلى (CHAIR PERSON) ولا أرى في ذلك إلا نوعاً من القسر غير الطبيعي للغة”.

وينتقد بعض الخطابات النسوية بالقول “إن سمة تكاد تغلب على هذا الخطاب النسوي هي سمة طهرانية غير تحررية قائمة على اتقاء الرجل، سمة تقدم نقداً أخلاقياً للرجل بوصفه منحطاً بالسليقة، هو خطاب ذم للرجل ومساجلة له وهو خطاب يشبه ما كان متداولاً في الأوساط الأخلاقية البورجوازية المحافظة في أوروبا وأميركا (البروتستانتينية على وجه الخصوص) منذ أكثر من نصف قرن. بل نرى في هذا الخطاب تشديداً على عفة المرأة وغياب هذه العفة عند الرجل، وكأننا بموازاة الخطاب الوسيط الذي يعزو العفة للرجل والشبق المنحل للمرأة”.

خطاب الجسد

سابعا “خطاب الجسد“: يرصد في مقاربته النقديّة وجوها ومنها الخطاب الفقهي “الذي يقنن علاقات الأعضاء المختلفة بما عداها من الجسد”. وهذا التقنين ينتمي إلى الآليات نفسها التي رصدها العظمة في الخطاب الفقهي إلى جانب الأدبي فهو خطاب حكائي تهييجي يتناول علاقة أعضاء جسد بأعضاء جسد آخر. إلى جانب الخطاب الفقهي فهو “بالغ السعة في هذا المضمار. ولكن الجسد كوحدة متكاملة، ما كان موضوعا لخطاب متكامل، ولو كان كلّ من أعضاء هذا الجسد وأطرافه ومواضعه وحيّزاته مواضيع الخطاب لكان خطاباً فقهياً أو خطاباً بصاصاً.

بذلك يقتطع الجسد إلى مناطق ويقنن إما عن طريق مفاهيم فقهية، أو عن طريق مناطق غير مترابطة للرؤية وللفعل (مثال ذلك ما أسلفته حول نموذج المرأة الجميلة الشهية في التراث، ووصف تسمية أعضاء المرأة الجنسية استنادا إما إلى شكلها أو حجمها، أو الصوت الذي تصدره عندما تخضع لعمليات شتى). إذ يستثني هذا الخطاب مفهوم اللذة بالمعنى الفعلي للعنوان؛ لأن اللذة يستعاض عنها في هذا الخطاب بمراقبة الممارسة تامة السيطرة على الجسد المتخيل للآخر. ونحن نرى بذلك كيف يرتبط هذا التصور البلاستيكي البحت للجسد بمفاهيم الجمال التي سبق وتكلّمت عليها”.

والنتيجة أن هذه الخطابات تنتمي إلى التوجهات نفسها التي تتعامل مع المرأة كمتعة أو غواية لا كونها إنسانة لها سمات مساوية للرجل بل كموضوع للرغبة الذكورية وهو ينقل هذا في باب الرغبة حتى في العالم الآخر فيقول “فالرجال في الجنة لا يرغبون ولا يرتوون. بل إنهم يراقبون أنفسهم، فاعلين في موضوعات للفعل، هي تلك الأصنام المصنوعة من المسك والعنبر ذات النهود الكاعبة والأرداف الضخمة التي تسمى بـ”الحوريات”.

نجد أنه كان ينتمي في مقاربته النقدية إلى آخر الأطروحات المعاصرة والتي تتعامل مع حقوق المرأة بوصفها إنسانة ومواطنة مساوية للرجل في الحقوق والقدرات وليست بمجرد موضوع رغبة.

كاتب من العراق

المرأة العراقية ضحية منسية في مجتمع تحكمه الطائفية/ يمينة حمدي

حمل ومشقة في أرذل العمر

علقت المرأة العراقية على إثر نهاية عهد الرئيس الراحل صدام حسين الكثير من الآمال في أن تكون من أكبر المستفيدين، إلا أنها كانت من أكبر الخاسرين بعد أن سادت الفوضى السياسية وأصبحت للميليشيات الطائفية اليد الطولى في البلاد، وبرزت التنظيمات الإرهابية في مناطق متفرقة من العراق.

ورغم أن العراق يملك حزمة من التشريعات والآليات والمؤسسات الوطنية المعنية بالمرأة كوزارة الدولة لشؤون المرأة ودائرة الرعاية الاجتماعية للمرأة وقسم المرأة الموجود في كل وزارات الدولة ومؤسساتها وقسم الرصد في وزارة حقوق الإنسان ولجنة المرأة والأسرة في مجلس النواب العراقي ولجان المرأة في كل مجالس المحافظات، إلا أن التوجّه السياسي والعقائدي والعشائري، فضلا عن التخلف الاجتماعي الذي ساد في البلاد بعد صعود الأحزاب الدينية إلى الحكم، تعدّى على حقوق النساء التي كفلها لهنّ الدستور.

وتعاني النساء في العراق من التهميش والأمية والبطالة، إذ أصبحت نسبة الأميات أكثر من 50 بالمئة، بعد أن كانت نسبة المتعلمات 90 بالمئة خلال خمسينات القرن الماضي، فيما لا تتجاوز مشاركة العراقيات في سوق العمل الـ14.5 بالمئة حاليا.

وسجلت منظمات حقوقية انتهاكات عديدة لحقوق المرأة وبأشكال مختلفة في العراق، حيث تتعرض أكثر من 46 بالمئة من النساء المتزوجات بين سن 15 و54 عاما للعنف وبكافة أشكاله.

ووقعت أبشع أنواع العنف على المرأة العراقية في الآونة الأخيرة وخاصة في ظل تمدد التنظيمات الدينية المتطرفة وفي مقدمتها تنظيم داعش الذي أمعن في إلحاق الأذى والذل بالنساء الإيزيديات في الموصل وسنجار، وقام بسبيهن واغتصابهن والمتاجرة بهن.

وبينت بعثة الأمم المتحدة في العراق أن نحو 1.2 مليون امرأة عراقية قد شرّدن من منازلهن بسبب الخوف من العنف وانتهاكات حقوق الإنسان والتهديدات بالقتل.

وتتزايد أعداد النساء بلا معيل بسبب ترمل الكثيرات نتيجة للحروب وعمليات القتل على الهوية، وأيضا جراء تفاقم عمليات الطلاق بشكل كبير لم يشهده العراق على مدى تاريخه المعاصر، حيث كشفت الإحصاءات الصادرة عن السلطة القضائية الاتحادية العراقية أن حوالي 53182 حالة طلاق مقابل 196895 حالة زواج في العام 2016، ويمكن أن يكون الرقم أعلى من المعلن لأن بعض حالات الزواج غير الشرعي لا يتم تسجيلها في المحاكم لعدم بلوغ الشابات المتزوجات السن القانونية.

بان الجميلي: النساء العراقيات مزيج من الألم والحزن لكنهن سيبقين يافعات وشامخات كبغداد

ولا تحصل إلا نسبة قليله من النساء اللاتي ليس لهن معيل سوى على معونات مالية بسيطة من الحكومة، فيما يعيش أغلبهن في ظل دوامة من الفقر واليأس، وتتعرض أرواحهن يوميا للخطر وتهدر كرامتهن باستمرار. وينتقل وضع النساء العراقيات يوما بعد يوم من سيء إلى أسوأ في بلدهن الذي تصدر المركز الثاني في قائمة أسوأ البلدان العربية التي يمكن أن تعيش فيها المرأة.

ورغم ظهور الكثير من النساء العراقيات في الواجهات السياسية واحتلالهن 25.2 بالمئة من مقاعد البرلمان ومجالس المحافظات إلا أن المحاصصة الحزبية وسطوة الأحزاب الدينية حالت دون حدوث أيّ تغيير في حياة المرأة الفقيرة والمطلقة والأرملة وزوجة المفقود وأمّ اليتيم.

معاناة في صمت

صحيفة “العرب” تسلّط الضوء على بعض القصص التي تعكس حجم الإحباط الذي تعانيه المرأة العراقية والضائقة المالية والمشاكل الاجتماعية التي تعيشها جراء المصائب اليومية التي تواجهها.

وتكاد تكون قصة الإعلامية صباح عباس الدليمي مرآة تعكس ما آلت إليه أوضاع المرأة العراقية في زمن يرفع فيه العالم قانون حقوق الإنسان على منصاته الدولية.

عباس التي كان صوتها يصدح على موجات الأثير في إذاعة صوت الجماهير العراقية ورافقت مستمعيها منذ سنة 1974 وشاركتهم الأوقات الرائقة والعصيبة لأكثر من ربع قرن ومثلت مصدرا مهما لمعارفهم ومعلوماتهم ترقد اليوم على فراش المرض وتعيش ظروفا اجتماعية صعبة ولا تجد من يساعدها على استعادة عافيتها.

تقول عباس لـ”العرب”، “أرقد على فراش المرض منذ حوالي 4 أشهر بسبب كسر في مفصل الحوض، ولا طاقة لي على تحمّل تكاليف العملية الباهظة جدا، وقد ناشدت وزارة الصحة العراقية وعدة جهات مسؤولة ولكنّي لم أجد من يأخذ بيدي ويساعدني على إجراء العملية لأتمكن من العودة إلى سالف نشاطي” . وأضافت “زوجي توفي منذ 11 عاما، ولا مدخول لي غير راتبي التقاعدي ومقداره 350 ألف دينار عراقي في الشهر، وأعيل منه ابنتي المريضة وأبناءها الأربعة الذين تركهم والدهم في كفالتي وسافر”.

وأوضحت عباس “يجب عليّ تسديد 750 ألف دينار عراقي شهريا مقابل إيجار البيت الصغير الذي نسكنه، وراتبي أقل من نصف معلوم الإيجار، فأضطر أحيانا لبيع بعض أثاث المنزل أو للتداين من الأقارب والجيران والبعض منهم يساعدني بمبالغ بسيطة على وجه الإحسان، ولذلك من الصعب عليّ توفير تكاليف العملية التي تفوق العشرة ملايين دينار عراقي والتي بسببها أعيش طريحة الفراش”. وتابعت “لم أعتد على الشكوى ولكنّ الآلام المبرحة التي أعانيها جعلتني أبحث عن بصيص أمل يعيد لي صحتي، وأتمنى أن أجد قلوبا رحيمة تساعدني على إجراء العملية قبل انقضاء الستة أشهر التي حدّدها الأطباء، لأن بعد هذه الفترة ستصبح بلا جدوى، وقد مرّ الآن حوالي أربعة أشهر”.

وختمت عباس قولها “كم أتمنى النهوض على قدميّ من جديد لتكملة مسيرتي الحياتية، ومعاضدة أحفادي الصغار الذين هم في أمسّ الحاجة إلى الرعاية، بعد أن مرضت أمّهم وتخلى عنهم والدهم”.

ومثل صباح عباس يوجد الآلاف وربما الملايين من العراقيات ممن يعانين في صمت اليأس والحزن والشعور بغياب الحماية، بعد أن أصبحت المعاناة والمآسي من يوميات الحياة في المجتمع العراقي.

أسماء عبيد: قمت طيلة أربع سنوات بتقديم أقصى ما يمكنني من مساعدات للعراقيات المعوزات

وفي مدينة الأعظمية تعيش المرأة الخمسينية فاتن عيسى التي اختطف زوجها من قبل مسلحين من المتجر الذي يعمل فيه منذ أكثر من عامين، ولا تعلم إن كان سبب الاختطاف طائفيا، إلا أنها رجحت، رغم أنّ لا مشاكل لزوجها مع أيّ كان، أن يكون استهدف بسبب مذهبه.

فاجعة اختطاف زوجها ليست المعاناة الوحيدة التي تواجهها عيسى، بل تتجاوز محنتها إلى المعاناة اليومية لتوفير الاحتياجات الأساسية لأسرتها.

تقول عيسى لـ”العرب” وبصوت تعلوه الحسرة “اختطف زوجي ولا أعلم إن كان ما زال على قيد الحياة أم قتلوه، لقد أخذه مسلحون من المتجر، وإلى اليوم لا أعلم شيئا عن مصيره، وترك لي مسؤولية كبيرة قسمت ظهري وحوّلت حياتي إلى عذاب وشقاء”.

وأضافت “ليس لديّ أيّ شغل يحفظ كرامتي وكرامة أبنائي، إننا نعيش على إعانات أهل البر والإحسان التي تصلني من الجامع المحاذي للمنزل وبعض مساعدات الأهل والجيران، ولكنها غير كافية، فلديّ ابنتان تدرسان واحدة في الجامعة والثانية في الإعدادي، أما البنت الكبرى فزوجها تعرض لحادث سبب له عجزا بـ90 بالمئة، ولذلك فلا خيار لها غير العيش معي في نفس المنزل وأنا من يعيلها، فيما تواجه ابنتي الرابعة ظروفا اجتماعية قاسية لأن زوجها عاطل عن العمل أيضا”.

وتابعت “لم يعد يهنأ لي بال أو يغمض لي جفن من بعد اختطاف زوجي الذي كان عائلنا الوحيد، وأصبح همّي الكبير تدبير مصاريف أسرتي التي تزداد يوما بعد يوم بسبب غلاء الأسعار وظروفنا الاجتماعية السيئة”.

وأكدت عباس في خاتمة حديثها أنها طرقت مرارا أبواب دائرة الرعاية الاجتماعية العراقية من أجل الحصول على إعانة مالية تساعدها على مجابهة احتياجات أسرتها، إلا أنها لم تحصل على أيّ رد لا بالإيجاب ولا بالسلب.

قصة فاتن عباس تشبه قصص الكثير من العراقيات ممن رفضن الظهور في دائرة الضوء الإعلامية، وخيّرن كتم معاناتهن في صدورهن.

مدفونات بالحياة

ترى الكاتبة العراقية بان الجميلي أن وضع المرأة في بلادها قد أصبح أكثر قتامة ومأساوية وأن كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتق النساء اليوم، وخاصة في ظل تدهور الأوضاع الأمنية وصعوبة الظروف المعيشية، أكبر بكثير من قدرتهن على التحمل.

وقالت الجميلي لـ”العرب” إن “المرأة العراقية تعيش في كل يوم أزمة ومعاناة جديدة تجعل الشمس تغيب عن وجهها، لكن رغم ذلك تبقى أدوارها مشرقة وتضحياتها كبيرة في سبيل ضمان حياة كريمة لأسرتها”.

وأضافت “ترمّل الكثير من النساء بسبب معاناة العراق المستمرة من أعمال العنف وعمليات القتل أو الخطف أو التفجيرات، فهناك من فقدت زوجها وهناك من فقدت ابنها وهناك من فقدت شقيقها وربما عائلتها بأكملها.. والكثير الكثير من حالات الفقدان التي نخرت قلوب العراقيات واضطرتهن لإعالة أسر كبيرة العدد بمفردهن”.

وأوضحت “لكن المرأة العراقية لا زالت صامدة وشامخة ومتحدّية قسوة الحياة، وفي كل يوم نرى الكثير من النساء في طريقهن إلى مهنهن التي أصبحت مشابهة كثيرا لمهن الرجال، وأحزانهن مكتومة في صدورهن لا تبصرها الأعين ولا يعلم بها إلا الله”.

وواصلت الجميلي قولها “هناك فئة من النّساء مدفونات بالحياة في العراق ومنسيات بسبب بعض الأعراف القبلية والعادات الموغلة في التخلف، هؤلاء النسوة عاجزات عن اتخاذ أبسط القرارات التي تخصّ حياتهن، فتموت أحلامهن كلما تقدمن في العمر ولا ناصر لهن سوى الله”.

وتمنت الجميلي أن تسعى الأجيال الجديدة والنخب المثقفة في العراق إلى تغيير النظرة الدونية للمرأة وتقطع مع كل أشكال التخلف التي تستعبد المرأة وتجعلها حبيسة المنزل. وختمت بقولها “النساء العراقيات مزيج من الألم والقيح والحزن لكنهن سيبقين يافعات وشامخات كبغداد تماما”.

ولا يبدو أن الحمل هيّن حتى على المرأة العراقية التي تمتلك وظيفة، فالإعلامية أسماء عبيد كرست جهدها وحياتها لإعالة إخوتها بعد أن توفّي والدها ولم يترك لهم غير راتب زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع.

عبيد قد ينظر لها على أنها محظوظة لأنها تعيش في دائرة الأضواء الإعلامية وتحظى براتب شهري يساعدها على مجابهة قسوة الظروف، ولكنها في الواقع لا تعيش في رغد من العيش وحياتها ليست هانئة كما يظن الكثيرون، وبالرغم من ذلك فقد كرّست جهدها لمساعدة العراقيات المعوزات وحاولت أن تكون لهن العضد والسند في غياب الدعم الحكومي.

عبيد قالت لـ”العرب”، “عانيت كثيرا في عملي الإعلامي بسبب الحروب والوضع الأمني المتأزم، ومع ذلك كانت لديّ الشجاعة الكافية للعمل والاستمرار رغم كل الصعوبات والتهديدات تجاه الإعلاميين عموما والإعلاميات خصوصا”.

وأضافت “بصفتي إعلامية ومدافعة عن حقوق الإنسان ومتطوّعة للأعمال الإنسانية لم أدخر أيّ جهد في سبيل مساعدة نساء العراق اللواتي أتعبتهن الحروب والظروف الاجتماعية الصعبة”.

وواصلت “قمت طيلة أربع سنوات بتقديم أقصى ما يمكنني من مساعدات إنسانية للعراقيات وبشكل منفرد، وبعدها انخرطت ضمن فريق متطوعي المركز الوطني للتنمية والإبداع، ثم فريق متطوعي اتحاد الإذاعيين والتلفزيونيين، وجمعنا تبرعات للنساء المعوزات والمهمشات والنازحات، وحاولنا قدر المستطاع الإحاطة بهن ماديا ونفسيا، فتقربنا منهن كصديقات وشقيقات حتى نهوّن عليهن محنهن المتعاظمة”.

وأشارت عبيد في ختام تصريحها إلى أن رقعة المحتاجات وخاصة من النازحات والأرامل قد اتسعت بشكل كبير في العراق وتحتاج إلى دعم أكبر من أصحاب البر والإحسان لانتشال هذه الشريحة من البؤس والضياع للتخفيف من معاناتها.

صحافية تونسية مقيمة في لندن

مجلة الجديد

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى