صفحات مميزة

ملف من اعداد “صفحات سورية” عن معركة حلب وما بعدها -عشرات المقالات والتحليلات-

 

معارك كسر حصار حلب وتداعياتها الميدانية والسياسية

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

بعد معارك طاحنة، تمكّنت قوات المعارضة السورية من فك الحصار الذي فرضته قوات النظام وحلفاؤها على الأحياء الشرقية من مدينة حلب، بعد سيطرتها على طريق “الكاستيلو” في يوليو/ تموز 2016. فقد تمكنت قوى المعارضة من السيطرة على بعض أهم معاقل النظام العسكرية في حلب، مثل كلية المدفعية وكلية التسليح والكلية الفنية الجوية، وقلبت بذلك المعطيات وحاصرت النظام داخل المدينة. ويتوقع أن تكون لهذه الإنجازات العسكرية، إذا تمكّنت المعارضة من الحفاظ عليها، تداعيات كبيرة على الصراع على حلب وعموم المسألة السورية.

انقلاب في الميدان

حاول النظام وحلفاؤه استباق احتمالات التوصّل إلى اتفاق تنسيق عسكري روسي – أميركي، بمحاولة استنساخ “تجربة حمص”، وفرض “تسويةٍ” على حلب، وفق استراتيجية “الجوع أو الركوع”، التي اتبعها النظام في مناطق مختلفة من البلاد، وأفضت إلى خروج “آمن” للمقاتلين بأسلحتهم الخفيفة، وإخراج المدينة من معادلات الصراع. ومع بداية يونيو/ حزيران 2016، بدأت قوات النظام بمحاولة ترجمة أهدافه المتعلقة بعزل قوات المعارضة في حلب في جيوب صغيرة وقطع خطوط إمداداتها، وخصوصاً تلك التي تربطها مع تركيا. وقد بدأت حملة النظام والمليشيات الحليفة، بمساندة الطيران الروسي، على مناطق الليرمون، وبني زيد، والملاح، و”الكاستيلو”، ومخيم حندرات، وكفر حمرة (أنظر الجدول 1). واستند النظام في هجومه إلى ثلاث قوى رئيسة: قوات النمر التي يقودها العقيد سهيل الحسن، ولواء القدس التابع لأحمد جبريل، ولواءان من الفرقة الرابعة، فضلًا عن مليشيات أخرى مساندة. ونتج من ذلك قطع طريق الإمداد الوحيد لقوى المعارضة السورية في مدينة حلب. وفي صباح 28 يوليو/ تموز 2016، بات أكثر من 300 ألف مدني تحت الحصار، ومن ثمّ بدأ النظام والقيادة الروسية بترويج فكرة فتح معابر إنسانية.

كان لتمكّن النظام من فرض الحصار على حلب تداعيات كارثية على المعارضة، سياسيًا وعسكريًا وإنسانيًا، ما دفعها إلى تنسيق جهدها، وتوحيد هدفها المتمثل بفك الحصار (أنظر الجدول 2).

جبهة أنصار الدين، لواء صقور الجبل، جيش الإسلام، الفرقة الشمالية، الفرقة الوسطى، الجبهة الشامية، تجمع الصفوة الإسلامي، جيش المجاهدين، كتائب ثوار الشام، الفرقة 101 مشاة، حركة نور الدين زنكي، جيش التحرير، تجمع فاستقم، جيش النصر، الفرقة 16 مشاة، جبهة الأصالة والتنمية، الفوج الأول

وفي 3 أغسطس/ آب 2016، شنت قوات المعارضة هجوماً كبيرًا، استهدف قوات النظام المتمركزة في المشاريع السكنية المعروفة باسم 1070 ومدرسة الحكمة، وفي تلال مؤتة، وأحد، والمحروقات، والعامرية. ومع انتهاء اليوم الأول من المعارك، أعلنت المعارضة عن خطتها المكونة من عدة مراحل لفك الحصار.

وفي 6 أغسطس/ آب 2016، بدأت المعارضة هجومها على المدرسة الفنية، وكانت تعتبر آخر نقاط تمركز النظام قبل أوتوستراد الراموسة، وفي الوقت نفسه، قامت فصائل المعارضة المحاصرة داخل المدينة بهجوم من الجهة المقابلة، تمكّنت خلالها من السيطرة على دوار الراموسة من الجهة الداخلية والمدرسة الفنية الجوية من الجهة الخارجية. وبذلك، تم فتح الطريق وفك الحصار عن أحياء حلب الشرقية.

عوامل نجاح فك الحصار

على الرغم من وجود مؤشراتٍ قوية على عودة الدعم النوعي الذي تقدمه الدول الداعمة للمعارضة، من أجل استرجاع التوزان العسكري في حلب، وكسر الحصار، وعدم السماح للنظام وحلفائه الاستفادة من الوضع الميداني، لتعزيز شروطه في الجولات التفاوضية المقبلة، فإنه يمكن إرجاع الانتصار الذي حققته قوات المعارضة السورية في معركة حلب إلى تضافر عدة عوامل:

أولًا: الأداء الجيد لقوى المعارضة ويشمل ذلك: – التخطيط الجيد وعنصر المفاجأة، وحسن التعامل مع المتغيرات الميدانية.

– التنسيق العالي بين الفصائل المنضوية في غرفتي عمليات فتح حلب وجيش الفتح في جميع

“التخطيط الجيد وعنصر المفاجأة، وحسن التعامل مع المتغيرات الميدانية من العوامل التي ساعدت المعارضة على تحقيق انتصارها في حلب”

مراحل المعركة، إذ تم توزيع المحاور القتالية على الفصائل المشاركة، بحيث تلقى كل فصيل مسؤولية التعامل مع محور معين.

– استخدام السلاح الثقيل والعمليات الانغماسية التي كان لها أكبر الأثر في التمهيد لدخول مقاتلي المعارضة إلى كليتي التسليح والمدفعية، بعد أن دمرت عددًا كبيرًا من المباني والتحصينات التابعة للمليشيات الموالية عند البوابات الرئيسة.

– المساندة الشعبية التي كان لها أثر معنوي واضح، في تحفيز المعارضة، خصوصاً عندما ساندتها بإشعال مئات من الإطارات القديمة التي انبعثت منها كميات هائلة من الدخان الأسود بغرض التعمية على الطيران الحربي الروسي، ومروحيات البراميل التابع لنظام الأسد.

 

ثانيًا: الأداء السيء للنظام وحلفائه ويشمل ذلك: – الفشل في امتصاص صدمة هجوم المعارضة، وقد بلغت خسائر قوات النظام مع المليشيات الحليفة خلال ستة أيام أكثر من 1000 قتيل وتدمير عشرات الآليات وسيارات الدفع الرباعي المجهزة برشاشات ثقيلة ومتوسطة وصواريخ مضادة للدروع، إضافة إلى تدمير عشر قواعد إطلاق صواريخ حرارية كورنيت، ومدافع 57 وهاون.

– المساندة الروسية التي اتسمت بعدم النجاعة، لأسبابٍ تتعلق، بشكل رئيس، بتقارب خطوط الاشتباك، وسرعة تدحرج انتصار المعارضة، على الرغم من كثافة طلعاتها التي اتسمت بالعشوائية في المناطق المحاصرة.

 

ثالثًا: تحولات جبهة النصرة: قدمت جبهة النصرة نفسها خلال المعركة باعتبارها فصيلًا سوريًا، بعد أن أعلنت فك ارتباطها عن القاعدة، وتغيير اسمها إلى جبهة فتح الشام، وكان لهذا التحول آثار مهمة في معركة فك حصار حلب؛ إذ أتاح ظروفًا أفضل لنشوء تنسيق كامل معها، بعد أن قلّت تخوفات الفصائل من العمل معها، والالتقاء حول هدف إنهاء الحصار.

التداعيات السياسية والعسكرية المتوقعة

تشير معارك حلب، أخيراً، التي جرت بالتزامن مع محادثات روسية – أميركية في جنيف، للتوصل إلى اتفاق تنسيق عسكري بينهما في سورية، إلى استمرار التناقض وانعدام الثقة بين واشنطن وموسكو، كما أوحت بذلك التصريحات التي أطلقها، أخيراً، الرئيس الأميركي باراك أوباما. ووفقًا لذلك، وارتباطًا بمجريات الميدان في حلب، فإنّ جملة من التداعيات المتوقعة ستلقي بظلالها على المعادلات الميدانية والسياسية.

ميدانيًا، يتوقع أن تعزّز فصائل المعارضة خط فك الحصار في منطقة الراموسة، وتوسيع

“بلغت خسائر قوات النظام مع المليشيات الحليفة خلال ستة أيام أكثر من 1000 قتيل وتدمير عشرات الآليات”

امتداداته باتجاه حلب المدينة (هذا أعلنه جيش الفتح بتاريخ 7/8/2016)، مع تعزيز جبهتي ريف حلب الجنوبي ومحاصرة المليشيات الإيرانية التي لا تزال تحاول الوصول إلى بلدتي كفريا والفوعة المواليتين في إدلب. وقد تحاول قوى المعارضة استمرار التقدّم باتجاه مركز المدينة للسيطرة عليها، وإذ يبدو الهدف الثاني أكثر إغراءً، بسبب مردوديته الكبيرة سياسياً وعسكرياً، خصوصاً في ظل التسليح النوعي الذي حصلت عليه قوات المعارضة، جرّاء سيطرتها على كلية المدفعية، فإنه سيكون مكلفًا جدًا، وسوف يصطدم، على الأرجح، بضغوط دولية للحفاظ على مبدأ التوازن العسكري. وفي جميع الأحوال، يمكن استخلاص عدة معطياتٍ رئيسةٍ، ستشكل عنوان المرحلة المقبلة:

(1) انهيار عملية الهدنة، ووقف “الأعمال العدائية” كليًا، وعودة المواجهات على امتداد الأرض السورية، بعد أن ظلت محصورة، في الفترة الماضية، بمناطق حلب وريف دمشق.

(2) سوف يحاول النظام وحلفاؤه استرداد ما خسروه، وإعادة فرض الحصار على حلب. وبناء عليه، فإن أي حالة كسب في هذه الآونة لا تزال قلقةً وغير مستقرة.

(3) تعزيز مناطق النفوذ والسيطرة وتنامي شروط التقسيم، خصوصاً إن تم الربط مع تحركات قوات الحماية الشعبية الكردية في الشمال السوري، وجهد النظام الرامي إلى تعزيز السيطرة على كامل الجبهة الساحلية وتثبيتها.

(4) فشل قوات النظام بحكم سرعة التقهقر وعمق الأزمة البشرية في تصدير نفسها قوة مركزية متماسكةً، شريكة مع المجتمع الدولي في محاربة الإرهاب.

(5) عدم نجاعة العمليات الجوية الروسية، في ظل عدم وجود قوة برية فاعلة قادرة على الحسم.

أما سياسيًا، ستلقي معارك حلب ظلالها على المفاوضات التي لا يزال موعد جولتها الثالثة غير محدّد، وسيدخل المسار السياسي في حالة من عدم اليقين، وصولاً إلى الانتخابات الأميركية المقبلة، وتوضّح توجهات الإدارة الجديدة. كما تدل المعارك على بدء عودة فاعلية الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة، بعد انكفائها (بحكم التدخل الروسي العسكري المباشر)، خصوصاً بعد سعي قوات النظام وحلفائه إلى اقتناص الفرص، وإجهاض العملية السياسية، وترويج فكرة شراكته “الموضوعية” في محاربة الإرهاب، ورقة ضغط وابتزاز تهدف إلى إعادة تأهيله وشرعنة استمراره.

خاتمة

لا شك في أن قوات المعارضة السورية حققت نجاحاتٍ باهرة، لم يتوقعها خصومه، بتمكّنها من قلب المعطيات في وجه روسيا وإيران، ومحاصرة قوات النظام، بعد أن كانت محاصرة ومدعوة إلى الاستسلام. ويعود ذلك إلى تنسيق جهدها والتخطيط المحكم والاتفاق على وحدة الهدف. ومع ذلك، مازال مبكّراً الاحتفال بالنصر، فالتحديات الماثلة مازالت كبيرة، وهناك استعدادات تجري لمعركة كبرى على حلب. ومن جهة أخرى، ربما حان الوقت لأن تبدأ قوى المعارضة في الاهتمام بالصورة التي تعطيها عن نفسها قوةً منضبطة، تلتزم قواعد الحرب وأخلاقياتها، وبأنها تقدم بديلاً مقبولاً قادراً على إدارة شؤون البلاد.

 

 

 

معركة حلب أيضاً وأيضاً/ عمر قدور

من المؤكد أن معركة حلب خالفت التوقعات، ففيما عدا القدرة العسكرية اللافتة للفصائل المهاجِمة، التي استطاعت في وقت قياسي السيطرة على تحصينات مهمة للنظام وحلفائه وفك الحصار عن حلب الشرقية، هناك أيضاً مفاجأة تتعلق بالمواقف الدولية والإقليمية الغامضة. فقبل المعركة كانت كافة المؤشرات تقول بأن حصار حلب أتى بتغطية دولية وإقليمية، الأمر الذي لا يمكن نفيه تماماً حتى مع التطورات الأخيرة، إذ يمكن الانتباه إلى عدم ارتياح جهات إقليمية ودولية محسوبة على المعارضة إلى تقدمها، على الأقل من خلال تعاطي وسائل إعلام تابعة لها مع الحدث.

لكن الأهم كما هو معلوم الموقف الأميركي الذي لا تُعرف حقيقته وأبعاده حتى الآن، ويصح القول بأنه خذل حلفاء النظام، فقط لأنه لم يتدخل بفعالية من أجل منع تقدم فصائل جيش الفتح، ولجم داعميه. فحلفاء النظام من حزب الله وصولاً إلى موسكو كانوا مرتاحين تماماً إلى الموقف الأمريكي الصديق، ورغم عدم إعلانهم ذلك إلا أن عتبهم على إدارة أوباما يكاد ينطق على النحو الذي نطق به معارضون سوريون من قبل. وإذا كانت طرق إمداد جيش الفتح تمر من تركيا حصراً، فهذا لا يعني انفراد الأخيرة بقرار المعركة بالتعارض تماماً مع قرار إدارة أوباما، ولا يعني انتهاء التنسيق كلياً بين مخابرات البلدين في هذا الملف الحساس على رغم الخلافات بينهما التي زادت بعد محاولة الانقلاب.

لنتذكر أن جبهة النصرة أعلنت فك ارتباطها بالقاعدة عشية معركة حلب، ولم يكن هذا ليحدث لولا وجود تنسيق بين جهتين إقليميتين لمواكبة المعركة، ومن المحتمل عدم وجود فيتو أميركي عليه، مع استبعاد وجود تغطية أميركية لاستمرار المعركة بحيث تقلب موازين القوى. قد تستغل إدارة أوباما خسارة النظام وحلفائه، بما تعنيه من طعنة لقدرة الروس على الحسم، من أجل تحسين موقعها في التفاهم مع بوتين، أما المضي أبعد فمفاده انتهاء التفاهم الأميركي الروسي وفتح المواجهة على أفق لا يبدو الطرفان راغبين فيه الآن.

هذه المقدمات ضرورية للتفكير في المراحل التالية من معركة حلب، بعد إعلان غرفة فتح حلب العزم على السيطرة على المدينة كلها. فخارج الحماس لإيقاع الخسارة بالنظام، بخاصة بعد ارتفاع المعنويات إثر فك الحصار، لا يصح القول بأن معركة فك الحصار لها نفس حسابات المعركة القادمة، لأن السيطرة على حلب بكاملها ستؤدي لاحقاً إلى إعادة السيطرة على ريفها، ويصبح الشمال بمدينتي حلب وإدلب خارجاً كلياً من حسابات النظام، باستثناء قدرة الطيران الروسي وقدرة براميل بشار على إيقاع الأذى. مثل هذه المعركة ما لم تكن مغطّاة سياسياً على المستوى الدولي والإقليمي يصعب تصور نجاحها، فخط الإمدادات لن يكون على سبيل المثال خارج مباحثات بوتين وأردوغان اليوم “الثلاثاء”، ولنا أن نتذكر انسحاب فصائل تقاتل الآن في حلب من مدينة كسب الساحلية، قبل نحو سنتين، بالتزامن مع زيارة “ناجحة” لأردوغان إلى طهران.

العوامل الداخلية أيضاً يجب أخذها بالحسبان مع الشروع بمعركة توصف بأنها معركة تحرير، فاستغاثات الفصائل المقاتلة في حلب عشية الحصار لا تزال ماثلة في الأذهان من أجل الضغط على النظام في جبهات أخرى، مع أذن صماء من بقية الجبهات. فلا جبهة الغوطة تحركت، أو هي قادرة على التحرك، ولا جبهة حوران تحديداً لبت الاستغاثة، أو كانت قادرة على تلبيتها. بمعنى أوضح، لا يمكن تحريك كافة الجبهات إلا بتنسيق دولي إقليمي يجمع كل اللاعبين، ويفتح جميع خطوط الإمداد. وبعبارة أخرى، لسنا الآن، ولم نكن بدءاً من خريف عام 2012، إزاء حرب تحرير متكاملة، ومهما كانت الرغبات الدفينة لقادة الفصائل فهي محكومة بمموليها وخطوط إمدادها، مثلما هي محكومة على نحو أشد بمعادلة منع الحسم العسكري. هزيمة النظام في حلب كلها، على أهميتها المعنوية، لا تطال ثقله الأقوى في دمشق، وطالما بقيت الجبهات القريبة من دمشق مُحيَّدة فالقرار الدولي مستمر بعدم السماح بإسقاط النظام.

أما ما يخص حلب نفسها، فليس سراً أن تجربة التحرير لم تقدّم نموذجاً إيجابياً، باستثناء التخلص من حكم النظام. لم تقدّم نموذجاً جيداً على صعيد الإدارة الذاتية، ولا على صعيد القضاء والأمن، ولم تخلُ من الثغرات التي أتاحت بروز أمراء حرب مثّلتها فصائل لم تحترم الأملاك الخاصة، مثلما لم تحترم حياة المدنيين تحت سيطرة النظام فكان سلاحها بالأحرى لتشويه سمعة الفصائل الأخرى ككل. لهذه الأسباب مجتمعة هناك تيار لا يُستهان به من الخاضعين لسيطرة النظام لا يود تكرار ما حدث في الأحياء الشرقية من المدينة، وبالتأكيد لا يريد فوق ذلك التعرض للغارات الانتقامية من الطيران الروسي وطيران النظام.

وإذا تجاوزنا التيار الذي يتعاطى وفق مبدأ السلامة الشخصية فحسب، سيكون واجباً التفكير في مصير المدنيين الخاضعين لسيطرة النظام، لأن مسؤولية الأخير عنهم ستنتهي حينها، وتنتقل إلى الجهة التي لن يكفيها القول بأنها حررتهم. مرة أخرى، الأوضاع الحالية لا تشبه تلك التي كانت عندما حُررت الأحياء الشرقية من المدينة خريف عام 2012، على الأقل كان السكان وقتها وحتى أشهر قريبة انقضت يملكون خيار النزوح من تحت القصف، أما الآن فالحدود التركية مغلقة تماماً في وجه النازحين، ودونها مناطق باتت تخضع للنظام وحلفائه من وحدات الحماية الكردية. وإذا نال جيش الفتح ترحيباً شبه عام على أرضية فك الحصار وتخليص الأهالي من شبح الإبادة تجويعاً، فالعامل الإنساني نفسه يتطلب أخذ حياة سكان حلب الغربية في الحسبان، وعدم تعريضهم لأخطار جسيمة نابعة من انتصارات لا تملك أفقاً سياسياً محسوباً.

لقد قدّمت معركة فك الحصار درساً عسكرياً بليغاً، تلقاه النظام وحلفاؤها في المقام الأول، لكنه أيضاً يخيف العديد من القوى التي تخشى خروج الوضع عن السيطرة. لذا، لن يكون ما بعد فك الحصار مثل ما قبله، وإذا رجحت كفة الشجاعة أولاً، فالحكمة هي المطلوبة تالياً.

المدن

 

 

 

 

 

 

حلب… سقط الحصار/ فاطمة ياسين

استغلّ حسن نصر الله مناسبات ظهوره، أخيراً، على الشاشات، ليعيد ويكرر اسم حلب، واضعاً استرجاعها على رأس أولويات الحزب. ينتشي الجمهور القابع في ساحةٍ تتوسطها شاشةٌ تعرض لزعيمهم، وهو يعدُهم باسترداد المدينة كاملة، فيعلو التصفيق والهتاف، كلما ذكرت حلب.

للمدينة القديمة تاريخٌ تليد قبل الفتح الإسلامي، على يد خالد بن الوليد، وبعده، وقد سُبق اسمها بصفة “عاصمة”، في عصور مختلفة، لكن أهمية المدينة التجارية انخفضت، في العقود الأخيرة، بسبب اقتطاع الجزء المطل على البحر المتوسط في اسكندرون لصالح تركيا، بعد اتفاقيةٍ أجرتها مع فرنسا، زمن الانتداب الفرنسي على سورية، وتراجعت أهميتها بالمقارنة مع دمشق العاصمة، على الرغم من ذلك، ومع أنها تبعد عن الحدود اللبنانية السورية مئات الكيلومترات، إلا أن أمين عام حزب الله يُدرج حلب في مكانةٍ عاليةٍ من الأهمية. لذلك، حشد لفتحها “عدداً كبيراً من مقاتليه”، واستخدم بشكل معلن كل الأساليب المتاحة.

وردت، من حلب، قبل أيام، صور أطفال يدحرجون دواليب، قيل إنها ستساعد في التشويش على عمل سلاح الجو الروسي الذي يقصف المدينة، ما سيسهل تقدّم القوات المعارضة، لفك الحصار عما يزيد عن ثلاثمئة ألف ساكن، يقطنون مناطق خارجة عن حكم الأسد هناك. وعلى الرغم من أهمية الانسجام التكتيكي الأخير بين قوى المعارضة الذي نفع، بشكل واضح، في الاستيلاء على كلية المدفعية وما بعدها، إلا أن رمزية وجود أطفالٍ، يحاولون اقتلاع غدهم بأيديهم الصغيرة، ضمن عوامل التحرير، تبعث رسالةً تقول، بجلاء، إنه لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه.

كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد تعهد، في مناسبات عدة جمعته بقادة أميركان وأمميين، بالانخراط في اتفاقية وقف النار على حلب، ووعد بأنه سيدفع نظام دمشق إلى قبول هدنةٍ تلجم فائض الحمم التي تنصب فوق حلب يومياً، إلا أن المدينة عانت، في الأشهر الأخيرة، من قصفٍ روسيٍّ مستمر، تكلَّل بسقوط مروحية روسية، ومقتل طاقمها، ووقوع جثثهم بيد الثوار.

منذ سنوات، وحلب تعاني حرباً مفتوحة، سببت انهيار قسم ضخم من أوابدها العريقة، ومغادرة الملايين من ساكنيها، إلا أن أحداث الشهور الأخيرة التي مرّت على حلب تجاوزت المآسي الأسطورية. على الرغم من ذلك، لم يحرّك العالم من أجلها إلا بعضاً من قلقه واستنكاره، ورضي ضمناً عن ممارسات الأسد وحلفائه الذين طوَّقوا باقي سكانها، وأطلقوا دعواتٍ للمسلحين داخلها لتسليم أنفسهم، واستمتعت الفضائيات الموالية بعرض فيديوهات لحالات استسلامٍ، أعلنها شبانٌ يحجبون وجوههم بقمصانهم، ويسلمون أنفسهم نادمين إلى مليشيات الدفاع الوطني. استولت هذه المقاطع على اهتمامٍ فريد في الشارع المؤيد، على الرغم من الهفوات الإخراجية الجلية التي احتوتها.

كان لجرعات الشحن المتزايدة التي قدمها النظام، لتحفيز مؤيديه في حلب، أثر مماثل لدى الكتائب المعارضة، دفعها إلى الانتفاض، لكسر الطوق المفروض، فشرعت بهجومٍ معاكسٍ، تراجعت أمامه مليشيات الأسد عن المناطق التي استولت عليها أخيراً، كما دخل الثوار كلية المدفعية، واستولوا على ذخائر متنوعة، بأعداد ضخمة، وتحرّرت الراموسة بشكل خاطف، تحت ضربات الكتائب القادمة من الجنوب، بمساعدة جلية من المحاصرين في الداخل أنفسهم. على ذلك، ربما سيخفت صوت حسن نصر الله، وسيُجري حساباتٍ سريعةً، لإعادة ترتيب تصريحات جديدة تتناسب مع فقدانه حلم حلب التي بنى على إمكانية احتلالها تهديداتٍ مهولةً، ستطاول دولاً عربية وإقليمية.

بعد الراموسة، ستنطلق الكتائب إلى مواجهة أخرى، في حارات الحمدانية وصلاح الدين، لتبقى مدينة خناصر، الأقرب إلى داعش، المنفذ الأسهل لتموين النظام، وفيما لو تم قطعه، سيضيق الخناق على جزء حلب، الواقع تحت سيطرة مليشيات الأسد، وستزداد إمكانية انتقال المدينة، بشكل كامل، لتصبح ورقةً ذهبيةً في جيب رياض حجاب، في أثناء مفاوضات جنيف المقبلة. أما فيما يخص الإقليم، فسيبدو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في لقائه المرتقب مع بوتين، أقوى من السابق، وربما ستصير مناقشة الحل السياسي في سورية بينهما أمراً أكثر إلحاحاً وجديّة.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

رسائل حلب/ سميرة المسالمة

رسائل كثيرة يمكن قراءتها من معركة حلب، ونتج عنها فكّ الحصار عن المناطق التي تقع تحت سيطرة الثوار، وتحرير أخرى من يد النظام، لا سيما التي تزخر بالسلاح والعتاد والوجود العسكري المكثف للنظام ومليشيات إيران (الراموسة).

ليست هذه الرسائل عسكرية فقط، إذ تنوّعت معانيها، سياسية واجتماعية وداخلية وخارجية، وإن كان النصر العسكري أبرزها، بسبب تبجّح النظام، على مدار الأيام التي سبقت المعركة، بفرضه حصاراً محكماً، وادعائه بأن طريقه سالك إلى كل مناطق حلب، خصوصاً بعد سيطرته على طريق “الكاستلو”، وقطعه التواصل بين شرق حلب والشمال السوري على الحدود مع تركيا، مع ما يعنيه ذلك من مكاسب سياسية ومعنوية أمام المجتمع الدولي، وأمام مؤيديه في الداخل.

الرسالة الأولى ذات الطابع العسكري، أن اعتماد النظام على تفرّق فصائل المعارضة المسلحة مجرّد وهم، إذ استطاعت هذه الفصائل تبديده بسرعة لافتة، عندما أجمعت على كلمة واحدة، وخففت من منازعاتها أو من حظوظ نفسها من أجل المصلحة العامة، ولمصلحة حظوظ المعركة بكل تفاصيلها. الأهم أن هذه الرسالة كشفت، مجدّداً، عن أن استقواء النظام بحليفيه، الروسي والإيراني، لم ولن يضمنا له البقاء والاستمرار، لأن ذلك مرهون أيضاً ببقاء هذين الحليفين مرتبطين بالمصالح والأجندات نفسها، بيد أن ما يحدث على الساحات، الدولية والإقليمية والمحلية، يؤكد أن هذا الأمر غير ثابت، وهو في تحوّلٍ مستمر، لم يفطن النظام له، على ما يبدو، إلا وهو يلقّن درس حلب العميق جداً في اللعبة الدولية، وفي لعبة الصراع على سورية. ويمكن التدليل على ذلك بواقع أن روسيا أشاحت بوجهها قليلا في هذه المعركة، بعد أن كانت حاضرة في الصراع العسكري أداة رئيسية لحسم أية معركةٍ يخوضها النظام وإيران في حربهما ضد الشعب السوري. فهذه هي روسيا نفسها التي فرضت نفسها لاعباً رئيسياً في الصراع السوري، برضا بقية الأطراف الدولية والإقليمية وتوافقها، وتصدّرت المشهد السياسي أيضاً راعياً للعملية التفاوضية بالضد من مصالح حليفيها (النظامين السوري والإيراني)، على ما بات يظهر، أخيراً.

لتركيا أيضا رسالتها في هذا الإطار، إذ إنها، على الرغم من تعقيدات أوضاعها الداخلية، أثبتت أن لديها قدرة عالية على التحرك وانتزاع زمام المبادرة وتعزيز مكانتها في الصراع السوري، وتوسيع حصة حضورها في هذا الملف، وتفويتها كل محاولات تحجيم هذا الدور. أيضاً، ثمة وجه آخر لمعركة حلب بالنسبة لتركيا، إذ شكلت نوعاً من دفاعٍ عن حدودها التي طالما رغبت في أن تكون آمنةً، وليست معبراً لأجنداتٍ قد تنعكس على واقعها الداخلي، فتزيد من عبء مواجهتها مشاريع انقلابية، لا تزال تحت الرماد، وإن بدت قادرةً على معالجتها والقفز فوقها.

إضافة إلى كل ما تقدم، يفترض أن نلاحظ أن ملفاً جديداً في التفاهمات المصلحية الكبرى بين كل من تركيا وروسيا، عدا عن تكامل اقتصاديهما، ووجود نوعٍ من التفاهمات المشتركة في المجال الأمني، يتمثل في ظهور نوع من التقاطع في الصراع السوري، لجهة الحد من نفوذ إيران في هذا البلد، إذ ترى روسيا أنها الوصية على النظام السوري، وليس إيران، وهذا التقاطع مرشح للازدياد، بقدر ازدياد التباين بين سياسات روسيا وإيران في سورية.

أما الولايات المتحدة الأميركية، فهي في صمتها المريب تجاه ما يحدث في سورية شريكة وفاعلة في هذه المعركة، ولو بالصمت تجاه توسّع الدور التركي، والتقارب مع الروس في الملف السوري. ومن جهةٍ أخرى، بإعطاء درس لإيران والنظام وروسيا أن قدرة تحريك المعارك وتقرير معادلات الصراع في سورية ما تزال خاضعةً، إما للقبول الأميركي أو للصمت عنه.

الرسالة الأوسع والأهم، هنا، هي رسالة الثوار إلى الشعب السوري، ومفادها بأن مخزون الثورة لم ينضب، وأن إرادة الثوار لا تزال حرة، وأنهم قادرون على لمّ صفوفهم، وتجاوز عصبياتهم ومشاريعهم الصغيرة لمصلحة مشروع كبير، هو سورية الدولة الديمقراطية، على الرغم من أصواتٍ، من داخل المعركة أو من خارجها، تحاول التشويش وإثارة الشبهات حول هذا الإنجاز الوطني، وبشأن صدقية ثورة السوريين.

الرسالة الأخيرة هي للمجتمع الدولي الذي استمرأ المناورة عند خسائر المعارضة للضغط عليها بالذهاب إلى طاولة التفاوض، للرضوخ إلى مشاريع مشبوهة، تبدّد مشروعنا الوطني بسورية واحدة قوية وديمقراطية، تمنح الأفراد والقوميات حقوقهم، على قاعدة أن الحرية لا تتجزّأ.

هكذا معركة حلب، خيارها أن تكون بمثابة “طريق الحرير” إلى جنيف، نحو الحل السياسي الحقيقي، على الضد من خيار النظام المتشبث بالحل الأمني، وفتح البلد على مصراعيه للقوى الأجنبية، في صراعٍ لا ينتج إلا الموت والخراب.

العربي الجديد

 

 

 

 

معركة حلب وما بعدها/ فايز سارة

فتحت معركة حلب الباب أمام تطورات جديدة وخطيرة في القضية السورية٬ إذ كان قرار تحالف النظام بخوضها سبًبا رئيسًيا في تأجيل جولة مفاوضات جنيف3 التي كان من المتوقع عقدها بداية أغسطس (آب) الحالي٬ كما هو الاتفاق الروسي ­ الأميركي الذي تم قبل أشهر في موسكو للمضي نحو الحل السياسي في سوريا.

الهدف الأساسي من معركة حلب٬ كما رآها حلف النظام٬ هو خلق وقائع ميدانية جديدة٬ حدها الأدنى حصار حلب٬ والأعلى الاستيلاء على المدينة٬ وتصفية قوة المعارضة العسكرية والمدنية في مدينة تمثل رمزية سياسية وعسكرية بالنسبة للسوريين٬ وتحتل أهمية خاصة لأصدقاء الثورة السورية٬ وخاصة جارتهم في الشمال تركيا. وفي تقدير تحالف النظام أن حصار حلب أو الاستيلاء عليها٬ سوف يضعف المعارضة وأصدقاءها٬ ويجعلهم أكثر استجابة لطروحات التسوية٬ التي يسعى الروس للوصول إليها٬ والتي لا تجد لها معارضة جدية من جانب الشريك الأميركي الساعي إلى تحقيق أي «إنجاز» في الموضوع السوري٬ ولو على حساب الشعب السوري وقضيته.

ورغم أهمية الهدف الأساسي لمعركة حلب٬ فثمة أهداف أخرى للمعركة من جانب أطراف حلف النظام٬ أبرزها إجراء تغييرات ديموغرافية في حلب لصالح الطرف الإيراني وأدواته من الميليشيات الشيعة وخاصة «حزب الله»٬ وذلك عبر طرد وقتل المزيد من سكانها وإحلال بنية ديموغرافية شيعية في مدينة٬ لم يقيض لهم أن يقيموا وجوًدا شيعًيا فيها على نحو ما حصل في المدن التي يسيطرون عليها مثل دمشق وحمص والسويداء.

ولم تكن أهداف حلف النظام من معركة حلب خارج وقائع ومعطيات محيطة في المستويين الداخلي والخارجي. فالمعارضة السورية وصلت إلى مستوى كبير من الضعف والتردي في تشكيلاتها السياسية والعسكرية وفي علاقاتها البينية وعلاقاتها الخارجية أيًضا٬ وأصدقاء المعارضة في المستويين الإقليمي والدولي٬ صاروا أقل قدرة أو رغبة في تنشيط وتقوية دورهم في القضية السورية٬ وهذا ينطبق بشكل خاص على تركيا٬ التي تواجه مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل٬ لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية وسياساتها.

وسط تلك المعطيات٬ بدا لحلف النظام أن كسب معركة حلب أمر محسوم وسهل٬ خاصة في ظل أمرين اثنين؛ أولهما تجربة المعارك التي شهدتها حلب ولا سيما شمالها في الأشهر الأخيرة٬ والتي كرست معبر الكاستيلو ممًرا وحيًدا لحلب مع الشمال٬ والأمر الثاني استكمال تحشيد قوات تحالف النظام من قواته والإيرانيين والميليشيات وقوات النظام والطيران الروسي في محيط حلب٬ وهي أكثر من كافية لإغلاق الممر٬ وإكمال حصار حلب.

ورغم أن إغلاق الممر تم على نحو سريع وسط هجوم مدمر بمختلف القوات والأسلحة٬ فإن وقائع المعركة في الأيام التالية٬ بينت نتائج مختلفة٬ الأهم فيها رفض مغادرة المدنيين وقوات المعارضة عبر الممرات التي أعلن عنها الروس٬ ثم توجه فصائل المعارضة المسلحة للضغط على خواصر حلف النظام الضعيفة وخاصة في القطاع الجنوبي٬ مع الاستمرار في خوض معارك مواجهة عنيفة ضد قوات تحالف النظام على الأرض والتصدي للطيران بالحدود الممكنة٬ وكلها منعت حتى اللحظة من تحقيق أهداف المعركة وفق تصورات الحلف.

إن معركة حلب كما تظهر اليوم٬ لن يتم حسمها لصالح تحالف النظام٬ كما أنها لن تحسم لصالح قوات المعارضة بالإمكانات الراهنة٬ مما يعني أنها ستكون معركة كر وفر، كسب هنا وتراجع هناك٬ وهذا بحد ذاته٬ سيشكل في المدى القريب عاملاً إيجابًيا لصالح المعارضة٬ يمكن أن يتعزز إن استطاعت المعارضة تطوير قدراتها٬ وتحسين علاقاتها البينية٬ وضمنت دعًما سياسًيا وعسكرًيا أفضل من أصدقائها ومن المجتمع الدولي٬ وكلها ليست بالأمور السهلة٬ والتي يمكن أن تتحقق بصورة عاجلة٬ لكن لا بد من المضي بجدية ودأب من أجل تحقيقها.

غير أن مساعي المعارضة لتحسين ظروفها في معركة حلب لن تكون بعيدة عن أعين وإجراءات تحالف النظام وروسيا في ضوء الوقائع التي ظهرت في الأيام الماضية٬ مما يعني أن الحلف أيًضا سيقوم بخطوات تهدف إلى استعادة المبادرة من أجل تحقيق أهدافه وخاصة من ناحية حشد مزيد من القوات والتنسيق بينها٬ وتقوية الخواصر الضعيفة، وتصعيد عمليات القصف والتدمير على قوات المعارضة والتجمعات السكانية٬ وقد بدأ تنفيذ تلك الخطوات بمستويات متعددة.

خلاصة الأمر أن الفترة القادمة من معركة حلب ستكون صراًعا عنيًفا بين الطرفين٬ وصولاً إلى استئناف جولة جديدة من مفاوضات جنيف3 التي ستكون نتائج معركة حلب على طاولتها مغلفة بكل العنف الدموي والدمار اللذين يرتكبهما حلف النظام٬ والدفاع الصلب والقدرة على التقدم اللذين يفترض أن تثبتهما المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري٬ ووسط إرادة دولية٬ يفترض أن تتسم بالجدية في معالجة ترديات القضية السورية بعد معركة حلب.

* نقلا عن “الشرق الأوسط”

 

 

لقاء بطرسبورغ بعد معركة حلب والعيون شاخصة نحو واشنطن/ بكر صدقي

حققت الفصائل العسكرية المعارضة إنجازاً عسكرياً كبيراً بفك الحصار عن حلب، وفي زمن قياسي. وكشفت هذه المعركة مدى هشاشة قوات النظام الكيماوي في المدينة. الأمر الذي يثبت، مرةً أخرى، أن إيقاع الهزيمة به ليس بالأمر الصعب إذا توفرت الشروط الملائمة. يبقى السؤال الذي لا نعرف له جواباً هو: من هي الجهة الإقليمية أو الدولية التي «سمحت» بهذا الانتصار الكبير، إن لم نقل ساعدت عليه؟ وإلى أي مدى مسموح للفصائل المعارضة المضي قدماً نحو دحر النظام في مناطق سيطرته في المدينة؟

ربما شكل انتصار حلب ورقةً مهمة في يد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الشق السوري من مباحثاته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين. ما خرج إلى العلن، إلى الآن، من المباحثات السورية للرئيسين، هو الاتفاق على تشكيل آلية ثلاثية للتنسيق الميداني في سوريا: عسكرية ـ استخباراتية ـ دبلوماسية. فقد كان ضمن الوفد المرافق لأردوغان، في زيارته، ممثل عن المؤسسة العسكرية ورئيس جهاز الاستخبارات القومي هاكان فيدان. وصرح وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو قائلاً إن الطرف الروسي طلب من تركيا تحديد المناطق التي على الطيران الروسي ألا يقصفها. وذلك استجابةً لطلب تركيا بعدم قصف المنشآت المدنية والفصائل العسكرية المعتدلة.

لا يمكن فهم هذه «المرونة» الروسية أمام الطلبات التركية إلا من منظار معركة حلب التي وضعت بوتين في موقف لا يحسد عليه. فبعدما كان وزير الدفاع الروسي شويغو يحدد المعابر لخروج المدنيين من حلب المحاصرة، ويطلب من الفصائل العسكرية الاستسلام وإلقاء السلاح، جاءت معركة فك الحصار كضربة موجعة للعنجهية الروسية، قبل النظام الكيماوي نفسه. ولا بد لروسيا من مراجعة حساباتها في سوريا بعد هذه المعركة.

النقطة الثانية هي أن أهمية السيطرة على حلب، بالنسبة لروسيا، كانت، قبل أي اعتبار آخر، بهدف إخراج الخصم التركي من معادلات الصراع في سوريا، ولي ذراع أردوغان المنشغل بتداعيات الانقلاب العسكري الفاشل ضده. أما وقد انقلبت الموازين العسكرية، بعد معركة فك الحصار، فمن المحتمل أن تتخلى موسكو عن هذا الهدف وتسعى إلى تفاهمات مع أردوغان، بعد تتويج تطبيع العلاقات بين البلدين بزيارة سان بطرسبورغ، للخروج من مأزق حلب بأقل الخسائر.

التقى الرئيسان التركي والروسي وعيون كليهما شاخصة إلى واشنطن. فليس سراً أن التفاهمات الأمريكية ـ الروسية حول سوريا عادت إلى نقطة الصفر، بعدما ضاقت واشنطن ذرعاً بمسلسل الخداع الروسي منذ بداية الاتفاق حول «وقف الأعمال العدائية» في سوريا، نهاية شهر شباط/فبراير الماضي. ولم توافق موسكو، بعد، على العرض الذي قدمه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، قبل شهر، بصدد التعاون العسكري بين الجانبين لضرب داعش والنصرة، مقابل تخلي الروس عن ضرب الفصائل التي تعتبرها واشنطن معتدلة، وتحييد سلاح طيران النظام الكيماوي.

بعد فك الحصار عن حلب الشرقية عاد الأمريكيون إلى الحديث عن امتناع الحسم العسكري وضرورة الحل السياسي، بما يعنيه ذلك من انتهاء صلاحية السماح للمعارضة بالتمدد الميداني على حساب النظام. فمعركة فك الحصار، بالنسبة لواشنطن، لا تعدو كونها إعادة للتوازن الميداني الذي كان قائماً قبل الحصار.

بهذا المعنى يمكن القول، استناداً إلى تصريحات شاويش أوغلو، إن روسيا استجابت لبعض الشروط الأمريكية من البوابة التركية. سنعرف في الأيام القادمة كم ستنعكس التفاهمات الروسية – التركية على نظيرتها الأهم: أي الروسية ـ الأمريكية. فبالنسبة لكليهما بات الوقت داهماً بسبب اقتراب نهاية ولاية باراك أوباما وإدارته. يسعى جون كيري، في هذا الوقت الضيق، إلى تحقيق إنجاز سياسي ما، في المسألة السورية، بالتفاهم مع روسيا. وأظهرت معركة فك الحصار لموسكو أن الوقت الضيق المتبقي أمامها قبل رحيل هذه الإدارة المتعاونة لن يكفيها لتغيير المعادلات الميدانية. فالروسي أيضاً يستعجل عقد جولة جديدة من مفاوضات جنيف، في إطار القرار الأممي الذي وضع برنامجاً زمنياً للانتقال السياسي. الخيار الآخر أمام روسيا هو الغرق في مستنقع الحرب السورية إلى أمد غير منظور مع عدم وجود ضمانة لاستمرار الإدارة الأمريكية التي ستأتي بعد الانتخابات الرئاسية، على نفس منوال سياسة أوباما السورية. بل إن التوقعات الشائعة اليوم في واشنطن تتحدث عن سياسة متشددة تجاه النظام الكيماوي إذا فازت كلينتون في الانتخابات الرئاسية.

أردوغان أيضاً عينه على واشنطن، في لقائه مع بوتين. فليس خافياً تردي العلاقات الأمريكية ـ التركية، طوال العامين الماضيين، على خلفية تحالف واشنطن في سوريا مع «قوات حماية الشعب» التابعة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. وازداد هذا التردي أكثر بعد الانقلاب العسكري الفاشل الذي تتهم أنقرة حركة فتح الله غولن بتدبيره، وتطالب واشنطن بتسليمها الداعية الإسلامي الموجود في ولاية بنسيلفانيا، وفتور الجانب الأمريكي في التجاوب. ويأمل الرئيس التركي في أن تشكل زيارته لروسيا نوعاً من الضغط على واشنطن، من خلال الإيحاء بوجود خيارات استراتيجية أخرى لدى تركيا، غير تحالفها التقليدي مع الغرب في إطار حلف شمال الأطلسي. ففي تصريحاته حول نتائج زيارة أردوغان إلى بطرسبورغ، قال شاويش أوغلو، أيضاً، إن من حق تركيا تطوير صناعاتها العسكرية مع روسيا، لأن شركاءها الأطلسيين رفضوا التعاون في هذا الموضوع.

لكن واشنطن لا تبدو مهتمة بهذه المحاولات التركية لابتزازها. بل لعلها تدفع تركيا، بصورة غير مباشرة، إلى التقارب مع روسيا، كما يفترض بعض المحللين الأتراك الذين حذروا القيادة التركية من لعب ورقة العلاقات مع موسكو ضد الحلفاء الأطلسيين.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

 

 

لا شيء في الشام/ علا عباس

على الرغم من كل الأخبار التي تأتي من هناك على مدار الساعة، وعلى الرغم من الأحداث المتتالية منذ خمس سنوات، يمكن القول، بكل راحة، إن لا شيء في الشام، لا جديد يحصل هناك، ولا يوجد في الأفق أي فرصةٍ لحدوث جديد. ونتحدث، هنا، عن حدثٍ حقيقي، عن تغيير كبير، عن فرصة للوصول إلى نهايةٍ ما، على الأقل عن دلالةٍ لإمكانية حدوث هذه الفرصة، في لحظة ما.

منذ خمس سنوات، والأحداث تطحن المدن وحيوات البشر، لكنها تبدو مثل طاحونة تدور وتدور، ولا يهمها ما تلقيه فيها، المهم ألا تتوقف، ويمكنها كذلك أن تدور وهي فارغة، تصدر كثيراً من الجعجعة، من دون أن ينزل الطحين من الجهة الأخرى.

اشتدت، أخيراً، معركة حلب، فتقدّم النظام على بعض الجبهات، ثم تراجع في بعضها، هلل مؤيدوه لانتصاره الكبير، ثم صمتوا تماماً، وهو يتراجع عن “الانتصارات” التي حققها. وهكذا في مشهدٍ يتكرّر بشكل منتظم منذ خمس سنوات، من دون أن ينعكس أيٌّ من ذلك (التقدم والتراجع) على تغيير حقيقي في رأس المشهد، وبالتزامن مع معركة حلب، عاد النشاط إلى الدوائر الدبلوماسية، بعد أن مرّ بفترة جمود في أشهر الصيف، فعاد الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، ليعبر عن قلقه، وعاد المبعوث الأممي، دي ميستورا، ليحدّد مواعيد مفترضة لبدء المفاوضات السياسية، ومواعيد لنهايتها، وحتى مواعيد لنجاحها، وبدء عملية الانتقال السياسي، وعاد وزيرا الخارجية، الأميركي كيري والروسي لافروف، إلى تبادل المجاملات حيناً، والانتقادات حيناً آخر، وعاد المحللون والسياسيون إلى التقاط المعاني من هذه المجاملات وهذه الانتقادات. لكن، لكل ذلك نتيجة واحدة: لا شيء جديد يحصل في الشام.

صار مضجراً الحديث عن الجانب الإنساني، عن موت الناس وتدمير المدن وعن الفقر والجوع وانعدام سبل العيش، وحصار المناطق، صارت كلمات مبتذلة لا تعني أحداً، بل وربما تثير حفيظتهم، ولم يعد هناك أي معنى لأي كلام عن سورية، لا يشمل تغييراً سياسياً حقيقياً، تغييراً من أي نوع، المهم أن يكون حاسماً وحقيقياً، فالمستنقع الذي غاصت فيه الأزمة السورية يبدو بلا قاع، والسوريون هم من يسقطون في قاعه أكثر فأكثر، وكلما غاصوا أكثر ابتعدوا عن نظر العالم أكثر.

يلعب الأميركان والروس، مع بعضهما لعبة الشد والرخي، ولم يعد موضوع التجاذب موضوغ الانتقال السياسي، ومصير بشار الأسد، بل انحصر حوارهم في التنسيق العسكري للعمليات الجوية التي يقوم بها كل منهما منفرداً، في الأجواء السورية، فاليوم يقولان إنهما يحققان تقدماً في مفاوضات التنسيق، وغداً يقولان إن مفاوضات التنسيق العسكري تمر بمنعطف خطر، قد ينسف جهود التنسيق، وقد تكرّر هذا الأمر، وصار مألوفاً إلى درجة أننا نسينا الموضوع الرئيسي الذي يفترض أننا ننتظره، ويفترض أنهما يتناقشان بشأنه، وهو العملية السياسية التي ستعني، حين تبدأ، أن هناك موعداً ما لنهاية هذه الحرب المجنونة.

في الشام، لا يحصل شيء جديد، مجرّد تآكل تدريجي لكل معاني الحياة، تراجع في الخدمات والدخل وتوافر المواد، زيادة في الجوع والموت، انتشار أوسع للشبيحة واللصوص والمجرمين، ضيق إضافي في سبل الحياة والحركة، انطفاء الأمل، وتغلغل اليأس. ولأن لا جديد يحصل هناك، بدأ ملايين السوريين الذين توزّعوا في العالم بناء حياتهم الجديدة، وبدأوا ينسون حياتهم السابقة، شيئاً فشيئاً، ينسون أحلامهم وطموحاتهم، وينتظرون إشارةً ما من لافروف أو كيري أو دي ميستورا، أو من سيخلف كل من هؤلاء في منصبه، ليعلقوا على هذه الإشارة، ويبدي فيها رأياً ما، وحتى هذه الرغبة بإبداء الرأي تتراجع شيئاً فشيئاً، وربما ستتلاشى تماماً قبل أن يحصل شيء حقيقي، يستحق الاهتمام.

تبدو معركة حلب اليوم تغييراً مهماً في مسار الأحداث. لكن، علمتنا تجربة السنوات الخمس الماضية أن هذه الأحداث، ومهما كانت كبيرة، لن يكون لها أثر حقيقي على المسار الرئيسي للأزمة السورية، وأن ذلك كله مجرد تفاصيل في ذلك المسار الطويل، وأنه من غير المسموح لأحد في سورية، لا النظام ولا الجيش الحر ولا الجماعات المتشددة، أن يحقق تقدماً ميدانياً مؤثراً، يمكن له أن يحدث تغييراً سياسياً حقيقياً، وأن على المشهد أن يبقى هكذا: كرّ وفر، تقدّم وتراجع، انتصارات صغيرة وهزائم صغيرة، وأن ما تريده القوى الكبرى فعلياً هو أن لا يحصل شيء في الشام.

العربي الجديد

 

 

دروس حلب/ نجاتي طيّارة

تشتدّ المعارك، وما تزال، في مدينة حلب المنكوبة، منذ نجاح قوات النظام وحليفيه، الروسي والإيراني، بقطع طريق الكاستيلو في أوائل الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وفرضهم الحصار على أحياء حلب الشرقية التي خضعت لسيطرة المعارضة، منذ العام الثاني للثورة السورية. وكان شديد الوضوح أن ذلك لم يكن ممكناً، لولا التدخل الروسي الكبير، منذ أواخر العام الماضي، وقيام أسطوله بقصفه الجوي الكثيف مواقع المعارضة وخطوط إمدادها باستمرار.

زادت تلك المعارك في جحيم حياة سكان المدينة القديمة وأحيائها الشعبية، من باب الحديد، وباب النصر، وباب النيرب، وباب قنسرين، والمعادي، والمغاير، والأنصاري، والميسر، والجزماتي، والقاطرجي، والسكري، والمواصلات، والصاخور، والفردوس، والصالحين، وبني زيد، والخالدية، وجسر الحج، ومنطقتي الشقيف والسكن الشبابي، وهم حوالي 400 ألف مدني، وجعلت من أوضاعهم كارثةً إنسانيةً، لا يتسع المجال لرواية آلافٍ من قصصها اليومية التي لا تشمل ضحايا القصف والنيران فقط، بل ضحايا الانهيارات والجوع والمرض، وكل ما ينجم عن نقص المواد الغذائية والصحية، أو فقدانها بطبيعة الحال. لكن ذلك كله كان خارج حسابات النظام وحلفائه الذين تابعوا استثمار تقدمهم، بغرض فرض حل استسلامي يقلب التوازن العسكري المستقر في حلب منذ أكثر من سنتين، ويطيح الاتفاقات الدولية وقراراتها التي ما تنفك تعلن السعي إلى حل سياسي، لا يستقيم أمره بدون تفاوض. وقد اندرج ذلك في إطار إصرار الراعي الروسي على تطويع مراحل مفاوضات جنيف، في ظل تسليمٍ أميركي ودولي لرعايته، وفرض مندوبيه ومندوبي النظام ضمن وفد المعارضة، بغرض إنقاذ نظام الأسد، وإدراج كل مشاريع الثورة في إطار رؤيته لمكافحة الإرهاب، واستثمار الفوبيا الرائجة ضده على مستوى المنطقة والعالم.

ففور قطع طريق الكاستيلو واستكمال الحصار، لجأ النظام إلى استغلال ذلك بعقلية المنتشي بالنصر، وذلك بدعوة المقاتلين إلى الاستسلام، تحت ستار العفو عنهم، وفتح ممرات آمنة للمدنيين الراغبين بـ “العودة إلى حضن الوطن”. كما دعا الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية نفسها “المسلحين” التابعين لفصائل المعارضة السورية إلى التخلي عن السلاح، والخروج من أحياء مدينة حلب الشرقية، كما أعلن عن فتح معابر إنسانية بين أحياء حلب الشرقية والغربية، لتسهيل عملية خروج “المدنيين المحاصرين” إلى جانب المسلحين الراغبين بتسليم أنفسهم إلى قوات النظام.

هذا الانتشاء الانتصاري، والمخلّ بالخطوط الحمر المضمرة، سرعان ما واجه موازين القوى الكامنة، والتي ظهر أنها استعادت فاعليتها، ربما بعد تفرّغ الدولة التركية، وتوحد قيادتها العسكرية إثر فشل الانقلاب. لكن، بالتأكيد بعد يقظة المعارضة أخيرا، وتمكّنها بصورة مفاجئة من لملمة شملها، وتوحيد صفوفها عبر غرفة عمليات موحدة، ما أدى إلى تحقيق انتصاراتٍ عسكريةٍ مضادة، شملت بعض قطاعات سيطرة النظام في جنوبي حلب، وأشارت إليها عمليات بدء تحرير مدرستي المدفعية والمشاة. وعلى الرغم من بقائها، حتى تاريخه، في حدود الكر والفر، فقد قلبت حسابات معسكر النظام وحلفائه، بل وهدّدت بقلب ميزان القوى العسكرية في باقي مناطق حلب ومواقع النظام الأكثر تحصيناً.

ويبدو أن المعارضة أدركت أهمية المجالين السياسي والإعلامي، فبادرت إلى استثمار نجاحها

“يمكن أن تكون معارك حلب التي بدأت انطلاقاً من فكّ حصارها مفترق طريق جديدا للمعارضة” العسكري، حين أعلن بيان لغرفة عمليات جيش الفتح وجميع الفصائل المشاركة في تحرير حلب “رسالة إلى كل الأهالي وكل القاطنين في محافظة حلب من جميع الطوائف والأحزاب، وإلى المرتزقة والمحتلين الذين جاءوا ليغزوا بلادنا: نحن أهل البلد، أهل بلاد الشام وأصحاب أرض وعرض وأصحاب حق في الدفاع عن بلادنا وشرفنا ودحر العدو المحتل عن أرضنا وأهلنا. وهذا هو إسلامنا وديننا، إليكم هذا البيان: من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل مسجداً فهو آمن، ومن دخل كنيسةً فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أسوة بفتوحاتنا ورسولنا العظيم، نحن مجاهدون، ثوار، طالبو حرية ولسنا هواة قتل. …”

وهو بيانٌ يتناقض مضمونه مع ما نشر من إطلاق تسميةٍ تستعيد ذكرى سوداء في تاريخ سورية، لم يستفد منها سابقا سوى النظام نفسه. وإذا صدقت جرعة الوعي الصاحية في البيان، فسيعزز ذلك نجاح وحدتها العسكرية في مواجهة الحلف المتعاظم لمعسكر النظام، والتي سبق أن كانت سبباً حاسما في تحقيق انتصار إدلب، وكان غيابها السبب الأكثر وضوحاً في تراجع الثورة وانتكاساتها في أكثر من جبهة.

بذلك، يمكن أن تكون معارك حلب التي بدأت انطلاقاً من فك حصارها، وتخفيف معاناة أهلها، مفترق طريق جديدا للمعارضة، كي تستمر اندفاعتها، وتتابع تشكيل قيادتها الموحدة عسكريا وسياسيا لكل قوى الثورة والمعارضة. وبدلاً من أن تكون هذه الوحدة مؤقتةً وعابرة، فإن النجاحات التي بدأت تحقيقها، وفاجأت معسكر أعداء الثورة قبل أصدقائها، تؤكد أهمية استمرارها وتطويرها ومشاركة جميع جبهات الثورة فيها، ما يفتح الباب واسعاً أمام آمال استنهاض جديد لمشروع الثورة السورية، وهو مشروع انطلق أصلاً من قيم وطنية ودينية وأخلاقية رفيعة، وتقع على عاتق جميع المؤمنين به مسؤولية تنقيته من ردود الأفعال ونزعات الانتقام وآثار مآسي السنوات الماضية، وكل ما أحالت إليه أخطاء فردية، وانفعالات عاطفية، وردود أفعال غرائزية، طالما عمل النظام على إطلاقها، وترويجها، والاستفادة منها في تحصين معسكره. وها هي الشهباء تدعونا جميعا إلى دروسها، فهل نلبي النداء؟

العربي الجديد

 

 

 

 

عن زمن المفاجآت/ ميشيل كيلو

لم يكن أحد يصدّق أن حلب ستدحر محاصريها خلال أربعة أيام، وستحاصرهم في اليوم الخامس. قبل فك الحصار، كانت جميع الأخبار تدور حول هجوم كاسح سيشنه النظام ومرتزقة إيران، بمعونة الطيران الروسي، لاحتلال كامل حلب، وردّها إلى بيت الطاعة الأسدي. وكنا نمسك قلوبنا خوفاً من سقوط مدينةٍ، تتركز فيها جميع قوى الصراع الداخلي/ العربي/ الإقليمي/ الدولي، ويرتبط بمعركتها مصير الشعب السوري، وشعوب أخرى في منطقتنا، وأوضاع دولية، تتكثف فيها على صورة جيوش متصارعة، وأسلحة متقاتلة، وخيارات متعارضة.

إلا أن مفاجأة هائلة كانت بانتظارنا، جسّدها هجوم عاصف، شنته المقاومة، بعد توحيد صفوفها، ورسم خطة عمليات مشتركة، نفذتها بتنسيق جهود طرفيها: الجيش الحر وجيش الفتح، اللذان هجم أحدهما من خارج المدينة، والآخر من داخلها، ثم التقيا، بعد بضعة أيام، في الراموسة، وفتحا معبراً فيها، وفكّا الحصار عن ثلاثمائة ألف مواطنة ومواطن، كان الأسد يتوهم أنه حاصرهم، وجعلهم أسراه.

لم يكن أحد يتخيل أنه سيكون للهجوم من الزخم ما سيمكّنه من طرد جيش النظام إلى خارج قلاع حصينة، عجز مقاتلو المعارضة عن الاقتراب منها أعواماً، ناهيك عن احتلالها، على الرغم من محاولاتهم المتكرّرة، وما قدّموه من شهداء على أسوارها. السؤال الذي يطرح نفسه: أين كان الأسديون والإيرانيون الذين يتأهبون لاقتحام حلب، وما الذي فعلوه لصد هجوم المقاومة المباغت؟ يبدو أنهم فرّوا، أو تفرّقوا أيدي سبأ، أو قتلوا، أو سقطوا أسرى، أو انسحبوا من معركةٍ أيقنوا أنهم لا يستطيعون خوضها.

هذه المفاجأة على الصعيد العسكري رافقتها مفاجأة على الصعيد السياسي، لعب فشل الانقلاب في تركيا دوره الكبير في إحداثها، جسّدها قرار أنقرة رفض حصار حلب، والعمل على كسره من خارج الالتزام بما كان يتم من تفاهمات أميركية/ روسية، وعلى وضع هجوم المقاومة في سياقٍ لا يريح واشنطن، يعطل خطة النقاط الثلاث التي كانت قد أعلنت عن بدء جهودٍ مكثفة، للتفاهم عليها مع روسيا، فتبخرت نقاطها جميعها، ولم “تتحول الهدنة إلى وقف إطلاق نار دائم”، أو “يقدّم كيري مقترحاً جديداً للحل”، كما تنص على ذلك نقطتها الثالثة. بدعمها الهجوم الناجح، أظهرت أنقرة كم يمكن لدورها أن يكون مؤثرا في الخطط التي يضعها الكبيران، وكم يمكنها العمل من خارج قراراتهما وخططهما، أميركية كانت أم روسية، وبين أن خيارات أنقرة لن تنضوي، بالضرورة وفي جميع الأحوال، ضمن السياق الذي تم التفاهم عليه بينهما، وأنها تستطيع خربطة شغلهم، والعمل بطرقٍ ليس من المحتم أن تكون جزئية أو وقتية المجريات والنتائج.

ما الذي سيترتب على المفاجأتين السورية والتركية؟ ثمّة احتمالاتٌ عديدة ممكنة، أهمها التالي: بدعمها الهجوم بعد المصالحة مع روسيا، وقبل زيارة الرئيس أردوغان سان بطرسبورغ، ومن دون النظر إلى ما يمكن أن يكون عليه رد فعل واشنطن، أعلنت تركيا في رسالةٍ واضحة إلى “كل من يهمه الأمر” أنها لن تتخلى عن السوريين وثورتهم، ولن تصالح نظامهم أو تنقذه، كما خالت أوساط عديدة، ولن تتردّد في إمدادهم بالعون الذي يمكّنهم من تغيير أوضاعهم العسكرية، وتالياً السياسية، إلى الحد الذي يجعلهم رقماً صعباً يستحيل تجاوزه، سواء في معادلات السياسات الإقليمية والدولية، أم في أي حل مقبل.

بمعركة حلب ونتائجها الباهرة، دخلت تركيا الساحة السورية من أعرض أبوابها، وطوت صفحة التقيّد بالرهانات والحسابات، الخارجية عموماً والأميركية خصوصاً، وأحدثت مفاجأة من العيار الثقيل، لا يُستبعد إطلاقاً أن تمهد لحل سياسي عادل، يحترم شعب سورية، ويستجيب لحقوقه: طال الزمن أم قصر.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب: إفشال “دبيب النمل/ حمزة المصطفى

بعد هجوم مباغت، نجح جيش الفتح، بالتعاون مع غرفة علميات فتح حلب، في إحداث ثغرة هامة في طوق الحصار المحكم المفروض على مدينة حلب منذ أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز). ومثّل هذا الهجوم نقطة فارقة في مسار الحرب السورية، بعد التدخل الروسي الذي غير معادلات الصراع، وأضفى بعدا مغايرا في تفاعلاته الدوليّة لصالح النظام وحلفائه. تناولت مقالات عدة أهمية المعركة الأخيرة للمعارضة السوريّة، لكنّ قليلاً منها ركز على تداعياتها على النظام واستراتيجيته، لا سيما وأنها كانت أول خسارة حقيقية للنظام في حلب منذ يوليو/ تموز 2012.

لا تخفى على مراقب الأهمية الاستراتيجية لمدينة حلب، فعدا عن أنها العاصمة الاقتصاديّة لسوريّة، فإن قربها من الحدود التركيّة أكسبها مكانةً خاصةً في حسابات المعارضة والنظام. على هذا الأساس، كانت حلب حاضرة دائماً في استراتيجية النظام، منذ اندلاع المظاهرات السلمية عام 2011، وقد عمل جاهدا على عزلها عن الحركة الاحتجاجية وتحييدها باستخدام شتى الوسائل القسرية والناعمة. ومع أن المدينة شهدت مظاهراتٍ محدودة، فإنها ظلت عصية، باستثناء أحيائها الطرفية، أمام أي اختراقٍ ثوريّ، وذلك بخلاف أريافها التي احتضنت المظاهرات والعمل المسلح من بعده. ولمّا فشلت كل المحاولات، قرّرت فصائل الريف الشمالي تثوير المدينة، وإدخالها بالقوة في معادلة الثورة، عبر هجوم عسكري، اكتسح نصفها الشرقي في يوليو/ تموز 2012، لكنه توقف على أبواب قلعتها القديمة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت حلب في قائمة أولويات النظام عسكريّاً، لتخوفه من تكرار سيناريو بنغازي إبّان الثورة الليبية على معمر القذافي. وبخلاف تكتيكاته القتالية المتغيرة والمتبدلة، اعتمد النظام فيها استراتيجية عسكريّة احترافية في حلب، مستفيدا من تدخل حزب الله، وأطلق أواخر عام 2013 عملية عسكرية طويلة المدى، سميت “دبيب النمل” هدفت إلى استعادة حلب وريفها بالتدريج، من دون أن يضطر إلى زجِّ أعداد ضخمة من القوات، لتحقيق حسم عسكريّ شامل.

حققت هذه الاستراتيجية نجاحاتٍ مهمة، إذ استطاعت قوات النظام في أكتوبر/ تشرين الأول 2013 السيطرة على بلدة خناصر الاستراتيجية، وفتحت طريق إمدادٍ التفافي، يمر بالأحياء الجنوبية لمدينة حلب (الراموسة) ويصل إلى قسمها الغربي، حيث تتموضع قواته. ولما تحقق

“بعثت معركة حلب رسالة إلى روسيا: استحالة إنهاء الصراع عسكريّاً لصالحها” له ذلك، بدأ خلال عام 2014 معركة ثانية، استولى فيها على المدينة الصناعية والشيخ نجار، واتخذهما قاعدة للانطلاق شمالاً إلى مناطق المعارضة في باشكوي وحندرات ومخيم حندرات، ليصل بعد عامين إلى طريق الكاستيلو، ويفرض الحصار الكامل على المدينة أواخر يوليو/ تموز 2016. وعلى هامش المعركتين السابقتين، حصلت معركة روسية إيرانية في ريف حلب الشمالي، لم يكن للنظام أي دور حقيقي فيها. فبعد إسقاط تركيا مقاتلة روسية، في نوفمبر/ تشرين الأول 2015، سعت موسكو إلى عقاب تركيا عبر عزلها بشكل كامل عن الشمال السوري. وتقاطعت الأهداف الروسية مع مساعي إيران إلى فك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين. لذلك، زجّت الأخيرة رسميا حرسها الثوري في المعركة إلى جانب المليشيات العراقية والأفغانية، واستثمرت روسيا في قوات الحماية الكردية المعادية لتركيا، وأمنت لها غطاء جوياً مكّنها من السيطرة على بلدة تل رفعت، وكادت تصل إلى أعزاز، لولا التدخل المدفعي المحدود للجيش التركي.

من جهة أخرى، حاولت إيران، بقرار ذاتي خارج حسابات النظام وروسيا، السيطرة على ريف حلب الجنوبيّ، والوصول إلى طريق حلب – دمشق الدولي، بالقرب من مدينة سراقب، والتوغل في محافظة إدلب لفك الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة ذات الأغلبية الشيعية، والقضاء على تجربة جيش الفتح الذي سيطر أوائل عام 2015 على محافظة إدلب، لكنه نجح في الربع الثاني من 2016 في صد الهجوم الإيراني، واستعاد السيطرة على بلدة خان طومان الاستراتيجية، ما كان المرحلة الأولى في فك الحصار عن حلب، فعبر هذا الريف المتصل مع محافظة إدلب، سارت تعزيزات جيش الفتح، لتصل إلى التخوم الجنوبية لحلب، حيث المواقع العسكرية المحصنة (مدرسة الحكمة، كلية المدفعية، الكلية الفنية) والتي تساقطت، الواحدة تلو الأخرى، أمام زخم الهجوم وقوته.

من المبكر لأوانه القول إن معركة حلب غيرت موازين القوى، أو قلبت معادلات الصراع العسكرية والسياسيّة، لكن المؤكد أنها أفشلت استراتيجية “دبيب النمل” الناجحة التي اعتمدها النظام على مدار السنوات الثلاث الماضيّة، وحجّمت النفوذ الإيراني خارج مناطق العاصمة والقلمون، وبعثت رسالة مباشرة إلى روسيا مؤداها: استحالة إنهاء الصراع عسكريّاً لصالحها.

العربي الجديد

 

 

 

 

في محاذير معركة “تحرير” حلب الغربية/ منهل باريش

يبدو أن المعارضة السورية قد حسمت أمرها، وقررت بدء “المرحلة الرابعة” من “ملحمة حلب الكبرى”، في محاولة لالحاق أكبر هزيمة عسكرية بالنظام منذ بدء الصراع في سوريا. إلا أنه من غير المفهوم إصرار “جيش الفتح” على نقل المعركة إلى حلب الغربية، التي تضم قرابة مليون مدني، سيتحولون إلى عبء إضافي على المعارضة السورية، إغاثياً وإنسانياً، في الوقت الذي تتوافر خيارات أخرى، أكثر ضرراً بالنظام، وأكثر أهمية عسكرياً وسياسياً واستراتيجياً.

فإعادة فتح المعارضة لطريق الكاستللو الذي سيطرت عليه المليشيات وقوات النظام في تموز/يوليو، يُبعد شبح الحصار عن حلب الشرقية المحررة، ويحاصر النظام في المنطقة الغربية، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على المعارضة، بسبب الضغط الذي سيخلقه الوضع المُستجد حينها للكتلة البشرية الهائلة على النظام في حلب الغربية. بالإضافة إلى أن تطبيق هذا الأمر، سيخلق صعوبة في الإمداد العسكري لقوات النظام المتبقية في حلب الغربية، ما سيجعلها تعتمد على الإمداد الجوي بواسطة الطيران المروحي بدلاً عن الإمداد البري من الكاستللو شمالاً. وهو أمر بالغ التكلفة على النظام، ما سيشغل كل مروحياته للإمداد الحربي واللوجستي للمقاتلين، وفي الوقت ذاته، سيخفف قدرتها على القصف بالبراميل المتفجرة، على الكثير من المدن، خاصة داريا، التي تستهدف بعشرات البراميل يومياً.

ومن المؤكد أن فتح طريق الكاستللو، سيزيد من إمكانية المعارضة في السيطرة على الملاح والتقدم إلى باشكوي شمالاً وفتح طريق حلب–أعزاز. وربما يكون هذا جزءاً من تفاهم تركي–روسي، يُبعد شبح التقدم الكردي من الشرق إلى عفرين.

كذلك، يعتبر التوجه شرقاً والسيطرة على مطار حلب الدولي أكثر أهمية، لما تعنيه الرمزية السيادية والسياسية للمطار، الذي يعد ثاني أكبر مطار مدني في سوريا. ويعتبر مطار حلب البوابة الشرقية للمدينة، وستعطل السيطرة عليه طرق إمداد النظام بين السفيرة وحلب عبر طريق الكاستللو، ما سيؤخر عمليات الإمداد باتجاه حلب الغربية، إن لم يقطع طريق الكاستللو. السيطرة على المطار، ستُصعّب عمليات إمداد النظام شمالي حلب وصولاً إلى باشكوي ونبل والزهراء.

ويغيب عن “جيش الفتح” أيضاً، وجود “معامل الدفاع” القريبة في السفيرة، والتي تبعد عن الوضيحي نحو 17 كيلومتراً في أرض شبه خالية، لا توجد فيها غير بلدة عسان. ويساعد موقع “معامل الدفاع” جنوب غربي السفيرة، كون السيطرة عليه لا تشترط اقتحام السفيرة، وهي بلدة كبيرة. ومن المرجح أن السيطرة على “معامل الدفاع” (أكبر مصنع للتسليح الحربي في سوريا) هو أكثر أهمية من الدخول في حرب استنزاف طويلة جداً ستنهك فصائل “جيش الفتح” والجيش الحر، في حلب الغربية، وهو ما حدث مع فصائل الجيش الحر في بني زيد شمالي حلب.

من ناحية أخرى، تحاول “جبهة فتح الشام” تصدير ذاتها كقائد للمعركة والعمود الفقري لها، كما أن “جيش الفتح” أشار في بيان له، إلى أن فك الحصار هو من “قام به جملة وتفصيلاً”، منكراً مشاركة عشرات الفصائل الحلبية والإدلبية العاملة في غرفة عمليات “فتح حلب”، وعلى رأسها “فيلق الشام” الذي قام بأغلب عمليات تذخير الفصائل في المعركة. ومن المستهجن أيضاً قبول “فيلق الشام” بالبيان، وهو فصيل أساسي في “فتح حلب” و”جيش الفتح”.

من الملاحظ، أن محافظة حلب دخلت وضعاً مختلفاً بعد سيطرة المعارضة المسلحة على الراموسة، ما سيخلط خريطة السيطرة العسكرية في الشمال السوري، إذا لم تقع المعارضة في الفخ الذي وقع فيه قائد “لواء التوحيد” عبد القادر الصالح، في العام 2012، عندما انساق أمام الرغبة التركية لـ”تحرير” حلب، بعد وعد بسلاح “بلا حدود”. الأمر الذي أجهضته الأوامر الأميركية لاحقاً، بوقف العملية.

ومن محاذير معركة حلب الغربية، وجود أقلية أرمنية ومسيحية، يجب عدم الاستهانة باستخدامها كشماعة من قبل النظام وحلفائه. فمعركة كسب في ريف اللاذقية، أوقفت بقرار دولي حينها، وطُلب من الفصائل الإنسحاب بعد وصولهم إلى ساحل البحر المتوسط.

لذا يبدو بأن الأكثر جدوى للمعارضة هو التفكير بتقطيع أوصال قوات النظام في حلب الغربية وشمالي حلب، ونبل والزهراء، والتقدم شرقاً إلى مطار حلب الدولي. كل ذلك، أكثر أهمية من الدخول في حرب مدن، لا طائل منها، سوى استنزاف المعارضة وتدمير المدينة، وتأليب الرأي العالمي.

 

 

 

هل تقلب معركة حلب الموازين حقا/ ثائر الزعزوع

في الوقت الذي كان فيه النظام وداعموه يسوقون أنفسهم باعتبارهم الطرف القادر على فرض الشروط التي يريدون فرضها على الأطراف الأخرى، لا على قوى الثورة والمعارضة المسلحة فحسب بل حتى على دول المنطقة الداعمة للشعب السوري في محنته، تغيرت تلك المعادلة بين ليلة وضحاها، فمن كان محاصرا بالأمس بات اليوم محاصِرا، ولم يعد النظام قادرا على لملمة قواته المسلحة التي تعرضت لضربات متلاحقة جعلها تتخلى عن مواقعها سريعا وتنسحب انسحابا كيفيا كما جاءتها الأوامر العسكرية، وقد تكبدت تلك القوات والميليشيات الطائفية الموالية لها خسائر وصفت بأنها الأكبر منذ بدء تورطها في الصراع السوري، وتحول الحصار الذي كان سلاحا بيد قوات النظام إلى سلاح ضده، إذ أعلنت فصائل الثورة والمعارضة المسلحة أنها لن تتوقف حتى تحرر كامل مدينة حلب، ما يعني أن المعارك ستمتد إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.

وفق ما هو واضح حتى الآن على الأقل، فإن النظام ومعه القيادة الروسية ما زالا غير قادرين على اتخاذ خطوة ملموسة على الأرض، وربما سيكون علينا الانتظار كثيرا قبل أن نرى رد فعل حاسم يوازي الفعل الذي غيّر المعادلة، ومع اقتراب موعد العودة إلى طاولة المفاوضات، كما قال المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا، فإنه ومع هذه الخسائر الفادحة سيكون وفد نظام دمشق مضطرا للقبول ببعض الشروط والمقترحات التي كان في الجولات السابقة يرفضها بل ويتعامل معها باستخفاف، ولعل إخفاقه في إقناع المجتمع الدولي بإدراج بعض الفصائل المعارضة ضمن قوائم الإرهاب سيحوّل دعايته عن قيامه بمحاربة الإرهاب تبدو هزيلة ولن يستطيع الترويج لها بسهولة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن معركة حلب لم يخضها فصيل واحد، ولم يحاول أي فصيل من الفصائل التي شاركت فيها تصدّر المشهد والمقصود هنا “جبهة النصرة” والتي باتت تعرف باسم “جبهة فتح الشام”، والتي كان يمكن للنظام استخدامها ورقة لتخويف الغرب من الجماعات الإسلامية المتطرفة.

ورغم التفاؤل الذي بات يتخلل المشهد القاتم، بل والتعويل على الانتصار في حلب بوصفه بداية انهيار كلي للنظام، إلا أن النظر بشكل واسع إلى الخارطة السورية المشتعلة سوف يحيلنا إلى معرفة أن النظام لا يكترث لأمر مدينة حلب والتي لا تدخل ضمن مخطط “سوريا المفيدة” الذي يسعى الأسد لجعله حقيقة على أرض الواقع، فهي لم تعد مفيدة اقتصاديا بالنسبة له بسبب الدمار الذي أحدثته قواته بفعل القصف المتواصل على أحيائها، كما أن جوارها التركي يحوّلها إلى مصدر قلق دائم بالنسبة له، دون أن ننسى أن حلب من المناطق التي قد يستمر الاقتتال فيها لفترة طويلة بين فصائل أخرى، إذ تشهد مناطق من ريفها صراعا بين تنظيم داعش من جهة، وبين قوات سوريا الديمقراطية الكردية التي تلقى مساعدة من قوات التحالف الدولي، والتي يوافق النظام على وجودها لأنها تحقق له العديد من المكاسب أهمها أنها تشكل شوكة في ظهر عدوه التركي، كما أنه سيكون قادرا على مواصلة القصف الجوي عليها وتحويل أي شكل للحياة فيها إلى دمار طالما أن قرارا بفرض حظر جوي لم يتخذ وقد لا يتخذ في ما تبقى من ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما.

ولأن جولات المفاوضات قد تستمر طويلا دون أن تصل إلى حل، طالما أن النظام مطمئن إلى أن المعارك تدور بعيدا عنه، وعن “سوريا المفيدة”، فإنه من المؤكد أن الأنظار ستتجه بعد حلب نحو دمشق لأن الحسم سيكون هناك.

كاتب سوري

العرب

 

 

 

ليست غزوة إبراهيم اليوسف/ عمار ديوب

أُطلقتُ تسمية إبراهيم اليوسف منذ عدّة أيام، على الهجوم المضاد الذي شنّته فصائل حلب ضد الحصار الخانق الذي فرضه النظام على حلب “المحررة”، وهناك تسميات أكثر موضوعية ودقة، كملحمة حلب الكبرى، وسواها. التسمية هذه قِيل إن الإخوان المسلمين هم من يقف وراءها، وربما ليسوا هم. وفي العموم، هناك شكوك قوية حول علاقتهم بتسميات أيام الجمع على مدار سنوات الثورة الخمس، والتي كانت أغلبيتها تسميات أثارت -وتثير- حساسيات بالغة، فهمشت مفهوم الثورة، وأعطت النظام أدوات جديدة؛ لوسم الثورة بالطائفية والإرهاب، وهي -عمومًا- روايته عن الثورة منذ 2011، وعَمِلَ لأجلها دون كللٍ ولا ملل.

المعارضة بكل تنويعاتها، لم تستطع صياغة رؤية استراتيجية كاملة للثورة، وكان لصراعاتها المستمرة دور في ذلك، وحينما استطاعت التلاقي، كما في القاهرة في 3 تموز/ يوليو 2012، والاتفاق على وثائق سياسية سرعان ما تمّ طيّها. لم تستطع -أيضًا- تجاوز مشكلاتها، على الرغم من أنها أنجزت خطوة مهمة في اجتماعها في هيئة التفاوض العليا في الرياض، وتشكيلها وفدًا مشتركًا. الخلافات ظلت مستمرة بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق، وكذلك بين الأخيرة والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة؛ غياب رؤية استراتيجية أتاح المجال واسعًا ليكون للإخوان المسلمين دور أساسي في تشكيلاتها، ولا سيما المجلس والائتلاف، وإفراغ هذه التشكيلات من مضامينها الوطنية، وصياغة رؤية تتجاوز عقلية الإخوان، أي: عقلية الانتقام والثأر من خسارتها في الثمانينيات. أخطأت المعارضة كثيرًا بتأخرها في إيجاد توافقات ومشتركات بين تياراتها، وفي الموقف من الإخوان المسلمين، وهذا أدى إلى أخطاء كبرى في صيرورة الثورة، كالفوضى في العمل العسكري، وعدم وجود مؤسسات تمثل الثورة في الإغاثة والتمويل والإعلام والشباب، وكذلك الانفصال الكامل بين العمل السياسي والعمل العسكري، وفي العلاقة مع العالم الخارجي، وتعاظم شأن السلفية والجهادية واجتثاث أغلبية الفصائل المحلية الوطنية، وأغلبية الناشطين المدنيين، وكان من جراء ذلك غياب أي دعم دولي أو إقليمي شعبي؛ إذًا، المعارضة تتحمل مسؤوليات كبرى في مآلات الثورة.

ما حدث في حلب توحّدٌ كبير بين الفصائل الموجودة فيها، وبين الشعب الذي حوصر، وبالتالي هناك تجدّد لروح الثورة، وإن كانت ملوثة بكل التغيرات التي أصبحت تمثل الحياة في المناطق (المحررة)، وأن تأتي هذه التسمية، وفي هذا الوقت، بالتحديد، حيث الهجوم الروسي – الإيراني، فإنها تُقدّم خدمة مثالية للنظام ليقول للعالم بأكمله: “إن غزوة إبراهيم اليوسف، هي جريمة ارتكبها هذا الرجل في عام 1979، ضد طلاب ضباط كانوا يدرسون في مدرسة المدفعية، وكانت موجهة إلى شباب من طائفة واحدة، وبالتالي، من تطلق هذه اسمه على حملتها الآن، هي قوى إرهابية، وعلى العالم أن يقف مع النظام في اجتثاثه لهؤلاء الإرهابيين، والذين إن استطاعوا السيطرة على مدينة حلب سينقلون معاركهم إلى العالم بأكمله فكيف إن استلموا النظام في سورية”.

حلب الآن تُواجَه بحلفٍ روسيٍّ إيرانيٍّ، وهناك معلومات، تؤكد أن الائتلاف الدولي لمحاربة الإرهاب، بقيادة أميركا وجه ضربات عسكرية دقيقة إلى بعض المواقع العسكرية والتي ليست لجبهة فتح الشام! أي أن التنسيق الأميركي الروسي ضد جبهة النصرة، أو ضد جبهة فتح الشام، بدأت تظهر معالمه، وهو ضد كل الفصائل المحلية وليس فقط جبهة فتح الشام. حلب هذه أُجبرت على توحيد العمل العسكري، والعمليات فيها تتطلب درجات عالية من التنسيق، وأن يكون الإعلام دقيقًا فيما يُخبر العالم وفي تسميات عملياته؛ عكس ذلك كلية، وبغباء كبير، وبطائفية تُعمق الكراهية تأتي هذه التسمية، وبالتالي؛ هناك من يعمل ضد كل التقدم الحاصل في حلب. تركيا لن تتمكن من الدفاع عن مقاتلين يطلقون تسمية كهذه، وكذلك الدول التي يُقال إنها داعمة للفصائل. إذًا، ومن أجل نجاح الهجوم هذا وفرض نتائجه على طاولة التنسيق الروسي الأميركي، والروسي التركي، والمفاوضات التي قد تُعقد، يجب ليس التخلص من اسم جبهة النصرة بل والتخلص من فتح الشام كذلك، ومن كل التسميات الطائفية، والتي لا علاقة لها بالثورة من بعيد أو قريب.

ما حصل في حلب ربما سيلعب دورًا رئيسًا في كل ما يتصل بالحل السياسي للوضع السوري، فمعركة السيطرة على حلب، معركة حاسمة، والخطر الآن فعلًا أن تكون جبهة النصرة الأكثر قوة فيها، وهذا سيعطي للتنسيق الروسي الأميركي مبررًا للتحالف الميداني بينهما، وممارسة أكبر عملية سحق للمدينة، لهذا فإن مسألة التسمية، كما مسألة التحالفات داخل المدينة، قضية خطرة للغاية. الفصائل، كما المعارضة وصلت إلى مرحلة جديدة من تطور الصراع في سورية، وبالتالي يجب أن تصل إلى مرحلة الرشد في العمل السياسي، أي إما أن تعلن -بوضوحٍ كلّي- أنها تستقي كل صراعاتها من أهداف الثورة، وإما أن تنتظر حرب التنسيق الأميركي الروسي عليها. ما نقوله يأتي من تطور كبير في العلاقة بين الروس والأتراك، والذي قد يضع تركيا -بشكلٍ كبير- ضد المعارضة والفصائل، وتسهيل عملية سحقها مجددًا والسيطرة على حلب، وذلك مقابل وعود تعويضية في النظام المقبل الذي ستشيده روسيا.

الآن، الدول الكبرى والإقليمية بصدد الضغط من أجل المرحلة الانتقالية والحل السياسي، وهناك تقدم ميداني في المدينة الأكبر بعد دمشق، وإذا كان هذا الضغط أجبر جبهة النصرة؛ لتصبح جبهة فتح الشام، أليس حريًا بالمعارضة أن تحسم في مسألة العلاقة مع فتح الشام ومع كل التنظيمات السلفية والجهادية، وأن ترفض كل ميل طائفي في ممارساتها.

اسم غزوة إبراهيم اليوسف، لا علاقة له بإعلام الثورة، ولا الحركات الجهادية والسلفية، ومن له علاقة بالثورة، هو وحده من تتوافق رؤيته مع سورية دولة للجميع. في حلب أغلبية الشعب المحاصر يُحارب، كما أن أغلبية الشعب السوري ثار من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ومجتمع أفضل، منذ خمس سنوات دامية.

جيرون

 

 

 

 

 

ما بعد داعش/ بشير البكر

إذا لم يرحل بشار الأسد قريباً، فإن الوضع سوف يصل إلى درجة من السوء لن يتم التحكّم بآلياتها خلال مدى منظور، وهذا ما تبين في حصار حلب، ثم كسره قبل أيام، حيث ترافق الحدث مع حالة من التجييش والاستنفار على أسسٍ طائفيةٍ، تنذر بتحويل الثورة السورية إلى نوع من النزاع الطائفي الصرف من جهة، ومن جهة ثانيةٍ تقوية نزعات التقسيم الذي صارت أطراف محلية واقليمية ودولية تروّجه بوصفه المخرج المناسب في هذا الظرف، وتحاول تسويقه حلاً أقل كلفة، يضع حداً للقتال الدائر على الأرض، من دون غالب أو مغلوب.

لو أن خطة فرض الحصار على حلب نجحت، لكانت فتحت صفحةً جديدة في مآلات الموقف السوري. كان سيترتب عليها مجازر جديدة، وحملات تهجير لعشرات الآلاف، فضلا عن إسقاط القاعدة الرمزية للثورة السورية التي بقيت تقاتل منذ أربع سنوات، ولم يتمكّن الحرس الثوري الإيراني والمليشيات العراقية وحزب الله والقصف الروسي من هزيمة المقاومة فيها.

كانت هزيمة حلب ستصير ذات مفاعيل نفسية كبيرة في الشارع السوري الذي تحمل القسط الرئيسي من التضحيات، وبقي يصرّ على رحيل بشار الأسد، ولا يقبل أية تسوية بوجوده.

لم يعد سرأ أن “داعش” ولدت في مناخ الاحتلال الأميركي للعراق. ومنذ ظهور إرهاصاتها الأولى، كان واضحاً أن تدمير الاحتلال الأميركي بنية الدولة العراقية فتح أبواب الجحيم على مصراعيها، والحال الماثل في سورية اليوم لا يختلف عن ذلك، سوى أنه يفوقه في درجة الخطورة، بسبب عنصر التجييش الطائفي. وعلى الرغم من أن جميع الأطراف المتقاتلة تلعب هذه الورقة، إلا أن استخدام إيران لها هو الذي جعل منها كرةً من النار، تكبر في كل يوم، لتلتهم كل شيء في طريقها. ولا يقف الأمر عند حدود زج الجيوش الطائفية الأجنبية في سورية لمقاتلة أهل البلد، بل تعدّاه إلى خطابٍ تعبويٍّ طائفيٍّ، يستهدف الحاضنة الشيعية، لكي تستمر في تغذية آلة الحرب في سورية، ويبدو أن إيران لا تجد في متناول يدها غير السلاح الطائفي لإدامة حربها في سورية، غير مكترثةٍ بالتعايش بين أهل المنطقة الشيعة والسنة.

وجهت داعش، منذ البداية، عملياتها ضد العراقيين، ولم تضع الاحتلال الأميركي على لائحة أولوياتها، ولا تزال حربها مشتعلةً على هذا الأساس، لكنها لم تكسب في سورية، مثلما كسبت في العراق، وفي حال تردّي الوضع السوري، فإن الفصائل المقاتلة مرشحةٌ لأن تتحوّل من الاعتدال إلى التطرف.

لا يزال الموقف العام في سورية تحت السيطرة، وهناك ضوابط محلية وإقليمية ودولية تتحكّم بمستويات تطوره، لكن الكابح الرئيسي هو رغبة السوريين بحل سلمي ووقف القتال. وعلى الرغم من كل ما يقال، لا تزال الفصائل الإسلامية المعتدلة صاحبة الكلمة الرئيسية، الأمر الذي يفسّر تحوّل جبهة النصرة. وعلى الرغم من أن بعض الأطراف اعتبرت المسألة شكليةً، فإنها تعكس مناخاً سورياً عاماً ضد التطرف. وهذا المناخ يمكن أن ينقلب إلى جوٍّ عاصفٍ يدمر كل شيء.

فتح فك الحصار عن حلب ممرات آمنة للجميع. في المقام الأول، جعل من إمكانية إحداث تغيير جذري في عملية الحل التي يقودها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، أمراً ممكناً بالانتقال إلى مفاوضات جدية، وعلى أسس واضحة لرحيل الأسد، وهذا يحتاج إلى توافق دولي، أساسه تفاهم موسكو وواشنطن، وتلوح في الأفق فرصةٌ ذهبيةٌ أمام روسيا، لتغيير موقفها وتغليب الحل السياسي على التمسك بالأسد.

ما بعد داعش عهد جديد من الحروب الطائفية التي لن تقف عند حدود العراق وسورية، بل هي مرشحة لتضرب المنطقة بأكملها، إذا لم يتم التحرّك اليوم قبل غدٍ.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

تكسّر أحلام الطغاة على أبواب حلب/ غازي دحمان ()

لم يكن حصار حلب بالسهولة التي صوّرتها ماكينة الدعاية الروسية وأتباع إيران في المنطقة، فما لم يتم تحصيله بصراع الإرادات وحربها الشرسة لا يمكن تحقيقه بالدعاية، تلك تصلح بدرجة كبيرة لجبر خواطر أهل القتلى الذين يعودون على شكل نعوش بعد أن أدوا مهمّتهم في فداء «إجر« هذا الزعيم، أو» لأجل عيون» الآخر القابع في قصر المهاجرين يحميه الجندي الأجنبي من « شعب»هـ.

هل قلت طريق الكاستيلو؟ «شيء يشبه ممر دانزنغ البولندي»، طريق ترابي وضعه إعلام إيران بوزن ممر إستراتيجي من شأنه تغيير المعادلات الإستراتيجية في العالم ووضع إيران وأذرعها بموضع المتحكم بقلب العالم، لدرجة ان من يسمع خطاب ذلك الإعلام يعتقد ان الجيوبوليتيكي البريطاني السير هالفورد ماكندر أخطأ عندما اعتبر أن قلب أوراسيا هو مركز العالم وان من يسيطر عليه يسيطر على العالم، والأصح أن طريق الكاستيلو الترابي هو قلب العالم فهو يشرف على أحياء «الكلاسة والصالحين وبستان القصر»؟

حصار حلب، والحديث عن معركة كبرى وممرات «إنسانية» وعفو عن الثوار، تلك لم تكن سوى وصلة لازمة تعزفها فرقة، اتضح أنها لم تدخل علم الاحترافية في السياسة والعسكر، وفي سياق سيرتها اللاواقعية في حرب خاسرة من ألفها إلى يائها، إذ لم يحصل في تاريخ الحروب أن جرى استثمار كل هذه الإمكانات الضخمة على المستويات البشرية والاقتصادية لأجل المحافظة على رأس شخص في حرب مديدة وبيئة سياسية دولية شديدة المتغيرات لدرجة انها قد لا توفر دولاً عظمى في سياق حراكها وموجات تداعياتها.

لا شك أن حلف «روسيا وإيران» وأتباعمها قد بنوا قرار حصار حلب على قراءة ناقصة لا تصلح حتى للقيام بمناورات خلبية، فما بالك بإحداث تعديلات إستراتيجية كبرى تغيّر جميع المعادلات القائمة على الأرض من نوع إخراج حلب من معادلة التوازن القائمة في سورية بين الاطراف المتصارعة إلى حين التوصل إلى صيغ سياسية ترضي الجميع، فهل كان ينتظر هذا التحالف من الطرف الآخر أن يرفع له القبّعة وهو يجرده من كل أوراق القوة لديه، أي لا واقعية تلك التي يحلم بها صناع قرار يتحكمون بمصائر شعوبهم المنكوبة بهم؟

ببساطة، شطبت حساباتهم، المتعجّلة، المصالح الأميركية في إرساء حالة التوازن، بل الأكثر من ذلك جهد إدارة اوباما الطويل في بناء التوازن الذي تم لمصلحة تحالف روسيا وإيران بدرجة كبيرة، بعد أن مارست إدارة اوباما دورها في تقنين الأسلحة والمعدات التي يجري إيصالها لفصائل المعارضة والضغط على الدول الإقليمية الداعمة لهم في العمل تحت سقف الجهود الأميركية ورؤيتها للحل، بعد ان اقتنعت الأخيرة أن الأولوية للحفاظ على سوريا في اليوم التالي للتوصل إلى صيغة للحل، ولا شك أن قول تحالف «روسيا وإيران» بأن حصار حلب يشكل كسراً للخطوط الحمر التي وضعتها أميركا كان سلوكاً متصابياً ينطوي على رعونة في القراءة السياسية أدهش البيت الأبيض وزاد من الشيب الذي يغطي رأس باراك أوباما.

كما أن تلك الحسابات، جعلت الأطراف الإقليمية، في ليلة وضحاها، تتقبل راضية خروجها من المعترك الإقليمي خالية الوفاض، وكأنها فجأة باتت بلا وسائل ولا أدوات ولا اوراق قوّة؟ وتناست أطراف ذلك التحالف أن الأطراف الإقليمية الداعمة للثوار في سورية تتعامل مع المعركة بوصفها حرب وجود وتدرك أن خسارتها هناك تمثل تهديداً إستراتيجياً حقيقياً، ولم تكن بحاجة إلى تصريح حسن نصر الله بأن المعركة القادمة في مكة، فهي تعرف تماماً ما تخطّط له إيران وما تطمح له روسيا، كما أن تصالح تركيا مع روسيا لا يعني تنازل الأخيرة عن أمنها القومي الذي تشكّل حلب إحدى أهم واجهاته المعاصرة.

لكن أهم شطحات اللاواقعية، عند صناع القرار في تحالف روسيا – إيران، تمثلت بعدم اهتمامهم بأحد أهم معطيات المعركة في حلب، وهو وجود عشرات آلاف المقاتلين ذوي الخبرة في الحرب، فقد سقط من أيدي ذلك التحالف حقيقة أن القيام بدعسة زائدة في معادلات الصراع من شأنها أن تجر تداعيات غير محسوبة ولا متوقعة لديهم، ذلك ان وضع أولئك الثوار ضمن معادلة الإبادة أو الاستسلام الذي يتبعه الإبادة أيضاً سيدفعهم إلى تغيير أليات وطرق عملهم بطريقة تتناسب مع التحدي المفروض عليهم وتعكس حجم قوتهم الحقيقية، كما أن الارتكاز على القوة النارية التي تؤمنها روسيا قد يساعد في مواضع محدّدة لكنه لا يحسم الصراع نهائياً ولا يستطيع القضاء على الخصم، وهو ما أثبتته الحروب اللامتماثلة منذ عقدين، لكن يبدو ان صداه لم يصل بعد إلى إستراتيجيي حلف روسيا وإيران وأتباعهما.

ليس حصار حلب سوى جملة من الحسابات الخائبة والأحلام اللاواقعية، لم يدم طويلاً، لكنه شأنه شأن كل الحروب التي يخوضها الطغاة والمستهترون بحياة البشر ووجودهم، كانت تكاليفه مرتفعة أغرقت «إجر» ذلك الزعيم إلى الركبة، وهشّمت صورة فلاديمير بوتين الذي سارع وزير حربه بطلب الاستسلام من ثوار حلب، فيما كشفت تلك الواقعة ان دولة الملالي لا تعرف سوى رشوة فقراء الطائفة لدفعهم إلى الموت بينما مرشد الثورة يسهر كل ليلة مع المهدي!

() كاتب من سوريا

المستقبل

 

 

 

 

هل يقرأ الروس رسالة حلب؟/ وليد البني

صدر القرار من موسكو، قبل شهر ونصف الشهر، بمهاجمة حلب ومحاصرتها ومحاولة إعادتها إلى سيطرة نظام مافيا الأسد، وخاض الحرس الثوري الإيراني معارك حلب بكل قوته، معتمداً على المليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية التابعة له، وبعض من تبقى من قوات تابعة لنظام الأسد على الأرض قوة أرضية، وقوى سلاح الجو الروسي بكل ما عرف عنه من قدرة تدمير عالية، وجرأة في قصف المناطق المدنية والأسواق الشعبية والمشافي غطاءً جوياً. وقد استطاعت هذه القوات تحقيق نجاح نسبي، وتمكّنت من إحكام الحصار على المناطق التابعة للمعارضة في حلب، وقطع الطريق الوحيد الذي كان يربط تلك المناطق بالعالم الخارجي (طريق الكاستيللو)، ثم صدرت تصريحاتٌ من وزير الدفاع الروسي، يعلن فيها النصر في حلب، وأن بلاده مستعدة لتأمين خروجٍ آمن للمدنيين من حلب المحاصرة، بينما أعلن بشار الأسد عن استعداده للعفو عن المقاتلين الذين يسلمون أنفسهم وسلاحهم، بتنسيقٍ واضح بين الطرفين، للإيحاء بأن معركة حلب انتهت، وأن خطة الحسم العسكري الروسية في طريقها إلى النجاح، مما سيسمح لروسيا وإيران بفرض الحل السياسي الذي يخدم مصالحهما.

في هذه الأجواء، وبينما انشغل المحللون السياسيون في التفكير والتحليل لماهية الحل السياسي القادم الذي ستفرضه روسيا وحلفاؤها، مستغلة انشغال الإدارة الأميركية في المعركة الانتخابية، والأتراك بأمورهم الداخلية بعد الانقلاب الفاشل، وتركيز اهتمام السعودية ودول الخليج العربي على معركة اليمن الممتدة، بدأت قوات المعارضة المسلحة السورية هجوماً معاكساً استطاعت به الالتفاف على الحصار، وهزيمة قوات الحرس الثوري الإيراني، والمليشيات المتحالفة معها، والسيطرة على مساحاتٍ واسعةٍ من حلب، بينها قواعد عسكرية مهمة، مثل مدرسة المدفعية والتسليح ومنطقة الراموسة، وتمكّنت من كسر حصار حلب الشرقية، والبدء بحصار حلب الغربية الواقعة تحت سيطرة النظام.

“هل سيبقى زعيم الكرملين مصمماً على الحسم العسكري طريقاً وحيداً لفرض الحل الذي يريد في سورية؟”

قد يكون كسر الحصار ليس الإنجاز الأكبر لقوى المعارضة المسلحة، مقارنة مع اغتنام مستودعات أسلحة كاملة، كان النظام يخزّنها في القواعد العسكرية التي خسرها، مما سيعوّض القوات المهاجمة عن انقطاع الدعم القادم من الشمال، عن طريق “الكاستيللو”، ويمكّنها من متابعة هجومها لمدة أشهر عديدة، وسيرفع كثيراً خسائر إيران وذراعها الرئيسية في المنطقة، حزب الله، وسيضع موسكو في وضعٍ لا تحسد عليه، بعد فشل رهانها على الحسم العسكري، على الرغم من سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها أسطولها الجوي في القرى والمدن السورية. فهل سيقرأ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الرسالة القادمة من حلب؟ وإذا قرأها هل سيفهم معناها؟.

تقول الرسالة إن إيران وحرسها الثوري بكامل طاقته، وحزب الله بكامل عدده، وكتائب الحقد الطائفي العراقية والأفغانية بكامل عدتها، وما تبقى من جيش طاغية دمشق مع كل محتوى الخزينة السورية من مال وسلاح، مضافاً إليها قوات روسيا الجوية الهائلة والمدمرة كل شيء، من دون تمييز بين عسكر ومدنيين أو بين حجر أو بشر، فشلت كلها في استعادة نصف مدينة حلب، بل وقد تخسر النصف الآخر.

هل سيبقى زعيم الكرملين مصمماً على الحسم العسكري طريقاً وحيداً لفرض الحل الذي يريد في سورية؟ وهل سيستشرس في الدفاع عن نظام متهالك، ويحول سورية إلى أفغانستان أخرى، تستنزف روسيا، وتُغرق السوريين في الدم والدمار عقوداً؟ أم أن معارك حلب والهزائم التي مُني بها الحلف الذي يدعمه قد تشكّل فرصةً لاستخلاص العبر، وتفهّم أهمية الضغط على الإيرانيين، ومن خلالهم على طاغية دمشق، ودفعهم إلى قبول حلٍّ سياسي يحقّق طموحات الشعب السوري المشروعة في الحرية والديمقراطية، والاستقرار في دولةٍ عصريةٍ بعيداً عن الحكم المافيوي لآل الأسد وجرائمه، وعن التنظيمات التكفيرية وإرهابها وظلامها، بما يضمن استقرار سورية دولةً مسالمةً متصالحةً مع جوارها والعالم؟

شرح رسالة حلب، ومحاولة إيصالها إلى الروس، وكل من يهمه أمر سورية، يجب أن تكون مهمة كل الوطنيين السوريين، وكل حلفاء الشعب السوري الصادقين، كما أن تقدّم النخبة الثقافية والسياسية الوطنية في سورية بمشروع وطني، يوحِّد الغالبية الساحقة من السوريين، حول بنوده، ويرسم صورة حضارية عن السوريين وثورتهم، وحلمهم بدولة حرة ودستور يساوي بينهم، من دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق، قد يساعد كثيرين، وفي مقدمتهم الروس، على استيعاب الرسالة التي أرسلتها حلب إلى الجميع في الأيام الماضية.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب ليست غروزني/ بشير البكر

تأخرت حلب، حتى التحقت بالثورة السورية، لكنها، منذ ذلك الحين، صارت بؤرة الاشتباك الرئيسي، السياسي والعسكري، ومركز ثقل المأساة السورية بكل تجلياتها، وبات ثابتاً في الداخل والخارج أن مستقبل الوضع السوري يتعلق بحسم الموقف في حلب، الأمر الذي تتصرّف بموجبه الأطراف المعنية بمعادلة الصراع، وظهر جلياً من خلال مجريات الهجوم الكبير الذي شنته المعارضة في الأيام الأخيرة.

أعادت معركة حلب الدائرةُ منذ مساء الأحد الماضي، تصحيح بعض الاختلالات في النظر إلى وضعية المدينة قبل كل شيء، ومن ذلك مسألة الحصار التي حاول النظام أن يلعبها ورقةً لإنهاء المعارضة، واستخدامها وسيلة ضغط وسلاح في مفاوضات جنيف، وبعد أن حقّق تقدماً، في الشهر الأخير، على صعيد قطع خط الإمداد الوحيد، وتحكّم بطريق الكاستيلو الذي كان يربط شرقي المدينة بريفها، دخل الأسبوع الماضي في مساومة المعارضة على الاستسلام العسكري ورمي السلاح.

لم يكن في وسع النظام أن يحقّق هذا التقدم النوعي، لولا الدعم الروسي الذي بدأ منذ حوالي سنة، واتضح، في الأسابيع الأخيرة، أن خطة روسيا لتمكين النظام من حلب اعتمدت على تطبيق “نهج غروزني” في العاصمة الشيشانية التي حرثها الروس، ودمّروها فوق رؤوس سكانها، ليسيطروا عليها، وهذا ما يفسّر كيف أضحت المستشفيات ومحطات المياه في حلب وإدلب أهدافاً للطيران الروسي، وصار سلاح التجويع أداةً لإخضاع من تبقوا من السكان في القسم الشرقي من مدينة حلب الواقع تحت سيطرة المعارضة.

ذهب الروس والإيرانيون إلى حصار حلب، على الرغم من التحذيرات التي صدرت عن أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ من خطورة هذه الخطوة، والأمر الذي يبعث على الاستنكار أن الأمم المتحدة انساقت وراء ذلك، وتبنّت مسألة الممرات التي حدّدها الروس، من أجل تفريغ المدينة من المدنيين الموالين للمعارضة، وتسليم المقاتلين سلاحهم. وكانت زيارتا المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، إلى طهران، ونائبه رمزي يوسف رمزي إلى دمشق، في اليوم نفسه رسالةَ تسليمٍ بالخطة الروسية الإيرانية.

جاءت معركة حلب لتكشف أن هناك تسرّعاً روسياً إيرانياً في الحسابات، وخفةً وتواطؤاً من الأمم المتحدة، ذلك أن هؤلاء جميعا تجاوزوا ما تكرّس من قواعد اشتباكٍ في حلب على مدى العامين الماضيين. وفي العمق، أنه لا يحقّ لطرفٍ حسم المعركة لصالحه، وكثيراً ما ردّدت أطراف دولية وإقليمية أن الحل العسكري غير وارد. ولهذا، قامت آلية جنيف من أجل الاتفاق على عملية سياسية.

صحيحٌ أنه لم يتم رسم خطوط حمر في حلب. ولكن، على مدى عامين من الحرب، صار متعارفاً على جملة من الخطوط الحمر التي نشأت بفضل تفاهماتٍ غير مكتوبة بين الأطراف الإقليمية والدولية، ويمكن ملاحظة ذلك من سير المعارك العسكرية، وظهر أكثر من مرة أنه لا يكفي أن يكون طرفٌ ما قادراً عسكرياً، حتى يمسك بالأرض، وتبيّن أن الميدان هو ساحة اشتباك، وليس مكاناً للنصر أو الهزيمة. ومن هنا، يعتبر قرار الروس والإيرانيين قطع طريق الكاستيلو على حلب، وفرض الحصار، خرقاً خطيراً للتفاهمات، وكان الرد عليه من خلال معركة حلب التي جاءت لتفرض حصاراً على النظام، وباتت المعادلة اليوم قائمةً على تبادل الحصارات.

ومن دون شك، تعتبر تركيا الطرف الأكثر تضرّراً من حصار مناطق المعارضة، ليس فقط لأن حلفاءها فقدوا موقعاً مهماً في مسار الحرب، وإنما لأنها ستتحمل وحدها عبء استقبال عشرات الآلاف من اللاجئين. ولذا، كانت قريبةً جداً من تحضيرات معركة “الغضب لحلب”، وستظل طرفاً أساسياً فيها، وسيكون لرأيها دور في تحديد مآلاتها.

هدف معركة حلب المباشر هو فك الحصار عن مناطق المعارضة، لكن النتائج مرشّحةُ أن تقرّر مصير سورية.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب تفرض معادلة جديدة/ بشير البكر

جاءت عملية “الغضب لحلب” التي بدأت، بعد ظهر الأحد، لتعيد خلط الأوراق، وتضع المسألة السورية أمام وضعٍ مختلفٍ ومغايرٍ لما كانت تخطّط له الأطراف المؤثرة في المعادلة، أي روسيا والولايات المتحدة. وفي الوقت الذي ساد الاعتقاد، خلال الأسبوع الماضي، أن معركة حلب انتهت لصالح روسيا والنظام السوري، قلبت المعارضة الطاولة، وتمكنت خلال يومين من استعادة المبادرة، وتغيير المعطيات الميدانية على نحو أصاب الجميع بالصدمة.

دخلت العملية يومها الثالث، ولم تتمكّن روسيا والنظام السوري والمليشيات التي تقاتل إلى جانبه من وقف زحف الهجوم الكبير الذي بدأ من جنوب المدينة، ليفكّ الحصار عنها من جهة الراموسة ومدرسة المدفعية، أي غير طريق الكاستلو الذي صار تحت سيطرة النظام وحلفائه منذ أكثر من أسبوعين. وبات واضحاً، حتى الآن، أمران أساسيان، الأول تصدّع جبهة النظام في هذا القطاع. والثاني أن هجوم المعارضة عمليةٌ متقنةٌ ومدروسةٌ، ومخطط لها أن تحقق أهدافاً محددة.

كان الأسبوع الذي سبق العملية من أسوأ الأوقات التي مرّت بها المعارضة السورية، منذ بداية الثورة، لأنها كانت مهدّدة بخسارة حلب، وعلى الرغم من أن هذه المعارضة فقدت مواقع كثيرة، خلال السنوات الأخيرة، في الحرب ضد “داعش” أولاً، ومن ثم أمام الدعم الروسي المفتوح للنظام، إلا أن خسارة حلب كانت ستكون الضربة القاضية التي ستنهيها على المستوى الاستراتيجي، وكان ذلك واضحاً من شكل تعاطي النظام والروس مع مقاتلي المعارضة داخل المدينة، حيث بدأ النظام يعرض عليهم الاستسلام، وصارت روسيا ترسم لهم ممراتٍ للخروج، وانزلق إلى هذا الإخراج المذلّ مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الذي أصدر تصريحاتٍ تكفّل فيها باستعداد الأمم المتحدة تنظيم عملية استسلام المدينة.

لم يكن أحدٌ من المتابعين للوضع السوري يعتقد أن الموقف سيتغير بين عشية وضحاها، وتنتفض المعارضة السورية لحلب على نحو ما هو حاصلٌ، منذ مساء الأحد، وبهذه السرعة. وقد فوجئ الروس، مثل النظام وإيران، وظهرت حساباتهم على قدرٍ كبير من الهشاشة والتسرّع وعدم دراسة دقيقة للوضع على الأرض، ويمكن القول، إن صدمة الروس كانت كبيرة، ولم يتمكنوا من الرد للاحتفاظ بموازين القوى التي حقّقوها، منذ تدخلهم لنجدة النظام قبل أكثر من عام، وتسرّب أنهم يبحثون عن وساطةٍ من أجل وقف إطلاق نار مدة أسبوع، الأمر الذي لا ينطلي على أحد أن هدفهم من ذلك هو الالتفاف على العملية، ووقف زخمها، ومن ثم تثبيت وضع النظام في جزءٍ من حلب التي بات مهدّداً بفقدانها بالكامل، إذا واصلت قوات المعارضة الهجوم بالقوة نفسها.

أخطر ما يهدّد المعارضة هو التجاوب مع دعوات وقف النار، قبل أن تتمكّن من تثبيت انتصارها على الأرض، وتحصينه على نحوٍ لا يسمح لروسيا وحلفاء النظام بالنيْل منه، ومثلما تصرّف النظام، الأسبوع الماضي، حين أبلغ الأمم المتحدة استعداده للعودة إلى مفاوضات جنيف، وفي ظنه أنه بات يملك ورقة حلب، على المعارضة أن تلعب هذه الورقة، وكلما حقّقت المعارضة مكاسبَ ميدانيةً، وأحكمت الحصار على النظام وحلفائه، كلما كانت أوراقها التفاوضية قوية.

جولة جنيف التي ستعقد، من حيث المبدأ في نهاية الشهر الحالي، وفق ما أعلن دي ميستورا، ستكون تحت تأثير نتائج معركة حلب، وستتحدّد اتجاهات التفاوض بناءً عليها. وقد يتأخر موعد الاجتماع، وجدول أعماله تبعاً لسير المعركة وحصيلتها. ولذا، يجري النظر إلى هذه المعركة، بوصفها مفصليةً في مسار الأزمة السورية.

ليست معركة حلب هبّة عابرة في الحرب السورية، بل تشير كل المعطيات إلى أنها مدروسة، من الأطراف السورية التي حقّقت أكبر قدرٍ من الوحدة، وبالاتفاق مع الأطراف الداعمة، الإقليمية والدولية.

العربي الجديد

 

 

 

 

في تهافت بعض النقاش حول معركة حلب/ عمر قدور

تثبت تفاصيل الشأن السوري مرة تلو الأخرى أن وصفة بشار الأسد «إما أنا وإما الإرهاب» حققت نجاحاً منقطع النظير، تعدى حدود مُوالي النظام وحلفائه إلى أقلام مستقلة تقتفي أثر بعض الحكومات والإعلام في الغرب بحصر الخطر في الإرهاب من دون البحث في أسبابه السياسية المباشرة. أخطر ما في هذه الوصفة ليس المفاضلة، كما يُراد إيهامنا بين نظامَيْ حكم سيئين، يمتاز الإسلامي منهما بكونه الأكثر تضييقاً على حرية الأفراد والجماعات، وإنما أن الوصفة نفسها تضمر انعدام الحساسية تجاه أولئك الذين يُحسبون «حاضنة شعبية» للإرهاب لا بأس في اجتثاثها وإبادتها.

في معركة حلب المعلنة بهدف فك الحصار عن الأجزاء الشرقية من المدينة الواقعة تحت سيطرة فصائل معارضة، لم نعدم من بدأ فوراً بانتقاد فرح أنصار الثورة بأخبار انتكاسة النظام وحلفائه مع بدء الهجوم. في أحسن الأحوال قد توضع علامة تعجب كبرى وراء ملاحظة الفرحة التي أبداها ناشطون علمانيون بتقدم فصائل إسلامية، وفي أسوئها تُلغى إشارة التعجب للقول إن أولئك إسلاميون متخفّون، ولا نعدم بالطبع من يكيل لهم الاتهام بتخلصهم من حرج دعم «النصرة» بعد إعلانها فك الارتباط بتنظيم «القاعدة». سيأتي حادث سقوط المروحية الروسية ليعطي أصحاب وجهة النظر هذه ملمحاً إنسانوياً، بسبب صور سحل جثة الطيار الروسي، بحيث يظهر أنصار الثورة كأنهم «فوق إسلاميتهم المتنكرة» همج متوحشون بالمطلق. وسَوْق الأمر في هذا الاتجاه الذي يبدو محقاً بالمعنى الإنساني المجرد يتعامى عن أمرين، أولهما الهجمة الوحشية المكثفة التي يشنها الطيران الروسي على المدنيين ومستشفياتهم منذ عشرة شهور، وثانيهما أن أولئك الذين أظهروا حساسية متدنية إزاء سحل الطيار كانت لهم حساسية مرتفعة إزاء انتهاكات مشابهة كان ضحيتها مقاتلون محليون، بما يدل أصلاً على حساسية سياسية تجاه الداخل واحتمالات العيش المشترك، وعلى الانقطاع التام عن الروسي بصفته محتلاً.

وكما في كل نقد ذرائعي ستحضر الانتقائية فاقعة، فالذين أظهروا حساً إنسانياً إزاء سحل جثة الطيار هم أنفسهم الذين سهلت عليهم المفاضلة بين بشار والفصائل الإسلامية لمصلحة الأول. حوالى 300 ألف مدني محاصر لا اعتبار لهم في هذا الميزان، هم مجرد تفصيل تافه في المعركة الكبرى ضد الإرهاب! ولو كان حصار حلب الأول من نوعه لبقيت هناك مساحة لحسن الظن، أي لو لم نشهد جميعاً حصار داريا والغوطة الشرقية ومخيم اليرموك وحمص القديمة ثم حي الوعر، ولو لم نشهد سياسة التجويع وصولاً إلى إفراغ سيارات الإغاثة الأممية من حمولاتها كاملة، أو من الأدوية والأغذية الضرورية كحليب الأطفال.

أمام هذا الاحتمال الكارثي المحيق بالمحاصرين، وأمام سياسة الإبادة تجويعاً التي لم يستخدمها سوى النظام وحلفائه، يأتي الهزل الأيديولوجي ليصوّر الانتصار لحياة هؤلاء بوصفه انحيازاً إلى الإسلاميين، وكأن واحدة من القوى الديموقراطية في العالم جربت لمرة واحدة حماية السوريين ولم تلقَ ترحيبهم وترحيب أنصار الثورة عموماً. أكثر من ذلك، في كل حالات الحصار السابقة، اتجهت المناشدات إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بوصف ما يحدث جريمة ضد الإنسانية أولاً، وفي بعض الحالات أتت الاستجابة بصفقات ترقى إلى جريمة التطهير، بإجبار الأهالي على ترك ممتلكاتهم وأماكنهم في مقابل الحفاظ على حيواتهم.

بالطبع، ذلك كله لا يمنح التنظيمات الإسلامية أفضلية مستدامة، ولا ينزهها عن استغلال المأساة الإنسانية لدعم مشروعها الأيديولوجي. ولكنْ من جانب آخر لا يمكن تنزيه النفاق الإنسانوي المتعمّد والمستمر عن تغذية تلك التنظيمات بما يمكن استغلاله لمصلحتها. فأن تحصد التنظيمات الإسلامية نتائج التواطؤ الدولي والإقليمي الذي أدى إلى حصار حلب، فذلك ما ينبغي أن يدفعنا إلى توجيه نقد «شرس» لكل المنظومة التي تدعي محاربة الإرهاب، فهي ذاتها المنظومة التي تخاذلت عن دعم من صنّفتهم معتدلين، وهي المنظومة التي لم تُبدِ أدنى اكتراث بحصار حلب والمأساة التي ستنجم عنه.

نظرياً، يُراد إظهار مَن فرحوا بتقدم «جيش الفتح» في معركة فك الحصار أصحابَ تناقض بين قناعاتهم المعلنة ونياتهم الفعلية، وهو تناقض سيكون موجوداً لو تناسينا كل ما عداه. وإذا كان حلّ التناقض واضحاً جداً من قبل أصحابه، بالانتصار أولاً لحيوات أولئك المحاصرين، فالحل يشير بوضوح إلى ما ينقص السياسات المتبعة في مكافحة الإرهاب، أو إلى مجمل السياسات المولِّدة للإرهاب، أي إلى ذلك العوز الفادح في الجانب الإنساني، وأيضاً إلى أنواع التمييز بين الضحايا، حيث لا يقتصر التمييز على ضحايا غربيين وضحايا محليين، وإنما تعداه إلى التمييز بين الضحايا المحليين أنفسهم.

ما يُخشى منه كأمر واقع أن يؤدي الانحدار الدولي، من الانتصار لمفاهيم الحرية إلى تفضيل الأسد على «الإرهاب»، إلى تدهور مقابل، مفاده أيضاً التفضيل على قاعدة الأقل سوءاً. فإذا كان الأسد، من وجهة نظر دولية وأقلوية، الأقل سوءاً، ما دامت جرائمه موجهة ضد سوريين آخرين، فسيكون مشروعاً تفضيل «القاعدة» وأخواتها عليه من قبل سوريين يستهدفهم الأسد بالإبادة، وتستهدف التنظيمات الإسلامية طبيعة عيشهم فقط. التدني في محصلة الحالتين هو الوصول عملياً إلى الجدل حول حق الناس في الوجود، بدل حقهم في الوجود التام حقوقياً. القول بأن محض وجود الناس تحت حكم الأسد أفضل من وجودهم تحت حكم الإسلاميين، نتيجة غير متغربة عن الواقع ثقافياً فحسب، كما يصفها الإسلاميون، هي متغربة عن الواقع لأن بقاء الأسد تهديد مستمر لوجود السوريين اكتسب زخماً أقوى مع الصمت العالمي، ومن السطحية والابتذال التعويل على إعادته إلى ما قبل آذار (مارس) 2011، مثلما من السطحية والابتذال الظن بموافقة السوريين على إعادة الزمن 1400 سنة إلى وراء.

مع الأسف، كل ما بُذل للقول بأن حكم بشار أقل سوءاً من البديل المحتمل أدى إلى نتيجة واحدة، هي اعتباره أخيراً على نفس سوية السوء مع بعض القوى الغربية الذي يتواطأ على إبقائه، بلا أدنى تعديل في نهج الإبادة. في الواقع، من يُسحل منذ سنوات تحت عيون مغمضة هي إنسانية السوريين وكرامتهم قبل جثثهم، ثم يُستكمل ذلك بإسماعهم كل أنواع المواعظ.

الحياة

 

 

 

 

 

خيارات السوريين بين الموت والهزيمة أو حلب/ سميرة المسالمة

يقف السوريون اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما حرب تستمر بين كل الأطراف المتصارعة على سورية وداخلها، أو خيار تتوافق عليه القوى الكبرى، يوقف الإمداد للقوى المتحاربة، وينهي الصراع المسلّح، وفي كلا الأمرين يبدو العامل السوري مهمشاً إن لم يكن غائباً تماماً عن التفاهمات الدولية وعن طاولة المفاوضات التي تعقد هنا أو هناك بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وتحت غطاء أممي في بعض الأحيان.

واضح أننا إزاء خيارين لا يتناسبان مع تضحيات الشعب السوري وطموحاته. فالسيناريو الأول الذي يقوم على استمرارية الصراع، يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة والمزيد من الخراب في الدولة والمجتمع السوريين، وهذا أمر لا يبالي به النظام، الذي أشهر منذ البداية شعار: «سورية الأسد أو نحرق البلد»، وقد ترجم ذلك عملياً بتحويله معظم مدن سورية إلى حقل رماية لبراميله المتفجرة وصواريخه ومدفعيته، وبتشريده ملايين السوريين، فضلاً عن فتحه البلد على مصراعيه أمام نفوذ نظام إيران والميليشيات اللبنانية والعراقية التابعة له، وأمام الوجود العسكري الروسي.

أما الذين ينادون باستمرار الصراع بالوسائل العسكرية، من المعارضة، فهم يتذرّعون باعتبارهم أن كل الخسائر المترتبة على هذا الخيار قد دفعت، وأن مزيداً من الضحايا مقابل انتزاع السلطة من نظام يقتل شعبه هو أقل ما يجب عمله، للرد على أي مساومة تتحدث عن إعادة إحياء نظام الأسد. ولنقل إن الشعب السوري ربما يتقبّل مثل هذا الطرح عندما تقدمه قوى فاعلة على الأرض تذود عن خيارها النضالي بأرواحها وأرواح عائلاتها قبل الآخرين، لكن ما يحدث يبيّن أن معظم المتحدثين هم خارج الأراضي السورية ويعيشون في أمان مع عائلاتهم، والحديث عن تضحياتهم حتى آخر طفل يبقى مجرد شعار يساوي شعار النظام الذي يزجّ بأبنائنا في حرب مجنونة دمرت سورية مدناً وشعباً ومستقبلاً. والأهم، أن الذين ينادون باستمرار الحرب حتى آخر طفل هم طبعاً غير قادرين على مدّ المعارضة المسلحة بالمال والسلاح اللذين يمكنانها من الصمود أمام آليات النظام والقوى العظمى المساندة له بسلاحها الجوي وقوة قرارها الدولي.

على ذلك، فإن السيناريو الأول يتلخّص باستمرار الواقع الراهن، أي استمرار التصارع على سورية، بين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، وتالياً استمرار حال القصف والقتل والحصار والتشريد، والإبقاء على صيغة لا غالب ولا مغلوب، بعدم السماح لأي طرف بالغلبة على الطرف الآخر. ولا شك في أن هذا السيناريو من شأنه إطالة عذابات السوريين، وتفاقم حال الخراب للدولة والمجتمع في سورية، ومزيد من الاستقطاب الطائفي، والتغييرات الديموغرافية فيهاً. أيضاً هذا السيناريو يصب في مصلحة القوى الدولية والإقليمية التي تسعى إلى خراب المشرق العربي أو لا تبالي به، لا سيما في أهم بلدين فيه، أي سورية والعراق، كما أن هذا الوضع يؤدي إلى خدمة إسرائيل. إذ لا شك هنا في أن إسرائيل هي المستفيدة من استمرار هذا الخيار، وهذا ما يفسر موقف الولايات المتحدة، اللامبالي واللامسوؤل مما يجري.

أما السيناريو الآخر والمتوقع من الدول الكبرى ومن مجموعة دول أصدقاء الشعب السوري، التي ثبت عجزها عن أي فعل حقيقي لمصلحة الثورة، فيتمثل بوجود نوع من توافق على الحل في سورية. لكن يجب أن يدخل في علمنا، أن الولايات المتحدة الأميركية، من موقع مكانتها العالمية وقدراتها وتأثيرها، هي التي ستحسم لحظة الوصول إلى هذا الحل وشكله، مع إشراكها هذا الطرف او ذاك وفق حجمه ودوره ومكانته. لذا، فإن التسريبات عن نضوج توافق أميركي ـ روسي في خصوص سورية، تؤكد مجدداً أن تقرير وضع النظام السوري ومصير السوريين بات في أيدي القوى الخارجية الدولية والإقليمية، وأن ملف سورية بات في يد روسيا على حساب إيران، وذلك باعتراف الولايات المتحدة، أي أن ذلك سيفضي إلى تحجيم مكانة إيران في سورية، وتقزيم دورها في تقرير مصير هذا البلد، وربما نشوء نوع من التباين بينها وبين الطرف الروسي، على هذه الخلفية.

مع ذلك، يجدر الانتباه الى أن تحقّق هذا الخيار قد يتم فرضه بالطرق السياسية أو بواسطة القوة العسكرية، أو بدمج الوسيلتين معاً، لا سيما إذا ظهرت قوة معينة، مع النظام أو مع المعارضة، تحاول عرقلة هذا الحل.

إزاء هذين الخيارين اللذين لا يتناسبان مع تضحيات معظم السوريين وطموحاتهم، يفترض بقوى المعارضة السورية وبمختلف تسمياتها ومنابتها ومكوناتها، سواء جاءت بقرار خارجي أو شعبي، أن تواجه التداعيات والتحديات التي يفرضها كل سيناريو على مصير سورية وشعبها، وأن تبذل طاقتها وجهودها لتوسيع دائرة حضورها وتعزيز مكانتها في إطار أي خيار.

هكذا أود القول هنا بوجود، أو بوجوب إيجاد، خط ثالث أو طريق ثالث للمعارضة السورية، هذا إن أدركت في شكل صحيح مكانتها ودورها، وإن قررت حسم أمرها، من دون أي ارتهان سوى لطموحات شعب سورية. أي أن هذا يتطلب أن تسأل المعارضة نفسها الأسئلة الواجبة والحقيقية، وأن تجيب عنها بكل وضوح وصراحة. مثلاً، عليها أن تراجع نفسها إذا كانت نجحت في النهج الذي سارت عليه طوال السنوات الماضية، وإذا كانت بكياناتها وتشكيلاتها الحالية قادرة على الاستمرار وتحمّل تداعيات استمرار الصراع، وأن تفكر بكيفية ردم الفجوة التي بينها وبين شعبها.

هذا يعني أن المعارضة ستواجه في كلا الخيارين تحديات وتعقيدات ومداخلات جمة، فالخيار الأول يؤكد أن المعارضة ما زالت في البدايات، فهي لم تهزم النظام، ولم تحجّم دور القوى الدخيلة، وهي ما زالت في حاجة الى توضيح نفسها، أمام شعبها وأمام العالم، واستدراج جميع طلبات الدعم للوضع السوري. أما المطلوب من المعارضة وفق الخيار الثاني، فيتعلق بتعزيز مكانتها كممثل للسوريين، ولمجمل طموحاتهم، وفوق ذلك فهي مطالبة باستثمار المداخلات الخارجية، كقوة مضافة لها، من أجل الضغط على النظام وحلفائه لوقف القصف والقتل والتشريد، ومن أجل الوصول إلى هيئة الحكم الانتقالية، وفق بيان جنيف 1، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وهنا عليها أن تقدم نفسها، وعبر الحكومة الموقتة، كبديل للسلطة في المناطق المحررة، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه حتى الآن.

لذا، إذا لم يتم التوجه نحو طريق ثالث، أي إذا تعذر على المعارضة مراجعة تجربتها، ونقد طريقها، واستنهاض أوضاعها، وتطوير كياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، على أسس جديدة، وخطابات واضحة وجامعة، فإننا سنجد أنفسنا أمام طريقين فقط يطيلان عذابات السوريين، ويبددان تضحياتهم.

وفي مواجهة مع الذات، أخشى أننا بعد أحداث معركة حلب أخيراً، التي يبدو أنها كشفت ليس غطاء وجه الجولاني أمير «جبهة النصرة» فحسب، بل ووجه التوافقات الدولية بمجملها، أننا كسوريين وكمعارضة وكنظام بتنا أمام خيارين: إما استمرار موتنا تحت مسميات المعارك المدعومة دولياً أو الاعتراف بهزيمة كلا الطرفين عن تحقيق هدف معركتهما، والتوجه إلى طاولة مفاوضات قد تنقذ بقايا مما نعرفه من سورية. هذا مع تأكيدي أن معركة حلب أثبتت مخزون الصمود والتضحية العاليين عند شعبنا، ما يعني أن المعارضة مطالبة بترجمة ذلك بتطوير أوضاعها باتجاه الطريق الذي سبق أن ذكرته، بدل الاستسلام للخيارين السابقين.

* كاتبة وإعلامية سورية

الحياة

 

 

حلب: كرّ القيصر وفرّ التابع/ صبحي حديدي

المنطق ـ البسيط أولاً، ثمّ ذاك الذي برهنت على صوابه جولات سابقة في المواجهات العسكرية بين النظام السوري وفصائل المعارضة السورية المسلحة، على اختلاف انتماءاتها وتشكيلاتها ـ يشير إلى أنّ معركة حلب الراهنة، في الحصار والحصار المضاد؛ سوف تكون طويلة، قائمة على الكرّ والفرّ، ومرشحة لتطورات نوعية، ودروس فارقة إلى جانب أخرى باتت كلاسيكية.

ولعلّ أولى الدلالات الجديرة بالتأمل هي السرعة المذهلة التي اتسم بها نجاح المعارضة المسلحة، وتحديداً «جبهة فتح الشام»، في اجتياح المدارس والكليات العسكرية الحصينة في منطقة الراموسة؛ خاصة مدرسة المدفعية، تلك القلعة الحصينة المدججة بالسلاح والعتاد والعناصر، وبعض الرموز الدامية أيضاً (لم يكن قراراً رغبوياً، فقط، أنّ «الجبهة» اختارت اسم إبراهيم اليوسف، ومجزرة حزيران/ يونيو 1979 البغيضة التي وقعت في المدرسة إياها، لتسمية العمليات هناك).

صحيح أنّ ما تبقى من جيش النظام بات، بالفعل، جديراً بلقبه الأثير: «جيش أبو شحاطة»، المهلهل، المتفكك، سريع الانهيار، فاقد المعنويات، متدني التدريب، رديء التغذية، فوضوي التسليح، ضحية هروب ضباطه فور دنوّ العواصف… ولكن من الصحيح، في المقابل، أنّ هذا الجيش ليس هو الذي يقاتل، مباشرة أو أساساً، على تخوم حلب؛ وأنّ القتال الميداني الأكثر فعالية تتولاه وحدات «حزب الله»، و»الحرس الثوري» الإيراني، والميليشيات شيعية المذهب متعددة الأعراق.

الدلالة الهامة الثانية هي أنّ جيش النظام، والقوات والميليشيات المختلفة «المرافقة» له، يتمتعون بتغطية جوية كثيفة من القوّة الأعظم الثانية كونياً؛ وأنّ الطيران الحربي الروسي كان، ويظلّ، العامل الأوّل والثاني والثالث… والعاشر، في تعديل الميزان على الأرض، دون رادع يحول دون استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وقصف المشافي والمرافق الحيوية العامة. ومع ذلك، فإنّ التطورات العسكرية الميدانية قد برهنت أنّ ذروة سعار القيصر الروسي لم تكن كافية، أبداً، لكي يصمد «أبو شحاطة» وحلفاؤه قيد أمتار قليلة في كليات المدفعية والتسليح والبيانات، وقبلها «كتيبة الصواريخ» وتلال «مؤتة» و»أحد» و»المحبة»…

الدلالة الثالثة هي الغياب الأمريكي عن معادلات معركة حلب، ليس في أبعادها العسكرية فقط، فهذه صارت «لازمة» مكرورة مقترنة بخيارات البيت الأبيض، بل في الأبعاد السياسية أيضاً. وهذا غياب يشير، على نحو جوهري حتى إذا بدا مبكراً، إلى طبيعة التفاهمات الأمريكية ـ الروسية حول سوريا، وكيف أنها تصبح منكشفة ومعطلة، وربما خاوية الوفاض على الأرض، حين يندلع قتال شامل من الطراز الذي تشهده تخوم حلب اليوم. فإذا كانت روحية تلك التفاهمات تقوم على التنسيق في استهداف «جبهة فتح الشام»، مقابل كفّ موسكو عن قصف «المعارضة المعتدلة»؛ فإنّ مشهد الميدان العسكري يشير إلى كتلة نقائض تجعل تلك التفاهمات حبراً على ورق: الروسي يقصف، خبط عشواء، جميع معارضي النظام السوري، في حلب وسواها؛ والأمريكي يكتفي بتقديم يد العون في منبج، وتطوير القاعدة الأمريكية الوليدة في الرميلان؛ ولكنّ «الجبهة» تتكرس، يوماً بعد يوم، كطليعة قيادية في ساحات المواجهة العسكرية!

الدلالة الرابعة، أخيراً وليس آخراً، هي أنّ أصداء معارك مدارس الراموسة وكلياتها العسكرية، لا تتردد في مثلث حلب/ إدلب/ الساحل السوري، فحسب؛ بل بلغت دمشق وريفها، وأخذت تحرق طبخة «الهُدن» الروسية في داريا والمعضمية، وتقضّ مضجع «جيش الإسلام» الأخرس في دوما، وجبهة حوران النائمة في الجنوب… ولأنّ معركة حلب لم تبدأ أصلاً من اعتبارات محلية تخصّ فكّ حصار، وفرض حصار مضادّ؛ فإنها ـ خاصة إذا طالت وتشعبت واتسعت ـ مرشحة للانقلاب إلى معركة كبرى فارقة، عسكرياً وسياسياً، سورياً وإقليمياً ودولياً.

كرّ وفرّ، إذن، لا استثناء فيه للقيصر أو تابعه «أبو شحاطة»!

القدس العربي

 

 

 

 

 

توحّدوا، توحدوا/ ميشيل كيلو

ليس ما يجري ضد حلب مجرد ضغط سياسي بأدواتٍ عسكريةٍ، يمارسه تحالف الروس والإيرانيين والأسديين ضد الثورة والشعب، كما يقول الواهمون. وليس حدثاً عابراً ينضوي في إطار تلك الأحداث التي كثيرا ما مررنا بها، وترتب عليها تبدل في الواقع الميداني، محدود ومكانيٌّ غالباً، بل هو جهد يستهدف قصم ظهرالمقاومة والثورة في مركزهما الرئيس، الذي تتقاطع فيه قوى ومصالح وصراعات، سورية وعربية وإقليمية ودولية، ويتوقف على كسره نجاح خطةٍ قرّر التحالف المعادي تطبيقها، حسماً للصراع، بهدف تصفية حلب مركزاً للصراع وتحويل بقية مناطق المقاومة إلى بؤر متفرقة ومفكّكة، تقاتل كل واحدةٍ منها بمفردها ضد هذا التحالف الداخلي /الإقليمي/ الدولي، بقدراته المتفوقة في الطيران والمدفعية والصواريخ الثقيلة، التي يأمل أن تمكّنه من قضم المناطق المحرّرة واحدةً بعد أخرى، إما عبر هدن تجرّدها من سلاحها في مقابل وقف القصف والتجويع، أو عمليات عسكرية يجتاحها خلالها، ويصفي حساباته مع سكانها ومقاتليها، تنتهي بقتل أكبر عدد منهم وتدمير موارد وجودهم المادية.

ركّز التحالف الثلاثي جل قوته في حلب، ونقل معظم معركته إليها، بدعم أو بتهاون من أميركا: الطرف الدولي الآخر، الذي ينسّق معه سياسياً، ويتابع عملياته العسكرية من دون اعتراض. وفي أحيانٍ عديدة، بتعاطف، ويحمّل المعارضة المسؤولية عن عدم الوصول إلى حلّ ينهي المعضلة السورية. وكانت روسيا قد أعلنت، قبل (وبعد) غزوها بلادنا أنها عازمةٌ على إنقاذ نظام الأسد، وإقامة نظام أمن إقليمي، يقاتل التنظيمات المقاومة والثورية، التي أدرجتها في خانة الإرهاب، وشنت حرباً شاملة عليها، ورفعت ضغوطها عن النظام في مناطق عدة، وحسّنت معنوياته، سواء بتكثيف تدريب قواته وزيادة عديدها، أو تولي جزء كبير من أعباء الحرب، وإيهامه أنه دخل في طورٍ جديد، سيخرج منه بانتصارٍ لا شك فيه، صار قريباً وفي متناول يده. والدليل نجاح حصار حلب، والإعداد لهجومٍ وشيكٍ عليها، يستردها من يد الجيش الحر. وكذلك الهجمات التي يشنها النظام وحزب االله في غوطة دمشق ومحيطها، وما يصحبها من عروضٍ بهدن تقوم على تسليم أسلحة المقاتلين في مقابل حفظ حياتهم وقبول توبتهم، وركود بعض الجبهات التي كانت تعدّ، إلى الأمس القريب، بالوصول إلى ضواحي دمشق الجنوبية والغربية خلال فترة قصيرة، وها هي تتفرّج اليوم على ما يجري وكأنه لا يعنيها، أو كأنها ليست طرفاً في معركة ستهشمها وتذروها مع الريح، في حال حقق التحالف الثلاثي ما يريده في حلب، قبل أن يصل إلى “جبهتها” .

لا بد من رد ذي مستويين على حصار الشهباء، الأول في توحيد جميع قوى وفصائل وتيارات العمل المسلح، وإخضاعها لقيادة عسكرية موحدة، خبيرة ومهنية. ويتطلب الثاني شن هجمات مكثفة، منظمة ومنسقة ومتزامنة في كل مكان من سورية، واستهداف قوات العدو الثلاثي في كل شبر من أرضها، والانقضاض من دون إبطاء على نقاط ضعفه ومواقعه المعزولة واحتلالها، وقطع طرق مواصلاته، وشن حرب عصابات عامة ضد تجمعات قواته، وتدمير مستودعات ذخيرته ووقوده ومراكز التوجيه والسيطرة لديه، وقصف مطاراته وثكناته… إلخ، بحيث يفقد مناطق أرضية، ويجبر على تشتيت قواته وإبعادها عن حلب، ويجد نفسه في وضع دفاعي، وسط معارك لها من الاتساع ما يحول بين الطيران الروسي وطيرانه وبين تغطيتها. تتطلب هذه الهجمات وحدة المقاتلين إلى أي تنظيم انتموا، وضم قدراتهم بقوة، ليتمكّنوا من أن يضربوا عدوهم بكل ما لديهم من عزيمة، ويكسروا هجومه الذي يريد تحويل دفة الحرب لصالحه، بقلب الطاولة على رأسه، وتغيير موازين القوى على الأرض لصالح الثورة. من دون هذا الرد، سيكون من الصعب دحر عدوان التحالف المعادي على شعبنا وإنقاذ ثورتنا ومجتمعنا، وسنخسر بعد حلب كل ما سيبقى لنا من بؤر متفرقة، لأنها إنْ لم تبادر اليوم بالقتال مجتمعة، ستقال غدا متفرقةً ضد عدو يستطيع إقامة تفوق عسكري ساحق على أي مقاومة معزولة.

تواجه ثورتنا تحدّياً مفصلياً وحاسماً، لا تنفع معه الأناشيد والخطب والكلمات الرنانة، فإذا انتصر أعداؤنا في حلب خسرنا الحرب. وإذا كنا نريد الحرية حقاً، وكنا لا نستهين حقاً، فإن انتصرنا يعني خسارتهم هم. هذا هو الوضع، وهذه هي خياراته، ولا مفرّ من أن ننتصر، إن كنا لا نستهين حقاً بتضحيات ملايين السوريات والسوريين.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب بين تيمورلنك وتيمورلنك/ عمر قدور

على الأرجح هي براءة اختراع تُسجل لحلب “المحاصرة” في موضوع إحراق إطارات السيارات للتعمية على طيران النظام، بينما كان مقاتلو مناطق الحصار ومقاتلو جيش الفتح من الجهة المقابلة يشنون هجوماً واسعاً على تحصينات ميليشيات حزب الله والحرس الثوري والنظام. الأمر الأهم هنا لا يتعلق بالفاعلية العسكرية لإحراق الإطارات، بقدر ما يتعلق بتضامن الأهالي مع المقاتلين، ويزيد من أهمية هذا العامل ما يُعرف أصلاً عن عدم تورع الطيران الروسي وطيران النظام عن القصف العشوائي، ما يعني استعداد أولئك المدنيين للتضحية بأنفسهم فداءً لمدينتهم ولمساعدة المقاتلين الذين يدافعون عنها.

من الجهة الأخرى، قبل يومين من إطلاق الدخان الأسود، تناقلت وسائل الإعلام احتفالات موالي النظام في حلب بإحكام الحصار على الجزء المحرر منها، وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي تحريض أولئك الموالين على إبادة المناطق المحاصرة وعدم إبداء أي قدر من الرحمة تجاه أهاليها، وهي رسالة يُفهم منها عزم النظام على الاستمرار بمخطط الإبادة المنهجية. لكن عجلة الاحتفالات تعثرت، ومساء الهجوم على مواقع النظام بادرت مذيعة من مذيعات النظام، سبق أن اشتُهرت بأخذ صور سيلفي مع قتلى من قوات المعارضة، إلى حضّ الموالين على الدفاع عن حلب، ولم تستثنِ استغاثتُها الأطفال في عمر العشر سنوات الذين دعتهم إلى حمل السلاح.

الثابت، مرة أخرى، في هذه التقلبات السريعة أن النظام ساقط فعلياً، ولولا القوى المحتلة الحليفة، وأيضاً لولا الرعاية الدولية، لكان قد انهار منذ زمن طويل. فالهجوم الحالي لا يملك أصلاً عنصر المباغتة، وقبل أيام نبّه ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن من يدبّر هجوماً واسعاً بغية فك الحصار لا يعلن عنه مسبقاً، وأكثر من ذلك لا يعلن عن خطته العامة المقسمة على مراحل. فأن تسقط تحصينات ميليشيات حزب الله والحرس الثوري والميليشيات العراقية، المدعومة بغرفة عمليات روسية، مؤشر يدل على عجز تلك القوى مجتمعة حالما يُتاح للجهة المقابلة دعم معقول لا يصل إلى عتبة التكافؤ في النوع والكم، ويُعوَّض شحّه بإرادة المقاتلين من أبناء الأرض.

لكن الحصافة تقتضي عدم الانسياق وراء أوهام إسقاط النظام كلياً في حلب، فمثل هذه الخطوة دونها إرادة دولية حازمة، وقدرة على ترجمتها بوقف إمدادات الفصائل المقاتلة وقت الحاجة. نجاح جيش الفتح في فك الحصار من جهتي الغرب والجنوب يعني عملياً محاصرة النظام في بقعة محدودة جداً من حلب، وبالتالي انقلاب الموازين حتى في اتجاه الريف الشمالي والعودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل سنتين من الآن. عملياً، هذا يعني إنهاء مفاعيل الاحتلال الروسي، وهو قرار لا يُتوقع الشروع به من قبل إدارة أوباما في أشهرها الأخيرة. لذا قد يكون الهجوم الحالي ورقة ضغط على القوى المحتلة من أجل إجبارها على تقديم تنازلات سياسية، أو إنسانية تخص القسم المحاصر من حلب، بمعنى عقد صفقة تخفف من وطأة الحصار دون فكه.

في كل الأحوال، لأسباب تتعلق بالداعمين الكبار تأخر هذا الهجوم، وكان من الأجدى القيام به قبل حصار القسم المحرر من حلب. هذا التحفظ لا يلغي آثاره الإيجابية، إذا أدى إلى التخفيف عن حوالي 300 ألف مدني محاصر، ولا يلغي بخاصة ما أثبته أهالي تلك المناطق من تلاحم مع مقاتليهم، التلاحم الذي ينبغي فهمه على الصعيد الدولي بعدم استعدادهم للعودة إلى حكم الأسد على رغم الإبادة المنهجية التي هدفت إلى تركيعهم خلال سنوات.

ولا بأس في القول بأن حلب ليست واحدة، أو القول بوجود موالين للنظام فيها، فهذا الانقسام ينبغي تحري أسبابه بدل تجاهله، أو رميه على بعض الأقليات فيها. بل هو انقسام يلغي الفكرة القديمة التي أشاعها النظام عن حلب كمدينة مُحافَظة فحسب، فالأحياء التي يسيطر عليها النظام فيها ما هو محافظ وما هو غير محافظ، وكذلك هي الأحياء التي خرجت عن سيطرة النظام. أما القسمة “الطبقية”، حيث يسيطر النظام على السكان الأكثر ثراء، فهي قسمة متوقعة لسببين، أولهما وجود شريحة مستفيدة أصلاً من النظام، وهي شريحة مختلفة تماماً عن البرجوازية التقليدية التي حطمها حكم البعث، وثانيهما عامل الخوف لدى شرائح أخرى رأت الدمار الذي ألحقه النظام بالمناطق المحررة. يُضاف إلى ما سبق أخطر ما ينبغي تلافيه، وهو قيام فصيل محسوب على المعارضة بقصف عشوائي بما يُسمى مدفع جهنم لمناطق سيطرة النظام، ووقوع ضحايا مدنيين جراءه، فمسؤولية من يقاتل النظام مستمرة في التأكيد على الإبقاء عليه وحده مع حلفائه في مرتبة من يستهدف المدنيين أو لا يكترث بحيواتهم.

الحق أنه انقسام غير استثنائي، بما فيه النعرة التي يحملها بعض أبناء المدينة إزاء ريفها، إذ يمكن ملاحظة مثل هذا “الفلكلور” عند معظم الشعوب، بشرط عدم الاستثمار فيه سياسياً كما فعل ويفعل النظام وموالوه. ومن الضروري ملاحظة أن هذه النعرة هي من جانب واحد، فحين كانت مناطق سيطرة النظام تحت الحصار لم تُمنع عنها المواد الغذائية، وعندما قام فصيل بإغلاق المعبر بين الطرفين قوبل بالمظاهرات وبحملة إعلامية اضطرته إلى العودة عن قرار الإغلاق.

قد يكون ضرورياً التنويه بأن أحياء كاملة تسيطر عليها المعارضة سكانها من أبناء المدينة القدماء، لتبديد تلك الصورة عن الانقسام بين المدينة والريف. ومع أن التاريخ لا يشفع لأحد، إلا أن أبناء حلب يسترجعون دائماً حادثتين بالغتي الأهمية في سرديتهم عن مدينتهم، الأخيرة منهما في عام 1822 عندما ضربها الزلزال الكبير وأدى إلى هلاك ودمار ما يقرب نصفها، ثم أعيد بناؤها. أما الأقدم فهي الكارثة التي حلت بالمدينة بعد مقاومة عنيفة أبدتها إزاء التتار بقيادة تيمورلنك؛ يقارن أهالي حلب ما حل بمدينتهم وما حل بدمشق التي فتحت أبوابها لتيمورلنك، فاستباحها أيضاً، ليستخلصوا تطابق النتائج مع الدرس المستفاد مما قبلها.

المدن

 

 

 

ملحمة حلب الكبرى/ د. رياض نعسان أغا

يحق للسوريين أن يعتبروا معارك فك الحصار عن حلب ملحمة كبرى، لأن الذين يحاصرون حلب هم محتلون جاؤوا من إيران ومن ميليشيات طائفية من «حزب الله» ومن العراق والأفغان فضلاً عن الاحتلال الروسي، وليس لقوات النظام السوري سوى دور لوجستي بسيط، تساعد فيه المحتلين على إحكام حصارهم لحلب، ولجعل ثلاثمئة ألف سوري من المدنيين أسرى بيد المحتلين الذين رأينا ما يفعلون بالمحاصرين في مضايا والمعضمية وغوطة دمشق حيث مات المئات جوعاً ومرضاً، وكان على العالم كله أن يبذل جهوداً ضخمة لإدخال حليب للأطفال وأدوية للمرضى. ونذكر أن الجهود الأممية لم تفلح في داريا بأكثر من الموافقة على إدخال الفلافل وتم بيعها من قبل شبيحة الحواجز للمحاصرين جوعاً. ولقد كان إعلان وزير الدفاع الروسي عن ممرات إنسانية تأكيداً أنه لا دور للنظام السوري فيه، ولذلك لم يُسمح لوزير الدفاع السوري بأن يصرح بشيء يتعلق بمجريات الحصار، وهذا ما جعل السوريين يرون فك الحصار بداية حرب تحرير من الروس والإيرانيين ومن الميليشيات التابعة لإيران، وقد ظهرت دعوات شعبية تطالب المعارضة الوطنية بإلغاء تسمية «مسلحي المعارضة» وإعلان اسم جديد هو «المقاومة السورية».

وهنا يبدو الخلل الاستراتيجي في الرؤية الروسية التي وقفت إلى جانب نظام راحل بدل أن تقف مع شعب باقٍ هو الذي يضمن لها مصالحها، ولو أن الروس تركوا الصراع يدور بين السوريين وحدهم -نظاماً ومعارضة- لكان الوصول إلى الحل السياسي أسهل، حيث يكفي أن يبتعد الأسد عن كرسي الحكم هو وثلة من أركانه ممن تسببوا بدمار سوريا عبر حلهم الأمني والعسكري الذي ظنوه حاسماً فإذا هو يدمر الجميع (وقد حذرنا النظام من حماقة هذا الحل قبل الواقعة فلم يصغِ أحد، وقد أخذتهم العزة بالإثم) ولكن روسيا تمسكت بالأسد لتفرضه على السوريين قهراً، بينما تمسكت المعارضة ببقاء الدولة ومؤسساتها فقبلت بمشاركة مع النظام في حل وسط، سماه المجتمع الدولي «بيان جنيف» ورسمت طريقه قرارات الأمم المتحدة عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي، وتضم هذه الهيئة المقترحة ممثلين عن النظام، وممثلين عن المعارضة، وممثلين عن الجهات المستقلة والتكنوقراط، وتكون هذه الهيئة ذات صفة تنفيذية بالإضافة إلى مهمة تشريعية هي إصدار الإعلان الدستوري. كما تكون مسؤولة عن تشكيل مجلس عسكري يضم إلى الجيش النظامي، الضباط المنشقين وممثلين عن الفصائل العسكرية المعارضة الوطنية، وهذا المجلس يقوم بإعادة الهيكلة، كما تقوم الهيئة بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، وبتشكيل حكومة، وتدعو إلى مؤتمر وطني شامل، يتولى مسؤوليات المستقبل، وتعد جمعية مختصة منه دستوراً جديداً للبلاد، يُعرض على الشعب في استفتاء برقابة دولية، وفي الوقت ذاته تقوم الهيئة بالدعوة إلى انتخاب برلمان جديد، تنجم عنه حكومة جديدة. وأما العقد الاجتماعي الجديد فيقوم على أساس المواطنة في دولة مدنية ديموقراطية.

ولم يكن رفض النظام لـ«بيان جنيف» وقرارات الأمم المتحدة مفاجئاً، فالنظام يبحث عن ضمان بقاء الأسد رئيساً، بينما تبحث المعارضة الوطنية عن بقاء سوريا ودولتها على قيد الحياة، وتدرك أن بقاء الأسد سيعني استمرار الصراع وتصاعده، ولن يكون معقولاً أن يقود الأسد المرحلة الانتقالية، وأن تقدم هيئة الحكم الانتقالي له الطاعة وهو المسؤول الأول عن الفاجعة السورية وعن قتل مليون مواطن واعتقال مئات الآلاف وقتل العدد الأكبر منهم تحت التعذيب، وهو المسؤول عن تشريد ملايين السوريين وهدم منازلهم بالطائرات والبراميل التي دمرت سوريا، والقبول ببقائه يمنحه فرصة التنكيل بكل من عارضوه، والانتقام من الشعب الذي خرج عن طاعته.

وقد اختار الأسد الحسم العسكري رافضاً بخطاب علني «هيئة الحكم الانتقالي»، وجاء حصار حلب انتصاراً هلّل له شبيحة النظام بوصفه فاتحة لحصار إدلب، وإنهاء للمعارضة الوطنية بذريعة مكافحة الإرهاب، وكانت الخطة التي حددت في بداية أغسطس 2016 أن ينتهي حلفاء الأسد من إحكام السيطرة على المعارضة العسكرية ومن ثم يدعون هيئة التفاوض إلى جنيف وقد فقدت كل قواها.

ومن هنا تأتي أهمية فك الحصار عن حلب، وقد بدت مهمة مركبة، فهي القادرة على إعادة التوازن، وهي القادرة على تحرير حلب من قبضة الاحتلال الثلاثي (روسيا وإيران والميليشيات الطائفية) وسيكون تحرير حلب إن شاء الله مصدر قوة في الحفاظ على حقوق الشعب الذي قدم ملحمة العصر من أجل كرامته وحريته.

الاتحاد

 

 

 

 

 

حلب، حرب تحرير أم تحريك؟/ إياد الجعفري

فيما تغمر الفرحة مشاعر الكثيرين من السوريين جراء ما حققته فصائل المعارضة السورية خلال أقل من أسبوعٍ واحدٍ، من الانتصارات الميدانية النوعية جنوب حلب، وصولاً إلى فك الحصار عن شرقها.. تخالج بعضهم المخاوف مما سيأتي بعد “فك الحصار”.. ويتساءل مراقبون سوريون، علناً، أو مواربةً: هل الحرب في حلب، حرب تحرير أم حرب تحريك؟

فصائل المعارضة المشاركة، أعلنتها منذ بداية المرحلة الأولى من معركة فك الحصار عن شرق حلب، أن الغاية النهائية لهذه الحملة العسكرية، هو تحرير كامل المدينة، بما فيه الشطر الغربي الخاضع لسيطرة النظام.

لكن نظرية تسود في أوساط مراقبي الشأن السوري، مفادها أن معركة بهذا الحجم وبهذه النوعية من الإعداد والتخطيط والحشد والإمداد، لا بد أنها حظيت بمباركة ودعم إقليميين، والخشية أن يكون هذا الدعم لغايات مؤقتة ومحدودة.

صباح الجمعة خرج وزير الخارجية التركي بتصريح خارج عن السياق، في هذه الأجواء. ففيما كانت المعارك تحتدم على أبواب مدرسة المدفعية في الراموسة بحلب، دعا مولود جاويش أوغلو، إلى عقد جولة رابعة من محادثات السلام السورية غير المباشرة في جنيف، مؤكداً على ضرورة استئناف المفاوضات بشأن مستقبل سوريا.

أوغلو برر تصريحاته، أنها جاءت خشية التهديد بموجة هجرة جديدة إلى الأراضي التركية، بفعل حصار قوات النظام لشرق المدينة.

تصريحات أوغلو هذه جاءت في الوقت الذي كانت فيه فصائل المعارضة تدك آخر أسوار الحصار على المدينة، الأمر الذي يدعو للتساؤل، لماذا تريد تركيا الآن تحديداً، إطلاق جولة جديدة من المفاوضات؟، وهل يعني التحضير لهذه الجولة، وقفاً للأعمال القتالية، حسب المفهوم الأمريكي، مما يعني، وقف زخم التقدم الميداني المثير للإعجاب، الذي حققته المعارضة جنوب حلب، وباتجاه غربها؟

الثلاثاء، سيكون اللقاء المُرتقب بين رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين. ويُعتقد أن أردوغان سيتسلح، في جملة ما سيتسلح، بأوراق قوة سورية جديدة، بفعل انتصارات فصائل المعارضة، التي يغلب الظن أنها تلقت دعماً تركياً، وذلك أثناء مفاوضاته مع بوتين، حول سلة من القضايا العالقة بين الطرفين.

لكن صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، نشرت رأياً آخر على لسان أحد محلليها، مؤخراً. وتساءلت الصحيفة، عن ماذا سيتنازل أردوغان كي ينال صداقة بوتين؟

التعريجة التركية الأخيرة نحو روسيا، والتي سبقت محاولة الانقلاب الفاشلة، فسرها الكثيرون حينها، بأنها نتاج إحساس تركي بعدم الطمأنينة حيال نوايا الغرب تجاهها، وتحديداً، الولايات المتحدة الأمريكية.

تلك المخاوف، حسب ما تُشيع التصريحات الرسمية التركية، تزايدت، بعد المحاولة الانقلابية، إذ تلمح قيادة حزب العدالة في أنقرة إلى تورط الغرب، وتحديداً واشنطن، في دعم غير مباشر للمحاولة الانقلابية، أو على الأقل، التعاطف غير المعلن معها.

ناهيك، عن البعد الاقتصادي الحيوي للعلاقات مع روسيا، الذي يهم أردوغان، الرجل الذي بنى جزءاً كبيراً من شعبيته على الاقتصاد.

واللافت، أن تصريحات وزير خارجية تركيا، التي دعت إلى استئناف مفاوضات جنيف، سبقتها، منذ حوالي أسبوع، تأكيدات لمساعد المبعوث الدولي الخاص بسوريا، أطلقها من دمشق، غداة حصوله على قبول نظام الأسد باستئناف المفاوضات. إذ قال مساعد المبعوث الدولي، إنه متأكد أن مفاوضات جنيف السورية ستُستأنف قبل نهاية شهر آب الجاري.

لا تبتعد تلك المؤشرات عما صرح به الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، منذ يومين، حينما أشار إلى أنه لا يثق بروسيا ودورها في سوريا، لكنه أكد رغبته في استقصاء سلامة النوايا الروسية حتى النهاية، مما يعني أن أوباما يريد استئناف السعي في مسار التعاون مع موسكو، بغية إطلاق قطار الحل السياسي في سوريا.

حصيلة ما سبق تُوحي بأن ما حدث في حلب مؤخراً مجرد حرب تحريك، الهدف منها تحسين وضع الوفد التفاوضي للمعارضة على طاولة المفاوضات، بعد فك الحصار عن حلب.

ورغم أن استثمار الإنجازات الميدانية يكون عادةً على طاولة السياسة، إلا أن عدم استكمال فك الحصار، بتحرير كامل للمدينة، بشطرها الغربي، يعني أن ما حصل حتى الآن في حلب، مجرد تحريك للجبهات، يستهدف إقناع الروس وحلفائهم على الأرض من الإيرانيين، ونظام الأسد، أن الحسم العسكري لصالحهم غير ممكن.

ما سبق هي حصيلة مهمة على طاولة مفاوضات جنيف، دون شك، لكنها ستبقى هزيلة، لأن مفادها الخروج بصيغة، “لا غالب ولا مغلوب”. فالنظام حاصر شرق حلب وهدد أحد أبرز معاقل المعارضة المسلحة. فتمكنت الأخيرة من فك الحصار، وعكست الوضعية، عبر تهديد إحدى أبرز مناطق سيطرته، في غربي حلب. الحصيلة، صفر. أي توازن قوى بين الطرفين.

لا تخدم تلك الحصيلة تطلعات السوريين المناوئين لنظام الأسد، ولا تتناسب مع حجم التضحيات الجسيمة التي قدمها المجاهدون على أبواب حلب، ولا تتناسب مع حجم التطلعات المنُتظرة من هذه الحملة العسكرية الضخمة. الأمر سيشكل في نهاية المطاف، إحباطاً لشريحة واسعة من السوريين، وعودة إلى دائرة إدارة الأزمة المُفرغة، التي تمارسها القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في المشهد السوري، وتحديداً، من حلفاء المعارضة.

هناك نظرية أخرى. أو بالأحرى، سيناريو آخر يتطلب التفعيل من المؤثرين. فبالتوازي مع المفاوضات بين تركيا وروسيا من جهة، والولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى، تجري دون شك مفاوضات على مستويين، الأول، بين الفصائل المعارضة المشاركة في معركة حلب من جهة، وبين الداعميين الإقليميين من جهة أخرى، وفي المستوى الثاني، بين الداعمين الإقليميين، وواشنطن.

في المستوى الأول، يتطلب الأمر التركيز على الإيجابيات التي يمكن أن تتحصل للداعمين الإقليميين من دعم سيناريو تحرير كامل حلب، حتى النهاية. وهو سيناريو يخدم تركيا دون شك، وهو يعزز سيناريو آخر لطالما أمل الأتراك تنفيذه، ودعمه الأوروبيون، وترحب به مرشحة الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية، هيلاري كلينتون. وهو سيناريو المنطقة الآمنة، التي يمكن أن تتوسع، لتكون حلب عاصمتها، بصورة تتيح للمعارضة تفعيل نشاطاتها الإدارية والاقتصادية، وتشكيل هياكل مؤسساتية، توازي مؤسسات نظام الحكم بدمشق، فتصبح نداً كفوءاً على مفاوضته. والأهم، أن ذلك سيحد تماماً من اللجوء إلى تركيا، ومن ثم، من الهجرة إلى أوروبا، مما يخدم مصالح الطرفين.

كما أن ذلك سيعزز من أوراق القوة التركية، سواء في مواجهة الدب الروسي، أو في مواجهة الأمريكيين، والأوروبيين.

أما في المستوى الثاني، فعلى مسؤولي القوى الإقليمية، المسؤولين عن التواصل مع واشنطن، استغلال المناوشات الدائرة في الولايات المتحدة، في أجواء الانتخابات الرئاسية.

فالحزب الديمقراطي، عبر مرشحته هيلاري كلينتون، وكذلك عبر الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الذي هو مضطر لدعم تلك الأخيرة.. يقدم دونالد ترامب، مرشح الجمهوريين، على أنه شخصية قابل للاختراق الروسي. وجاء إعجاب ترامب العلني بشخصية بوتين، أكثر من مرة، سبباً كافياً لوصفه من شخصيات محسوبة حتى على الجمهوريين، بأنه تهديد للأمن القومي الأمريكي، وأن الرئيس الروسي، الاستخباراتي السابق، قادر على تطويع ترامب بسهولة.

خلاصة الأمر، أن من مصلحة الديمقراطيين أن يُظهروا تشدداً حيال الروس، كي يقدموا أنفسهم بأنهم الأقدر على مواجهة التمدد الروسي، مقارنة بـ ترامب، المتوافق مع بوتين. وهي حيثية يمكن اللعب عليها، واستثمارها، عبر العمل على إقناع البيت الأبيض، الذي يديره ديمقراطي، رغم سياساته المتسامحة مع الروس، والساعية للتعاون معهم، بأنه مسؤول اليوم عن دعم خليفته الديمقراطية، في سبيل الفوز بالرئاسة. الأمر الذي يعني أن أوباما قد ينجر وراء سيناريوهات تظهر شيئاً من الصلابة الأمريكية في مواجهة الروس.

في عالم الدبلوماسية، يمكن أن تستثمر بعض مشكلات خصمك، وتؤولها، لتجعلها سبباً للتعاون بينك وبينه. وهذا ما ينطبق على القوى الإقليمية، تركيا والسعودية وقطر، من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية، من جهة أخرى، والتي تظهر وكأنها خصم لحلفائها في سوريا، أكثر منها، حليفاً. لكن رغم ذلك، يمكن اللعب على مشكلاتها التي تشغلها اليوم، وهي، الصراع الانتخابي بين كلينتون وترامب.

في نهاية المطاف، لا بد من العمل على تحقيق السيناريو الثاني، وهو أن تكون حرب حلب، حرب تحرير، لكامل المدينة، لا حرب تحريك بهدف إحياء المفاوضات فقط، من دون أي إنجاز نوعي.

حينما يجلس مفاوضو المعارضة على طاولة المفاوضات مع نظام الأسد، بعد أن يسيطروا على كامل مدينة حلب، ستكون موازين القوى قد تغيرت بالفعل، وستكون كفة التفاوض فاعلة، أو على الأقل، لن تكون الحصيلة، صفر، بعد كل التضحيات الجسيمة على أبواب ثاني أكبر المدن السورية.

المدن

 

 

 

حلب.. فك الحصار وكسر عظم الأسد/ يمان دابقي (سورية)

بعد حصار دام أكثر من ثلاثة وعشرين يوما للأحياء الشرقية لحلب، والخاضعة لسيطرة المعارضة، وتدمير أكثر من سبعة مشافي، وفقدان شبه كامل للمواد الغذائية، أعلنت غرفة عمليات فتح حلب، بمشاركة حركة أحرار الشام وفصائل عديدة، عن معركة فك الحصار عن حلب، تحت مسمّى “غزوة حلب”.

جاء الإعلان على لسان المتحدث الرسمي لحركة أحرار الشام، مؤكداً أنّ معركة حلب ستكون كبرى المعارك، وستمتد إلى أكثر من عشرين كيلو متر، والبداية ستكون من محور ريف حلب الجنوبي لفتح طريقٍ بديلٍ يصل إلى داخل المدينة.

اختار الثوار جنوب حلب، لفتح طريق إمداد أول من خاصرة حلب الجنوبية للقيام بضربة استباقية للنظام، بامتداد عشرين كيلو متر، للمضي بعد ذلك إلى شمال حلب وشرقها، ما يعني أنّ الخطة عسكرياً كان مخططاً لها بهجوم واحد، منسّق بتمهيد عسكري، واقتحام مباشر للسيطرة على الخط الأول للنظام، لا سيما أنّ هذا العمل يأتي بالتوازي مع عمل آخر بنفس التوقيت في شمال حلب، وصولاً إلى طريق الكاستيلو وكسرطوق الحصار، إضافة إلى النقطة الأهم، وهي قطع طريق الراموسة من القسم الغربي لحلب لتشكيل طوق حصار لمناطق النظام الواقعة في قسمها الغربي.

فصائل وأهالي حلب، أدركوا أنّ معركة حلب هي معركة مصيرية لهم، خصوصاً بعدما قام النظام، خلال عشرين يوم مضت، بتدمير أكثر من ثماني مشافي ميدانية، وقتل المئات من المدنيين، إضافة إلى إعلان موسكو عن الكذبة الروسية بإعلان ممرات إنسانية تهدف لإفراغ المدينة من ساكنيها.

قوبل هذا الطرح من نظام الأسد بتوجيه سلاح الإعلام، وتصوير شبيحته أشخاصاً مع حقائبهم، على اعتبار أنّهم خرجوا من معبر بستان القصر باتجاه حي المشارقة التابع للنظام، وقد قام بهذا العمل المراسل الحربي التابع للنظام شادي حلوة، إلا أنّ هذا العمل قوبل بشكل فوري بنفي كامل من نشطاء داخل حلب، حيث تم إرسال فيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحتوي على تصوير للمعابر التي أعلنت عنها روسيا، وهي خالية من أيّ شخص يقترب منها، ما دلّ على أنها خدعة يراد بها ضرب الحاضنة الشعبية لفصائل المعارضة، وإحباط همم الأهالي، وإيصال رسالة للمدنيين أنّ موضوع حلب قد حسم باتفاق دولي، إلا أنّ سكان وفصائل حلب كانت لها كلام آخر.

قرار روسيا فرض الحصار على حلب جاء منفرداً، من دون موافقة واشنطن، ما دفع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، للتشكيك بالخطوة، إذ قال: “إنّ إعلان موسكو عن ممرات إنسانية قد تكون خدعة روسية”، ما رجح أن يكون التوتر الأخير بين موسكو وواشنطن حول حلب سبب أساسي برفع واشنطن يدها عن حلب، وقبول فتح الثوار معركة لفك الحصار.

العربي الجديد

 

 

 

حلب بين قمة سان بطرسبرغ ولقاء المعارضة مع أوروبا/ جورج سمعان

الرئيس باراك أوباما لا يثق بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. لكنه يصر على إبرام اتفاق عسكري معه! لذلك لا يعنيه من الاتفاق سوى التعجيل في تحقيق نصر كبير على «داعش» وقوى الإرهاب الأخرى. ولا يشغله أي هدف آخر عن ذلك. لا يعنيه قيام المرحلة الانتقالية لتسوية الأزمة السورية. ولا يعنيه مصير المعارضة. والواقع أن ثمة رغبة روسية مماثلة في إبرام الاتفاق. وقد يتوصلان إليه من دون أن يؤدي ذلك إلى فتح طريق التسوية. فالعقدة ليست في إصرار واشنطن على حق الفيتو على بعض أهداف الغارات الروسية ورفض موسكو ذلك. هذه عقبة تمكن إزالتها. ما تريده الإدارة هو فك الحصار عن حلب وأهلها ووقف الهجوم عليها. لأن استعادة النظام هذه المدينة تعني هزيمة كاملة للفصائل المقاتلة والمعارضة عموماً. فلا يبقى أي معنى للتفاوض. ولا يبقى بيد الولايات المتحدة أي ورقة ضغط لتحقيق الحد الأدنى من التغيير المطلوب. خصوصاً أن غيابها الميداني الطويل لم يوفر لها سابقاً ولا يوفر لها الآن وزناً بمواجهة التدخلين الروسي والإيراني. إن استعادة حلب ستجر إلى استعادة إدلب أيضاً. ويقود ذلك إلى تثبيت الرئيس بشار الأسد، وطي صفحة العملية السياسية. وهو ما يعزز موقف موسكو في أي مفاوضات. في مقابل ذلك، باتت روسيا على قناعة تامة بأن الإدارة الحالية ليست مستعدة للبحث في ما يتجاوز الوضع العسكري. أي أنها لا تبدي أي مرونة في نقل الحوار إلى ملفات أخرى على رأسها البحث في رفع الحصار عنها وإسقاط العقوبات. لذلك يبدي زعيم الكرملين تشدداً وإصراراً على التمسك بالورقة السورية. ويرفض إبرام أي اتفاق مع أولئك الذين «يخوضون حرباً اقتصادية» على بلاده، ما لم يعبروا عن استعدادهم لمراجعة مواقفهم في ملفات كثيرة تشكل موضع خلاف.

من هنا تتخذ معركة حلب صفة استثنائية ومصيرية. روسيا قد لا ترغب مرحلياً في أكثر من حصارها لتظل ورقة مساومة وضغط. في حين يهدف النظام وحليفه الإيراني والميليشيات المقاتلة إلى جانبه إلى استعادة أكبر مدينة في البلاد (تشكل محافظة حلب ربع سكان سورية) والعاصمة الاقتصادية. لأن ذلك سيفتح أمامه الطريق إلى مواصلة حربه حتى إقفال الحدود الشمالية مع تركيا. فيحقق بذلك هدفين كبيرين: يقطع كل خطوط الإمداد للفصائل المقاتلة في الشمال. ويكبل يد تركيا أيضاً. أما المعارضة فتخوض حرب حياة أو موت فعلاً. لأنها تعي أن لا شيء يعوضها خسارتها العاصمة الشمالية. سيضيق عليها الخناق. فلا طرق إمداد وسبل تواصل مع الخارج. ولا حلفاء وأصدقاء تمكن استعادة ثقتهم بقوتها وقدرتها على تحقيق أي تقدم. ولا شيء بعد ذلك يمكن أن يرغم النظام على تقديم أي تنازل أو التسليم بالرحيل. ومن هنا هذا الحشد الواسع لفصائل المعارضة المختلفة من «الجيش الحر» إلى القوى الإسلامية الأخرى من «جيش الفتح» إلى «فيلق الشام» وغيرهما من قوات لمعركة تعتبر مصيرية لمنع سقوط حلب.

ضجيج معركة حلب ترافقه تحركات سياسية مصيرية هي الأخرى. ليس أبرزها التحركات الحثيثة للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، من أجل إطلاق محادثات «جنيف 3». فلا المعارضة مستعدة لتقديم ما رفضت تقديمه في الجولة السابقة من المفاوضات، أياً كانت المفاجآت الميدانية. وهي قد لا تحضر في ظل هذه الحرب المفتوحة بمشاركة فعالة من الطيران الروسي. ولا النظام يبدي مرونة في ظل الدعم الكبير الذي يتلقاه من حلفائه، وفي ظل تفاهم حقيقي بين موسكو وواشنطن. وليس أبرزها أيضاً المساومات الأميركية – الروسية التي لن تثمر، إذ إن الكرملين الذي لم يعد يأمل بتحقيق تقدم فعلي مع إدارة الرئيس أوباما، يسعى إلى فرض أمر واقع جديد على الأرض شمال سورية استعداداً للتوجه نحو الإدارة الأميركية المقبلة. ثمة محطتان قد تبدلان المشهد: مآل القمة التركية – الروسية الراهنة، ثم الاجتماع الذي تعد له المعارضة مع دول أوروبية وعربية في لندن آخر هذا الشهر.

ثمة مبالغة في الحديث عن شراكة استراتيجية بين تركيا وروسيا تحل محل علاقة الأولى بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. لن يكون الأمر بهذه السهولة ولا بهذه السرعة. ثمة مبالغة في رؤية انقلاب من هذا النوع في قمة الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان في سان بطرسبورغ، مهما بلغ غضب «حزب العدالة والتنمية» وقوى أخرى من موقف واشنطن حيال المحاولة الانقلابية، وعدم تجاوبها في تسليم أنقرة المتهم بالمحاولة الداعية الإسلامي فتح الله غولن. ومهما بلغ الغضب التركي من مواقف دول أوروبية تحذر حكومة علي بن يلدريم من المغالاة في إجراءاتها ضد آلاف من أنصار الداعية المقيم في بنسلفانيا وغيرهم، ومن التضييق على الحريات، وإعادة العمل بقانون الإعدام، ومن الطريقة التي يتم التعامل بها مع قادة الجيش والأمن، ومن سياسة «إعادة تأهيل» المؤسسة العسكرية… لا يمكن في هذا اللقاء أن يسوي البلدان خلافاتهما التي لا تقتصر على سورية فحسب، فهناك قضية القرم وقبرص والصراع بين أرمينيا وأذربيجان ومستقبل الأوضاع في آسيا الوسطى.

موسكو أعلنت صراحة أن مستقبل العلاقات مع أنقرة رهن بموقف الأخيرة من الأزمة في سورية. فهل يسلم أردوغان بمشروع روسيا في سورية من دون أي ثمن؟ أو هل يطوي صفحة مواقفه في السنوات الخمس الأخيرة من هذه الأزمة ويقبل بإعادة تأهيل النظام؟ ماذا يبقى من صدقيته؟ صحيح أنه لا يزال قلقاً جداً من الأوضاع الداخلية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. لكن فشل الانقلاب عزز موقعه وشعبيته. وهو يستغل هذه الفرصة إلى أقصى حد بإقصاء كل خصومه ومنافسيه وإضعافهم. فهل يجازف بإضعاف موقفه بالتخلي عن المعارضة السورية، أم يكتفي بالتفاهم مع موسكو على محاربة الإرهاب؟ هل يجازف في حمأة الصراع على سورية أن يسقط هذا البلد بيد إيران؟ أم أنه يبدي استعداداً للتعاون مع مضيفه غداً لتعزيز موقعيهما بمواجهة النفوذ الإيراني؟

هناك عناصر أخرى تعوق انقلاباً جذرياً لأردوغان على مواقفه السابقة. الاعتذار من موسكو والسعي إلى مصالحتها كانت وراءهما الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها تركيا نتيجة المقاطعة الروسية. والأهم من ذلك أيضاً شعور تركيا بأنها باتت محاصرة داخل حدودها ولم تعد لها اليد الفاعلة في الأزمة السورية. خصوصاً أن لكل من الكرملين وواشنطن أجندة مختلفة لم تقم أي اعتبار لحسابات تركيا ومصالحها. وقدما دعماً واسعاً إلى حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري». وهو ما ضاعف قلق أردوغان من صعود الكرد وتبنيهم مشروع الفيديرالية لسورية وانعكاس ذلك على الأوضاع الداخلية في بلاده. فكيف سيبدد مضيفه هذا القلق؟ صحيح أن موسكو تربط تحسين العلاقات مع جارتها الجنوبية بموقفها من الأزمة السورية وسبل تسويتها سياسياً. لكنها لم تنتظر تحولاً من هذا النوع. بل رحبت سريعاً بعودة العلاقات الثنائية لأسباب اقتصادية وسياسية أيضاً. فهي تراهن على ابتعاد جارتها الجنوبية عن أوروبا والولايات المتحدة. وذاكرة الروس لا تزال حية. لا يغيب عن بالهم أن هذه الجارة كانت على الدوام ولا تزال مبدئياً ركناً من أركان «الناتو». وهي إلى اليوم تستضيف أجزاء من «الدرع الصاروخية» التي يعتبرون أن الحلف الأطلسي يقيمها بهدف تطويق بلادهم. ولا يمكن الرئيس بوتين أن يفــــوت فرصة استجابة بعض طلبات نظــيره من أجل تعميق خلافاته مع أوروبا والولايات المتحدة وزعزعة استـــراتيجية الحلف. وقد يكون مستــعداً لأن يقايضه بمواقف محددة فـــي سورية ليس مستعداً لتقديمها إلى الرئيس الأميركي. وهو يعلم أن حكومة حزب العدالة قدمت وتقدم دعماً إلى المعارضة في معركة حلب.

الحدث الآخـــر الذي قـــد يبدل في المشهد الســـوري، اللقـــاء الـــذي تعد له المعارضــة في لندن آخـر هذا الشهر. من المقـــرر أن تجتمـــع الهيئة العليا للمفاوضات: «الائتلاف الوطني»، «هيئة التنسيق» وممثلو كبرى الفصائل العسكرية المقاتلة، من أجل إطلاق «رؤيتها السياسية» الواحدة، بحضـــور عدد من وزراء الخارجية الأوروبيين والعرب ووزيري الخــارجية الأميركي والتركي. المهم فــي «الرؤية» أنها ستخاطب أوروبا وغيرها من المهتمين بمستقبل سورية: الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، التمسك بوحدة الأرض والشعب، والحــرص على حقوق الأقليات الدينية والعــرقية، والدعوة إلى خروج جميع المسلحين الأجانب من سورية، ونبذ التشدد الديني والإرهاب ومحاربته… وقبل كل ذلك وبعده التمسك بالانتقال السياسي الذي نص عليه بيان جنيف الأول. ليست «الرؤية» وحدها ما يضفي أهمية على هذا اللقاء، بل رغبة المعارضة في ملاقاة استياء أوروبا من الثنائي الروسي – الأميركي الذي تعي أنه خطف عملياً إدارة البحث عن تسوية في سورية، من دون أي حساب للقارة العجوز ومصالحها. علماً أنها تتحمل العبء الأكبر من تداعيات الأزمة السورية. وتعيش مجتمعاتها على وقع الإرهاب الضارب في عواصمها ومدنها، وتعاني من تدفق اللاجئين ومــا يفرضون من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية. فهل تنجح المعارضة والقارة العجوز بعد لقاء لندن في رسم مشهد جديد يفرض على اللاعبين الآخرين إعادة النظر في حساباتهم وسياساتهم؟

الحياة

 

 

 

كسر حصار حلب إذ يكشف هشاشة النظام/ عبدالوهاب بدرخان

هناك ظاهرتان تتكرّران كلّما تعرّض نظام بشار الأسد لانتكاسة. أمّا الأولى فيصار فيها إلى تلفزة المفتي أحمد بدر حسّون مستنهضاً الهمم للدفاع عن النظام، لكنه هذه المرّة، بعد كسر الحصار على حلب، مسقط رأسه، سُمع يستنهض «الأصدقاء» ولا سيما الروس و»حزب الله» على رغم أن وجودهم في معركة الكليات العسكرية لم يُحدث أي فارق. وأمّا الثانية فيُسجَّل فيها، مجدّداً، استخدام المواد الكيماوية والغازات السامة، كما حصل في سراقب قبل أيام بعد غوطة دمشق (عام 2013) وكما تكرّر في حلب لتمكين النظام وحليفه الروسي من اتهام فصائل المعارضة بأنها ترمي الغاز على مناطقها ثم على مناطق النظام. كان واضحاً أن الروس عمدوا الى قصف وحشي لسراقب انتقاماً لقتلاهم الخمسة في واقعة إسقاط مروحية كانت تقوم بـ «مهمة إنسانية»، وشارك النظام في هذا الانتقام مستنهضاً احتياطه الكيماوي. وبذلك أصبح معروفاً كيف يريد النظام وحلفاؤه الردّ على هزائمهم، وبأي سلاح يخطّطون لحسم الصراع في سورية.

كان تحقيق «سيناريو الأحلام» بالنسبة إلى الأسد بدأ يقترب منذ لحظة إطباق الحصار على حلب. إذ حُدّد موعد أواخر آب (أغسطس) لاستئناف المفاوضات السورية كي يتزامن مع انتهاء قوات النظام والميليشيات الايرانية من استعادة السيطرة على أحياء حلب الشرقية. وكان ستافان دي ميستورا أعلن هذا الموعد بعد اجتماعه في جنيف مع الموفدَين الاميركي والروسي الخاصَّين بسورية. وفي الأثناء كانت اتصالات جون كيري – سيرغي لافروف مستمرّة للتوصّل الى اتفاق يشمل تعاوناً عسكرياً واستخبارياً لم يبدُ محسوماً من جانب البنتاغون، وتفاهماً على صيغة حل سياسي بدا فيها البيت الابيض متساهلاً بالنسبة الى «مصير» الأسد.

شكّل هذا التنازل الأميركي، مع الحصار المفروض على حلب، مُعطيَين مشجّعَين لنائب المبعوث الأممي رمزي عزالدين رمزي، صديق النظام، كي يلبي دعوة خاصة من الأسد ويقنع دمشق بأن تلعب بـ «ايجابية» لعبة المفاوضات، لأن الظروف مواتية لاستثمار التطوّرات العسكرية في توجيه التسوية السياسية، وتجاوبت دمشق مؤكّدة مشاركتها في المفاوضات، باعتبار أن الموقف الدولي حُسم لمصلحتها وأصبح رهن مواءمة «انتصاراتها» العسكرية مع اطروحاتها السياسية. وفيما جرى الترويج لـ «هدنة» يناقشها الروس والأميركيون، ولـ «ممرات انسانية» تبنّاها الروس بعدما أعلنها النظام متبرّعاً بـ «عفو خاص» عن المقاتلين الذين يلقون السلاح ويسلّمون أنفسهم، راح دي ميستورا يتظاهر بالتشدّد في ضرورة تسليم «الممرات» للأمم المتحدة. ومع علمه أن ذلك لن يحصل، إلا أنه وجده مناسباً للتغطية على تفاهمات اميركية – روسية «متقدّمة» تلبّي مطالب النظام وحلفائه، وعلى كون «الهدنة» المقترحة تعزّز عملياً الحصار وتثبّته، لكن أيضاً للإيحاء بأن الأمم المتحدة لا تتساهل في الجانب الإنساني الذي تلحّ عليه المعارضة.

على هذه الخلفية بدأت فصائل المعارضة في حلب معركة كسر الحصار، غير معنية بكل ما يُتدَاوَل عن الهدنة و»الممرات الإنسانية» والإغاثات، لكن تحركاتها على الأرض اخترقت الكواليس الديبلوماسية، أكثر مما فعلت في مراحل سابقة. فكل ما بني على أساس أن تصفية المعارضة صارت مسألة أسابيع قليلة، وأن المفاوضات يجب أن تُستأنف «من دون شروط مسبقة (من المعارضة)»، انهار في غضون ساعات قليلة ما استغرقته المرحلة الأولى من المعركة، ثم تأكد انهياره في غضون أيام قليلة عندما بلغت قوات المعارضة مواقع الكليات العسكرية التي لم تكن تهاجمها سابقاً ولم تتوقّع يوماً أن تسيطر عليها… قد يبدو الحدث وكأن فيه لغزاً، خصوصاً أن المواقع المقتَحَمَة لم تحاول صدّ الهجمات ولم تقاتل، لكن أهم ما برهنته المعركة أن للأرض منطقها الذي يجهله المتدخلون الخارجيون سواء كانوا دولة عظمى كروسيا أو «حرساً ثورياً» ايرانياً أو ميليشيات مذهبية استوردتها ايران.

لم يكن واقعياً أن تذهب القوى الخارجية، بما فيها الولايات المتحدة، بعيداً في استسهال الاعتقاد بأن فصائل المعارضة باتت جاهزة للتصفية أو الاستسلام. بل انها بالغت في التقليل من توقّعات الردّ على الحصار وإمكان استخدامه للضغط على المعارضة السياسية واستدراج استسلامها. هذه حسابات كانت يقينية وينبغي الآن تغييرها جذرياً، ليس نتيجة انتصارات المعارضة فحسب، بل لانكشاف تشوّش مساعي إنهاء الصراع وتأرجحها بين مشاريع عدّة، اميركية – روسية، روسية – إيرانية، إيرانية – أسدية، وروسية – أسدية… وهي مشاريع متناقضة كلّما اقترب أصحابها من التلاقي في نقطة وسط يتبيّن لهم أنها غير واقعية، إذ يتحايلون على بعضهم بعضاً ويتلاعبون بالحل السياسي لمصلحة العسكري، وبالقرار 2254 لمصلحة حلول الأمر الواقع. فالساحة المتاحة والمستباحة تغريهم بالعبث، بمن فيهم نظام الأسد الذي يتصرّف منذ اليوم الأول كطرف خارجي غير معنيّ بسورية ولا بشعبها.

فما يريده النظام وإيران لا يسهّل مهمة روسيا ولا يتيح لها استثمار تدخلها للحصول على تنازلات اميركية خارج سورية. وليس واضحاً تماماً ما يريده الروس لكن غرقهم في خطط تحقّق أهداف النظام وإيران لا يمكّنهم من «بيع» هذه الأهداف إلى الأميركيين، ويحول بالتالي دون تفاهم روسي – أميركي شامل. فموسكو تتفاوض مثلاً على الهدنة والحل السياسي فيما يقتل طياروها المدنيين في حلب وسراقب والأتارب ويدمّرون المستشفيات تفعيلاً للحل العسكري. وحين تفاوض واشنطن على تنسيق لضرب «داعش» و»جبهة النصرة» لا تتردّد في «بيع» أي شيء يتعلّق بمصلحة الشعب السوري لأن إدارة باراك أوباما لم تكن يوماً معنية بهذا الشعب بل بالفرص المتاحة لها لاستغلال قضيته. وإذا كان هناك طرف واحد مستفيد في الحالين، أي من اتفاق الروس والأميركيين أو حتى من خلافهم، فلا شك في أنه التحالف الأسدي – الإيراني، لأن الأفكار المتداولة (بقاء الأسد في منصبه، حكومة تضم معارضين، معالجة الأزمة باعتبارها مواجهة بين النظام ومجموعات ارهابية…) تبقى جميعاً تحت سقف الشروط التي وضعها هذا التحالف وتتكفّل روسيا بتسويقها.

ما الذي توقّعه الروس من محاصرة حلب تحت غطائهم الجوي، تلبية لرغبة الأسد والإيرانيين الذين صوّروا إسقاط المدينة بأنه نهاية المطاف، بل مفتاح الحسم سورياً وإقليمياً؟ كان ذلك خطأً معلناً حتى قبل حدوثه، ليس بسبب تشدّد تطرّف «جبهة فتح الشام» («النصرة» سابقاً) بل لأن الفصائل الأخرى، المصنّفة «معتدلة» اميركياً، أكثر تشدّداً في ما يتعلّق بمسار «ثورة الشعب» ومصيرها. أراد الحصار وضع هذه الفصائل أمام خيارات الاستسلام أو الموت بالتقاتل في ما بينها أو انتظار الموت على يد النظام والميليشيات، لذلك بدا خيار توحيد الصفوف والجهود هو الأجدى. ظلّت الفصائل متحفّظة في توقّعاتها حتى بعد شروعها في المعركة، وهي في أي حال كانت تنفّذ خططاً وُضعت سابقاً وكان يُفترض أن تطبّق غداة سقوط ادلب في ربيع 2015 لكنها جُمّدت بضغوط «صديقة» ولإتاحة فرص للحلول السياسية، ثم مُدّد تجميدها لتفادي استفزاز روسيا على رغم أن طيرانها ذهب الى أقصى الإجرام في استهداف المدنيين. إلا أن الحصار أسقط كل الضغوط والتحفّظات، وعلى رغم تخوّف المؤيّدين والمتعاطفين من الغطاء الجوي الروسي إلا أنهم كانوا متيقنين بإمكان نجاح الفصائل في أي مواجهة برّية مع قوات النظام والميليشيات، وإذا بها تفجّر الصدمة وتفاجئ الجميع.

في الأساس كان حصار حلب وإسقاطها هدفاً للأسد والإيرانيين، فمنذ منتصف 2012 أدركوا أن الخطر الحقيقي على دمشق يكمن في حلب، وبدءاً من 2014 حاولوا مراراً محاصرتها واختراقها ولم يفلحوا، الى أن منحهم الروس فرصة يصعب تكرارها لأن معركة كسر الحصار كشفت للحلفاء مدى هشاشة النظام، حتى أنهم يصفون قواته بأنها «مهزومة داخلياً». ليس للروس أن ينساقوا الى مطامع الإيرانيين وإلا فإن كلفة تورّطهم في حرب مذهبية ستفوق تصوّراتهم، ومن شأنهم أن يتذكّروا أن المعادلة الميدانية الراهنة هي الحد الأدنى الذي يتيح حلّاً سياسياً وأي محاولة لتغييرها تقوّضه. وفي كل الأحوال لن يستقيم أي حل من دون تنازلات تتعلّق بمصير الأسد ورموز نظامه.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

 

 

 

حلب وبوتين وأردوغان/ غسان شربل

من المبكر اعتبار الانقلاب الذي شهدته حلب تحولاً في مسار الحرب المفتوحة في سورية. ومن الخطأ التقليل من أهمية ما حصل في المدينة والرسائل التي أطلقتها عملية كسر الحصار في اتجاهات عدة.

أول الرسائل أن إرادة القتال لدى المعارضة المسلحة لا تزال عالية جداً خصوصاً لدى فصائلها الإسلامية والجهادية. لكن من التسرع الاعتقاد بأن معركة حلب الأخيرة تعني أن المعارضة قادرة على حسم الحرب على امتداد الخريطة السورية. كان من التسرع أيضاً الاعتقاد بأن الجيش السوري بمساعدة الميليشيات الحليفة له قادر على توظيف التدخل الجوي الروسي لحسم المعركة على كامل الأرض السورية.

وجهت معركة حلب رسالة قاسية إلى الجيش السوري الذي كان التدخل العسكري الروسي أعطاه قدراً من الأرجحية في المواجهات. الرسالة موجهة أيضاً إلى الميليشيات الحليفة لإيران التي تجد نفسها أمام خيار تعميق انخراطها في نزاع لم يعد ممكناً إنكار طابعه المذهبي.

كشفت معركة حلب الأخيرة أن الفصائل الإسلامية هي العمود الفقري للمعارضة السورية المسلحة وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تعميق التورط الروسي ومضاعفة الابتعاد الأميركي. نجاح معركة كسر الطوق الذي كان مفروضاً على أحياء المعارضة في حلب يعطي «جبهة النصرة» في حلتها الجديدة فرصة التسرب أكثر إلى نسيج المعارضة المسلحة والتمتع بقدر من الجاذبية لدى أعداء النظام في الداخل.

تفيد عملية كسر الحصار بأن الحرب في سورية طويلة جداً. وهناك من يعتقد بأن معركة حلب قد تدفع النظام إلى الاكتفاء بالدفاع عما يمكن الدفاع عنه. وهذا يطلق بالتأكيد شبح التقسيم حتى لو رد الجيش وحلفاؤه بعملية تعويض في الغوطة أو داريا أو جسر الشغور.

وجهت معركة حلب رسالة قاسية إلى فلاديمير بوتين الذي لا يستطيع أن ينسى أن بلاده ستطفئ في نهاية الشهر المقبل الشمعة الأولى لتدخلها العسكري في سورية. في الحروب المعقدة لا بد من الالتفات إلى جنرال شديد الخطورة إنه الجنرال وقت. أخطر ما يمكن أن توحي به عملية كسر الحصار هو أن روسيا تتحول تدريجياً إلى مجرد طرف محارب في نزاع طويل.

حين تتدخل دولة بحجم روسيا في نزاع من هذا النوع تتوهم أنها قادرة على الحسم. تعتقد بأنها قادرة على فرض وقائع ميدانية جديدة ترغم المعارضة على تقليص مطالبها تفادياً لهزيمة ساحقة. نجح التدخل الروسي في طي صفحة إسقاط النظام لكن لا شيء يوحي بأن النظام قادر على استعادة كامل الأراضي السورية مع احتفاظه برموزه وخياراته.

الإقامة الطويلة في سورية المفككة المشتعلة لا تعطي روسيا صورة القوة العظمى. والانطلاق من قاعدة حميميم لتدمير «البيئة الحاضنة للإرهابيين والتكفيريين» سيغرق صورة روسيا في دم المدنيين وركام المستشفيات. والاكتفاء بدور المحارب لسنوات قد يعطي بوتين صورة حارس التقسيم أو حارس الأقليات ولكل من الدورين ثمن غير بسيط.

يتفق الغرب مع بوتين على ضرورة إلحاق الهزيمة بالإرهابيين والتكفيريين. لكن الغرب يرى أن شرط الانتصار هو إبطال جاذبية المتشددين بطرح حل يتضمن تغيير أبرز رموز النظام لإنقاذ النظام ومؤسساته. وواضح أن بوتين لم ينجح في إقناع النظام بتقبل فكرة الانتقال السياسي ولم ينجح أبداً في تسويق هذه الفكرة لدى إيران. موقف الدول الإقليمية شبيه هنا بموقف الدول الغربية لجهة اعتقادها بأنه يستحيل إنهاء الحرب بصيغة تنقذ النظام ورموزه معاً.

كان بوتين يستعد للتمتع بموعده غداً مع ضيفه رجب طيب أردوغان. اعتذر السلطان وها هو يأتي لترميم العلاقات الاقتصادية والسياحية. إنه منهمك الآن بمطاردة أعداء الداخل. ضاعفت محاولة الانقلاب شكوكه في حلفائه. اختار المشاكسة مع أميركا والأطلسي والاتحاد الأوروبي. ثم أن أكثر ما يمكن أن يطلبه في سورية هو شيء من الرحمة لمناطق المعارضة المحاصرة في حلب وخفض التعاطف مع الأكراد. يصعب أن يكون السلطان لاعباً إقليمياً فاعلاً إذا كان محاصراً في حلب.

لم تطل متعة القيصر. الانقلاب الذي شهدته حلب يجدد شكوكه بنوايا ضيفه. الانقلاب يضعه أمام خيارات صعبة. يمتحن صورته وصورة بلاده. القصة شديدة التعقيد. لماذا يحق لإيران أن تكون صاحبة الكلمة الأخيرة في بغداد ولا يحق لتركيا أن تكون صاحبة دور في حلب؟

أفسدت حلب متعة قيصر المنشطات. رممت شيئاً من معنويات السلطان الزائر. باراك أوباما خبيث. قلب الأمر طويلاً. لا يريد حكم الأسد. ولا يريد هذه المعارضة التي يتقدمها الانغماسيون. اكتفى من أضرار سورية بالشيب الذي دهم رأسه. ابتعد تاركاً لبوتين متعة الانزلاق في حقول الجمر.

هذا موسم الألعاب الأولمبية. انتزع الشعب السوري باكراً الميدالية الذهبية في فئة أكثر الشعوب عذاباً بعد الحرب العالمية الثانية. هذا فظيع.

الحياة

 

 

 

 

في أبعاد معركة حلب/ ماجد كيالي

يشكّل الصراع على حلب، المدينة أو العاصمة السورية الثانية، انعطافة كبيرة في مسار الثورة السورية، حصل ذلك في المرة الأولى في يوليو 2012 حين دخلت مجموعات من الجيش الحر إلى هذه المدينة وسيطرت على أجزاء واسعة منها، فيما بدا وكأنه تحول نحو اعتماد العمل المسلح بدل الكفاح الشعبي، وها هو يحصل مرة ثانية مع احتدام الصراع على المدينة ومع سيطرة جماعات المعارضة العسكرية على منطقة الراموسة الحصينة، التي تعتبر من أهم الركائز العسكرية للنظام في حلب، بل وفي منطقة الشمال السوري قاطبة.

ومن دون مبالغات في النظر إلى طبيعة الصراع على هذه المدينة، وتداعياته المتعلقة بالصراع على سوريا، فإن الأبعاد السياسية لهذه المعركة، في هذه المرحلة، يمكن تمثلها بالآتي:

أولا، لن تحسم معركة حلب مصير النظام السوري، لأن ذلك يتقرّر على نحو أكبر في منطقتين، أولاهما، دمشق، وثانيتهما، الساحل السوري، بمعنى أن المعركة في حلب ذات سقف محدود، مهما كانت أهميتها.

ثانيا، أن القوى الدولية والإقليمية مازالت تشتغل وفق مبدأ مفاده أن لا غالب ولا مغلوب في الصراع السوري، أي لا مهزوم ولا منتصر، لا النظام ولا المعارضة، بحيث يبقى التوازن الذي يديم الصراع، واستمرار استنزاف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المتورطة.

ثالثا، معركة حلب بأن تفيد تركيا مازالت تضطلع بدور كبير في الحفاظ على التوازن في هذه المنطقة، وأنها رغم أوضاعها الداخلية الصعبة مازالت قادرة على أن تفرض أجندتها على الأطـراف الدولية والإقليمية في الصراع السوري، أو على الأقل في حدودها الجنوبية (الشمال السوري).

رابعا، هذه المعركة بيّنت أن روسيا باتت أكثر قدرة على التصرف في الملف السوري، إن لجهة فرض إملاءاتها على النظام، أو لجهة التوضيح لإيران أن دورها في الساحة السورية سيبقى محدودا ووفق الإطار الذي تحدده لها روسيا، وفقا لمصالحها وسياسـاتها؛ لذا يبـدو أن التباين في الموقفين الروسي ـ الإيراني سيبقى مرشحا للمزيد.

ويمكن تعزيز هذه الفرضيات أو الاستنتاجات، من خلال ملاحظتنا أن المعارضة العسكرية السورية استطاعت بسرعة لافتة فكّ الحصار الذي فرض مؤخرا على المناطق التي تقع تحت سيطرتها في حلب، لا سيما بعد سيطرة النظام وحلفائه على طريق الكاستيلو الذي كان يتيح حرية الحركة بين مناطق المعارضة وتركيا، بما يشكله ذلك من إغلاق سيتسبب في وقف تدفق موارد الدعم للمعارضة وللمناطق المحاصرة.

ملاحظة أخرى ينبغي لفت الانتباه إليها في هذا السياق، تتعلق باستثمار التحولات الجديدة في الصراع السوري في التحضير للجولة المقبلة من المفاوضات السورية ـ السورية، المتوقع أن تستأنف هذا الشهر في جنيف، لا سيما بعد الإنجازات التي حققتها المعارضة في حلب، إذ أن المعارضة أثبتت أنها رقم لا يمكن تجاوزه.

أخيرا، ربما يجدر الانتباه إلى أن ما حصل في حلب، من تحول لصالح المعارضة، بعد الانتكاسة التي كانت تعرضت لها في أكثر من مكان، ما كان ليمر لولا أن ثمة إرادة أميركية تريد أن تحافظ على الستاتيكو القائم، ولا تسمح بالإخلال به، في سبيل الدفع نحو الحل السياسي وفق المنظور الأميركي. في هذا التحول تريد الإدارة الأميركية أن توجه رسالة إلى روسيا بأنها هي التـي تتحكم بالملـف السـوري، وأن روسيا يفترض أن تضبط إيقاعها على هذا الأساس، وأن لا تتجاوز أو تلعب خارج هذا الإطار.

ولعل تسريب كلام أوباما لدى اجتماعه مع أركان الجيش والدفاع في البنتاغون يصب في هذا الاتجاه، لا سيما قوله “لست متأكدا أن في إمكاننا الوثوق بالروس وبوتين… ربما تكون روسيا غير قادرة على الوصول إلى ذلك (ضبط وقف القتال)، إما لأنها لا تريد ذلك، وإما لأنها لا تملك نفوذا كافيا على الأسد. وهذا ما سنقوم بتقويمه… لهذا السبب علينا أن نجري تقويما في شأن ما إذا كنا سنتمكن من الوصول إلى وقف فعلي للأعمال العـدائية”. أمـا بخصوص نظام الأسد عند أوباما فإن “وحشيته تدفع الناس إلى أذرع المتطرفين…”؛ هذا مع حديثه عن أن رؤية الإدارة الأميركية تتأسس على مواجهة الإرهاب والتحول الانتقالي في سوريا في آن معا، بدلا من التركيز على مواجهة الجماعات الإرهابية أولا، وفق الأجندة الروسية.

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

 

 

 

“ملحمة حلب” مشهد إقليمي لحرب “باردة”/ د. عصام نعمان

حشدت جبهة «فتح الشام» («النصرة» سابقاً) وحلفاؤها قوات كثيفة لفك طوق الجيش السوري وحلفائه المضروب على الأحياء الشرقية المحتلة في حلب. مرشد «الجهاديين» عبد الله المحيسني ومناصروه أطلقوا على المعركة اسم «ملحمة حلب». اعتبروها موقعة فاصلة. كذلك اعتبرها حلفاء الجيش السوري المنخرطون بفض هجمات «الجهاديين» المتعاقبة، والمؤمنون بأن المعركة مصيرية، وستعيد رسم خريطة المنطقة برمتها . هل بات الحسم في حلب وشيكاً ؟

ليس بهذه السرعة. جميع المؤشرات تشير إلى العكس. ذلك أن ما من تطور نوعي في مواقف أطراف الصراع أو في مجريات القتال على الأرض حدث أو أوحى بشيء من هذا القبيل. بالعكس ثمة ما يشير إلى أن الصراعات في المنطقة مديدة وأنها تتحوّل باطّراد إلى مشهد إقليمي لحرب باردة عالمية تؤثر فيها أو تتأثر بها دول وحكومات تمتد من الولايات المتحدة غرباً إلى الصين شرقاً مروراً ببريطانيا وفرنسا والمانيا، في أوروبا وتركيا وسوريا والعراق ولبنان والأردن وإسرائيل ومصر وصولاً إلى افغانستان وباكستان في آسيا.

الشواهد في هذا المجال كثيرة :

الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بثنائية راسخة : هزيمة «داعش» (تنظيم الدولة) بالتزامن مع «تغيير النظام» في دمشق. الناطق باسم البيت الأبيض جوش ارنست قالها بصراحة منتقداً العسكريين الروس الذين «يولون جزءاً كبيراً من اهتمامهم ومواردهم ووقتهم وطاقتهم لدعم نظام الأسد». الرئيس الأمريكي باراك اوباما أكد ما قاله ارنست، بعد اجتماعه بأركان مجلس الأمن القومي والقادة العسكريين في وزارة الدفاع «البنتاغون»، مضيفاً بأنه قلق من تحركات روسيا في سوريا. اوباما لا يبدو مستعداً للتسليم بحسم الصراع في بلاد الشام قبل انتهاء الانتخابات الرئاسية وتسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة في 20 كانون الاول/ديسمبر المقبل. إلى ذلك يشير الدعم العسكري والسياسي الأمريكي المتواصل لـ «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية إلى أن واشنطن ما زالت متمسكة بمخططها الرامي إلى إعطاء الكرد في شمال سوريا الشرقي، و ربما غيرهم في أجزاء أخرى من البلاد، حكماً ذاتياً الأمر الذي يتطلب استمرار الصراع وعدم حسمه في الوقت الحاضر على الأقل.

روسيا ما زالت متمسكة بثنائية معاكسة للولايات المتحدة: استئصال «داعش» وأقرانه من التنظيمات الإرهابية ودعم سوريا في حربها على الإرهاب واستثمار فترة تباطؤ المبادرة الأمريكية خلال الانتخابات الرئاسية لدعم الجيش السوري وحلفائه لتحقيق مكاسب ميدانية يصار إلى ترجمتها مكاسب سياسية إذا ما جرى استئناف مفاوضات الحل السياسي في جنيف. من الواضح أن دوافع موسكو إلى التمسك بثنائيتها المار ذكرها روسية بالدرجة الأولى : منع انتقال عدوى «داعش» إلى ملايين مواطنيها المسلمين في الداخل، والحؤول دون استخدام واشنطن للتنظيمات الإرهابية ضدها في الداخل كما في دول آسيا الوسطى ما يحدّ من طموحها إلى العودة قطباً دولياً بنفوذ عالمي مؤثر.

تركيا بعد الانقلاب الفاشل على رجب طيب اردوغان وانقلابه الشامل على جميع خصومه غيرُها قبلهما. أمور كثيرة سيتناولها التغيير في الداخل والخارج، لكن ليس بينها ما يشير إلى تغيير في موقفه من سوريا، رئيساً ونظاماً. قد يضطر بسبب انهماكه بإعادة ترتيب بيته الداخلي إلى التخفيف من دعمه للتنظيمات الإسلاموية المعادية لدمشق، لكن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى مصالحة سياسية وايديولوجية مع سوريا . «ملحمة حلب» ما كانت لتندلع لولا دعمه الوازن لــ «جيش الفتح». مشاربه «الإخوانية» ما زالت تتحكم بممارساته السابقة للانقلاب عليه وانقلابه المضاد . مع ذلك ثمة بين المراقبين مَن يؤمّل بحدوث تغيير ما في سياسته على هذا الصعيد بعد قمته الوشيكة مع فلاديمير بوتين في بطرسبرج. إسرائيل ترى مصلحتها في استمرار الصراع وصولاً إلى تجزئة سوريا. هي تدرك أن واشنطن ماضية في هذا السبيل . كانت حاولت الضغط على إدارة اوباما لمضاعفة مساعداتها العسكرية السنوية تعويضاً لها عن إقرار الاتفاق النووي مع ايران، لكنها عادت وسلّمت بما جرى تخصيصه لها، معلّلة النفس بأن تعويضها الأجدى لقاء إقرار الاتفاق النووي هو في التزام واشنطن مخططها الرامي إلى تجزئة سوريا. إيران ما زالت مثابرة على دعم سوريا بالاتفاق مع روسيا، وما زالت مراهنة على قدرة الجيش السوري وحلفائه على دحر التنظيمات الإرهابية. لعلها تراهن أيضا على تغيير مقبل في سياسة اردوغان إزاء سوريا بسبب خشيته من نجاح الكرد السوريين، المدعومين أمريكياً، من السيطرة على شمال سوريا من الحسكة في الشرق إلى عفرين في الغرب. ذلك من شأنه خدمة الكرد الثائرين على سلطة انقرة في جنوب تركيا الشرقي. إلى ذلك تخشى طهران من تحرك الكرد الإيرانيين في شمالها الغربي بدعٍ من أمريكا شأن أقرانهم السوريين. هذا الاحتمال يعزز التقارب بين طهران وانقرة وقد ينعكس ايجاباً على دمشق.

الصين تزداد نفوراً من الولايات المتحدة بسبب سياسة الأخيرة وممارساتها في بحر الصين. هي تشعر بأن واشنطن ممعنة في سياسة تطويقها و»الحجْر» عليها في الشرق الاقصى. ألمْ تبادر إلى زيادة قطع أسطولها في بحر الصين ؟ ألمْ تنشر المزيد من طائراتها المتطورة والبعيدة المدى في قاعدة «غوام» البحرية غير البعيدة عن شواطئها الجنوبية ؟ تخشى الصين من تداعيات مشاركة المزيد من مواطنيها المسلمين ذوي الأصول التركية المعروفين باسم «اغور» في الجيش التركستاني الذي يقاتل في سوريا تحت أمرة جبهة «النصرة» («فتح الشام»). هؤلاء سيعودون يوماً ما إلى بلادهم ويباشرون عمليات إرهابية ضد الحكومة والمواطنين.

يتحصّل من مجمل هذه المعطيات والتطورات أن العلاقات بين أمريكا وحلفائها الإقليميين من جهة، وبين روسيا والصين وحلفائهما الإقليميين من جهة أخرى آخذة في التوتر الذي يجد متنفساً له في دول غرب آسيا، أي في سوريا والعراق وتركيا وإيران، وأن الصراعات الدائرة في بلاد الشام وبلاد الرافدين هي أحد مشاهد الحرب «الباردة» ذات الفصول الساخنة والمتجهة، على ما يبدو، إلى ظواهر أكثر سخونة.

إزاء هذه الحال لا حسم سريعاً في حلب ومحيطها في الوقت الحاضر، ذلك أن الصراعات المديدة في العراق وسوريا واليمن وليبيا أصبحت مرتبطة، في كثير أو قليل، بمستقبل العلاقات بين الدول الأقطاب وممارساتها في الحرب «الباردة» المتزايدة سخونتها وانعكاساتها على حلفائهم الإقليميين المشتبكين في صراعات مديدة دخلت سنتها السادسة.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

فشل الانقلاب وانتصار حلب: إلى أي حد ستتغير السياسة التركية؟/ د. بشير موسى نافع

تولى بنعلي يلدريم رئاسة حزب العدالة والتنمية ورئاسة الحكومة التركية في مايو/ أيار الماضي، خلفاً لأحمد داوود أغلو. بعد أيام قليلة من توليه مهامه، قال يلدريم، في تصريح شهير، أن حكومته ستعمل في السياسة الخارجية على «تقليل الأعداء وتكثير الأصدقاء».

لم يكن خافياً، آنذاك، أن القيادة التركية ترى نذر خطر إقليمية ودولية متزايدة، وأن مقاربة حكومة بنعلي يلدريم، باتفاق لا يخفى مع الرئيس إردوغان، تحاول تحسين الموقف الاستراتيجي لتركيا، وإن بتقديم تنازلات ما في العلاقات مع هذه الدولة أو تلك. لم تكن مشكلة تركيا، بالطبع، هي بشار الأسد أو نظام السيسي، بل التأزم والافتراق المتسع في الأهداف والسياسات بين أنقرة وواشنطن، كما بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي الرئيسية. ولم يتضح هذا الافتراق كما اتضح في الموقف من تطورات الجوار العربي لتركيا.

وفرت الدول الغربية الرئيسية والولايات المتحدة الشرعية الدولية لنظام الانقلاب في مصر، ورفضت، بصورة لم تستطع تبريرها قط، دعوة تركيا لإقامة منطقة آمنة في سوريا، بل ووقفت موقف المتفرج من المجزرة التي تعهدها النظام السوري ضد شعبه بمساندة من إيران وروسيا. وعندما قرر الأمريكيون التدخل في الأزمة السورية، قدموا كل الدعم الممكن للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.

ما فهم من تصريحات رئيس الحكومة التركية الجديد، آنذاك، أن ثمة توجهاً في أنقرة للربط بين استقالة داوود أغلو، الذي لعب دوراً بارزاً في صياغة السياسة الخارجية لبلاده منذ 2008، والتأزم الملموس في وضع تركيا الاستراتيجي. وبالفعل، وبغض النظر عن صحة هذا التقدير، لم تلبث أنقرة أن بدأت خطوات متسارعة في مقاربتها الجديدة لعلاقاتها الخارجية. اختتمت المباحثات المتعلقة بتطبيع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية؛ أجرى الرئيس التركي أول اتصال مباشر مع نظيره الروسي منذ إسقاط تركيا الطائرة الروسية في نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي، تضمن الاتفاق على عقد لقاء ثنائي في القريب العاجل؛ وبدا أن العلاقات التركية – الإماراتية عادت إلى طبيعتها، سيما بعد زيارة وزير الخارجية التركي لأبو ظبي وتعيين سفير إماراتي جديد في أنقرة. في السياق نفسه، قال يلدريم أن حكومته ستسعى إلى تطبيع علاقاتها مع العراق، وإلى تطبيعها، جزئياً، على الأقل، مع مصر؛ وتحدث، وإن بصورة غامضة، عن مقاربة مختلفة للأزمة السورية. ولكن، وبينما كان مراقبو السياسة التركية يتوقعون المزيد من الخطوات في سياسة «تقليل الأعداء وتكثير الأصدقاء»، وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة مساء 15 يوليو/ تموز.

ثمة دول ودوائر لم تخف موقفها، وأخرى ليس من الممكن بعد قراءة حقيقة موقفها من، أو الدور الذي لعبته في المحاولة الانقلابية. كانت روسيا بين الدول التي أخذت موقفاً مبكراً إلى جانب الشرعية وشجبت المحاولة الانقلابية، ربما لأن موسكو توجست من صعود ضباط معروفين بعلاقاتهم الأمريكية الوثيقة إلى السلطة. وبالرغم من أن واشنطن بادرت هي الأخرى إلى شجب الانقلاب والدعوة إلى المحافظة على الديمقراطية، فمن الصعب في تركيا تجاهل وجود فتح الله غولن، المتهم بقيادة المنظمة التي حاولت السيطرة على السلطة بقوة السلاح، في الولايات المتحدة، ولا اضطراب الموقف الأمريكي من تسليمه للعدالة التركية. المواقف الأوروبية كانت الأسوأ والأكثر اضطراباً، بلا شك. تأخرت العواصم الأوروبية الرئيسية في الإعراب من موقف ما، ولم يعلن أغلبها شجباً واضحاً للمحاولة الانقلابية إلا بعد أن تأكد فشل الانقلابيين. وما إن بدأت عملية الملاحقة والتطهير، حتى خرج مسؤولون فرنسيون وألمان وإيطاليون للتنديد بالإجراءات التركية وتهديد أنقرة بإغلاق ملف عضويتها في الاتحاد الأوروبي إن هي أعادت العمل بعقوبة الإعدام. تجاهلت الدوائر الرسمية والإعلامية الأوروبية والأمريكية عنف الانقلابيين السافر وغير المسبوق، وتسابقت للتنديد بما صور في الإعلام الأوروبي وكأنه اعتداء على حقوق المشتبه بولائهم لجماعة غولن، المنتشرين في صفوف الجيش والقضاء وبيروقراطية الدولة التركية. من جهة أخرى، ثمة دول عربية لم تخف وسائل إعلامها سعادتها بالسقوط الوشيك للحكومة المنتخبة في تركيا، وبعضها الآخر تصرف وكأنه على دراية مسبقة بالحكومة المحاولة الانقلابية. فإلى أي حد ستنعكس مواقف الدول المختلفة من أحداث مساء 15 يوليو/ تموز على السياسة الخارجية التركية في الشهور القليلة المقبلة؟

على المستوى العربي، لم يعد ثمة مسؤول تركي يمكنه الدعوة إلى التطبيع مع النظام الانقلابي في مصر، ليس فقط للتغطية السوقية التي تعهدتها وسائل الإعلام المصرية المرتبطة بنظام السيسي للمحاولة الانقلابية، ولكن أيضاً لموقف المندوب المصري في الأمم المتحدة من مشروع بيان مجلس الأمن الخاص بالحدث التركي. من جهة أخرى، تتداول الأوساط الرسمية التركية، والإعلامية القريبة من حكومة العدالة والتنمية، جملة تقارير تفيد بدور إماراتي في دعم وتأييد جماعة غولن، بما ذلك شبهات حول قيام الإمارات بتقديم دعم مالي للشبكة الانقلابية، قبيل وقوع محاولتها الفاشلة. وكانت التساؤلات حول حقيقة الموقف الإمارتي بدأت منذ الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية. ففي حين اتسم التأييد الإعلامي المصري والسوري والشيعي ـ الطائفي للمحاولة الانقلابية بقدر كبير من الغضب التلقائي، وكراهية إردوغان وحكومته، ظهرت وسائل الإعلام المرتبطة بالإمارات وكأنها تقوم بتغطية مبرمجة ومخططة لدعم الانقلابيين. مهما كان الأمر، على أية حال، فالمؤكد أن التقارب التركي ـ الإماراتي المتسارع، في الفترة قبل المحاولة الانقلابية، سيتحول، على الأرجح، إلى علاقات حذرة.

ويتعلق السؤال الأهم لخيارات أنقرة ما بعد المحاولة الانقلابية بالعلاقات التركية مع الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي.

وكانت توقعات مبكرة أشارت إلى أن أنقرة ستصبح أقرب إلى روسيا، وأبعد عن الكتلة الغربية؛ وأن تركيا قد تذهب إلى حد مراجعة التزاماتها في حلف الناتو. وسارعت دوائر عربية قريبة من إيران ونظام الأسد إلى التبشير بانقلاب وشيك في الموقف التركي من الأزمة السورية، وبأن لقاء إردوغان مع بويتن سيضع حجر الأساس لتفاهم تركي ـ روسي حول سوريا. كل هذه مبالغات، يصعب توفر أدلة صلبة على تحققها. تقوم السياسة الخارجية التركية، منذ عقود، على أساس من الحفاظ على علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وأوربا الغربية، من جهة، وروسيا، من جهة أخرى. وبالرغم من أن سياسة بوتين في سوريا كانت السبب الرئيسي في تأزم العلاقات التركية ـ الروسية، عملت أنقرة، مباشرة بعد إسقاط الطائرة الروسية، على احتواء الأزمة وتطبيع العلاقات بين البلدين في أسرع وقت ممكن. لقاء إردوغان ببوتين كان مقرراً قبل المحاولة الانقلابية، ولم يأت بسببها. وتشير معركة حلب إلى أن المسؤولين الأتراك عن الملف السوري أرادوا التأكد من أن لقاء رئيسهم بنظيره الروسي لن يعقد وحلب قد سقطت في يد نظام الأسد. ولكن ذلك لا يعني أن تركيا ترفض حلاً سياسياً للأزمة السورية، إن أبدت روسيا استعداداً لبذل ضغوط جدية على نظام الأسد.

من جهة أخرى، وبالرغم من التوتر المتزايد في العلاقات الأمريكية ـ التركية والأوروبية – التركية، فليس ثمة ما يشير إلى أن أنقرة تتجه إلى قطيعة مع واشنطن أو دول الاتحاد الأوروبي. ستصبح تركيا أكثر توكيداً على مصالحها في العلاقة مع الأوروبيين، سيما ما يتعلق منها بملف اللاجئين وإيواء دول أوروبية لعناصر من حزب العمال الكردستاني وجماعة غولن. ولكن، وبالنظر إلى أن الرأي العام التركي أصبح أقل حماساً لفكرة العضوية في الاتحاد الأوروبي، فإن جوهر العلاقات مع أوروبا لن يتغير. أما على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة، فالواضح أن أنقرة تنتظر ما إن كانت واشنطن بعد أوباما ستغير من مقاربتها لتركيا ومصالحها، أولا. السياسات التركية هي بالفعل أكثر استقلالاً اليوم عن السياسات الأمريكية. ولكن تركيا تحتاج سنوات آخرى، ووضوحاً أكبر في المواقف الأمريكية، قبل أن تجري مراجعة أعمق لطبيعة العلاقات مع الحليف المثير للقلق.

٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

 

 

 

 

عشرة أسباب وراء انتصارات «حرب الأيام الستة» في حلب… وانهياراتها/ ابراهيم حميدي

أسفرت «حرب الأيام الستة» التي خاضتها فصائل سورية اسلامية ومعارضة عن السيطرة على 25 نقطة وموقعاً للقوات النظامية وحلفائها جنوب حلب وجنوبها الغربي وفك الحصار عن الأحياء الشرقية في العاصمة الاقتصادية للبلاد، وانقلاب ميزان القوى خلال اسبوع بانهيار معنويات موالي النظام وارتفاع معنويات المعارضين.

وتحشد القوات النظامية وحلفاؤها آلاف المقاتلين السوريين والميليشيات العربية والأسيوية ومن «حزب الله» والحرس الثوري لاستعادة المبادرة في حلب ووقف تقدم الفصائل المعارضة التي أعلنت ان هدفها النهائي للمعركة هو السيطرة على كامل المدينة بما فيها الاحياء الغربية التي تضم مليون و200 الف شخص، اضافة الى 250 الفاً في الأحياء الشرقية، ما يجعل معركة حلب مصيرية تحدد اتجاهات مستقبل سورية. واذ حققت القوات النظامية وحلفاؤها تقدماً في بلدة كنسبا الاستراتيجية في ريف اللاذقية، يتردد احتمال سعيها الى انتصار في الغوطتين الغربية والشرقية لدمشق او جسر الشغور بين ادلب واللاذقية.

ووفق قياديين في فصائل إسلامية ومعتدلة مدرجة على قائمة الدعم في «غرفة العمليات العسكرية» برئاسة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي أي ايه) جنوب تركيا ومسؤولين وديبلوماسيين غربيين ونشطاء مدنيين في حلب وريفها تحدثت اليهم «الحياة» في الأيام الماضية، يمكن ذكر عشرة أسباب لـ «انقلاب حلب»:

1- العدد الضخم: شارك في الهجوم بين ثمانية وعشرة آلاف معارض في تحالفين: الأول، «غرفة عمليات فتح حلب» التي تضم فصائل معتدلة مدرجة على «غرفة العمليات العسكرية» بينها «حركة نور الدين زنكي» و «الجبهة الشامية» و «لواء السلطان مراد» و «الفرقة ١٣» و «تجمع صقور جبل الزاوية» و «الفرقة الوسطى».

الثاني، «جيش الفتح» الذي يضم «جبهة فتح الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) بحوالى 2500 مقاتل و «حركة أحرار الشام الإسلامية» حوالى 2500 مقاتل و «جيش السنة» و «فيلق الشام» و «أجناد الشام» التحالف الذي يسيطر على كامل محافظة إدلب منذ ربيع العام الماضي. ولم يشارك تنظيم «جند الأقصى» المحسوب على تنظيم «داعش» وسط أنباء من ان «الأقصى» يستعد لهجوم على حماة للتعويض على عدم مشاركته في معارك حلب التي شارك فيها عناصر من «الجيش التركستاني الإسلامي» الآسيوي (اوغور – الصين).

2- اتساع ساحة المعارك: امتدت «الجبهة القتالية» بطول ٢٢ كيلومتراً من العامرية جنوب حلب و «مشروع ١٠٧٠» والحمدانية جنوب غربي المدينة الى المدخل الشمالي الغربي للمدينة، إضافة الى مخيم حندرات. وجرى تقسيم المعارك في مراحل بدأت بالسيطرة على تلال ومناطق استراتيجية و «مشروع ١٠٧٠» ثم التقدم الى المرحلة الثانية في مدرسة المدفعية والراموسة بالتزامن مع هجوم آخر من داخل الأحياء الشرقية المحاصرة.

3- «حياة أو موت»: منذ سيطرة القوات النظامية وحلفائها بدعم من «قوات سورية الديموقراطية» الكردية – العربية في منطقة السكن الشبابي في الاشرفية والشيخ مقصود على معبر الكاستيلو الى الأحياء الشرقية في حلب في ١٧ تموز (يوليو)، شعرت جميع الفصائل بأنها مخنوقة، اذ ان لدى معظمها مقاتلين داخل المناطق المحاصرة، وكان هناك ضغط على جميع الفصائل وقياداتها وحلفائها بضرورة فعل شيء. وكان هناك اعتقاد ان اذا سيطر النظام وحلفاؤه على حلب، فان المعارضة انتهت… لأنه بعد حلب ستُعزل إدلب وتحاصر ثم تنتهي المعارضة نهائياً، أي انها «معركة حياة او موت».

4- «المفاجأة»: كانت التوقعات ان يشن مقاتلو المعارضة هجوماً من طرف معبر الكاستيلو او شرق حلب. لكن المفاجأة ان مقاتلي المعارضة اختاروا المعركة الأصعب، في جنوب غربي حلب، حيث معظم القواعد العسكرية للنظام وحلفائه وأكبر كتلة للقواعد العسكرية.

5- وحدة بين المعتدلين والاسلاميين: للمرة الأولى كان هناك تنسيق كبير بين الفصائل الاسلامية والمعتدلة. الفصائل المحسوبة على الدول الاقليمية وأميركا والغرب. ولا شك في ان قرار «جبهة ال.نصرة» الابتعاد عن تنظيم «القاعدة» سهل على جميع الفصائل العمل مع التنظيم الجديد باسم «جبهة فتح الشام». مثلاً، «الفرقة 13» التي حاربت «النصرة» في معرة النعمان وتعرض عناصرها للخطف من «الجبهة»، قاتلت جنباً الى جنب «لأننا نسينا خلافاتنا لنقاتل عن مشروع وطني»، وفق قول احد القياديين.

6- استقلالية القرار: الواضح ان في هذه المعركة كان هناك هامش أكبر لاستقلالية القرار المحلي والإقليمي والفصائل السورية، ولا شك في ان قرب نهاية ادارة باراك اوباما اعطى هامشاً اوسع للاعبين المحليين والاقليميين. يضاف الى ذلك القدرة التنظيمية والمعنويات القتالية للمعارضين خصوصاً الاسلاميين.

٧- دعم عسكري كماً نوعاً: هناك معلومات ان اسلحة وذخائر وصلت الى المعارضة قبل حوالى اسبوع او عشرة ايام من بداية المعركة. وكان واضحاً ان هناك ذخائر جديدة ومعدات عسكرية جديدة مثل طائرات الاستطلاع. وكان واضحاً وجود قدرة تتظيمية وقيادية عن الفصائل. وكان واضحاً وجود دور تركي في العملية. وهناك من ربط موعد الهجوم بأنه سبق لقاء رئيس تركيا رجب طيب اردوغان بالرئيس فلاديمير بوتين في ٩ آب (اغسطس).

8- غياب الـ «الفيتو» الأميركي: كانت هذه التوقعات مرتبطة أيضاً بالمحادثات الأميركية – الروسية في جنيف الأسبوع الماضي للتوصل الى اتفاق للتعاون العسكري يتضمن وقف الطيران السوري واستهداف المعارضة المعتدلة مقابل تعاون الطيران الاميركي والروسي في محاربة الإرهابيين و «جبهة النصرة». لكن الأمور بدأت تأخذ منحى آخر الأسبوع الماضي. اذ بعد إعلان موسكو فتح «معابر إنسانية» ثالثة ورابعة للمقاتلين، تحدث وزير الخارجية الاميركي جون كيري عن «خديعة روسية».

9- غياب التنسيق في محور النظام: خاض آلاف من القوات النظامية وحلفائها بينهم «قوات الدفاع الوطني» السورية و «حزب الله» اللبناني و«لواء القدس» الفلسطيني وميليشيات عراقية وافغانية وايرانية بإشراف «الحرس الثوري الايراني»، يضاف الى ذلك مشاركة الطيران السوري من قاذفات ومروحيات والطيران الروسي المتمركز في قاعدة اللاذقية في حميميم غرب البلاد. لكن يبدو ان التنسيق بين الحلفاء لم يكن في المستوى المطلوب وان الجيش النظامي لم يكن في مستوى توقعات حلفائه وانهار بسرعة.

10- غموض الطيران الروسي: لا يزال غير واضح بالتحديد دور الطيران الروسي في المعارك. صحيح انه قدم الغطاء الجوي، لكنه لم يتبع منهج «الأرض المحروقة»، يضاف الى أن حصول حرب شوارع وتداخل المعارك بين المعارضة والنظام على الارض اضعفا دور الطيران الروسي ولم يعرف ما اذا كان هذا قرار من موسكو للضغط على دمشق وطهران ام انه امر عملياتي. لوحظ ان الغارات الروسية ركزت على إدلب وخصوصاً مدينة سراقب حيث أسقطت مروحية روسية قبل معركة حلب، لكن لم ما اذا كان هذا لمعاقبة اهل سراقب ام لتدمير سيارات مخففة ام للضغط على مقاتلي إدلب للانسحاب من معركة حلب.

يقول قياديون معارضون وديبلوماسيون ان معركة حلب كانت «منعطفاً، لكنها ليست نهاية المطاف» وانها أظهرت حدود قدرة التدخل الروسي ومدى ضعف الجيش النظامي خصوصاً انها أكبر خسارة منذ تدخل روسيا في نهاية ايلول (سبتمبر)، مع ملاحظة ان «جبهة فتح الشام» باتت تحظى بشعبية وقدرة قيادية أكثر وبات اسهل على باقي الفصائل العمل معها ما عقد المحادثات الاميركية – الروسية المستمرة في جنيف التي ترمي الى عزل المعتدلين عن المتطرفين… وليس دمجهم.

الحياة

 

 

 

 

 

الحرب في سوريا وحصار حلب: من أساليب الحرب في سوريا نفي الحقائق الواضحة بلا خجل

من أساليب الحرب في سوريا أن الحقائق الواضحة يتم نفيها ومن دون خجل، غالبًا من قبل روسيا والنظام. على سبيل المثال لقد ادَّعى بشار الأسد، عندما كانت آلاف من البراميل المتفجِّرة تسقط بالفعل، بالقول: “لا توجد براميل متفجِّرة. لا توجد لدينا براميل”، في حين كان وزير دفاعه يتباهى على التلفزيون باختراع هذا “السلاح الرخيص”. الصحفية الألمانية بينته شيلَر تسلط الضوء لموقع قنطرة على حصار حلب.

“إذا استولى النظام على حلب مرة أخرى، فعندئذ سيصبح المدنيون طيَّ النسيان”، مثلما قالت ذات مرة المُدَوِّنة السورية مارسيل شحوارو في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2014. يُقَدَّر عدد المحاصرين منذ مطلع شهر تمُّوز/يوليو 2016 في شرق حلب بأكثر من مائتي ألف شخص. وبمساعدة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي تمكن نظام الأسد من فرض سيطرته على آخر طريق يؤدي إلى حلب، أي طريق كاستيلو. وفي الوقت نفسه كثف النظام وحلفاؤه الغارات الجوية على مدينة حلب نفسها وعلى المناطق المحيطة بها، مثل بلدة الأتارب التي تم قصفها بمستوى غير مسبوق.

وروسيا تنفي أية مسؤولية لها عن التدهور الخطير للوضع. ومن جانبه قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف في الثالث من آب/مايو 2016 إنَّ مشاركة روسيا في حلب هي مشاركة إنسانية فقط: “مصلحتنا الوحيدة تكمن في حلِّ مشكلات سكَّان حلب الإنسانية، لكي يتسنى استمرار وقف إطلاق النار”، مثلما قال. ورفض جميع “التكهُّنات” حول إمكانية وجود هجوم من قبل النظام أو القوَّات الجوية الروسية في حلب، ووصف هذه التكهُّنات بأنَّها “باطلة تمامًا وأنَّها تأويل مُسيء لما نقوم به في سوريا”.

وقبل ذلك ببضعة أيَّام تم إسقاط مروحية روسية، كانت بحسب المصادر الروسية في طريقها فقط من أجل نقل مساعدات إنسانية. ولذلك تساءل الخبير في شؤون سوريا ميشائيل فايس على موقع “ناو”، لماذا أرسلت روسيا هذه “المُدَمِّرة” بهدف إيصال مساعدات إنسانية، خاصة وأنَّه عند النظر عن كثب تبدو هذه المروحية مجهزة أحسن تجهير من أجل القتال، في حين لا يمكن أن نلاحظ مباشرة كيف يمكن استخدامها من أجل رحلات لتوفير المساعدات الإنسانية.

إنَّ من أساليب الحرب في سوريا أنَّ الحقائق الواضحة يتم نفيها ومن دون خجل غالبًا من قبل روسيا والنظام. على سبيل المثال لقد ادَّعى بشار الأسد، عندما كانت آلاف من البراميل المتفجِّرة تسقط بالفعل -في حين كان وزير دفاعه يتباهى على التلفزيون باختراع هذا “السلاح الرخيص”- بالقول: “لا توجد براميل متفجِّرة. لا توجد لدينا براميل”.

ونظرًا إلى نوعية مثل هذه الدعاية فليس من المهم أيضًا إن كانوا يدخلون في تناقضات. فإذا لم يكن هناك أي هجوم على حلب، فلماذا يا ترى يجب فتح ممرَّات للهروب من حلب أعلن عنها كلٌّ من بوتين والأسد؟

ليس هناك أدنى شكّ في أنَّ النظام وحلفاءه يستهدفون المدنيين والبنية التحتية المدنية، وخاصة المستشفيات. فمنذ بداية الأزمة كان الأطباء الذين يعالجون معارضين مصابين، يضطرون إلى الخوف على حياتهم. وفي بداية شهر حزيران/يونيو 2016 نجا من الموت بصعوبة تسعة مواليد حديثي الولادة، عندما كان لا بدَّ من إخراجهم من الحاضنات بسبب غارة جوية استهدفت المستشفى – وبالمناسبة هذه الحاضنات لم يعد يوجد منها سوى ثماني عشرة فقط.

من الشائع في الحروب الأخرى أن يتم الإبلاغ عن إحداثيات المستشفيات، لكي لا تتم إصابتها عشوائيًا. ولكن في سوريا ترفض الآن منظمة أطباء بلا حدود الإبلاغ عن المرافق الصحية المدعومة من قبلها – وذلك بطبيعة الحال لأنَّ النظام يستهدفها.

“لم تعد توجد سوى ست سيَّارات إسعاف”، مثلما يرد في مقال لمارتن دورم حول حلب: “لكن فرق الإنقاذ باتت تُفضِّل الآن نقل الجرحى بشاحنات صغيرة ذات ثلاث عجلات. وهذه الشاحنات إصابتها أصعب بالنسبة للقناصة وهي كذلك أكثر مرونة في الأزقة والشوارع”.

دعت الأمم المتحدة إلى هدنة إنسانية في حلب مبدية خشيتها على مصير المدنيين المعرضين للحصار. وأثارت التطورات في حلب الخشية على حوالي 1,5 مليون شخص في المدينة. ويقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان المحسوب على المعارضة وخبراء عدد سكان الأحياء الشرقية بـ 250 ألف شخص مقابل مليون و200 ألف نسمة في الأحياء الغربية.

والشهود المستطلعة آراؤهم في شرق حلب وفي المناطق المحيطة بها نفوا جميعهم أن تكون الطرق مفتوحة. وكذلك قيل إنَّ مئات من اللاجئين قد هربو من حلب، غير أنَّهم لم يظهروا في أي مكان بحسب معلومات الأمم المتَّحدة والمنظمات غير الحكومية، وكذلك لم يسمع أي أحد عنهم حتى الآن.

البراميل المتفجِّرة هي حقيقة، أمَّا ممرات الهروب فما تزال حتى الآن وهمًا. من المفترض أنَّ ثلاثة من هذه الممرات قد تم توفيرها للمدنيين، وممر آخر في الشمال للمقاتلين. وفي هذا الصدد ذكرت وسائل الإعلام الروسية والحكومية أنَّ عدة مئات من المدنيين غادروا المدينة من خلال هذه الممرات وقد تم إيواؤهم في مخيَّمات. ولكن من حلب نفسها لا يوجد أي تأكيد على ذلك. وحول ذلك يقول المحلل السياسي حيدر حيدر: “بحسب معلوماتي لا يوجد أي من هذه الممرات، ولكن حتى لو كانت هذه الممرات موجودة فمن الصعب التصوُّر أنَّ أحدًا سوف يستخدمها. فلا أحد يثق بالنظام. إذ إنَّ تجربة حمص لا تزال لها آثارها لدى الناس”.

وفي شهر كانون الثاني/يناير 2014 تعهَّد النظام بتوفير ممر حرّ للمدنيين والمقاتلين في وسط حمص، وتحت أعين الأمم المتَّحدة. غير أنَّه نكث وعده هذا: حيث تم اعتقال مئات من الرجال، وقد تم إرسال بعضهم إلى جبهات القتال، وحتى يومنا هذا لا يوجد أي أثر لنحو مائتي رجل منهم. وبصرف النظر بالتالي عن مدى انعدام الأمل في الوضع في بعض الأماكن: فإنَّ إلقاء السلاح لم يكن يُمثِّل أي خيار بالنسبة للكثيرين. بل إنَّ الناس كانوا على قناعة بأنَّهم عندما يواصلون القتال، فستبقى لديهم عندئذ فرصة للبقاء على قيد الحياة، وأنَّ مَنْ يستسلم يقوم من حيث المبدأ بالتوقيع على قرار إعدامه. وبالنسبة للكثيرين من المدنيين كان من الواضح: أنَّهم لا يُقَدِّرون كلَّ مجموعة مقاتلة، ولكن من دون هذه المجموعات ربما سيكون المدنيون ضعفاء وغير محميين إزاء هجمات النظام.

ومن الناحية العملية لا بدّ أيضًا من طرح هذا السؤال: إلى أين يُفترض بأهالي حلب أن يهربوا وينتقلوا إلى مكان آمن، حيث لا توجد أية مناطق آمنة في محيط حلب. ودول الجوار لم تعد تستقبل لاجئين سوريين، وبالإضافة إلى ذلك لا يزال من الصعب بالنسبة للهاربين عبور الحدود بين أراضي النظام والمتمرِّدين. ونتيجة لذلك لا يزال الانسحاب بمأمن من حلب لا يكشف شيئًا عما يمكن أن يتعرَّض له الهاربون من حلب.

والمبعوث  الأممي إلى سوريا ستافان دي ميستورا يدرك مدى صعوبة توفير ممرَّات هروب تحت سيطرة أحد الأطراف المتحاربة، ويدعو إلى ضرورة إخلاء المدينة تحت إشراف الأمم المتَّحدة.

وهذا يوجز المشكلة الرئيسية التي تواجه السياسة الغربية في سوريا. فمنذ فترة طويلة تخلت الدول الغربية عن المطالبة بحلِّ المشكلة الأساسية: أي السلطة التي يتمَّسك بها بشار الأسد والمستعد من أجلها حتى لارتكاب إبادة جماعية.

وبدلاً من المفاوضات السياسية، يسعى النظام إلى فرض مصالحه على حساب المدنيين في سوريا. والمجتمع الدولي يشاركه في ذلك، من خلال حرصه على عدم الانخراط في الشأن السوري. وبدلاً من المطالبة الجادة بتطبيق حماية المدنيين المنصوص عليها في اتِّفاقية جنيف، يكتفي المجتمع الدولي بالمطالبة بتخفيف معاناة المدنيين – حتى بشكل رمزي مثل المطالبة بتوفير ممر للهروب تحت سيطرة الأمم المتَّحدة.

إذ إنَّ المطالبة من خلال الأمم المتَّحدة بتوفير ممرات للهروب لا يمكن أن تكون سوى مطالبة رمزية، عندما تقول الأمم المتَّحدة عن نفسها، إنَّها غير قادرة حتى على القيام بمراقبة وقف إطلاق النار في سوريا. ومن دون حصولها على تفويض قوي، لا يمكن للأمم المتَّحدة أن تضمن سلامة الهاربين.

وفي المقابل من غير الواقعي أن توافق روسيا على مثل هذا التفويض. ففي آخر المطاف روسيا تساند نظام الأسد في استراتيجية “إمَّا استسلام المعارضين أو موتهم”، وتمكِّنه من تحقيق هذه الاستراتيجية عن طريق تقديمها الدعم الجوي له.

 

 

بينته شيلَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2016

ar.qantara.de

 

 

 

 

مكاسب المعارضة السورية في حلب تعقد استراتيجيات الأسد وروسيا/ من سليمان الخالدي

بيروت (رويترز) – وجه مقاتلو المعارضة السورية ضربة لآمال الرئيس بشار الأسد باستخدام القوة الجوية الروسية لاستعادة مدينة حلب الحيوية والإسراع بإنهاء الصراع المستمر منذ خمسة أعوام بكسرهم حصارا للحكومة على مناطق تسيطر عليها المعارضة في حلب.

وفتح التقدم المفاجئ لمقاتلين من غرب سوريا إلى مجمع عسكري في جنوب غرب حلب يوم السبت ممرا إلى المدينة ليكسروا بذلك حصارا مضروبا منذ أسابيع ويوفروا قاعدة انطلاق لهجمات جديدة على المناطق التي تسيطر عليها الحكومة.

ومن غير الواضح ما إذا كانوا سيتمكنون من الاحتفاظ بمكاسبهم أو حتى تعزيزها في حرب تتسم بتغير الحظوظ لكن نجاح المسلحين أظهر أنهم قادرون على وقف القوة الدافعة التي أعطتها الحملة الجوية الروسية للأسد في الشهور الأخيرة.

وفي حلب أظهرت الجماعات المختلفة التي تقاتل جيش الحكومة السورية وحدة نادرة في الوقت الذي وجهت فيه أيضا ضربة للأسد وموسكو وحلفائهما المدعومين من إيران الذين أسهموا بشدة في انتصار في المدينة التي كانت أكثر المدن السورية سكانا قبل الحرب.

وقال العميد أمين حطيط وهو مؤيد للأسد في مقابلة بصحيفة الثورة السورية “كان واضحا ان معركة حلب ستكون المعركة الاقسى والمعركة الأهم والمعركة الأخطر والأطول في كل المعارك التي اندلعت.”

وحلب مهمة ليس فقط بسبب حجمها ولكن أيضا لموقعها القريب من تركيا وهي داعم قوي للجماعات المعارضة للأسد التي تعمل في المدينة. وبالإضافة إلى ذلك فإن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة فيها هي المعقل الرئيسي لمعظم جماعات المعارضة خلافا لجهاديي تنظيم الدولة الإسلامية.

وربما ينظر في دمشق وموسكو إلى هزيمة مقاتلي المعارضة في حلب كمؤشر لانهيار المعارضة المسلحة ضد حكم الأسد.

وأعلنت وسائل الإعلام الحكومية أن القتال “أم المعارك” في حين وصفته جماعة حزب الله اللبنانية حليفة الأسد في الحرب بأنه “صراع وجودي”.

وتحدث مقاتلو المعارضة من جانبهم عن “معركة ملحمية لتحرير حلب” حاشدين الدعم بإشارتهم إلى محنة المدنيين المحاصرين في المدينة التي تتعرض لغارات جوية تستهدف بانتظام المستشفيات والأسواق.

وحدة نادرة للمعارضة

تشير حملة حلب وهي حتى الآن أكبر هجوم منسق لجماعات المعارضة منذ بدء الصراع في 2011 إلى أنها عززت قدراتها على الرغم من تكبدها خسائر كبيرة منذ بدء الغارات الجوية الروسية ضدها قبل نحو عام.

واقتحم ما يتراوح بين ستة آلاف وثمانية آلاف من مقاتلي المعارضة من جماعات مختلفة بعشرات الدبابات دفاعات الجيش التي تشبه الحصن في الراموسة في جنوب غرب حلب في بضعة أيام فقط. وقاد المفجرون الانتحاريون التقدم.

وتراوحت هذه الجماعات من تحالف جيش الفتح الإسلامي الذي يشمل جبهة فتح الشام التي كانت تسمى جبهة النصرة قبل أن تقطع علاقاتها مع القاعدة قبل أسبوعين إلى الجيش السوري الحر المدعوم من الغرب.

وطرد جيش الفتح الجيش السوري وحلفاءه العام الماضي من محافظة إدلب إلى الجنوب الغربي من حلب قبل أن يحول التدخل الروسي في سوريا المد لصالح الأسد.

وسيرفع النجاح الذي تحقق الأسبوع الماضي مكانة جبهة النصرة والتي جاء تغيير اسمها لأسباب من بينها تضييق الخلافات مع التيار الرئيسي للمعارضة.

بيد أن وحدة الجماعات المعارضة هذه المرة ولدت في الأغلب من رحم القلق من التقدم التدريجي للقوات الحكومية منذ دخلت روسيا الحرب.

وقال علاء الصقار القائد العسكري في جماعة فتح حلب “اليوم كنا متفرقين متباعدين شوي (بعض الشيء) اليوم صرنا صف واحد. الهدف هو النظام ماعاد (ما عدا ذلك) فيش (لا توجد) مشكل (مشاكل) بيننا و ما عاد (ما عدا) في حالة البعد والركون صار في عندنا عدو واحد ممكن يقضي علينا فصرنا كلنا يد واحدة.”

حملة القصف

بعد سنوات من توقف شبه كامل في الموقف في حلب كانت الحملة الجوية التي بدأت بتدخل روسيا في سبتمبر هي التي جعلت الأسد قريبا من تحقيق نصر كبير.

وفشل الجيش السوري في محاولات كثيرة في اختراق الخطوط الأمامية في حلب ونسبت الكثير من الانتكاسات إلى حصول المعارضة على أسلحة من دول عربية خليجية وتركيا.

وسيطر الجيش في الشهر الماضي على طريق الكاستيلو في شمال حلب وكان آخر طريق يسيطرون عليه إلى داخل المدينة ليفرض الحصار على 250 ألف شخص في القطاع الخاضع للمعارضة.

وبخلاف القصف واجه المقاتلون والمدنيون بالمناطق الخاضعة للمعارضة نقصا في الغذاء والأدوية والوقود بينما يراقب العالم الموقف.

لكن سيطرة المعارضين يوم الجمعة على قاعدة الراموسة قطع الطريق الرئيسية الوحيدة للحكومة إلى المدينة ودل على أن الجيش سيتخبط في إيصال الإمدادات إلى السكان البالغ عددهم مليون شخص في المناطق الخاضعة لسيطرته.

ويرغب المعارضون الآن في التقدم أكثر في المناطق الخاضعة للحكومة ويعبئون الآلاف من المقاتلين من المناطق الريفية في شمال وغرب البلاد.

وقال دبلوماسي غربي كبير “إن المتمردين قلبوا الطاولة على استراتيجية الحصار.”

وأضاف أن التطور يمثل أيضا انتكاسة لموسكو التي تعتبر النصر في المدينة مبررا لتدخلها في سوريا.

وكانت روسيا تصب كل تركيزها في استكمال حملة حلب حتى أنها تحدت دعوات أمريكية بتخفيف القبضة على المدينة رغم المخاطرة باتفاق مع واشنطن للتعاون في ضربات ضد المتشددين.

* معركة طويلة

وقال معارضون ومصادر حكومية ودبلوماسيون إنه بإعلان المعارضة الآن إنها تجهز للهجوم على المناطق الغربية في حلب التي نجت حتى الآن من القصف الجوي المدمر الذي تعرضت له المناطق الخاضعة للمعارضة فإنه تلوح في الأفق معركة دموية أطول.

ويقول مقيمون إن السكان في شرق حلب انتقلوا في جماعات من المناطق الواقعة على الخطوط الأمامية إلى مناطق أخرى بالمدينة وهو نمط قد يتكرر في المناطق الغربية الخاضعة للحكومة.

ويعتبر المعارضون نجاحهم دليلا على قدرتهم على قلب الطاولة حتى في وجه القوة الروسية وأن هدفهم في الإطاحة بالأسد لم يعد بعيد المنال.

وقال محمد الشامي قائد جماعة أحرار الشام المنضوية تحت تحالف جيش الفتح الإسلامي “بعد هذه المكاسب حطمنا الخيار العسكري الذي حاول المحتل الروسي وحلفاؤه الإيرانيون وحزب الله فرضه.

وأضاف الشامي “اليوم الذي يخطط للنظام ضباط روس وعناصر حرس ثوري إيراني وحزب الله وهم (يخوضون) معارك واليوم تفوقنا عليهم.”

(إعداد علي خفاجي ومعاذ عبد العزيز للنشرة العربية – تحرير سيف الدين حمدان)

 

 

 

 

الإرهابيون الذين فكّوا حصار حلب/ موناليزا فريحة

لا يشغل بال الحلبيين كثيراً تصنيف النظام السوري وحلفائه والغرب كله، لأولئك المسلحين الذي انتزعوا المبادرة، وإن موقتاً، في شمال سوريا. بالنسبة إليهم، صار هؤلاء أبطالاً نجحوا في قلب زخم قوات النظام التي تمكنت الأسبوع الماضي من إطباق الخناق على 300 ألف مدني يعيشون في شرق حلب، بعد أشهر من القصف والغارات.

لا حرج عند سكان الأحياء المحاصرة إذا كان هؤلاء من “جبهة فتح الشام” أو “حركة أحرار الشام” أو غيرهما… هم متأكدون من أن من يحاربون على الجبهة الأخرى ليسوا هلالاً أحمر، وبراميلهم المتفجرة وغاراتهم العمياء ليست أقل فتكاً من العمليات الانتحارية لـ”جيش الفتح” وغيره. ولا شيء يضمن لهم أن سُحنات أفراد الميليشيات الإيرانية والعراقية والأفغانية واللبنانية الذين يقاتلون نيابة عن النظام، أكثر هيبة من أولئك الذي نشرت وسائل الاعلام الغربية صورهم لتقول إن الانتصار الوحيد على النظام في سوريا منذ أكثر من سنة أحرزه متطرفو “القاعدة”.

نجح هؤلاء السلفيون والمتطرفون في فك طوق كان ينذر بكارثة إنسانية. هذا بذاته إنجاز لمن يعيش تحت الحصار. إنجاز تلكأت أميركا في فرضه، على رغم تقديمها تنازلات كثيرة لموسكو من غير أن تنجح في انتزاع تعهد منها لوقف قصف حلب.

وبالطبع ليست “مناقبية” “جيش الفتح” أو جهوزيته هي التي أدت بين ليلة وضحاها إلى فك الطوق. فقد حصل هؤلاء بالتأكيد، وعلى رغم تصنيفهم إرهابيّين، على دعم خارجي أتاح لهم قلب المعادلة ولو موقتاً. وأوردت صحف عدة، بينها “الفايننشال تايمس” أن قوات المعارضة زُوّدت أسلحة جديدة وأموالاً قبل القتال وخلاله. وعلى ذمة ناشط سوري “كانت ثمة عشرات الشاحنات المحملة أسلحة على الحدود بين تركيا وسوريا، وهذا الأمر كان يحصل يومياً منذ أسابيع”، موضحاً “أننا لسنا نتحدث عن ذخيرة وبنادق فقط”.

لا أحد يتوهّم أن “الملحمة” كانت حاسمة في حلب، أو أن هذا الاختراق لن يقابله اختراق مضاد. اللعبة هناك لا تزال طويلة والحشود التي دفع بها النظام وحلفاؤه، إضافة إلى الغارات المكثفة، تؤذن بمزيد من النزف والكر والفرّ. لكنّ المؤلم أن يبقى مصير سوريا معلقاً على الدعم الخارجي لهذا الفريق أو ذاك، ويبقى مصير شعب بكامله رهناً بقوى كبرى قادرة على تحويل الإرهابي بطلاً والبطل إرهابياً، تبعاً لحساباتها ومصالحها التي لا تمت الى الميدان السوري والشعب السوري بأي صلة.

النهار

 

 

 

 

موسكو المحاصرة في حلب/ مصطفى فحص

تهيأ القيصر الجديد لتسديد ضربة قاضية لجميع خصومه، وهو الذي اعتقد لعشرة أشهر مضت، أنه لم يعد في الحلبة السورية من يجرؤ على منازلته، وخرج وزير دفاعه وهو الرجل الأقوى في إدارته سيرغي شايغو ليعلم العالم أن بلاده منحت السوريين ثلاثة ممرات آمنة للخروج من حلب، وأعطى فرصة للمسلحين لتسليم سلاحهم، ضامنا لهم الحصول على عفو عام سيمنحه الرئيس بشار الأسد، يغفر لهم ذنب تمردهم على سلطته. ففي مساء الـ27 من يوليو (تموز)، وهو التاريخ الذي عقد فيه الوزير شايغو مؤتمره الصحافي، حيث أعلن عن اكتمال حصار المدينة، ساد العالم والمنطقة صمت مريب، فقد كانت التوقعات الأكثر تفاؤلا ترجح إعلان الشعب السوري استسلامه، والمعارضة هزيمتها.

ولكن على أبواب حلب، لم يفلح فلاديمير بوتين، المصر على تكرار أخطاء أسلافه السوفيات الذين سبقوه في السقوط بامتحان القوة، وفاته كما فاتهم في أفغانستان والشيشان أنه مهما امتلك من إمكانيات، فإنه لن يتمكن من إرضاخ أصحاب الأرض، فهم وحدهم يمتلكون المكان ويتحكمون في الزمان. سوء الحسابات أصاب بوتين وجنرالاته بالعمى الاستراتيجي، واعتقدوا للحظة أن طائراتهم تستطيع تغيير مسار الحرب والتحكم في نتائجها، فحصار حلب الذي أراد بوتين تحويله إلى حصار للمعارضة والثورة ولخصومه الإقليميين والدوليين، بدأ يتحول إلى حصار سياسي خانق له، من الصعب أن ينجح في فكه مهما حاول من استخدام القوة، فالمعادلة العسكرية والسياسية التي فرضتها المقاومة السورية وداعموها في موقعة حلب، نقلت موسكو من موقع المتفرد بالقرار السوري إلى رهينة مجبرة على التأقلم مع المستجدات في صناعة القرار الدولي، ولن تسمح لها المرحلة المقبلة بتجاوز ما تم تحقيقه في العشرة أيام الأخيرة.

في حلب الآن، ضاقت خيارات روسيا، ولم يعد أمامها إلا اللجوء إلى الكي باعتباره وسيلة أخيرة لمداواة جراحها السورية العميقة، والكي بالمنطق الروسي هو تدمير المدينة فوق رؤوس من فيها، والمشاركة المكشوفة إلى جانب ميليشيات مذهبية في غزوها، وكأنه يسير بملء إرادته إلى ما تجنبته دول تتفوق عليه في قدراتها العسكرية والاقتصادية، ونأت بنفسها مبكرا عما وصفته بالصراع الطائفي حول سوريا، كما أن الانقلاب الأخير في موازين القوة، لم يعد يسمح لموسكو بالتمسك بإعادة تعويم الأسد ونظامه، وقد أصبح العالم على قناعة نهائية بأنه لا إمكانية للحل بوجوده، إضافة إلى فشل موسكو الذريع في ترميم ما تبقى من جيش الأسد، وتأمين اللازم لانتشاره، ما كشف عن اعتمادها الكبير على المرتزقة الإيرانية.

لم تستبعد أوساط روسية إسقاط المروحية العسكرية فوق ريف إدلب بصاروخ أميركي، فهي رسالة واضحة بأن قواعد اللعبة بدأت تتبدل، وبأن إمكانية تحييد الطيران الروسي ممكنة، وهو بمثابة إنذار أميركي مبكر بأن المقيم الجديد في البيت الأبيض، سيختلف حتما في تعاطيه مع الملفات الروسية عن سلفه، وهو ما سيجبر موسكو على تغيير سلوكها، ويضعها أمام امتحان إثبات قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وفي مقدمتها إقناع الأسد بالتنازل عن السلطة، ما سوف يكشف حجم تأثيرها على النظام مقارنة بالتأثير الإيراني.

امتحان أمهلها إياه من تبقى لها من أصدقائها العرب، بأن تخرج بتوازن مقبول يضمن لها مصالحها في سوريا والمنطقة، وينقذها من الحصار الإقليمي الذي فرضته على نفسها، عندما حاولت من حلب اللعب بالثوابت الجيو – سياسية، التي حكمت قواعد الاشتباك في المنطقة، والتي جعلتها أيضا محاصرة بشروط العثماني المتمرد على حلفائه التقليديين، الذي يملك موهبة الأكل على الفكين، لكنها تحاول استمالته على الرغم من قناعتها بأن جسده في بطرسبرغ وعقله في واشنطن.

وعليه، لم تعد الأشهر المتبقية لأوباما في البيت الأبيض تكفي موسكو لتثبيت تفاهمات كيري – لافروف حول سوريا، حيث تواجه صعوبة في تمرير رؤيتها لتصنيف الجماعات السورية المقاتلة، ما يضعها أمام خيارين، إما الاكتفاء بعمليات جوية شبه محدودة، وإما أن تعلن عن عدم قدرتها على التفريق بين الإرهاببين والمعتدلين وتستمر في قصفها العشوائي، وهو ما بات من الصعب تمريره في الرياض وأنقرة، ومن الممكن أن ترفضه أجهزة الدولة الأميركية التي قد تدفع البيت الأبيض إلى التصعيد على أكثر من جبهة، ما سوف يضيف من أعبائها، كما يزداد قلقها جراء قرار الدول الإقليمية الفاعلة ملء الفراغ الأميركي في المنطقة وهو تحد إضافي لها.

موسكو المحاصرة في حلب أضاعت الفرص وتخسر الآن عامل الوقت، ولم يعد لديها من الزمن ما يكفي لتستخدمه في تمرير أجندتها، وهي تدرك جيدا أن عقارب الساعة تسير باتجاه واحد! وعن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك».

* نقلاً عن “الشرق الأوسط”

 

 

 

حلب:نكسة روسية..إيرانية/ ساطع نور الدين

لأن حلب مدينة عريقة، غنية بالرموز والدلالات، يصعب التسليم بأن معركتها الراهنة هي فقط نتاج قرار أخرق بفرض الحصار على أكثر من ثلث سكانها، جرى الرد عليه بعملية جريئة فكت الطوق عن المحاصرين. العبر المستخلصة من تلك المعركة أهم من أن يجري حصرها في ذلك النطاق المحلي المحدد بحرب الإستنزاف المنظمة، على جبهات وخطوط تماس رسمت بدقة فتحولت الى خطوط حمراء يُمنع على أي من طرفي الحرب خرقها. ولعل الخلاصة الاهم لتلك المعركة هي ان أوهام النظام باستعادة السيطرة على كامل الارض السورية سقطت نهائيا، مثلها مثل أحلام المعارضة بانها مؤهلة للمضي قدماً حتى إطاحة النظام بالقوة.

ومثلما غامر النظام بدعوة معارضيه الى الاستسلام في اعقاب فرضه الحصار على الاحياء الشرقية، تخاطر المعارضة اليوم في الاعلان عن انها متجهة نحو تحرير مدينة حلب بالكامل. كلاهما يغفل أنه لا يملك مثل هذا القرار ولا يستطيع تنفيذه. وكلاهما يجهل ان ما تشهده المدينة هو مجرد مسعى لتصويب موازين القوى بما يتيح عودتهما الى قاعة المفاوضات من دون الشروط السابقة التي أفشلت جولات التفاوض الماضية في جنيف، وما زالت حتى الان تعيق تحديد موعد الجولة الجديدة.

لم يكن ذلك المسعى وليد تفاهم ضمني بين الدول الداعمة لطرفي النزاع السوري. الارجح انه كان وليد تواطوء على إختبار القوات المتحاربة ومدى إستعدادها لخرق مواقع الطرف الاخر ودفعه الى تقديم التنازلات المطلوبة على طاولة المفاوضات. والحصيلة هي ان روسيا كانت الخاسر الاكبر من ذلك الاختبار الذي مس سمعتها وهيبتها العسكرية. فهي التي سبقت النظام في الاعلان عن فرض الحصار، وهي التي بادر وزير دفاعها سيرغي شويغو بدعوة المعارضين الى تسليم اسلحتهم وحدد لهم وللمدنيين الطرقات الاربع للخروج من المدينة. الخسارة الروسية فادحة لان الحصار لم يصمد وكذا الامر بالنسبة الى القوات المكلفة بفرضه على الارض. ولا بد ان المراجعة الروسية للمعركة ستقود الى خطوات توسع الخيار العسكري، وتستعجل الخيار السياسي في آن معا.. وإن كان الخداع هو احد الاحتمالات الروسية الواردة، لا سيما وان الرئيس فلاديمير بوتين سبق أن كذب في شهر آذار مارس الماضي عندما أعلن سحب وحداته المقاتلة من سوريا، في خطوة ما زالت تثير علامات الاستفهام.

توسيع الخيار العسكري الروسي لا يحتمل الكثير من الفرص. ف”القوة الفضائية والجوية”، حسب تعبير الكرملين، التي تقاتل في سوريا هي ذروة الاسلحة التقليدية الروسية التي شملت القاذفات البعيدة المدى والصواريخ العابرة للقارات( التي تشهد على إطلاقها طهران بعدما تحطم بعضها فوق الاراضي الايرانية، والتي أوصت واشنطن الروس بالتوقف عن إستخدامها لانها تعتمد على تقنيات روسية قديمة من العهد السوفياتي). لم يبق سوى إرسال فرق من الوحدات البرية الروسية للقتال مع الجيش السوري المتهالك والمليشيات الايرانية الداعمة له والغرق في رمال سوريا المتحركة التي تفوق خطورتها الرمال المتحركة الافغانية.

وليس الخيار السياسي الروسي أسهل او أجدى. تعرف موسكو منذ البداية ان الشرط الاول والاهم لانهاء الحرب في سوريا وضبط الجزء الاكبر من مسلحي المعارضة، هو رأس بشار الاسد، وقد حاولت أكثر من مرة ان تساوم عليه، بعد أن عملت على رفع ثمنه، لكن أحداً لم يبد إستعداداً للدفع حتى الآن.  ولعل من نتائج نكسة حلب الاخيرة، أنها تقفل تلك المساومة، وتضع الروس للمرة الاولى، أمام تحدي الفصل الحقيقي، الذي كان يعتقد أنه مستحيل، بين الرئيس السوري وفريقه المقرب، وبين النظام ومؤسساته.. من أجل الاحتفاظ بسوريا تحت الحماية_الوصاية الروسية.

يمكن لروسيا الخروج من نكسة حلب( ومن مأزق سوريا كلها)، بتفاهم جديد مع تركيا، فتحت الافاق أمامه أخيراً، وبتوافق مختلف مع ايران التي تلقت ضربة قاسية يمكن ان تقنعها بأنها والمليشيات التي أرسلتها الى سوريا، وعبأتها من أجل معركة حلب بالذات..لا تستطيع أن تخرق أياً من الخطوط الحمراء السورية، ولا ان تحمي رئيساً يمكن ان يفصل عن نظامه في أي لحظة من الان فصاعداً.

المدن

 

 

 

 

حلب أطاحت روزنامة كيري لشهر آب/ روزانا بومنصف

حين أعلن وزير الخارجية الاميركي جون كيري في 26 تموز المنصرم، على أثر لقائه نظيره الروسي سيرغي لافروف في لاوس، عن أمله في أن المحادثات التي كان أجراها قبل أسبوعين من ذلك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمكن أن تؤدي الى إيجابيات خلال الاسبوع المقبل أو في 10 أيام، كان بذلك يرد على تشكيك لوزير الدفاع الاميركي اشتون كارتر، في مؤتمر صحافي عقده في البنتاغون، في إمكان الثقة بالروس في مسألة التعاون العسكري معهم في موضوع سوريا، خصوصا أن موقف كيري أتى على أثر سيطرة النظام السوري وحلفائه وبدعم جوي روسي على طريق الكاستيلو التي قطعت طريق الامداد للمعارضة السورية. المهلة التي حددها كيري انتهت مبدئيا في اليومين الماضيين، ولا هامش محتملا لنجاحها في الأيام المقبلة تبعا للمعارك الجارية في حلب والتي بدلت المعطيات عن اتفاق اميركي – روسي تم الدفع على أثره في اجتماع لمسؤولين روس وأميركيين في 26 الشهر الماضي في جنيف في اتجاه ان يمهد الموفد الدولي الى سوريا ستيفان دو ميستورا لاستئناف المفاوضات في نهاية آب الجاري. ومع أن العمل الديبلوماسي لا ينطوي في الغالب او في كل مرة على نجاح، بل هو سلسلة من المحاولات والمساعي، إلا أنه بالنسبة الى متابعين كثر أن الانخراط الروسي في دعم خطة النظام في حصار حلب والاعلان عن ممرات آمنة تبنتها روسيا ووجهت رسالة بهذا المعنى للامين العام للامم المتحدة، في الوقت الذي بدا ان الممرات الآمنة قد تنطوي على تهجير اضافي لاهلي حلب، فضلا عن استهداف الهاربين بالقنص والقتل، يفترض ان يربك السياسة او الديبلوماسية الاميركية التي تبدو كأنها توافق على ما يجري، او هي عاجزة عن التصدي له في أحسن الاحوال، وذلك ما لم تتصرف هذه السياسة بالاسلوب نفسه من خلال توفير الدعم غير المباشر للمعارضة من أجل الصمود وردع النظام عن السيطرة على حلب وفك الحصار الذي يسعى الى فرضه عليها. وهذا ما يعتقده الموالون للنظام، على قاعدة أن المحور المواجه لهذا الاخير مع حلفائه من ايران الى روسيا والتنظيمات والميليشيات التي تحارب من أجله هو المحور الآخر الذي يقول هؤلاء إن الولايات المتحدة تدعمه وتمنع انهياره، الى جانب دول اقليمية وعربية.

تراجعت مؤشرات الاتفاق الاميركي – الروسي على وقع معركة حلب، كما تراجعت الروزنامة التي حددها كيري بحيث لا تبدو هناك قابلية لالتزامها، مما يعني تأخير موضوع البحث في الانتقال السياسي، في خضم محاولة نسف أسسه بناء على انتصار للنظام يسمح له برفضه او عدم القبول به في أي حال. وهو كان أعلن قبل أشهر قليلة ان مطلع آب ليس موعدا نهائيا للانتقال السياسي، لكن التواريخ التي حددها حتى الآن تبعا للمساعي التي أجراها مع روسيا في موضوع سوريا لم تنفذ، او بدت تواريخ وهمية أكثر مما هي حقيقية. وهذا أثّر ولا يزال على صدقية التزام الولايات المتحدة عدم تسليم الموضوع السوري الى روسيا بالكامل. وتبعا لذلك، تقول مصادر ديبلوماسية ان توقعات استئناف المفاوضات باتت ضعيفة جدا إن لم تكن معدومة، على رغم سريان شائعات مفادها أن معركة حلب هي من اجل تعزيز اوراق النظام الذي أبدى استعداده للمفاوضات (!) فيما هي ليست من عادته، على اساس انه يذهب اليها محصنا بورقة حلب بعد توجيه ضربة قاصمة للمعارضة في المدينة، مما يساهم في تراجع بنود الحل السياسي الذي يتوزع بين رأيين، أي حكومة انتقالية تحظى بغالبية الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس السوري، وحكومة وطنية يطالب بها الرئيس بشار الاسد مع حلفائه الداعمين له، اي ايران وروسيا. هذا الرهان حول حلب لا يزال قائما وفق ما تقول هذه المصادر، لكن الصعوبات حول التفاهم بين روسيا والولايات المتحدة باتت في نظرها أمرا جديا وحقيقيا. فمن جهة أعاق امكان الاتفاق الاميركي الروسي الذي كان يتم التحضير له، أي تدخل من أي جهة كانت، بما فيها من اعضاء مجلس الامن الذين تركوا المجال لبلورة التفاهم الثنائي، فابتعدوا عن الادلاء بأي موقف مما يجري في حلب لمدة تزيد على ثلاثة أسابيع، فيما تولى بعض أعضاء المجلس الدعوة الى مشاورات غير رسمية أمس للبحث في موضوع الحصار على حلب وما تتعرض له بعدما ظهر تعثر الاتفاق الاميركي – الروسي. وتجزم هذه المصادر أن الحرب في حلب أطاحت فرصة القول إن اي تقدم ملموس لا يزال محتملا، وهو ما قد يسمح باستئناف المفاوضات من جهة، كما أن التعاون العسكري المحتمل ضد “جبهة النصرة”، التي صنّفها مجلس الامن الدولي تنظيما إرهابيا وأعلنت ابتعادها عن القاعدة لاحقا، قد أجهضه خلط الاوراق الذي حصل على هذا الصعيد من جهة أخرى.

وعلى رغم ذلك لا يزال ثمة من يعتقد أن جنيف 3 لا تزال ممكنة وان كل المخاض العسكري الجاري حول حلب يرمي الى هذه الغاية، وإن يكن ذلك ليس واضحا كليا على وقع غبار المعارك الجارية، انطلاقا من أنه لا يزال امام ادارة الرئيس باراك اوباما ستة أشهر لكي يغادر البيت البيض، بما يعني أنه لا يزال قادرا على التأثير في اتجاه أي مسعى إيجابي، خصوصا اذا كانت كل الرهانات تبنى على ما قبل حصول الانتخابات الاميركية في تشرين الثاني المقبل، والتي ستتضح على أثرها هوية الرئيس المقبل، هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب.

النهار

 

 

 

النظام وحلفاؤه في حلب.. تسريبات الفضح المتبادل

لم تؤد معركة تحرير حلب إلى فك الحصار عن الأحياء الشرقية من المدينة التي تسيطر عليها قوات المعارضة فقط، بل أفرزت نوعاً جديداً من التشنج بين النظام وحلفائه، تجلى في تبادل للاتهامات حول الهزيمة علناً، عبر مقاطع وتصريحات غاضبة انتشرت في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

أول ردود الأفعال أتى من مراسلة التلفزيون السوري في حلب، كنانة علوش، التي اتهمت حزب الله وبقية الحلفاء بالانسحاب من المعركة، عبر صفحتها الرسمية في “فايسبوك”، مستجدية رئيس النظام السوري بشار الأسد “إيجاد حل للقيادة الخائنة في حلب” على حد وصفها، علماً أنها أبرز شخصية إعلامية رسمية تنتقد دور حزب الله في الشمال السوري وتعترف بالهزيمة من دون مواربة.

وكتبت علوش: “برسم الإجابة للقيادة العسكرية في حلب. لماذا تركت مجموعات حزب الله والقوات المساندة لها، من عصائب أهل الحق وأبو فضل العباس، جبهة كلية المدفعية؟ لماذا الأكاديمية العسكرية لم تطلق طلقة واحدة ولا قذيفة على تجمعات الإرهابيين؟ الإرهابيون يتقدمون ويحرقون كل شيء بطريقهم لم يعد الكذب ينفع؟؟”.

وتبدو عبارة “لم يعد الكذب ينفع” التي أوردتها علوش، أقرب إلى استهزاء مبطن بالمعلومات الكاذبة التي ينشرها مراسل التلفزيون السوري الآخر في حلب، شادي حلوة، الذي مازالت منشوراته الميدانية حتى اللحظة تتحدث عن تقدم النظام وحلفائه على كافة محاور حلب، بشكل يعاكس الواقع طبعاً، علماً أن علاقة عداء علنية تجمع المراسلَين منذ العام 2012.

في السياق، انتشر مقطع مسرب لأحد عناصر حزب الله اللبناني المقاتلين في سوريا، يتهم فيه الجيش السوري وبقية الميليشيات المقاتلة هناك، بالانسحاب من معركة حلب ما أدى للهزيمة وفك الحصار عن المدينة، قبل أن ينتقد طريقة سير المعارك والتنسيق على الأرض في كل معركة تجري، إضافة للهزيمة الداخلية لدى الجيش السوري الذي يهرب عناصره باستمرار رافضين الاستمرار في القتال!

إلى ذلك، انتشر مقطع صوتي مسرب لأحد الجنود السوريين، لا يُفاجأ فيه من الهزيمة الأخيرة في حلب، بسبب سوء إدارة المعركة على الأرض على مستوى الضباط السوريين أنفسهم طوال الشهور الثلاثة الماضية، والتي شهدت ارتفاعاً في مستوى التوتر بين النظام ومختلف الميليشيات الموالية له، وتحديداً مقاتلي حزب الله اللبناني.

والحال أن تبادل الاتهامات بهذه الطريقة ليس جديداً، بل هو أمر يتكرر عند كل انتكاسة عسكرية أو إنجاز عسكري على حد سواء، كما حصل في القلمون في آب/أغسطس 2015 من تقدم عسكري للنظام وحلفائه في عدد من النقاط الاستراتيجية هناك، ليحاول الإعلام الرسمي السوري حينها كسر نفوذ فرقة “الإعلام الحربي” كمصدر أول لمعلومات إعلام الممانعة، عبر تهميش دور جميع الميليشيات غير النظامية على الأرض وإعطاء الفضل في “تحقيق النصر” إلى الجيش السوري وحده.

وإن كانت تلك “المناوشات الإعلامية” بسيطة نسبياً، كونها تجري في مناطق سيطرة النظام نفسها، ولا تشكل سوى نوع من الصراع على النفوذ المحلي، فهي تأخذ منحىً آخر تماماً في المناطق العسكرية التي تشهد هزائم عسكرية (إدلب، حلب، ..)، ويتم التعتيم عليها كي لا تؤثر في معنويات المقاتلين والبيئة الحاضنة لهم أولاً، وكي لا تعطي انطباعاً بأزمة الثقة بين النظام وحلفائه، كجزء من الحرب النفسية ثانياً.

أبرز الأمثلة على ذلك، المشاكل التي حصلت بين جنود النظام وعناصر من حزب الله في حزيران/يونيو الماضي في ريف حلب، والتي أدت إلى مقتل ضابط سوري وسبعة من عناصره، بعد اتهام عناصر حزب الله للجيش السوري “بتسليمهم لقمة سائغة للمعارضة عبر انسحابات من مناطق استراتيجية في محيط حلب”. ورغم أهمية الموضوع تم التعتيم عليه حينها ولم يلق زخماً كبيراً في الإعلام ومواقع التواصل، وانتشر عبر مصادر المعارضة في شكل أقرب للشائعات.

 

 

 

معركة حلب/ غسان الإمام

«كنا سبعة على النَبْعَهْ. إجا الطيار صرنا مِيِّهْ». صاغت مدينة الفرح مأساتها الدموية بتحوير في غناء القدود الحلبية. فعندما جاء الطيار الروسي أو العلوي بالبراميل المتفجرة، صار عدد الضحايا مائة من القتلى. حلب تعودت أن تمزج هموم حياتها اليومية بالفن. فما من حلبي إلا ويعرف قواعد الغناء ومذاهبه، وما من مغنٍ أو ملحن يعتبر نفسه فنانًا ناجحًا، إذا لم تغنِّ حلب أغنية أو لحنًا له.

كتبت هذا الموضوع في الـ«ويك إند»، قبل أن يتضح تمامًا الوضع الميداني. نعم، حدث اختراق. فقد تمكنت المعارضات المسلحة من الوصول إلى مفارق الطرق في جنوب المدينة. وجنوبها الغربي، بعد تشكيل غرفة عمليات مشتركة. واقتحمت مواجهةً، وبشجاعة فائقة، الكليات العسكرية الثلاث. لكن عليها استكمال احتلال مصنع كبير للإسمنت، في ضاحية الراموسة الجنوبية. وتطهير المنطقة من القناصة، ليمكن القول إنها فكت الحصار عن حلب الشرقية. وأمنت الطريق لتزويدها لوجستيًا بالسلع والغذاء.

تحت القصف الجوي الروسي والسوري المتواصل، يتعين على قوات المعارضة تثبيت وجودها في المناطق التي وصلت إليها، لإنهاء عمليات الكر والفر التي جرت في الأسبوع الماضي، بعدما تمكنت قوات النظام ومرتزقته من السيطرة على المداخل الشمالية للمدينة. وقطعت الممر اللوجستي الواصل بين حلب والحدود التركية.

جرى الآن إلهاء تركيا بتصفية آثار الانقلاب الذي تقول معلومات تركية إن ضباط المخابرات الأميركية أداروه من جزيرة قبالة منتجع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في مرمرة. فلم تتمكن القوات الانقلابية التي هاجمته، من اعتقاله. أو تصفيته.

لكن هل يمكن اعتبار نجاح المعارضة في حلب كسبًا لأميركا؟! أميركا تدرب وتدعم فصائل «معتدلة» بين التنظيمات الدينية في حلب. ووافقت هذه الفصائل «الأميركية» على أن تقاتل جنبًا إلى جنب مع تنظيم «جبهة النصرة» الذي أعلن انفصاله الرمزي عن «القاعدة» ربما ترضية لأميركا. إذا كان ذلك صحيحًا، فهذا يعني أن التنسيق الأميركي – الروسي أصيب بنكسة كبيرة، بعدما تملصت روسيا من تعهدها بإقامة هدنة أسبوعية في حلب.

المعارضات المسلحة ارتكبت أخطاء فادحة في الحرب السورية. تزمتها الديني نَفَّرَ السوريين منها. ثم هي شديدة المحلية. فترفض مغادرة مناطقها، لتشارك في إنقاذ تنظيمات ومناطق أخرى محاصرة. أيضا، التغيير السكاني يلعب دوره. هذه التنظيمات عجزت، كما عجز النظام، عن تجنيد عشرات ألوف الشباب الذين فروا من تزمتها. ومن قمع النظام وحربه المجنونة. في شرق حلب، يقيم اليوم الريفيون الذين حلوا محل المدنيين المهاجرين، فيما يتجمع تحت حماية النظام في غرب المدينة، ما تبقى من أسر مسيحية. وأقليات كردية. وأرمنية.

حرب المدن بالوعة الجيوش. استهلك نظام بشار شبيحته الطائفية. ويرفض الإيرانيون التطوع للقتال في سوريا. ويستعيض علي خامنئي. وقاسم سليماني عنهم، بتجنيد مرتزقة «حزب الله» من شيعة لبنان. والعراق. وأفغانستان. حكاية طائفة الهزارة الشيعية الأفغانية تستحق أن تُروى. فقد جرى إغراء شبابها بالقتال في سوريا، في مقابل السماح لأسرهم بالعيش في إيران. في معركة حلب، جرى الزج بشباب الهزارة في الميدان من دون تدريب كافٍ. ففتك بهم وبضباطهم الإيرانيين انتحاريو «داعش». والتنظيمات الدينية المسلحة التي نصبت الفخاخ لهم.

معركة حلب سوف تقرر مصير سوريا الشمالية، على الأقل. إصرار النظام على اقتحام حلب الشرقية. أو حصارها وتجويعها، يكشف تصوره بأنه قادر على استعادة سوريا كلها، بدعم وتأييد من إيران. وروسيا. لكنه يخسر معركة حلب، في الهجمات المضادة للمعارضات المسلحة. وخسر المعركة مع «داعش» في شرق سوريا. ويخسر معركته ضد الأكراد المدعومين أميركيًا وروسيًا، في شمال شرقي سوريا. وفي ريف حلب وفي وسط سوريا وجنوبها، تسيطر مرتزقة «حزب الله» على إقليم القلمون المجاور للبنان. وتسيطر التنظيمات الدينية على سهل حوران. والحدود الأردنية. وأطراف من الجولان المحتل إسرائيليًا.

اللعبة الإقليمية والدولية شديدة التعقيد. والغموض. والتناقضات، في سوريا. اللاعبون ضموا أوراقهم إلى صدورهم، في انتظار الحسم في الميدان. إذا كسب النظام، فعلى العلويين انتظار دعم روسيا، في مواجهة مع إيران الطامعة في الهيمنة سياسيًا وديموغرافيًا على سوريا. ولا ينسى العلويون تكفير ملالي الخميني لهم. وإذا كسبت التنظيمات الدينية، فهي بحاجة إلى الإسلام التركي، للتخفيف من التزمت الإخواني. و«القاعدي». وإذا انتصر أكراد سوريا، فعليهم إقامة وحدة إجبارية مع أكراد العراق. وهدنة مستحيلة مع تركيا التي تعتبرهم فاصلاً جغرافيًا ضد صلتها. وتجارتها، مع إيران. وعرب المشرق والخليج.

أما روسيا بوتين فقد أخطأت في الرهان على إيران ونظام بشار. كان من الأفضل لبوتين تبني التيار المدني السوري الليبرالي المعارض ضمنًا لشراسة النظام، وعلنًا لتزمت المعارضة الدينية. هذا التيار مع وحدةٍ سوريا قائمة على ديمقراطية تعددية. ويوافق على استمرار روسيا في الاحتفاظ بقاعدتها البحرية في طرطوس.

أميركا أكثر اللاعبين غموضًا. وهي في انتظار الرئيسة المتوقعة هيلاري كلينتون، لتقرر ما إذا كانت ستواصل مسيرة أوباما وجون كيري وراء روسيا، لتمكين الأكراد من تقسيم سوريا. أم أنها ستراهن على تصفية «داعش» في سوريا والعراق. ومواصلة العلاقة الاستراتيجية مع النظام العربي التقليدي. ومطالبته بإصلاحات رمزية تجميلية.

يبقى أن أروي باختصار تاريخ حلب السياسي المعاصر. فقد طالبت تركيا، بعد الحرب العالمية الأولى، بضم حلب والموصل إليها. واحتلت لواء إسكندرون. واقتربت من حلب، بدفع الحدود من ذرى الجبال إلى المنحدرات السورية الجنوبية. لكن لماذا المطالبة بحلب والموصل معًا؟ لأن المدينتين تتكاملان اقتصاديًا. وكانت شركات الأسر الحلبية البورجوازية والإقطاعية تكفي سوريا من القمح والقطن. ثم تصدر الفائض من إنتاج ريف الموصل وحلب إلى العالم عبر الموانئ السورية.

في الصراع الإقليمي والدولي على سوريا والعراق، صمدت عروبة الموصل وحلب. أسقطت حلب تقسيم الانتداب الفرنسي لسوريا إلى دويلات. وظل هوى القيادة الحلبية لحزب الشعب ذي الأغلبية النيابية (1958/1954) وحدويًا مع العراق. لكن عراق نوري السعيد عمل بنصيحة بريطانيا، بعدم توريط الجيش العراقي في سوريا، لإسقاط نظام أديب الشيشكلي ذي العلاقة الوثيقة مع مصر ودول الخليج.

من حلب زحف جانب من الجيش السوري متمردًا على النظام. كان الشيشكلي قادرًا على القضاء على التمرد. لكنه كان أكثر حكمة ووطنية من بشار. فقد آثر الاعتزال والانسحاب، حرصًا على وحدة الجيش. وتفاديًا لنشوب حرب أهلية سورية.

عرفت حلب كيف تزدهر. فقد باتت عاصمة سوريا الاقتصادية. ولكن سياسة جمال عبد الناصر الاقتصادية ضيقت عليها. فأيدت أسرها الإقطاعية والبورجوازية الانقلاب الدمشقي على المشير عبد الحكيم عامر (1961).

النظام العلوي كان أشد قسوة وظلمًا. فانتزع فساده المبادرة الاقتصادية من حلب. تعاطفت المدينة مع الانتفاضة ضده (2011). فقرر بشار وإيران هدم عمرانها البشري والعمراني. وهكذا «إجا الطيار على النَبْعَهْ». فارتفع عدد الضحايا إلى مائة. ثم ألف. ثم مائة ألف. حلب الشهيدة مع ريفها قدمت نحو نصف شهداء الانتفاضة (الـ400 ألف). ولا تكفي مياه النبعة (الفرات) لغسل دمائها.

الشرق الأوسط

 

 

حلب وذاكرة الموت/ الياس خوري

تدور اليوم في حلب حربان على الأقل:

الحرب الأولى هي حرب الحصار والتجويع، وهما سلاح نظام آل الأسد في مواجهة الشعب السوري. فلقد استخدمت آلة الاستبداد جميع الأسلحة المتاحة من البراميل إلى الكيميائي، واستعانت بطائرات السوخوي الروسية، من أجل الوصول إلى هدفها الثابت في إذلال السوريين وتجويعهم. وقد رأينا نماذج لأثر هذه السياسة في الغوطة وحمص القديمة وحي الوعر. ولا يخرج مشروع حصار الأحياء الشرقية في حلب التي تسيطر عليها المعارضة عن هذه الترسيمة، حيث سيتعرض أكثر من ربع مليون سورية وسوري للجوع والإذلال والموت. والغريب، الذي صار متوقعاً، أن العالم وقف متفرجاً بل متواطئاً مع هذه السياسة الهمجية، بحجة الحرب على الارهاب والتيارات الإسلامية الأصولية!

في هذه الحرب هناك ضرورة اخلاقية للوقوف إلى جانب المحاصَرين، فلا يوجد أي مبرر يسمح باستمرار هذه المجزرة، ويغطّي سياسات همجية تجعل من الناس وقوداً للموت والذلّ. فحرب الحصار هي التجسيد العملي لصناعة الموت السوري، وهي صناعة اتقنها الأسد الأب، ويجتهد الابن اليوم لتحويلها إلى إحدى أساطير الموت في التاريخ العربي، حين نجح في التفوق على همجية المغول، عبر مغولة سوريا وتحويلها إلى أرض سائبة تسود عليها البربرية بجميع اشكالها.

الحرب الثانية هي حرب تحويل سوريا إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وهي في الواقع مجموعة من الحروب المتداخلة. فاذا حاولنا تحليل خريطة مشروع الحصار، سنكتشف ثلاثة عوامل:

العامل الأول هو العامل الديني- الطائفي. فحرب حصار حلب تخاض بسلاج تعبوي ديني، القوى التي تقدمت عسكرياً من أجل حصار حلب هي خليط من الميليشيات الشيعية التي تعمل تحت غطاء جيش النظام السوري. فهناك قوات الحرس الثوري الإيراني التي تتصدى لقيادة المعركة، ويعمل تحت امرتها حزب الله اللبناني إضافة إلى ميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وباكستانية. القوى العسكرية الرئيسية التي تزج في المعركة ليست سورية، وان ادعى نظام آل الاسد انه يقود المعركة.

واللافت أن الخطاب السياسي «الممانع» الذي يحاول أمين عام حزب الله اضفاءه على المعركة لم يعد مجدياً. فالخطاب السائد في صفوف هذا الخليط من الميليشيات هو خطاب طائفي، ارتسمت ملامحه منذ اليوم الأول للتدخل العسكري الحزب الهي في سوريا، عندما أُعلن أن هدف التدخل هو حماية مرقد السيدة زينب في ضاحية دمشق، ثم تدحرج الأمر وصولاً إلى القتال في حلب حيث لا مراقد سوى لأبناء المدينة الذين يُقتلون بشكل عشوائي عبر آلة «القصف البراميلي» المدمرة.

وفي المقابل، وعلى الرغم من أن فك الحصار عن حلب ضرورة انسانية تتعلق بمصير أبناء المدينة، فإن هيمنة الخطاب الإسلامي الاصولي على القوى المقاتلة، وانهيار الخطاب الوطني الذي مثله الجيش الحر والمعارضات المختلفة، ليس تفصيلاً صغيراً. فدور ما يطلق عليه اسم «الإنغماسيين» من الحزب الإسلامي التركستاني القادمين من الصين، اضافة إلى جبهة «فتح الشام» (النصرة سابقاً)، وصولاً إلى قيام «فيلق الشام» باطلاق اسم ابرهيم اليوسف على مدرسة المدفعية في حلب، (النقيب في الجيش الســوري ابراهيم اليوسف انضم إلى الطليعة المقاتلة المتحدرة من حركة الاخوان المسلمين، جماعة مروان حديد، ونفّذ مجزرة 16 حزيران 1979، حين قام بجمع الطلاب من الطائفة العلوية في المطعم وقتل 80 طالباً منهم، في عمل وحشي طائفي)، تقدم صورة داكنة عن الهاوية الدينية – الطائفية التي تنحدر اليها سوريا، كمؤشر على انحدار المشرق العربي بأسره.

العامل الثاني هو الصراع الإقليمي الدولي على سوريا. بلاد الشام كلها، وليس لبنان فقط، صارت ساحة للصراع الإقليمي والدولي، ولم يعد في استطاعة احد تحليل الحرب السورية بأدوات سورية.

واللافت أن هذا الصراع الدولي يجري بلا ضوابط، فنحن في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث امحت الحدود القديمة بين المعسكرين القديمين، ولم نعد متيقنين من ثبات السياسات والتحالفات. هل حصار حلب كان محاولة لاستغلال الارتباك التركي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة؟

وهل فك الحصار هو إعلان بعودة التماسك إلى الموقف التركي مقدمة للقمة الروسية التركية؟ وماذا يريد الروس من انجرارهم إلى معركة حلب؟

وما هو الدور العربي في المعادلات الجديدة؟ واين دول الخليج التي شكل تدخلها احدى علامات انتصار المدّ الإسلامي في الثورة السورية؟ وما هو الموقف الامريكي؟

أسئلة ستبقى أجوبتها مؤجلة إلى أن ينجلي غبار الحرب السورية. لكن من الواضح أن القوى المحاربة صار منسوب العامل الخارجي فيها أكبر بكثير من مكوناتها الداخلية، وهذا مخيف، لأنه لا يقدم أي بصيص يسمح للضحايا بأن يعدوا أنفسهم بأي شيء.

العامل الثالث هو استكمال للعاملين السابقين، إذ يجد الشعب السوري نفسه بلا قيادة وطنية وبلا مشروع سياسي وطني وديمقراطي. لقد صار النظام ومعارضاته خارج المعادلة، وتحولت سوريا إلى ساحة مستباحة بشكل شبه كامل. لم يعد القرار سورياً، صار القرار للخارج الذي يمتلك القدرة على حشد المقاتلين، اما السوريون فصاروا مجرد وقود للحرب.

لا أريد التقليل من تضحيات الشعب السوري الهائلة، ومن إرادته التي انفجرت سنة 2011 معلنة نهاية زمن الخوف، فهذه التضحيات علامة حياة وإشارة إلى الأفق، لكن ثورة الشعب السوري قُمعت بوحشية وسُرقت واستبيحت من قبل قوى الثورة المضادة المدعومة دولياً وإقليمياً.

تحويل سوريا إلى ساحة يعني أن ما يجري اليوم هو صناعة ذاكرة الألم السوري وليس صناعة التاريخ السوري الجديد. وهذا ما عشناه في لبنان، حين ابتلعت الطوائف والقوى الإقليمية الحرب اللبنانية، فلم تترك لنا منها سوى ذاكرة الموت، وجرى استيلاد نظام سياسي اسمه نظام الحرب الأهلية، يتابع الحرب بلا قتال، ويحول الوطن إلى منهبة.

حصار حلب يكشف اليوم عمق أزمتنا مع صناعة تاريحنا، فالساحة لا تنتج سوى ذاكرة لا تلتئم جراحاتها. سوريا اليوم على حافة ذاكرة الألم، والضوء لن يأتي إلا إذا نجح السوريون والسوريات في استعادة ثورتهم.

 

 

 

 

 

مشاهد من حلب قبل أن يُطبِق الحصار على المدينة/ محمد نبهان

الجميع يتكلم عن حلب، وعن معارك حاسمة هناك، وكما جرت العادة أخيراً، يتم وصف حلب بأنها المدينة الأخطر في العالم، وأنها المدينة الأكثر تعرضاً للتدمير منذ الحرب العالمية الثانية. أيضاً وأيضاً، لطالما ذكر اسمها في بداية كل اجتماعٍ لأي مؤسسة تهتم بالشأن الإنساني.

من جهتي، فالوضع مختلف قليلاً، فعندما أسمع اسم «حلب»، لا يحيلني خيالي إلى تلك المدينة المتروكة لإجرام قوى الطيران متعدد الجنسيات، كما لا أرى الأعداد الكبيرة من الميليشيات التي تنهش لحم المدينة وبشرها وكل ما هو حي فيها ليلَ نهارَ من دون رقيبٍ ينصف الضحايا. ليس أيٌّ مما سبق، وإنما على نقيض ذلك، أتذكرُ حلب في أبهى حللها.

لقد أتيحَ لي المقام لعامٍ كاملٍ فيها، حفلَ بكثيرٍ مما حفر في ذاكرتي. دخلتُ حلب وعلى مدخلها مكتوبٌ على رخامٍ صقيل: «حلب الوفاء»، توكيداً على تبعيتها لنظام الأسد، الذي كان آنذاك يشهد منذ أشهر سبعٍة ثورةً تتصاعد وتيرتها ضده. كان وصولي نهاية العام 2011 عندما قصدت جامعتها التي كانت في الساعات الأولى للقائي بها تشهد استقطاباً حاداً غلب عليه، على ما بدا لي، انجذابها إلى ضفة النظام، في شكلٍ أو في آخر، إذ أذكر ذلك الموقف الغريب، حين أُجبرت من موظف التسجيل، على الذهاب معه أنا وجميع من أراد التسجيل في ذلك اليوم، إلى واحدة من المسيرات المؤيدة في ساحة سعدالله الجابري. يومها، كان شأني شأنُ الجميع، ممن كانت وجوههم تشي بغضبٍ مكتوم، وتجنبوا على رغم ذلك، الاحتجاج على الدعوات «العفوية» التي نظمتها المؤسسات الحكومية والنقابات، ما قادنا في النهاية إلى هناك.

 

رواية الاصلاح

لم يطل هذا النفاق، كما لم تعش رواية الإصلاح في حلب طويلاً، فضلاً عن أسطورة الصمت المطبق على المدينة منذ ما بعد الثمانينات، وإلى الأبد. لقد قُضيَ على كل تلك الثرثرة الموجهة في الذكرى السنوية الأولى للثورة، إذ احتُجزتْ مجموعة من الطلبة الجامعيين، كنتُ بينهم، إضافة إلى شبان قادمين من أحياء المدينة، بعد انطلاق تظاهرة الجامع الكبير «الجامع الأموي»، في طقسٍ بدا أقرب الى الاحتفال الذي دُعيَ إليه، وأُشيعَ كنبوءةٍ في كل مناطق حلب، وهمساً بين طلبة جامعتها.

ضربنا موعداً بعد صلاة الظهر فور خروج المصلين، الأمرُ الذي لم يحدث وفق الخطة المأمولة تلك. كان أحد المشاركين متّقدَ الحماسة، إلى درجة أنه سارع إلى الهتاف بالتكبير في بهو الجامع، وقبل خروج الناس. كنتُ أنا وصديقي نلتقط أحذيتنا في تلك اللحظة، لنكتشف ما أن التفتنا حولنا أن قسماً لا بأس به ممن عَلِموا بالتظاهرة وكانوا ينوون المشاركة فيها، كانوا في الخارج لأسباب شتى. منهم من تردد خوفاً من عيون المخبرين، ومنهم من لم يكن في وارد الصلاة، من أشخاص ليبراليين أو يتبنون أسلوب حياة ٍغير ديني. عند بدء التكبير، اشتعلت حماسة هؤلاء أيضاً، لتتطور الأمور في ثوانٍ إلى إطلاق الرصاص من مخبري النظام وشبيحته المنتشرين في كل مكان. بدا أن مدخلَ الجامع وداخله خاليان من أعوان النظام، ما دفع الموجودين قريباً من الباب إلى إغلاقه، لنأمن نسبياً إلى بعضنا بعضاً ويبدأ ما هو أقربُ إلى التعارف الحذر، مواجهةٌ عارية بين الخوف والضرورة.

 

علم الاستقلال

التجأ الجميع في البداية إلى الاحتماء بالجدران والسقوف خوفاً من القناصين وأخبارهم التي كانت تفزعنا، إلى أن كسرت مجموعة من الشجعان الخوف فينا، بتسلقهم السور ورفع علم الاستقلال، علم الثورة السورية. يومها، وبينما كان الجميع مدركاً لحجم الخطر المحدق، ساد أيضاً وعيٌ جديد، لمستُه في حالة التقبل الجماعي لطيفِ اختلافاتنا كشبابٍ مناوئين للنظام، اختلافاتنا من حيث ألسنتنا وأفكارنا وطرق تعبيرنا. ما لا ينسى، تحديداً، من ذكرى ذلك اليوم، هو التجسيد الحي لأقصى إمكانات التعاون والتنسيق الفاعل بين المجموع، بدافعٍ من حتمية رفع المعنويات، وتصويب الرأي.

انتهى ذلك اللقاء الدامي بكسب مجموعةٍ من الأصدقاء، أحرصُ حتى اليوم على التواصل معهم. منهم من عبر البحر، ومنهم من انتهى به المطاف لاجئاً في لبنان أو تركيا، ومنهم من لا يزال صامداً في حلب المحررة.

يُفضي التأمل في حال الإنسان في حلب، الذي تحاصره فكرة الحصار بشجونها، حتى قبل أن يطبق الحصار أسواره حول المدينة. فمعنى فكّ الحصار عن حلب المحررة، عملياً، هو التوجه إلى محاصرة القسم الخاضع لسيطرة النظام من المدينة، وزيادة الضغط عليه. سيشكلُ موقفٌ كهذا، جحيماً حقيقياً بالنسبة إلى من يحمل السلاح على خط المواجهة في الجزء المحرر، وتقيم عائلته تحت سيطرة النظام في الوقت نفسه. عقبَ كل فرحٍ بالتحرير، تنهال القنابل وتُسفَكُ الدماء، ومع فكّ الحصار يطبقُ حصارٌ آخر.

أسألُ في حيرة العاجز الآن حيال التطورات المتسارعة: ترى لماذا أجدني في هذه الزاوية الحادة جداً، أفاضلُ بين حصارٍ وآخر؟ وما هو هذا القدر الأعمى، الذي قادنا إلى وضعٍ أجادَ وصفه المثل العربي القاسي: كجادع أنفه بيده؟.

الحياة

 

 

 

 

ما بعد بعد حلب/ حسين عبد الحسين

في أقل من شهر، تبين ان رئيس تركيا رجب طيب اردوغان أقوى داخليا مما ادعى خصومه حول العالم، وانه لم يستجد نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وان أردوغان لم يتخل عن ثوار سوريا. وفي الاسابيع الاربعة نفسها، تبين ان قوات الرئيس السوري بشار الأسد والميليشيات المتحالفة معها، والغطاء الجوي الروسي، هي أضعف مما تقدم نفسها، وانها غير قادرة على الحاق الهزيمة بثوار سوريا، او انتراع حلب منهم، او حتى حصارهم. وفي أقل من شهر، ألغى الكرملين بروتوكول اعلان برنامج الرئيس حول رحلاته الداخلية والخارجية، في وقت تواترت التقارير عن اشتداد المعارك السياسية – الامنية في موسكو بين بوتين وخصومه.

وفور شيوع انباء نجاح الثوار في كسر حصار الأسد على حلب، نشر الباحث والاكاديمي الاميركي المؤيد للثورة السورية ستيفن هايدنمان، على صفحته في فايسبوك، رابطاً لندوة سابقة لخبراء في الشأن السوري، أبدع فيها مؤيدو الأسد من الاميركيين، فقدموا حصاره حلب على انه البرهان على قدرته على حسم الحرب السورية لمصلحته، وان لا مفر لواشنطن الا قبول سطوته وتأييده وتأييد موسكو في تحويل الثورة السورية الى حرب ضد المجموعات الارهابية، الحقيقية منها والمتخيلة.

الخبراء الاميركيون ممن خابت تحليلاتهم حول حتمية انتصار الأسد، لم يكونوا وحدهم، ففريق كامل من المحللين العرب في واشنطن والعالم باشروا بعملية تصوير فك الثوار حصار حلب على انه انتصار للاسلام المتطرف والسلفية الجهادية، واستخدموا كل العبارات التي تثير ريبة الغربيين، وادعوا ان عملية كسر حصار حلب كان قررها الثوار في حزيران الماضي، وهو ادعاء يجافي المنطق اذ ان كسر الحصار يتطلب اولا ان يتحقق الحصار نفسه، وهو ما لم يتم الا في شهر تموز. بكلام آخر، حاول مؤيدو الأسد المستترون الايحاء ان نجاح الثوار في فك حصار كان سيؤدي الى تجويع ربع مليون حلبي هو جزء من خطة اسلامية ارهابية متطرفة، وهي خطة قديمة ولديها اهداف مرحلية وطويلة الأمد، وما فك حصار الأسد على حلب الا واحدة من هذه المراحل.

في الزمن الذي يكثر فيه الكلام من دون حساب، لا حياء، بل امعان في الثرثرة. اما الواقع، فيشي بعكس ما قدمه هؤلاء حول قوة الأسد “الانساني” و”حامي الاقليات والغرب” وضعف معارضيه الخبثاء “الارهابيين”.

لم ينهر اردوغان في تركيا لا تحت ضغط بوتين ولا امام متآمرين محليين، بل اشتد حكمه صلابة واكتسب تأييداً اوسع بين معارضيه قبل مؤيديه. ولم يتخل حلفاء ثوار سوريا عنهم، لا سياسيا ولا ماليا ولاعسكريا، بل آزروهم ووثقوا بهم وساعدوهم على قلب حصارهم انتصارا.

اما في الضفة المقابلة، فتبين ان الصراع بين بوتين وايغور سيكين رئيس روزنفت، شركة الطاقة الروسية العملاقة والمدير الفعلي لوكالة الأمن الفدرالي الروسي، التي خلفت جهاز “كي جي بي” السوفياتي، هو صراع في أشده، وان الاخير ماض في تعزيز قبضته على القوة الامنية الى حد دفع بوتين في نيسان الماضي الى اقامة جيشه الخاص، وعهد به الى رئيس أمنه الشخصي، حسب تقرير مجموعة ستراتفور الاميركية للاستخبارات الخاصة.

وبسبب خشيته من الانقلابات المحتملة، الغى بوتين اعلانه عن برامج سفره داخل البلاد وخارجها، خوفا من ان تتحول احدى اجازاته خارج موسكو الى اجازة مفتوحة.

في هذه الاثناء، تشير التقديرات الاميركية ان بوتين تحت ضغط كبير بسبب تكاليف ضرباته الجوية ضد السوريين لمؤازرة الأسد، يترافق ذلك مع امكانية ارتفاع التكلفة البشرية للمستشارين العسكريين الروس المشاركين في الحرب السورية، كما بدا جليا في اسقاط الثوار مروحية روسية فوق جسر الشغور ومقتل خمسة عسكريين روس كانوا على متنها، بينهم ضابطان.

وتقول التقارير الاميركية ان واحدة من ابرز دلالات نجاح الثوار في حلب هو بلوغ مقدرة روسيا على مساندة الأسد ذروتها، ما يعني ان تقدم الثوار من الآن فصاعدا صار مستقلا عن مواقف بوتين او دعمه للأسد.

كسر حصار حلب قلب صورة سوريا. الآن على الأسد وداعميه “إخراج أرنب” من قبعتهم، حسب التعبير الاميركي، او القبول باستحالة حسمهم الحرب او انهائها حسب شروطهم.

 

 

 

 

نظام مقبري ومقاومة حلبية «عمليّاتية”/ وسام سعادة

قبل عام بالتمام ارتفع التوقع بقرب سقوط النظام البعثي الأسدي حتى تقاسمه بعض من عملاء هذا النظام الذين أخذوا يستغيثون ويشتكون من أن دعم الحلفاء لهم غير كاف للصمود والبقاء. انقلبت الحال مع التدخل الجوي الروسي المكثف، الذي لم يخف قصده اطالة عمر النظام لأطول فترة ممكنة، وأراد في نفس الوقت الجمع بين قصد اطالة عمر النظام وبين عدم اطالة عمر التدخل الجوي نفسه، والسعي لبقائه جوياً بالأساس، ومرتبطاً بباقي الأجندات الروسية، وغير متوهم امكان احياء هذا النظام كنظام حكم لكل سوريا في أي يوم من الأيام الآتية، فهذه النقطة تبقى خلافية بامتياز بين روسيا وبين ايران والنظام.

استطاع التدخل الجوي الروسي أن ينقذ النظام ولا يزال يسند هذا النظام، في وقت ازداد فيه الطابع الاحتلالي لميليشيات الحرس الثوري، ومن بينها «حزب الله»، وصولاً الى تصادمات ميدانية «جانبية» مع كتائب الأسد في بعض الأحيان، هذا في حين صار بشار الأسد بحد ذاته تحت وصاية «الباسدران» الأمنية المباشرة، وأشبه ببنيتو موسوليني عندما حكّمه النازيون شمال ايطاليا، او ما عرف بـ»جمهورية سالو»، بعد نجاحهم في تحريره من اعتقال المنقلبين عليه. في الشمال الايطالي، تحوّل موسوليني من زعيم كان ينادد الألمان في يوم من الأيام الى صورة يحرّكوها كما أرادوا. التدخل الروسي جعل التدخل الايراني في سوريا أقل تصدراً للمشهد، كما ان التدخل الروسي هو الذي انقذ النظام من السقوط قبل سنة، غير ان التدخل الايراني هو الذي يستفحل اكثر سنة بعد سنة في سوريا، ويحكم وصايته على بشار الأسد بشكل مطلق واستتباعي له، وهو المرتبط عضوياً اكثر بحركة اعادة رسم المعطيات الديموغرافية في الواقع السوري.

ما ان اعلن الجانب الروسي انهاء تدخله الجوي مطلع هذا العام، حتى ظهر مجدداً ضعف النظام بازاء الفصائل المختلفة التي يتحارب معها، وكان هذا من جملة الاسباب التي دفعت موسكو سريعاً لتقنين الانسحاب المعلن عنه، ثم رفع درجة تدخلها الجوي مجدداً، بعد ان انخفضت مجدداً مؤشرات التسوية، فضلاً عن واقع الهدنة الذي تقلّص بسرعة.

في حلب ظهر شيء أساسي: كل اندفاعة للنظام وحلفائه وعملائه نحو «الحسم» ستبوء بالفشل، رغم كل الدعم الروسي والايراني. يمكن للدعم الخارجي ان يبقي النظام في حالته هذه، كنظام مقبري، كنظام احتضار دموي، قائماً لسنة وسنتين وعشر، لكنه لا يمكن ان ينقذ هذا النظام يوم حسم واحد في معركة مركزية.

الاداء الميداني المشترك بين فصائل مسلحة مختلفة سطّر نتائج ممتازة للمقاومة الحلبية ضد النظام، ويؤسس عليه مزيداً من التعاضد الكفاحي في ما بينها، خصوصاً وانها حين ترفع من مستوى التفاعل في ما بينها، فانها تفلت اذاك من منطق «استنزاف في مقابل استنزاف»، وتتجه نحو منطق «عملياتي»، بمعنى تشكل المعركة من مجموعة عمليات تنطلق من اماكن مختلفة، ولها بنوك اهداف وغايات عسكرية ميدانية مختلفة، انما تؤطر في عملية عسكرية واحدة. تطور الفعل العسكري للمقاومة الحلبية والسورية الى المنطق «العملياتي» في القتال من شأنه ان يفرض واقعاً جديداً ومهماً، يتجاوز السائد حتى الآن في الايديولوجيا القتالية ذات السمة الاسلامية التي تؤثر اما «ثنائية الكر والفر» واما «استنزاف مقابل استنزاف» واما ذهنية «الموقعة» أو «الغزوة»، واما ذهنية «الصمود البطولي في زاوية ما» حتى حصول ضغط يعرقل هجوم العدو. المنطق «العملياتي» اكثر تعقيداً وتطوراً، وهو النقلة الحلبية النوعية. المفارقة ان المدرسة العسكرية السوفياتية هي التي الفت كثيراً في المنطق «العملياتي» في الحروب، في حين ان الفصائل السورية ذات السمة الاسلامية بل السلفية الجهادية بالنسبة خصوصاً للمقاتلين في حلب هي التي تطورت باتجاه هذا المنطق.

المعركة في حلب لم تنته، لكن ما يجب ان يكون قد انتهى في العقول هو وهم «الحسم» في رأس النظام السوري وايران و»حزب الله«.

في العام الماضي كان التوقع بقرب سقوط النظام في ذروته ثم تبدل الامر. الامور اكثر التباساً اليوم، لا يمكن التكهن الى متى سيبقى النظام، لكن يمكن التكهن بأنه طالما هو باق فهو باق على حالته الراهنة، كنظام مقبري تابع لحلفائه، ولا سيما للايرانيين الذين يحتلون اقساماً من الارض السورية.

 

 

 

 

حلب عشية المذبحة وبعدها/ د. نقولا زيدان

ترخي معركة حلب، التي أحدثت في مواجهاتها الأولى صدمة هائلة في صفوف المعسكر الأسدي، بظلالها على الكثير من الملفات الشائكة التي يدور حولها النقاش والتي تشكل مادة شديدة الأهمية بالنسبة لتوقعات المراقبين والخبراء العسكريين. فالنظام الأسدي الذي اعتقد خطأ بأن في مقدوره ايقاع المعارضة الثورية في قبضة الحصار والتطويق، اذا به يقع هو نفسه في الكمين الذي نصبته قياداته العسكرية. فقد استسهلت تلك القيادات بسوء تقدير فاضح منها للمعطيات الميدانية امكانية نصب طوق عسكري فضفاض على مدينة يناهز عدد سكانها الباقين فيها المليون ونصف المليون، وذلك عندما أغلقت طريق الكاستيلو الاستراتيجي شمال المدينة من دون ان تعزز قواتها الخلفية الضرورية في حال حصول هجومات معاكسة لكسر الحصار.

فعندما شنت قوى المعارضة المسلحة وعلى رأسها «فتح الشام» (جبهة النصرة سابقاً) على كلية المدفعية في جنوب المدينة لم تستطع قواتها الموكل اليها تثبيت الحصار نجدة قطعات الجيش الاسدي التي اضطرت للاستسلام أو الفرار.

وقد جرى ذلك رغماً عن استمرار القصف الجوي لطيران النظام والضربات الجوية النوعية للطيران الروسي، إذ ان خطوط المواجهة كانت شديدة التماس والتشعب لدرجة ان تدخل الطيران الحربي بات محدود الفعالية والنتائج. ففي حالات كهذه تصبح المواجهات البرية أو حرب المدن والشوارع والأزقة هي العامل المقرر اكثر منها البنايات الضخمة وكتل الاسمنت الفارعة الاتساع المعرضة للقصف الجوي المتواصل بغية دفعها الى الانهيار.

تبين وعلى وجه السرعة للقيادة الأسدية صعوبة المعركة واستحالة حسمها كما راحت تبشر وسائل الدعاية والاعلام على أنواعها بدءاً بلبنان وانتهاء بطهران. وفي الحال سارع بشار الاسد للقيام بعدة اجراءات ميدانية واقالات وتعيينات فورية طاولت العديد من جنرالاته المنكّسين. لا بل هاله وهو على الأرجح قد سمع من الروس ملامات حادة حول سوء ادارته للمعركة وغلبة النزق والتهور على الرؤية والتبصر وحسن التقدير لميزان القوى القائم داخل المدينة وحولها. فلا بد والحالة هذه من طلب المزيد من الدعم الخارجي فتحركت الماكينة العسكرية الايرانية حيث سارعت لارسال قطعات عسكرية جديدة من الحرس الثوري الايراني التي عبرت الحدود العراقية ـ السورية وهي بالكاد تلتقط انفاسها بعد معركة الفلوجة الضارية، كما بدأت تصل افواج جديدة من الميليشيات المذهبية العراقية وما استطاع توفيره حزب الله اللبناني. بل توجب استدعاء المزيد من العناصر المقاتلة الأفغانية من الهزاريين الشيعة الذين ينطقون بغير لغة الضاد.

إزاء هذا الخطر الداهم قامت المعارضة بتجميع صفوفها المسلحة وتوحيد قيادتها للمعركة على قاعدة الحد الأدنى الضروري لتشن هجوماً نوعياً على غرب وجنوب حلب حيث ما زالت للنظام الاسدي جيوب ذات بال. ومما لا شك فيه ان قطع جبهة النصرة علاقاتها بالقاعدة وتحولها الى فصيل وطني سوري مسلح بدأت تصريحات قادته الإعلامية كما سمعنا تتخذ منحى سورياً عربياً خالصاً قرّب كثيراً المسافة التي تفصله عن الجيش السوري الحر وسائر الفصائل المتحالفة معه.

في ظل هذه الأجواء حيث تبدو معركة حلب ذات اهمية قصوى تتحرّك عواصم القرار يرفدها المجتمع الدولي بطرح العديد من المقترحات. فمجلس الأمن والأمم المتحدة تدعوان الى هدنة ولو قصيرة الامد لإيصال المساعدات الانسانية الى المدينة المنكوبة. وهي منكوبة حقاً بأوهام بشار الأسد انه ما زال بوسعه حسم الحرب السورية عسكرياً بعد ترقية وتحسين مواقعه الميدانية بفضل التدخل العسكري الروسي الذي لم يعد يحتفظ بتفوقه الجوي فحسب بل قد بدأت قطعاته البحرية العسكرية تمطر ادلب وريفها بل ريف حلب بصواريخها البالستية المتطورة.

ان فداحة المأساة السورية من الناحية الانسانية قد وصلت الى حدود لا تطاق. فعلاوة على حوالى 290 الف قتيل يقابله عدد غير معروف لكنه يقارب حدود الكارثة من جرحى ومعوقين وعشرات الألوف من المعتقلين والأسرى والمخطوفين وأولئك الذين لا يعرف عن مصيرهم شيء قط، وما يناهز حوالى 9 ملايين نازح ومهجر، فان المساعدات الانسانية لم تصل طيلة شهر تموز الى سوري واحد ما زال على ارض سوريا (تصريح يان ايغلاند مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مساء السبت في 6 آب الجاري.

هكذا إذاً تحوّلت حلب برمتها إلى ساحة مرعبة للقتال فأولئك الذين فرضوا حصاراً خارجياً على المدينة لم يجدوا غضاضة في ترك مواقعهم داخل المدينة تتعرض للتطويق والقصف المدفعي على يد المعارضة عندما سقطت الراموسة فانقطع الخط اللوجستي الذي يصلهم بالخارج، وفي المقابل تتقاطر التعزيزات العسكرية لفك الحصار عنها. وفي ظل غياب الدعم الخارجي الذي تحتاجه المعارضة لسحق هذه الجيوب الموالية للنظام، فالسؤال الملح الذي من شأنه تلخيص الموقف هو: حتى متى تستطيع المعارضة الصمود في وضع صعب كهذا؟

وضع عصي غير قابل للحل لا سيما أن مفاوضات جنيف قد تتعرّض بدورها للإرجاء، هل سيكون بمقدور أردوغان في محادثاته في سان بطرسبرغ أن يقنع بوتين بالضغط على الأسد للوصول إلى «حل سياسي يرضي جميع الأطراف». فمع حلب مدمرة تدميراً كاملاً، أو مع حلب تعيش هدنة طويلة الأمد تجدنا بحاجة حقاً لأعجوبة تنقذ الموقف، في زمن لم يعد فيه مكان للأعاجيب.

كما أنه لمن دواعي العجب أن نجد من اللافت جداً أن يعمد جون كيري وزير خارجية أميركا لاتصالات ديبلوماسية للتباحث بشأن إحياء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، بعد أن أبدى نتنياهو إيثاره المقترحات المصرية في هذا الصدد على المشروع الفرنسي، وليس هذا للتقليل من أهمية هذه المفاوضات، بل لأن سياسة الاستيطان المبرمج الذي تمضي فيه إسرائيل غير عابئة بالقرارات الدولية في هذا الصدد، من شأنه نسف هذه المفاوضات قبل الشروع فيها. ألم يكن من الضروري بمكان أن تصدر عن البيت الأبيض ولو كلمة واحدة قبل أن تتعرض حلب لمذبحة حقيقية؟

المستقبل

 

 

 

 

 

حلب.. والمدن التي دمرها آل الأسد/ يوسف بزي

يُروى أن دمشق نجت من العقاب عام 1982، عندما قرر تجارها، في اللحظة الأخيرة، العودة إلى أسواقهم وفتح أبواب متاجرهم من دون المشاركة في الإضراب، الذي كان مقرراً البدء به بعد صلاة الجمعة، في معظم المدن الرئيسية بسوريا، إحتجاجاً على القمع المتمادي وسياسات البطش والعقاب الجماعي، الذي صاحب انتفاضة “الإخوان المسلمين”، وتمردهم المسلح آنذاك ضد سلطة حافظ الأسد (1980- 1982). ويعود فشل إضراب دمشق إلى حليف حافظ الأسد، بدر الدين الشلاح، رئيس اتحاد الغرف التجارية، وصاحب النفوذ الكبير، الذي حث التجار على إبقاء الدكاكين مفتوحة في العاصمة. في ذاك الوقت، لم يدرك تجار مدينة حلب بتراجع أندادهم الدمشقيين، فشاركوا بالإضراب، الذي سرعان ما فشل في سائر البلاد تحت وطأة الترهيب والقمع الشديدين.

منذ تلك الحادثة، بات السوريون يعرفون أن حافظ الأسد أصبح “حاقداً” على حلب، ولم يزرها إطلاقاً بقية حياته. وكانت دولته تعاقب المدينة في كل شاردة وواردة أكانت بيروقراطية أو سياسية أو اقتصادية، وفي مختلف مشاريع الدولة وخدماتها ومنافعها وصفقاتها التجارية ومعاملاتها ورعايتها ومقاولاتها.. إلخ.

اختفاء ثلث حماة

في الوقت ذاته، كان مصير مدينة حماة هو الأسوأ. يكتب موقع “القناة الإعلامية للبنت السورية” الموالي للنظام، حرفياً: “في العام 1980 تشكلت قوات سرايا الدفاع (التجمع القومي الموحد)، التي كان يقودها رفعت الأسد ومؤلفة من شباب وبنات عسكريين، حيث توعد “الإخوان” في سوريا، وصرح بأنه سيخوض مائة معركة ويدمر مليون معقل ويضحي بمليون شهيد”. ويعترف هذا الموقع: “ولا شك من أن تلك السياسة التي أتبعها رفعت الأسد قد أنقذت الدولة، غير أنها غيرت شخصيتها وطابعها، في حين صممت السلطات وأجهزة الأمن والاستخبارات السورية على أن تضاهي وحشية أعدائها مستخدمة أكبر وحدات وفرق عسكرية لمحاربة عصابات المدن السلفية التكفيرية”. الموقع نفسه لا يتردد في القول: “والجدير بالذكر، أنه ما بين عام 1980 و 1982 بلغ عدد الإخوان الذين قتلوا برصاص المخابرات السورية وقوى الأمن 2000 شخص، غير الآلاف منهم الذين أعتقلوا، وزج بهم في سجون أفرع المخابرات السورية، وكانوا من أخطر الأرهابيين على الأطلاق..”.

في شباط 1982، انتفضت مدينة حماة وبعض أجزاء حلب، فكان رد النظام اتباع العقيدة العسكرية ذاتها التي يجيدها والمستمرة حتى اليوم: محاصرة المدينة وقطع كل وسيلة إمداد من طعام وماء وطبابة، ثم العمل على دكها بكل ما يملك من قوة نارية بلا هوادة، وبشكل مكثف وعشوائي. بمعنى آخر، قصف عقابي لا قتالي، تدميري واستئصالي. فيدخلها وهي حطام تام. وتلك “العقيدة” العسكرية هي تطوير لإسلوب سوفياتي معروف باستخدام مفرط للذخيرة والقذائف والصواريخ من دون مراعاة الدقة أو تجنيب المدنيين، إضافة إلى الإسلوب النازي على مثال انتفاضة وارسو عام 1944.

على هذا النحو، انتهى “تمرد” حماة بتدمير ثلثها بالكامل ومحو قلبها القديم الأثري، فيما طال الخراب معظم المدينة، وسقط في هذه المجزرة، التي استمرت ثلاثة أسابيع، أكثر من ثلاثين ألف ضحية، بمعدل 1400 قتيل في اليوم الواحد!

كان هذا الدرس المرعب كافياً، لترتجف دمشق، وتخضع حمص واللاذقية وخصوصاً حلب التي شهدت منذ عام 1980، استعداد النظام لتدميرها إن اقتضى الأمر، حين أرسل إليها، مع بداية الاضطرابات، الفرقة المدرعة الثالثة بأكملها، ما يعادل عشرة آلاف مقاتل و250 عربة قتالية، منضمة إليها قوات من “سرايا الدفاع” لبدء حملة مداهمات وتفتيش للمنازل كانت مسبوقة عادةً بنيران الدبابات، ما أسفر عن مقتل العشرات واعتقال الآلاف، ووقف حينها، على برج الدبابة، قائد الفرقة الثالثة، اللواء شفيق فياض، وأخبر أهالي المدينة بأنه مستعد للتضحية بألف رجل، ليطهر المدينة “من جرذان الإخوان المسلمين الإرهابيين”. وبقيت الفرقة الثالثة وقتها في حلب عاماً كاملاً. ولا بد من الإشارة هنا، أن العام 1980 شهد أيضاً حملة عسكرية على مدينة جسر الشغور انتهت بمقتل حوالى 300 من سكانها واعتقال مئات آخرين، في مثال أول لاستعداد قوى الأمن على قتل المتظاهرين بالرصاص الحيّ وبواسطة الطوافات أيضاً. وفي العام نفسه دبر رفعت الأسد مجزرة في سجن تدمر العسكري، ذهب ضحيتها وفق بعض المصادر نحو 600 سجين سياسي، فيما تشير مصادر معارضة أنهم أكثر من 1200 سجين. وفي العام ذاته، وضمن سياسة تعمية ممارساته داخل سوريا وعدم كشفها للعالم، تم اغتيال نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه في بيروت، وخطف وتعذيب وقتل رئيس تحرير مجلة “الحواث” اللبنانية سليم اللوزي.

انتفاضة المدن عام 1964

عن حلب ودمشق وصراعهما المديد مع سلطة “البعث”، تروي خلود الزغير (سوريا في معتقل البعث/الأسد – قصة وطن): بعد انتشار أخبار قصف حماة في 7 نيسان 1964، عمّ الإضراب العام معظم المدن السورية، تعبيراً عن استياء الشعب السوري الذي بدأ مطالبته بالحريات، لشعوره بإهانة كرامته بعد سنة من استلام البعث. وطالبت “الجبهة الوطنية الديموقراطية الدستورية” وهي مجموعة من المثقفين من محامين وأطباء ومهندسين وصيادلة عبر بيانات عديدة لهم بـ:

– إلغاء حالة الطوارئ.

– إطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور.

– تشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية، تتولى إجراء انتخابات حرة نزيهة لإقامة حكم ديموقراطي سليم.

شارك بهذه الجبهة معظم التيارات السياسية وبخاصة منها اليسار وعلى رأسهم الاشتراكيون العرب الذين لعبوا دوراً في استمرار الإضراب.

رداً على هذه “الانتفاضة السلمية” الأولى في زمن “البعث” أصدر أمين الحافظ بصفته الحاكم العرفي في 30 نيسان 1964 إنذاراً، يقضي بمصادرة المحلات المُضربة، وتحويل ملكيتها للدولة إذا وجدت مغلقة بلا مبرر قانوني، كما ويحال مالك المحل للمجلس العرفي العسكري بتهمة التخريب والإخلال بالأمن وزعزعة الثقة العامة. وأصدر قانوناً بإحالة كل شخص يقوم بتهديد الغير أو يدفعه لإغلاق محله بأي وسيلة من الوسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، وكل شخص يحرض على الإخلال بالأمن أو الشغب، إلى المجلس العرفي العسكري مع مصادرة أملاكه وأمواله المنقولة وغير المنقولة.

قُمِعَ الإضراب العام في سوريا عام 1964 تحت عَسفِ الأوامر العرفية والإرهاب الأمني. حيث انتهى اضراب دمشق بعد ساعات من صدور هذا الأمر العرفي. لكن أصحاب المحلات المنهوبة من التجار وقّعوا عريضة رفعوها لأمين الحافظ ومحمد عمران، جاء فيها: “قامت أمس وأول أمس عصابة مسلحة بكسر أبواب محلاتنا التجارية، وانتهاك حرمتها، واحتلالها، ونهب موجوداتها، بشكل وحشي لم يسمع بمثله قبل اليوم، وقد أشاعت هذه العصابة أنها تقوم بعملها تنفيذاً لأمر الحكومة، وإننا نعتقد بأن أي حكومة في العالم لا يمكن أن تسمح لبعض رعاياها بالقيام بأعمال السلب والنهب والقرصنة لأي سبب كان. وقد سبق لبلادنا أن أضربت مدة ستين يوماً خلال الاستعمار الفرنسي البغيض، ولم تجرؤ سلطات الاستعمار على القيام بمثل هذا العمل الوحشي… ولمّا كانت الحكومة تنادي وترفع شعارات الحرية والديموقراطية، وتؤكد حرصها على مصلحة المواطن، ولاسيما صغار التجار والحرفيين أمثالنا، فإننا نعتقد بأن العمل الذي تم أمس قامت به عصابة مسلحة مجرمة، غايتها إشاعة الفوضى وبث التفرقة بين أبناء الشعب، وأنها تريد أن تسيء إلى سمعة الجيش السوري فلبس بعض أفرادها الملابس العسكرية وحملوا رشاشات عسكرية…”.

يمكن أن نلاحظ في هذا البيان، البدايات المبكرة لظاهرة “الشبيحة” المصاحبة لحكم “البعث” (أكان في العراق أوسوريا)، كما يمكن ملاحظة تلك المقارنة الثاقبة لتبيان الفارق الهائل بين ممارسات “الاستعمار الفرنسي البغيض” و”العصابات المسلحة المجرمة” التي يسيرها الحزب العروبي الحاكم (حسب البيان 1964). بل ويمكن من خلال هذه التجربة وتجربة 1982، فهم الفشل الجزئي لـ”إضراب الكرامة” الأول والثاني (2011- 2012). وتردد المدن في التورط بعصيان لا تتحمل عواقبه الانتقامية.

الاستيطان وأطواق الاحتلال

من مسلسل هذه “الحوادث”، طوال عقود استيلاء “البعث” على السلطة، يتبدى تاريخ الكراهية بين المدن والنظام. وعلى الرغم من أن ثورة 2011، وجدت حاضنتها الأساسية في الأرياف والأطراف والبلدات الصغيرة والضواحي الفقيرة و”العشوائية”، إلا أن المدن بالذات كانت في البداية هي مراكز التظاهرات السلمية الأولى، أي في أسواق دمشق القديمة، وفي ساحات حمص واللاذقية وأكبرها في ساحة حماة، ثم انضمت حلب. ولم تنكفء هذه المدن وتستكين إلا لأن النظام، ومع خبراته ودروسه المتراكمة منذ 1964 و1982، كان جاهزاً بكل ثقله الأمني والمخابراتي وشبكة أعوانه وشبيحته لقمع هذه المدن باكراً. ورغم ذلك، فالثمن الذي دفعته حمص كان جحيمياً بكل مقاييس التدمير والتهجير. فيما حلب تستمر بتلقي أطنان القذائف، وهي المدينة التي تعرضت لأوسع حملة “براميل متفجرة” ممنهجة طوال أكثر من سنة.

طوال حكم حافظ الأسد، تعرضت تلك المدن إلى سياسة “احتلالية – استيطانية” طويلة الأمد، عبر تمكين هجرات منظمة من أرياف “موالية” إليها، وإنشاء أحياء وضواح ومساكن عسكرية وثكنات ومؤسسات أمنية وحزبية، تتغلغل في نسيجها العمراني والسكاني وتطوقها وتمسك مداخلها ومخارجها. فالمتابع لكل المعارك أو الصدامات المسلحة التي شهدتها المدن السورية طوال خمس سنوات، سيصاب بالدهشة إذ يرى الكيفية التي تتوزع بها المطارات العسكرية، والمواقع والتحصينات والمرافق الأمنية ونقاط المراقبة والثكنات وحتى المستشفيات والمخافر ومرابض الكتائب والألوية والفرق ومقرات أجهزة المخابرات و”المدن الكشفية” ومخيمات “شبيبة الثورة”، والمستودعات النائية، ومخازن النفط السرية، والعنابر التموينية، والصوامع ومحطات الطاقة (وكلها مراكز يتموضع فيها الجيش) ومكاتب الحزب الحاكم، ومخابئ الدبابات والكمائن الثابتة والحواجز الدائمة.. هي قائمة كلها منذ عشرات السنين، ربما بما لا يتناسب مثلاً مع حرب محتملة ضد إسرائيل أو أي دولة مجاورة أخرى، لكن بالتأكيد بما يتطابق مع سيناريو كان دائم التوقع في عقل النظام: انتفاضة السكان. حرب ضد الشعب السوري نفسه. لا شيء يبرر “خريطة الانتشار” هذه، سوى أنها استعدادات قديمة ومدروسة، كان النظام لا يكل عن التحضير لها طوال عقود، وخصوصاً بعد تجربة حماة 1982، ودروس “الحرب اللبنانية” ومدنها.

من تل الزعتر إلى الأشرفية

كان الدرس الأول لجيش حافظ الأسد في حرب المدن عام 1976، مع بداية تدخله العسكري المباشر في الحروب اللبنانية (أو الملبننة)، حين وقعت دباباته في كمين قاتل في مدينة صيدا. حينها تم إحراق عدد كبير من الدبابات، فيما منيت قوات المشاة بهزيمة فادحة، وانتشرت جثثهم في ساحات المدينة وأزقتها. وبعدها لم تتجاوز قوات الأسد خط نهر الأولي، شمال المدينة، طوال وجودها في لبنان. منذ تلك الضربة المهينة، اعتمد الجيش السوري عقيدة “الحصار والقصف” ضد المدن العاصية. وأول اختبار لهذا التكتيك الجديد كان في مخيم “تل الزعتر” في السنة ذاتها، والمعروف المصير للجميع. التدمير الكامل وتهجير السكان وجرفه عن وجه الأرض.

بعد سنتين من حادثة صيدا، ومعركة “تل الزعتر”، نشبت المعارك بين الجيش السوري والميليشيات المسيحية اللبنانية، وكان ثقلها القتالي الأبرز منطقة الأشرفية (الجزء الشرقي من بيروت). عُرفت تلك المعارك بـ”حرب المئة يوم” (1978)، وعمد فيها الجيش السوري إلى شن أعنف حملة قصف بالدبابات والمدافع، مع استخدام مكثف لراجمات الصواريخ واعتلاء المباني العالية للقنص ولنشر الرشاشات الثقيلة. قصف وتدمير بلا أي محاولة اقتحام، وإيقاع الأذى بأكبر عدد من السكان وتحطيم معنوياتهم وتدمير مساكنهم. لكن، إذا كانت الفعالية التدميرية للنظام تتم في سوريا بالخفاء وبعيداً عن أعين العالم وإعلامه، فهذا مستحيل في لبنان. لذلك، ورغم قصفه للإذاعات (“صوت لبنان” مثلاً) ومحطة التلفزة (قناة 5 و11 على ما أذكر)، ومع وجود عشرات المراسلين الأجانب في بيروت، فشل النظام السوري في إخفاء جرائمه الحربية.. فانتهت تلك الحرب بهزيمة معنوية وعسكرية، اضطر معها للإنسحاب من كل المناطق المسيحية، التي كانت تسيطر عليها “الجبهة اللبنانية”، وليسطع اسم بطلها بشير الجميل.

بعد سنتين أيضاً، في أواخر العام 1980، أرادت القوات السورية المنتشرة حول مدينة زحلة وتلالها، تحسين انتشارها العسكري وتحصين مواقع جديدة لها لإحكام الطوق حولها. فردت “القوات اللبنانية” داخل المدينة بتدمير جرافة عسكرية سورية. هكذا بدأت حرب جديدة امتدت لأشهر عدة (انتهت في تموز 1981) وخضعت فيها المدينة، للتكتيك العسكري نفسه: قصف عشوائي وكثيف، ليلاً ونهاراً، وتدمير المدينة على رؤوس ساكنيها. وأيضاً انتهت الحملة الانتقامية بخروج الجيش السوري من زحلة ومحيطها. فكانت هزيمته الثالثة مع المدن اللبنانية بعد صيدا وبيروت الشرقية.

طرابلس 1983- 1985

ظلت طرابلس اللبنانية عصية على الجيش السوري، حتى اثناء احتلاله لها فلم يكن يتمركز إلا خارجها وعلى نحو رمزي. فبعد شهور من الاجتياح الإسرائيلي وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، عاد ياسر عرفات إلى طرابلس وبدأ بتجميع قواته المتوزعة في البقاع والشمال وإعادة تنظيمها، في الوقت الذي كان يحاول النظام السوري وضع هيمنته على منظمة التحرير، استثماراً للضعف الشديد، عقب تشتتها بعد اجتياح 1982، فبدأت مواجهة عسكرية شاملة بين القوات الموالية لعرفات وتلك المنشقة عنه المدعومة من الجيش السوري، في الشمال والبقاع. وتراجعت قوات “فتح” والموالين لها إلى أن حوصرت في طرابلس، التي كانت “حركة التوحيد” الإسلامية (اللبنانية) تسيطر عليها وتتحالف مع أبو عمار، وتحتضن كذلك الكثير من المعارضين السوريين الذي نجوا من مذبحة حماة، وحملات تصفية المعارضة في سوريا.

طوال شهر تشرين الثاني من العام 1983، قام الجيش السوري والمنظمات الفلسطينية (الصاعقة، القيادة العامة، “فتح الانتفاضة”..) والميليشيات اللبنانية الموالية له (البعثية، الشيوعية، القومية السورية..) بإطباق الحصار على طرابلس. وابتدأت كالعادة سياسة الإخضاع بالقصف المكثف بلا توقف لأكثر من عشرين يوماً، ولم يتوقف إلا بتدخل سياسي عربي ودولي، أفضى إلى اتفاق بخروج عرفات وقواته من المدينة بحراً، من جهة، وعدم دخول الجيش السوري إلى المدينة، من جهة ثانية.

الفشل في دخول طرابلس أيضاً، سيراكم حقد حافظ الأسد ونظامه على هذه المدينة، والتي لا بد أنها كانت تذكّره بحماة وحلب وصيدا والأشرفية وزحلة وسائر المدائن العاصية والمتمردة عليه. وستأتيه فرصة الانتقام في خريف عام 1985. فبعد مناوشات عديدة طوال سنوات بين جبل محسن حيث تقطن أغلبية علوية موالية للنظام السوري، وأحياء المدينة المتاخمة له (باب التبانة خصوصاً)، شنت الأحزاب اللبنانية الموالية للنظام السوري هجوماً واسعاً على طرابلس (والمينا)، بدعم مباشر من وحدات الجيش السوري. وكانت المعركة عبارة عن صب حمم الراجمات والمدافع الثقيلة ومدفعية الدبابات والهاون والمدافع الرشاشة المضادة للطيران على أحياء المدينة، تم قطع الكهرباء والماء والمحروقات، ومنع دخول الأغذية أو المساعدات الطبية. واستمر الحصار والقصف العنيف لأكثر من عشرين يوماً، ولم يشترك الجيش السوري بالهجوم البري، تاركاً هذه المهمة للميليشيات اللبنانية، التي تكبدت خسائر فادحة قبل أن يحسم لها الأمر وتستسلم المدينة، فتدخلها سرايا المخابرات السورية، وترتكب مجزرة في أحياء طرابلس القديمة وتغتال العديد من شبانها وتعتقل مئات آخرين. وعلى غرار اغتيال رياض طه وسليم اللوزي، سيتعرض الباحث الفرنسي (الخبير بالحركات الإسلامية بطرابلس، وبخفايا السياسة السورية وأفعالها) ميشال سورا، للخطف والتعذيب والموت في زنزانة سرية.

العودة إلى بيروت

في العام 1986، في عهد الرئيس أمين الجميل، طلب لبنان رسمياً انهاء الوجود العسكري السوري في لبنان، لكن بحجة “نقص شرعية هذه السلطة” تجاهل النظام السوري الطلب، بل وصمم على العودة إلى بيروت الغربية. وكان مسعاه هذا قد ابتدأ عام 1983، بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي، وبتزويد الميليشيات اللبنانية الموالية له حينها، بمختلف أنواع الأسلحة، ومدها بالعتاد وتأمين كل وسائل الدعم، لتتجدد الحروب اللبنانية مع حرب الجبل وشرق صيدا والضاحية الجنوبية وصولاً إلى 6 شباط 1984، حين استولت الميليشيات على بيروت الغربية وطردت القوى الأمنية اللبنانية منها، ثم قامت بتصفية حركة “المرابطون” (البيروتية) المشكوك بولائها لياسر عرفات. ثم وبحجة منع الاقتتال بين حركة “أمل” الشيعية و”الحزب التقدمي الإشتراكي” الدرزي، اللذين انزلقا إلى حرب شوارع يومية، دخلت في البداية (عام 1985) مجموعة “المراقبين السوريين”، وهم مجموعة ضباط استخبارات اتخذت من فندق البوريفاج وبعض الشقق القريبة منه، مقراً لها. وكانت مهمتهم الأساسية المعروفة “تصفية العرفاتيين”، وقتل المعارضين للنظام السوري، وإحكام السيطرة على الأحزاب المنضوية تحت وصاية حافظ الأسد، وإعادة الهيمنة الأمنية والمخابراتية على الشطر الغربي من العاصمة اللبنانية و”إدارة” النزاعات المحلية السياسية والمسلحة والتلاعب بها وافتعال الصدامات وبث الفوضى، في الوقت الذي كانت تجري فيه عمليات خطف الأجانب من شوارع المدينة، وتفجير السفارات، ثم الاستيلاء على مطار بيروت الذي شهد بدوره، خطف الطائرات منه وإليه، وتحوله إلى أشهر مرفأ جوي لتهريب المخدرات والعملات المزورة والأسلحة وتصدير “الإرهابيين”.

حدث هذا كله، بالتزامن مع “حرب المخيمات الفلسطينية”، التي خاضتها حركة “أمل” بالنيابة عن النظام السوري وبالأصالة عن نفسها، وهي التي لديها ثأر من منظمة التحرير الفلسطينية، منذ الصدامات الدامية في جنوب لبنان، ما بين 1979 وحتى عشية الاجتياح الاسرائيلي عام 1982.

كانت حرب المخيمات الوحشية تقوم على العقيدة العسكرية السورية ذاتها إزاء المدن أو التجمعات السكانية الكثيفة: الحصار المديد والتدمير الشامل. ثلاث سنوات من القصف والقنص والتجويع انتهت بتدمير 80 في المئة من مخيمي صبرا وشاتيلا، وعلى نحو أقل باقي المخيمات (الرشيدية وبرج البراجنة..).

في العام 1987، دخلت القوات السورية إلى بيروت الغربية بذريعة وقف الاقتتال بين حليفيها “أمل” و”الاشتراكي”، وأول ما فعلته هو مذبحة في ثكنة “فتح الله” ذهب ضحيتها إعداماً نحو 30 من مسلحي “حزب الله”. ويقال أن ضابط المخابرات جامع جامع هو المسؤول المباشر عن هذه الجريمة. ويمكن القول أن “غزو” بيروت الغربية هو الأنجح في كل الغزوات السورية للمدن العاصية، فهو لم يقصفها ولم يهاجمها، بل اشتغل على “تعفينها” و”تخريبها” وتمكين الميليشيات التي يسلحها ويمولها ويدعمها ويخترعها منها، وتشجيعها على نشر الفوضى وزرع السيارات المفخخة وتنفيذ الاغتيالات بالخصوم (سياسيين ورجال دين وإعلاميين ومثقفين..)، و”تدوير” أسباب النزاعات الأهلية وتقويتها ونفخ نارها و”إدارتها” وتأليب حليف على حليف، وصنع الانشقاقات داخل الأحزاب والنقابات وتجنيد قتلة وإرهابيين وإعلاميين.

وخلال السنوات الثلاث التالية، نجح النظام السوري في تحويل بيروت الغربية إلى ما صارت إليه مقديشو في أواخر التسعينات، أو إلى ما صارت إليه كابول في منتصف التسعينات، أو مونروفيا عام 1996 أو فريتاون (سيراليون) عام 2002. مدينة محطمة وبائسة هجرتها نخبتها الاقتصادية والعلمية والثقافية والمهنية وهربت منها السفارات والوكالات والشركات، وتجنب كل أجنبي المرور بها. وتحولت إلى مرتع للرعاع المسلحين و”الشبيحة”، بقيادة “سوريا الممانعة” وأحزابها الميمونة.

وكان “النموذج السوري” في الحرب القائمة على القصف الأعمى، ملهماً حينها لحليفها المستقبلي الجنرال ميشال عون، الذي تكفل في حربه الدونكيشوتية على الجيش السوري، بتدمير البيروتين الغربية والشرقية (1988-1989) التي نسل منها أيضاً “حرب الإلغاء” (1989- 1990) فنجح بتدمير ما لم تستطع القوات السورية تدميره في المناطق المسيحية عمراناً واجتماعاً، ومهد للجيش السوري أن يحتل كل لبنان من العام 1990 وحتى العام 2005.

يمكن القول أن مآلات المدن اللبنانية وحروبها، ومثال حماة، كان درساً يومياً للسوريين يردعهم عن أي تمرد أو عصيان.

يُروى أنه في أحد اجتماعات قادة المعارضة المسلحة السورية عام 2013 نشب خلاف بين الحلبيين والدمشقيين، الحلبيون كانوا متحمسين لخطة هجوم على دمشق بالتزامن مع انتفاضة مسلحة بداخلها، فيما عارضها الدمشقيون خوفاً من تدمير انتقامي للعاصمة. فردّ عليهم الحلبيون: لماذا إذا تحمستم للهجوم على حلب عام 2012 وكنا معترضين خوفاً على المدينة من عقاب تدميري؟

تكشف هذه الواقعة، القناعة الراسخة في أذهان السوريين عن نظام الأسد، وعدم تورعه عن ارتكاب أشد الفظاعات، بحق المدن وأهلها. وهي القناعة – الحجة التي يعلنها أصلاً معظم الذين عارضوا الثورة، لا من منطلق تأييد النظام أو موالاته، بل تجنباً لبطشه وعقابه الذي لا يُحتمل. وهذا ما يفسر إلى حد بعيد الاستكانة التي تطبع المدينيين السوريين الذين يخافون على أملاكهم وأرزاقهم وأولادهم وثرواتهم القليلة أو الكثيرة، خصوصاً سكان المدن الأصليين. فأهل دمشق لا بد أنهم يشاهدون يومياً ما يحدث في حلب. لا بد أنهم يتذكرون نجاتهم عام 1982 حين تخلّفوا عن الإضراب وتورطت حلب.

كل التجارب التي خاضها جيش الأسد في لبنان ضد المدن وضد المخيمات الفلسطينية، سيكررها ضد المدن السورية ومخيمات الفلسطينيين أيضاً (اليرموك، خان الشيح، درعا، حندرات..)، لكنه سيطور أدوات فتك وتدمير جديدة: الأسلحة الكيماوية، البراميل المتفجرة. كما سيطور عقيدة سياسية مفادها “سوريا الضارة أو الزائدة” و”سوريا المفيدة”، وفق قول بشار الأسد الشهير “أنا رئيس بعض السوريين وليس كلهم”. وتتيح هذه العقيدة السياسية، استباحة المدن والأرياف والقرى المتمردة إلى حد الإبادة، طالما أن سكانها لا يستحقون أصلاً الوجود، ضارّون أو زائدون عن الحاجة.

منذ العام 1973، يحافظ النظام السوري على بلدة القنيطرة المدمرة تماماً والخالية من السكان، بوصفها “شاهدة على القوة التدميرية الغاشمة للعدو الصهيوني”، وكمتحف طبيعي للخراب والحرب. وهي على الأرجح أهم نصب تذكاري – فني أقامه نظام الأسد في سوريا، تعريفاً بزمنه، ورمزاً لعهده. فباسم محاربة إسرائيل ومقاومة الاستعمار، قد لا يبقي بشار الأسد حجراً على حجر، وفاء لشعار “الأسد أو نحرق البلد”، والذي بات عملياً “الأسد بعد حرق البلد”.

المدن

 

 

 

 

كفّة الثورة/ حسام كنفاني

منذ انطلاق معركة كسر الحصار على حلب، سال حبر كثير في محاولةٍ لتحليل الأمر، ووضعه في سياق موازين القوى على الأرض، أو في إطار الصراعات الدولية والدخول التركي المفاجئ في مواجهة “التفاهم” الروسي الأميركي. وقيل كلام كثير أيضاً بشأن الوضع الإنساني، وضرورة كسب المعركة لإعادة الروح إلى مئات آلاف المحاصرين في الشهباء، وبطولات هؤلاء التي سطروها في موقعة “الدواليب المحروقة”، وأساطير الصمود في وجه همجية النظام وروسيا العسكرية وبربرية الحصار الذي حرم الأطفال حتى من الحليب.

كلام لا يحمل مبالغات كثيرة، وتحليلات تحتمل في مجملها الصواب، غير أن النظرة الأساس بالنسبة إلى ما هو حاصل في حلب اليوم، وما جرى في الأيام الماضية، هو مصير الثورة السورية نفسها، والآمال التي كانت معقودة عليها خلال السنوات الخمس الماضية. لم يعد خافياً أن ما قبل انطلاق المعركة كانت الأجواء التشاؤمية هي السائدة في المطلق، وأن نهاية الثورة باتت وشيكةً، بناء على التفاهم الروسي الأميركي، وبغطاء أوروبي، والذي كان واضحاً أنه ينص ضمناً على إنهاء الثورة التي أصبحت تشكّل عبئاً على الغرب بالمطلق.

غير أن المعركة قلبت الموازين، وأعادت ترجيح كفة بقاء الثورة السورية، فبغض النظر عن الرايات المتعدّدة التي تقاتل في هذه المعركة، وما إذا كانت فعلياً خارجة من رحم أساس الثورة السورية، إلا أن محصلتها الآن هي الأهم، وهي إبقاء الحالة على قيد الحياة، ومنع النظام وحلفائه من إعلان “انتصار”، كان قريباً، على الثورة ومكوناتها المختلفة.

بهذا المعنى، أعادت معركة حلب ترجيح كفة الثورة السورية، وضخت الآمال مجدّداً بقدرتها على تحقيق إنجازات على الأرض، وهو ما يمكن أن يترجم لاحقاً في الميدان السياسي، والذي كان، إلى حد كبير، خاضعاً لموازين القوى على أرض المعركة، وما كانت تحمله من معطيات تقدم واضح للحلف السوري الروسي الإيراني.

لم تنته معركة حلب بعد، ربما لا تزال في بدايتها، بحسب تقديراتٍ تشير إلى حرب استنزاف طويلة الأمد نسبياً، غير أن الوتيرة التي تسير بها حالياً، وفي حال استمرارها بالزخم والدعم نفسيهما، فإن تبعاتها قد تتجاوز عملية فك الحصار، وتتمدّد إلى المناطق الأخرى التي كانت قد خسرتها المعارضة. قد لا يكون الأمر هيناً، ولا سيما مع سعي النظام وحلفائه إلى محاولة تعديل الكفة، إلا أن الأهم في هذا المجال هو إثبات الفصائل المقاتلة أنها ليست عاجزةً أمام آلة القتل السورية الروسية، وأنها تملك مخزوناً من القدرات القتالية والمعنويات التي تسمح لها بتحقيق تقدم حاسم، متى ما أتيحت لها الفرصة لذلك. والفرصة، هنا، تأتي بمعنى الضوء الأخضر السياسي والدعم اللوجستي من الدول التي لا تزال داعمة للثورة السورية.

المعركة مستمرة، وميادينها ستتوسع. لن تكون فقط عسكرية، فلاحقاً، ومع اقتراب موعد لقاء جنيف، سيكون الميدان السياسي فاعلاً أيضاً، وهو ما قد يحتاج إلى توحيد صفوف حقيقي بين الأطراف السورية المعارضة، السياسية والعسكرية. فالبين لا يزال قائماً بين الشقين، سواء في التمثيل أو تحديد الأولويات. أيضاً هنا الأمر لن يكون على هذا القدر من السهولة، ولا سيما مع اختلاف الرؤى والأيديولوجيات، غير أن فرصة الانتماء المطلق للثورة السورية لا تزال قائمة، ولعله الوقت الأمثل الآن لحصول ذلك، لتبقى كفة الثورة راجحة.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب تغيّر المعادلة/ محمد أبو رمان

أنجز الثوار السوريون، في الأيام القليلة الماضية، اختراقاتٍ نوعية في كسر الطوق العسكري الذي فرضه النظام السوري وحلفاؤه على مساحةٍ واسعةٍ من حلب، في محاولةٍ لإخضاع المدنيين والثوار، وإجبارهم على الاستسلام والمغادرة من المدينة، كما حدث في مناطق أخرى عديدة سابقاً. لكن الثوّار، بمساندةٍ استثنائيةٍ من المدنيين، صمدوا صموداً أسطورياً، وجعلوا من حلب بمثابة ستالينغراد، لكن بصورة مقلوبة، فالروس هم الغازون مع نازيي النظام السوري، بينما المعارضة المحاصرة هي التي قلبت المعادلة، وتسعى إلى جعل حلب “نقطة تحوّل”، معاكسة تماماً لما كان يريده النظام السوري والروس والإيرانيون، في ظل تواطؤ حقيقي من الغرب والولايات المتحدة معهم.

المهم في معركة حلب التي تدور حالياً أنّها كسرت التوقعات الدولية والإقليمية، وتجاوزت المعارضة ذاتها وتفوقت على نفسها، بعدما أدار لها العالم ظهر المجنّ، فأعادت خلط الأوراق الدولية والإقليمية مرّة أخرى.

الأكثر أهميةً في التغيّرات الأخيرة هو الموقف التركي، وتحديداً بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، وإرهاصات ذلك التحول التي سبقت تلك المحاولة، وارتبطت بمحاولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فك الحصار السياسي والديبلوماسي غير المعلن الذي تتعرّض له تركيا.

لم يكن النظام السوري، بإسنادٍ روسي وإيراني مكثّف، لينجح في حصار حلب، ومحاولة إجبار المعارضة على الاستسلام هناك، لو كان الموقف التركي متماسكاً في دعمه المعارضة هناك. لكن موقف أردوغان بعد الانقلاب (كما ذكرنا في مقالة سابقة) أصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً، فالأولوية له داخلية، وهو بحاجة لإصلاح علاقته مع الروس والإيرانيين، بعدما اكتشف هشاشة علاقته بالعالم العربي من جهة، ومراوغة الولايات المتحدة وأوروبا معه من ناحية ثانية.

نظرياً التغير في الموقف التركي حاسم، بالنسبة للمعارضة، فهي الداعم الأكبر للفصائل الشمالية، وساعدت تركيا دوماً هذه الفصائل في التسلح والتنسيق والدعم، وكان للتحالف التركي- السعودي دور مهم في تأسيس جيش الفتح (قبل قرابة عامين) في ريف إدلب، الذي قلب المعادلة هناك تماماً، ووصل إلى ريف اللاذقية، وحرّر مدينة إدلب بالكامل.

لذلك، حاول النظام السوري، بدعمٍ روسي، الاستثمار في تحول الموقف التركي للسيطرة على عاصمة المعارضة، حلب، وتحقيق اختراقاتٍ كبيرةٍ في المناطق الشمالية، وتغيير موازين القوى جذرياً، مع وجود ضوء أخضر أميركي- أوروبي ضمني، بعد التحولات غير المعلنة رسمياً وديبلوماسياً، لكنها واضحة سياسياً، في مواقف المجتمع الدولي الذي لم يعد يفكّر البتة بمصير الأسد، بقدر ما ينشغل في التفكير بالتخلص من داعش، ولا يشعر بالارتياح تجاه الصبغة الإسلامية للمعارضة السورية المسلحة.

العالم أصبح أقرب إلى نظام الأسد اليوم، والشكر موصول لداعش، بالطبع، لكنه لم يكن في أي وقت مخلصاً وصادقاً مع الثورة السورية، ونذكر تماماً محطاتٍ فاصلة، كان يمكن أن تكون نهاية نظام الأسد فيها، لكن الخشية المزيفة من نظام ما بعد الأسد هي التي عطلت سقوطه أكثر من مرة.

النظام الرسمي العربي هو أيضاً أقرب اليوم من أي وقت مضى للأسد، فمصر والجزائر رسمياً معه، وموقف الإمارات والأردن أكثر تعقيداً والتباساً، ولكن بات واضحاً أن أولويتهما القضاء على داعش، من دون الاكتراث بمصير الأسد، وتبقى السعودية وقطر تحاولان التأكيد على أن المشكلة الحقيقية هي في النظام السوري، لكن دورهما تراجع أخيراً، وبدأت الخلافات بينهما وبين المجتمع الغربي بالظهور، مع محاولة اتهامهما مع تركيا بتمويل المعارضة الإسلامية.

الآن، وهنا بيت القصيد، تجد المعارضة، للمرة الأولى، نفسها مكشوفة إقليمياً ودولياً، بصورة كاملة، بلا أي سند أو مساعدة أو غطاء، ولو حتى سياسي يُذكر، لكنها على الرغم من ذلك استطاعت إغلاق جزءٍ كبير من خلافاتها وانقساماتها الأيديولوجية والعسكرية في الداخل، وتوحّدت في معركة حلب، وتمكّنت من إعطاب التوقعات الدولية الإقليمية، وإذا ما تمكّنت من إفشال المخطط الروسي السوري في حلب، فسنكون أمام معادلةٍ جديدة موضوعية، تعني استقلالية أكبر للثورة، ودحض النظريات الروسية والغربية بأنها امتداد لأجنداتٍ إقليمية، بينما الواقع أن النظام السوري نفسه تحول إلى مجرد ورقة على طاولة الروس والإيرانيين.

تبقى معادلة المنطقة الجنوبية الأكثر حساسية، نظراً لارتباطها بغرفة العمليات العسكرية العربية والأميركية والفرنسية (الموك)، لكن التغير في معادلة حلب قد يفتح شهية ثوار درعا لتفكير مماثل.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب… معركة كسر عنق الزجاجة/ عيسى الشعيبي

من المقدّر لمعركة حلب، الجارية منذ عدة أيام، أن تطول أكثر مما كان متوقعاً لها من قبل، وأن تكون باهظة الكلفة إلى درجة مرتفعة، وربما سيتم تسجيل هذه الملحمة كأهم المعارك في تاريخ الثورة السورية (إلى الآن على الأقل)، نظراً لما تحتشد على ساحتها الواسعة من قوىً مدجّجة بالإرادات المتصادمة، والادعاءات المتناقضة، ناهيك عن كل صنوف الأسلحة المتاحة، وفوق ذلك ما يُعلّق عليها من رهاناتٍ كبرى، ليس فقط لدى المتقاتلين على الأرض مباشرة، وإنما لدى الأطراف الإقليمية والدولية، المشتبكة في ميدان صراع مفتوح، أوسع نطاقاً من رقعة حلب وجغرافيا البلاد الشامية.

وبقدر ما تصحّ تسمية معركة حلب معركة استراتيجية، لكلا الطرفين المتجابهين حتى نهاية الشوط المديد، بقدر ما تصحّ معه تسميتها، أيضاً، مصيرية، سواء أكان ذلك لنظام الأسد، أو بالنسبة للثورة التي عبرت إلى عامها السادس، وهي تواجه تحالفاً إقليمياً من طبيعةٍ مذهبية فجة، يعمل تحت غطاء جوي لإحدى أكبر القوى العسكرية في العالم، الأمر الذي أثقل كثيراً على كاهل الثورة، وعقد المشهد المعقد أصلاً، وزاد من وزن العوامل الخارجية المقرّرة في توجيه دفة الحرب المتصاعدة، على نحوٍ كادت فيه كل هذه المتغيّرات أن تهمّش العامل الذاتي إلى أدنى درجة ممكنة.

من هنا، تنبع الأهمية الاستثنائية لمعركة حلب الطاحنة، باعتبارها بمثابة رد اعتبار لعنصر العامل الذاتي الذي استعاد، بهذه المعركة، تموضعه السابق، لاعباً مركزياً، له القول الفصل في إدارة وقائع الحرب، وفي توجيهها بما يحفظ إدامة فعل الثورة، سجالاً بين مدّ وجزر، إلى أن يتم تعديل موازين القوة، وجلاء الصورة، ومن ثمة كسر قواعد اللعبة المستجدّة، في وقت لاحق، وهو ما تستبطنه فصول هذه المعركة التي تبدو، في نظر أصحابها، ووتيرة تصاعدها، نقطة تحولٍ لافتة، انتقلت معها الثورة من حيّز الدفاع عن النفس إلى موقع المبادرة الهجومية. ذلك أن انعكاسات هذه المعركة، الجارية في أكبر الحواضر الشامية، على حاضر ثورة الحرية والكرامة ومستقبلها، بما في ذلك مردوداتها المتوقعة على الحاضنة الشعبية في المدى المنظور، تتجاوز كل النتائج الميدانية المرجوّة في نهاية المطاف، إلى التحليق بالثورة في فضاء الحالة المعنوية، بما تؤدي إليه هذه الحالة من رفعٍ للروح القتالية، وتجديدٍ لشباب الثورة، وإطلاقٍ لطاقاتٍ كامنة، لعل في مقدمتها توحيد الفصائل المسلحة على قاعدة الحد الأدنى المشترك، وطي صفحة الخلافات البينية، التي كادت أن تعصف بكل ما تحقق من نتائج طيبة في السنوات الخمس الماضية.

وكما أدى دخول حلب المتأخر إلى معمعان الثورة، إلى إطلاق المارد من قمقمه، وحوّل

“استعاد العامل الذاتي في معركة حلب تموضعه السابق، لاعباً مركزياً، له القول الفصل في إدارة وقائع الحرب” الاحتجاجات الشعبية الريفية إلى تمردٍ شعبي شامل، فإن انتفاضة الشهباء على نفسها أولاً، وتحطيمها قانون لعبة الحصار الجهنمية ثانياً، ورفض السابقة الحمصية ثالثاً، من شأنه كسر عنق الزجاجة مرة أخرى، وإيجاد قوة زخمٍ مضاعفة، فضلاً عن منح الثورة دماً جديداً، هي في أمسّ الحاجة إليه، بعد أن أصاب صفوف المقاتلين ما أصابهم من مظاهر ترهّل، وما مالت إليه بعض الفصائل، تحت ضغط الواقع المرير، من هدنٍ ومصالحاتٍ موضعية مهينة.

بكلام آخر، غيّرت حلب موازين الوضع الداخلي، عندما التحق ريفها، وبعد ذلك المدينة نفسها، بصفوف الثورة، حيث وضعت النظام المتهالك آنذاك في أصعب امتحان له منذ خروج أول مظاهرة في درعا، وها هي اليوم تكتب بدمها فصلاً ملحمياً في كتاب الثورة التي بدّلت الوضع السوري، كما لم يتبدّل في السابق، الأمر الذي من المتوقع معه أن تعيد هذه المعركة تصحيح اتجاه البوصلة من جديد، وأن تجبر صورة ما انكسر في مرآة الثورة، وبالتالي، من المؤكّد، والحالة هذه، أن ما بعد معركة حلب لن يكون كما كان قبلها.

وعليه، يصحّ النظر إلى معركة حلب على أنها، في حد ذاتها، أكبر من مجرد معركة كبيرة، تقاس فيها النتائج وفق معايير الحرب الكلاسيكية، حيث ترتسم على ساحتها خطوطٌ حمراءُ متقابلة، وتجري في نطاقها لعبة مصالح متعاكسة، وتتجلى على أديمها مظاهر نفوذ إقليمية ودولية متوازية، الأمر الذي يجوز فيه القول إن معركة حلب كاسرة للتوازنات والمعادلات، وإنها قد تقرّر المآل الأخير، وربما المصير النهائي، سواء للنظام المحارب بالمليشيات الطائفية، أو للثورة المحاربة بسيوف نحو مائة ألفٍ من مقاتليها.

وليس من المبالغة القول إن على نتائج معركة حلب الدائرة في إطار أوسع من رقعة المدينة، كما سبق ذكره، سيتوقف مستقبل هذه المنطقة التي تتحارب فيها كل الملل والنحل والأعراق، وتتقابل فيها الهواجس، لتقرير الأحجام والأوزان، ورسم الخطوط الحمر، وتحديد مطارح النفوذ والمصالح، الأمر الذي يثقل بشدة على أكتاف صانعي هذه الملحمة، ويرقى بهم إلى منزلة من حققوا نقطة تحوّل، صنعوا تاريخاً، كثيراً ما كانت فيه مدينةٌ بعينها تنوب عن الأمة، وفق ما ترويه لنا كتب التاريخ القديم، في زمن الغزو المغولي، وسنين الحروب الصليبية، وعهد الاستعمار الأوروبي.

وأحسب أن معركة حلب، المثيرة بكل المعايير، موقعةٌ كبرى كاشفة نيات الدولة العظمى الملتبسة، ومقوّضة معايير روسيا المزدوجة، وفاضحة حسابات الدول الإقليمية الصديقة واصطفافاتها اللفظية مع الثورة، خصوصاً الدول التي انشغل بعضها بهمومه الداخلية فجأة، وبعضها الآخر بأولويات مستجدّة، إلا أن النقطة المضيئة أكثر من غيرها، في خضم هذه المعركة الطويلة بالضرورة الموضوعية، تظل ماثلةً في حقيقة أنها ستدوّن في سفر الخلود ملحمةً، وأنها أحدثت رافعةً كبرى من روافع الثورة اليتيمة، وأنها عبرت بها من عنق الزجاجة التي راوح فيها المقاتلون طويلاً، وكادوا يفقدون زمام المبادرة.

العربي الجديد

 

 

 

 

حلب… مدينة المدن/ محمد حجيري

ذات مرة، في زمن الوصاية الأمنية الأسدية على لبنان، كتب احد الأصدقاء السوريين مقالا طويلاً عن حلب وتاريخها وتحولاتها وناسها، ووصفها أخيراً بأنها “حلبية” أي لها خصوصيتها خارج الولاءات والايديولوجيات، التي كان يضعها نظام البعث وأجهزته المخابراتية… بسبب هذا المقال ونفيه صفة العروبة البعثية الاسدية عن المدينة العريقة، داهمت المخابرات السورية منزل الصديق في ريف حلب بحثاً عنه، ولم تجد إلا والدته العجوز وبعض كراسات لينين الحمراء الباقية من الزمن الشيوعي، وكانت المداهمة لحظة شعور بالمطاردة الأمنية، ومقدمة لهروب الصديق الى فرنسا عن طريق بيروت والعيش في المنفى…

حلب، هذه المدينة التي نعرفها بمأكولاتها وذاكرتها السياسية وصناعاتها وألوانها الغنائية (القدود) وفرقها الصوفية وأقوال المتنبي في توصيفها والاشتياق لها (كلما رحبّت بنا الروضُ قلنا: /حلبٌ قصْدُنا وأنتِ السبيلُ)، وحياة سيف الدولة فيها، ونعرفها أيضا بأنها مقصد أهل الفن، كانت حلب مركزا ومدينة اختبار وامتحان لكبار رواد الموسيقى والغناء والاستعراض مثل بديعة مصابني، عبده الحامولي، سيد درويش، سلامة حجازي، محمد عبد الوهاب، كارم محمود، نور الهدى، سعاد محمد والكثير غيرهم…

والآن مع اشتداد المعارك للسيطرة على المدينة، عاد الحديث عن تاريخ المدينة وهويتها وأهميتها ومساراتها وموقعها على تخوم السهول الغضة، على عكس دمشق الواقعة على أطراف الصحراء، وأهمية حلب عدا عن أنها العاصمة الاقتصادية لسوريا، فهي لها حكاياتها وميتولوجياتها في اللاوعي السياسي والديني للمتحاربين والمتصارعين. الصراع على حلب يعتبر جزءاً من الصراع على التاريخ، وتشكل ميدان قتال لآخر النسخ من “الحروب الدينية التي شكلت تاريخ الشرق الأوسط على امتداد ألف عام من الزمن” بحسب توصيف أحدهم. المعارضة السورية سمّت معركة فك حصار حلب بـ”ملحمة حلب الكبرى”، وامين عام حزب الله نصرالله قال إن من يسيطر على حلب يسيطر على المنطقة، في المقابل تعتبر التحليلات أن المدينة “حلب خط أحمر تركي”، وفي السياق عينه ركزت بعض التعليقات الصحافية العربية على كتاب “حلب: صعود وسقوط مدينة سوريا التجارية الكبرى” للمؤرخ فيليب مانسيل الذي يرى أن الأمكنة التي تجمع بين القدم والتنوع مثل حلب قليلة جدًا، وأنها من أقدم المدن التي ظلت مأهولة بصورة مستمرة. تناوب على حكمها الآشوريون والفرس والإغريق والرومان والعرب والعثمانيون والفرنسيون، وخلال الحكم العثماني كانت ثالث أكبر مدينة في السلطنة بعد القسطنطينية والقاهرة…

مانسيل صاحب كتاب “القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم”، والمعروف بكتاباته عن موت المدن وأفولها وتحولاتها من الإسكندرية إلى بيروت، قال في مقالة له نشرت في “لوس أنجليس تايمز” إن حلب حتى العام الثاني من الحرب السورية في 2012، كانت مدينة عالمية يعيش فيها خليط متنوع من السكان في سلام. لكنها “دخلت في أتون الصراع بين السنة والشيعة والعلمانيين، ورجال الدين والطغاة والليبراليين والعسكريين والمدنيين، وهي الحروب التي تدمر العالم الإسلامي حالياً من مالي إلى ماليزيا”.

وحلب “الحلبية” يمكن تكوين صورتها من بعض أقوال الرحالة والكتاب، فابن بطوطة زارها وقال ما قاله عنها أبو الحسين بن جبير: “قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير”، وقال ياقوت الحموي (معجم البلدان) “إن الله خص حلب بالبركة و فضلها على جميع البلدان”، واعتبر الرحالة الإنكليزي بوكوك (القرن 19) “حلب من أجمل مدن الشرق”، وقال الرحالة الفرنسي فولني (القرن 18): “قد تكون حلب أنظف مدينة في السلطنة العثمانية وأجملها بناء وألطفها عشرة وأصحاها مناخا والحلبيون هم اكثر أهل السلطنة تمدناً”، واعتبر الفرنسي دافيور 1683 م:(رحلة دافيور – الجزء السادس ص 411) إن مدينة حلب هي الثالثة في الممتلكات العثمانية بالأهمية، فبوصفها وسعتها وسكانها ورخائها، هي اقل من القسطنطينية والقاهرة، إلا أنها بصحة هوائها ومتانة بنائها وأناقتها ونظافة طرقها أفضل من الاثنتين، وعلى الرغم من ضعفها التجاري النسبي، إلا أنها لا تزال تتمتع بشهرة تجارية…(الراجح ان الصورة تغيرت، ففي زمن الأيديولوجيات البعثية انحدرت حلب نسبيا، وفي زمن الفراعنه الجدد(من السادات الى السيسي) لم يبق في القاهرة إلا الذاكرة، بينما سيطرة إسطنبول على الواجهة في العمران والألق والحداثة).

وحلب أيضا في التوصيفات تبدو كأنها تختصر العالم أو مرآة لمدنه ونواحيه وشعوبه، داندولو- قنصل البندقية العام 1599م قال: “حلب الهند الصغيرة بخاناتها الواسعة وتجارها الأغنياء ومبانيها الجميلة، الرحالة الإنكليزي رامبلز عام 1858 وصف حلب بأنها لندن الصغيرة لمن يقصدها بعد زيارته المدن الخراب والبادية الصحراوية فانه يجد فيها الراحة والانشراح وسكانها هادئون ومسالمون، وقال لامرتين – 1830: “حلب أثينا الآسيوية، وأخلاق أهلها تمتاز بالسمو والنبل”… وكتب إدوارد لورنس في “أعمدة الحكمة السبعة”: وإذا ما أوغلنا أكثر إلى الداخل لنصل إلى حلب، فاننا نجد في تلك المدينة التي تعد مائتي ألف نسمة، صورة مصغرة لكل العناصر والأديان الموجودة في الإمبراطورية العثمانية… ومن خصائص حلب الفريدة، أنك تجد فيها، رغم حرارة الأديان، تآلفا غريبا وتعايشا سلميا بين المسيحيين والمحمديين واليهود، وبين الأرمن والعرب والأكراد والأتراك، لا تجد له مثيلا في أية مدينة أخرى في الإمبراطورية العثمانية.

والنافل ان حلب تلقت أكبر الضربات في بداية القرن العشرين ربما تشبه بذلك طرابلس اللبنانية، فعند سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى سلخت عن حلب امتدادها الشمالي والتقليدي (معظمها ضمن الأقاليم السورية الشمالية) التي ضمت إلى تركيا العام 1920 بالاتفاق بين مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك وسلطات الانتداب الفرنسي. خسرت حلب التجارة مع بعض مدن هذه الأقاليم خاصة المدن التي كانت تابعة لولاية حلب تاريخيا كعنتاب ومرعش وأضنة ومرسين، كما خسرت السكك الحديدية المهمة التي كانت تصلها بالموصل. أدت اتفاقية سايكس بيكو وفصل العراق عن سورية إلى كساد وتدهور كبير في اقتصاد حلب. وفي العام 1940 فقدت حلب إمكانية وصولها إلى البحر بعد خسارتها لمنفذها الرئيسي على البحر المتوسط في الإسكندرونة. تراجع موقع حلب السياسي بسبب جعل مدينة دمشق عاصمة لسورية، كما تراجع دور طرابلس اللبنانية بعد دعم الفرنسيين دور بيروت وتهميش الفيحاء لأسباب معروفة. في زمن التهلكة الاسدية، تضررت حلب بشكل كبير إنسانيا واقتصاديا بفعل القتال والقصف ونقل المعامل والمصانع إلى تركيا، وتوقفت عجلة الاقتصاد في المدينة وتعرض الكثير من معالمها الأثرية للدمار مثل قلعة حلب والمسجد الأموي. وبدل تعدد الاثنيات والاعراق في المدينة، تعددت جنسيات المقاتلين الأجانب سواء المنضوين تحت لواء قاسم سليماني أو التابعين للتنظيمات المسلحة، وإذ كان الرحالة اطلقوا عليها تشبيها بمدن أخرى أوروبية واسيوية، فيمكن اطلاق توصيفات من نوع اخر، وهو تدمير حلب بالنسخة الروسية والأيرانية والاسدية والداعشية والجولانية والحزب إلهية…

تدمير حلب في جوهره، يعني تدمير سوريا.

المدن

 

 

 

كر وفر في حلب وثلاث قوى ستتقاسم سوريا/ علي الأمين

من الثابت أن عملية حصار قوى المعارضة السورية ليست حكرا على إيران وروسيا والنظام السوري وحلفائه من الميليشيات الأفغانية والباكستانية والعراقية واللبنانية. يبدو الحصار شبه مكتمل من مختلف الأطراف المؤثرة في الميدان السوري، أبرزها الإدارة الأميركية التي تساند القوى الكردية في مواجهة تنظيم داعش، وتعمل من خلالها على تثبيت قواعد عسكرية داخل الأراضي السورية، وهي ترفض أي محاولة لفتح قنوات الدعم العسكري للمعارضة السورية عبر الحدود التركية.

كذلك تنشط الطائرات الروسية العسكرية في ضرب قوات المعارضة في حلب وأريافها، ونجحت مع الطائرات العسكرية السورية قبل أيام في ضرب معظم المشافي المتبقية في المدينة المحاصرة في ظل صمت دولي وأميركي أظهر إلى حدّ بعيد عدم الاعتراض الأميركي على هذه العمليات العسكرية. ورغم تلميح وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأن هناك تخوفا لديه من وجود خدعة روسية، في إشارة إلى اتفاق روسي-أميركي سيكشف عنه بعد أيام، إلا أن كيري ربما كان يشير إلى أن الغارات الروسية وإطباق الجيش السوري والحرس الثوري الإيراني الحصار على حلب، يأتيان ضمن هذا الاتفاق، وأن القلق الأميركي يقتصر على بعض العمليات العسكرية لا على أساس استمرارها.

فصائل المعارضة السورية المتمركزة في حلب أكدت أنها لن تسلم المناطق التي تسيطر عليها، بل أكد عضو المكتب السياسي لحركة نورالدين الزنكي ياسر اليوسف لـ”العرب” أنّ “النظام السوري استطاع التقدم عبر طريق الملاح والسيطرة على طريق الكاستيلو بسبب الطبيعة الجغرافية التي سمحت للطيران الروسي بأن يؤمن له غطاء”، مشيرا إلى أنّ “ما يحسبه النظام من نصر هو محدود ومؤقت، ولدينا خطط بديلة سوف نفاجئه بها، كما أنّ كل ما يشاع عن خروج المدنيين والثوار من البلدة غير صحيح، رغم أننا لا نمنع حركة المدنيين ولا نجبرهم على البقاء على خلاف ما يقوم به كل من النظام وداعش”.

وكان وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو قد أعلن قبل أيام، ومع إحكام الحصار على حلب، عن فتح معابر لخروج المدنيين ومعابر خاصة للعسكريين الذين يريدون التسليم. وقد ترافق هذا الإعلان الروسي مع حملة إعلامية قام بها النظام السوري ردت عليها فصائل المعارضة بنفي وجود مثل هذه الممرات، وتكذيب ما قالته وسائل إعلام النظام عن خروج مدنيين وتسليم مجموعات معارضة مسلحة سلاحها للنظام السوري وحلفائه. الناطق الرسمي باسم جيش الإسلام إسلام علوش علق على الاقتراح الروسي بالقول “نحن نفهم هذه الدعوة على أنها مشروع لتهجير سكان حلب من مدينتهم على مرأى ومسمع العالم ومنظمات حقوق الإنسان”.

وأضاف في اتصال مع “العرب”، “نحن ندعم دعوة الأمم المتحدة الممثلة بطلب ستيفان دي ميستورا لضرورة السماح للمدنيين الذين لا يريدون الخروج من منازلهم بالبقاء وحمايتهم وعدم التعرض لهم”. كما أكدّ علوش أنّ “الوضع في حلب سيء للغاية إذ تم إطبـاق الحصار على المدينة من قبل عصابات الأسد والعصابات الطائفية المساندة لها والمدعومة من سلاح الجو الروسي، ولكـن رغم كل ذلك فالتشكيلات العسكرية في حلب تبذل قصارى جهدها في سبيل التصدي لهذه الحملة العنيفة رغم تواضع الإمكانات وشح الموارد بالمقارنة مع الطرف الآخر وفي ظل وجود قوة عظمى تقاتل بكل إمكاناتها مع عصابة الأسد”.

ورغم الشكوى من ندرة المساعدات العسكرية لدى فصائل المعارضة واستمرار التضييق من قبل واشنطن عليها وانكفاء الدول العربية عن خوض معركة دعم المعارضة والانكفاء التركي نحو الداخل، فإن ذلك كله لم يمنع هذه الفصائل من استعادة زمام المبادرة على الأرض. وقد أثبتت قدرة على ردّ هجوم النظام وحلفائه ونجحت في استعادة بعض المناطق التي خسرتها خلال الأسبوعين الماضيين.

وفي المقابل تتحدث أوساط دبلوماسية غربية في بيروت، عن أن روسيا وإيران ستسعيان خلال الأشهر المقبلة إلى فرض وقائع جديدة في الميدان مستفيدتين من عدم اعتراض أميركي جدي على هذا التغيير يضاف إلى ذلك انهماك الأميركيين بالانتخابات الرئاسية خلال الأشهر المقبلة وإلى ما بعـد انتخاب الرئيس الجـديد بأشهر. فالوقائع الجديدة هي التي ستتعامل معها الإدارة الأميركية الجديدة والتي لن تخرج عن استراتيجية إنجاز تسوية في سوريا ولكن لن تتجاوز موازين القوى على الأرض.

وهي معركة تجميع أوراق قبل الشروع في الحل، والحل لن يكون في عهد الإدارة الأميركية الحالية، كما لن تجرؤ إدارة أوباما على خوض مغامرة التشويش على حملة مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، بحيث تشهد سوريا انقلابا في موازين القوى لصالح روسيا وإيران. ذلك أن حصول هذا التطور سيعني، بالضرورة، القضاء على فرص كلينتون بالرئاسة وتعبيد الطريق أمام وصول مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

الميزان الأميركي الذي ساهم، إلى حد بعيد، في إطلاق يد روسيا وإيران في سوريا، ولجم الدور التركي كما الدور السعودي عبر تقنين قاس للمساعدات العسكرية باتجاه المعارضة السورية، لا يعتقد الكثير من المراقبين أنه مؤشر على إعادة إنتاج النظام السوري نفسه في أي صيغة مقبلة. ولعل موقف جبهة النصرة الأخير بالإعلان عن انفصالها عن تنظيم القاعدة، يعطي إشارة على أن الإدارة الأميركية يمكن أن تتعامل مع هذا الوجود باعتباره غير إرهابي، من دون أن ننسى أن الموقف الأميركي من قرار جبهة النصرة لم يتغير، لكنه بدا أكثر استعدادا للنظر في الأعمال لا الأقوال.

الكرّ والفرّ في الميدان السوري يترافقان مع تبلور ثلاث كتل أساسية بعد إنهاء تنظيم داعش: كتلة النظام السوري وما يمثله على مستوى الأقليات الدينية، وكتلة كردية، وكتلة سنية يمكن أن تتضمن التيارات الإسلامية وجبهة النصرة في صلبها.

وهذه الكتل الأساسية هي التي تمتلك الامتداد الإقليمي والدولي، وهي ستخوض معارك إثبات حضور وقدرة على السيطرة إلى أن يحين موعد التسوية الذي لن يكون قبل عام على الأقل. ولكن يجب ألا ننسى أخبار فك الحصار عن حلب التي تواترت في الساعات الأخيرة، عن مقاومة سورية ضد هجمات الروس وكتائب الأسد وحزب الله. ذلك أن تطورات الميدان قادرة على تغيير القواعد كلها.

كاتب لبناني

العرب

 

 

وقتل هولاكو في حلب أكثر من بغداد../ محمود الزيباوي

عاش العالم الإسلامي بين منتصف القرن العاشر ومنتصف القرن الثالث عشر سلسلة من التحولات العاصفة أدت إلى نهاية الخلافة العباسية على يد المغول. شهد الكثير من المؤرخين هذه الحوادث، وسجّلوا في مؤلفاتهم مختلف فصولها ومنهم غريغوريوس أبو الفرج الملطي المعروف بابن العبري، نسبة إلى قرية عبرا على الفرات. في “تاريخ مختصر الدول”، استعاد ابن العبري تاريخ الخلافة العباسية وسقوطها، ونقل وقائع حصار حلب وصراع القوى المتصارعة على حكمها في السنوات التي تلت سقوط بغداد.

دخل الإسلام حلب ايام خالد بن الوليد، ثم أضحت المدينة حصنا من حصون الدولة الأموية ومن بعدها العباسية، وتحوّلت إلى عاصمة للدولة الحمدانية في عام 944. سيطر عليها الأيوبيون عام 1183، وحكمها الملك الناصر يوسف بن محمد ابن الظاهر غازي ابن الناصر صلاح الدين، آخر ملوك بني أيوب. أضاف الملك الناصر إلى دولة حلب بلاد الجزيرة وحران والرها والرقة ورأس عين وحمص، وخضع له صاحب الموصل وماردين، وسعى إلى التمدّد، فدخل مصر، ثم انهزم بعد أن صدّه عسكرها، فعاد إلى الشام، وكان ذلك في منتصف القرن الثالث عشر. بحسب رواية ابن العبري: “لمّا استولى المماليك على الديار المصرية، سار الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق، فسلمها إليه أهلها فملكها وأقام بها وصارت دار مملكته. ثم راسله بعض المماليك من مصر ليسير إليهم فيسلموا له مصر، فعبّى عسكره وسار إلى نحو الديار المصرية ليملكها كما ملك دمشق. فلما بلغ أمراء الترك ذلك، بادروا إليه في عساكرهم والتقوا الشاميين بناحية غزة وكسروهم وهزموهم، فعاد الملك الناصر ومن معه خائباً خاسراً”.

حدث ذلك في زمن تحولت فيه الإمبراطورية العباسية إلى مجموعة دويلات متناحرة يحاصرها الفرنجة غرباً والتتر شرقاً، حتى بدت الخلافة العباسية وكأنها محصورة في بغداد. تقدم هولاكو نحو العراق في عهد الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وقضى على الخلافة العباسية في بغداد سنة 1258ـ، ثم شرع في الاستعداد لاجتياح بلاد الشام ومصر. “توجه الأشرف صاحب ميافارقين (شمال شرق دير بكر) إلى الملك الناصر صاحب حلب يطلب منه النجدة ليمنع المغول من الدخول إلى الشام، فاستخفّ برأيه ولم يسمع مشورته”. حاصر المغول المدينة،  وحفروا خندقاً عميقاً، ثم نصبوا المناجق، وابتدأوا بالقتال، ولما أدركوا أنهم غير قادرين على أخذ المدينة، “أبطلوا القتال وحاصروها ومنعوا الناس من الدخول إليها والخروج عنها”. وجّه هولاكو رسالة ترهيب طويلة إلى الملك الناصر يدعوه فيها إلى الاستسلام، وذكّره بما آلت إليه الأمور ببغداد، وقال: “فليكن لكم في ما مضى معتبر، وبما ذكرناه وقلناه مزدجر. اتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أموركم قبل أن ينكشف الغطا، ويحل عليكم الخطا. فنحن لا نرحم من شكا، ولا نرق لمن بكا، قد أخربنا البلاد، وأفنينا العباد، وأيتمنا الأولاد، وتركنا في الأرض الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من سهامنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وعقولنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فمن طلب منا الأمان سلم. ومن طلب الحرب ندم. فإن أنتم أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا. وإن أنتم خالفتم أمرنا وفي غيكم تماديتم فلا تلومونا ولوموا أنفسكم. فالله عليكم يا ظالمين فهيئوا للبلايا جلباباً، وللرزايا أتراباً، فقد أعذر من أنذر. وأنصف من حذر”.

طلب هولاكو من صاحب حلب أن يحضر عنده،  فبقي “متحيراً خائفاً مذعوراً ولم يدر ما يصنع”، وبعث إليه بابنه الملك العزيز حاملا الأموال الهدايا الكثيرة. وعاد الإبن إلى أبيه حاملا رسالة من “ملك الأرض” تقول: “نحن للملك الناصر طلبنا لا لولده، فالآن إن كان قلبه صحيحاً معنا يجيء إلينا، وإلا فنحن نمشي إليه”. فهلع الملك الناصر، وبقي متردّدا في رأيه. مضى هولاكو في تحقيق هدفه، “ونزل بنفسه على حران وتسلمها بالأمان وكذلك الرها،  ولم يدن لأحدٍ فيهما سوء، وأما أهل سروج فإنهم أهملوا أمر المغول فقُتلوا عن أقصاهم”. تقدّم هولاكو، ونصب جسراً على الفرات قريباً من مدينة ملطية وآخر عند قلعة الروم، فعبر عسكره، وبلغ منبج حيث قام بـ”مقتلة عظيمة”، ثم توزّع على القلاع والمدن. واصل المغول تقدّمهم، وخربوا المعرة، ودخلوا حماه وحمص بالأمان، “فلما بلغ ذلك الملك الناصر أخذ أولاده ونساءه وجميع ما يعز عليه، وتوجّه منهزماً إلى برية الكرك والشوبك. وعندما وصل المغول إلى دمشق، خرج أعيانها إليهم وسلّموها لهم بالأمان، ولم يلحق بأحد منهم أذىً”. نزل هولاكو بنفسه على حلب، ونصب المناجق، وبدأ بالزحف عليها، وفي ايام قليلة ملكها، “وقتل فيها أكثر من الذي قتل ببغداد”، ثم استولى على قلعتها “في أسرع ما يكون وقتاً”.

بعدما أحكم سيطرته على حلب، توجّه “ملك الأرض” إلى قلعة الحارم في نواحي انطاكية، وطلب من أهلها أن يسلّموها له مقابل الأمان، فاشترطوا عليه أن يأتي بوالي قلعة حلب فخر الدين كشاهد على كلامه، “فتقدم هولاكو إليه، فدخل إليهم وحلف لهم على جميع ما يريدون، فحينئذٍ فتحوا الأبواب، وتسّلم المغول القلعة. ثم أن هولاكو تقدم بقتل فخر الدين الوالي أولاً، ثم بقتل جميع من كان في القلعة من الصغار والكبار، الرجال منهم والنساء، حتى الطفل الصغير في المهد. ورحل من هناك عائداً إلى البلاد الشرقية. ورتب في الشام أميراً كبيراً يسمى كتبوغا ومعه عشرة آلاف فارس من العسكر”. لاحق العسكر الملك الناصر المنهزم، وقبضوا عليه، “وساروا به إلى هولاكو، ولما مثل بين يديه فرح به ووعده بكل خير”. سارع السلطان المملوكي الملك المظفر سيف الدين قطز صاحب الديار المصرية إلى وقف هذا الزحف، وحشد جنده للمواجهة، وانتصر في معرك عين جالوت في رمضان 1260، واستعاد دمشق بعد بضع ايام، وحلب بعدها بشهر، “فغضب هولاكو لذلك، وتقدّم بقتل الملك الناصر، وقتل أخيه الملك الظاهر وجميع من معهم”.

بعد هذه المحن الرهيبة، استقلّت حلب عن الدولة المملوكية المركزية في عهد الملك الظاهر بيبرس، وعاد المغول لمهاجمتها من جديد في عام 1271، فتصدى لهم بيبرس، وعادوا إلى المدينة في 1280، ودمّروها، وهرب سكانها نحو دمشق. واجه القائد سيف الدين المملوكي هذا الغزو، وتقدّم نحو حلب مع جحافل جنوده، فتراجع المغول إلى ما بعد نهر الفرات. إثر هذه المعركة، عرفت حلب شيئا من الاستقرار حتى نهاية القرن الرابع عشر، ثم خربت من جديد على يد تيمورلنك، وسطع نجمها من جديد يوم تحولت لمركز ولاية وعاصمة لسوريا في ظل العهد العثماني الأول.

المدن

 

 

 

الموقف الأميركي بعد رسائل النصرة ومعركة حلب/ سلام السعدي

تزداد العقبات في طريق المفاوضات الأميركية – الروسية المتعلقة بالتوصل إلى توافق على خطة عسكرية لاستهداف جبهة النصرة في سوريا؛ فالمفاوضات التي تعثرت بسبب تعنت الجانب الروسي ورفض تقديم تنازلات سياسية، واجهت عقبات جديدة بإعلان جبهة النصرة فك ارتباطها بتنظيم القاعدة من جهة، وإطلاق الفصائل العسكرية في مدينة حلب ومن بينها جبهة فتح الشام، النصرة سابقاً، معركة “الملحمة الكبرى” لفك الحصار عن المدينة، من جهة أخرى.

يبدو بديهيا أن فك ارتباط جبهة النصرة بصورة اسمية مع تنظيم القاعدة لا يجعل منها منظمة معتدلة بالنسبة للولايات المتحدة. في واقع الأمر خطاب زعيم التنظيم أبومحمد الجولاني لم يترك مجالا، ولو بسيطاً، لتأويل الخطوة التي اتخذها على أنها فك ارتباط تنظيمي وأيديولوجي، وخصوصاً بعد المديح الذي كاله لأيمن الظواهري وأسامة بن لادن. وهو ما استدعى ردا أميركيا سريعاً بإعلان عزمها استهداف “جبهة فتح الشام”، وبأن خططها مع روسيا لن تتأثر بتغيير اسم جبهة النصرة.

ولكن خطاب زعيم النصرة يبقى محكوما باللحظة الحاسمة وشديدة الإحراج والمتمثلة في إعلان الانفصال عن تنظيم القاعدة، بكل ما يعنيه ذلك من خضوع للأمر الواقع، الدولي والمحلي، ووضوح الرغبة في التنصل من أعباء تنظيم إرهابي لا يمكن حصر قائمة خصومه لا دوليّا ولا إقليميا. ما ينبغي مراقبته هو سلوك جبهة النصرة بعد خطاب الجولاني، إذ يبدو أنها تتجه نحو سياسة جديدة، لا تستهدف التحول إلى “تنظيم معتدل”، وإنما الخروج فحسب من لوائح الإرهاب كما هو حال بقية الكتائب السلفية في سوريا.

جرى الحديث خلال الأيام الماضية عن أن خطوة جبهة النصرة الجديدة تسببت في انشقاق عدد من قياداتها فضلاً عن المئات من الجنود لديها. تراقب أجهزة الاستخبارات الأميركية التحولات التي تجري حالياً داخل جبهة النصرة وسيحرص التنظيم على إظهار تلك التحولات وخصوصاً ما يظهر منها حقيقة انفصاله عن القاعدة. كما دفعت جبهة النصرة بمتحدث إعلامي ليتحدث باللغة الإنكليزية إلى قناة “سي أن أن” الأميركية، وليقول علناً إن التنظيم الجديد لا يتلقى التعليمات من أي جهة خارجية، وأن نطاق عمله محصورٌ في سوريا. هي رسائل موجهة لأميركا تحديداً بعد أن أعلنت النصرة أن الهدف الرئيسي لفك الارتباط هو “سحب الذرائع”، ما يعني أنها تراهن على أن تنجح سياستها الجديدة في إيقاف العمل العسكري الأميركي – الروسي الذي يبدو حتمياً، أو أن تزيد من احتمالات فشله في حال تم إطلاقه.

وبقدر ما كانت خطوة فك الارتباط موجهة للجانب الأميركي، كانت -أيضا- موجهة لجنود جبهة النصرة و للداخل السوري بمدنييه وفصائله العسكرية. بالنسبة إلى مقاتلي النصرة، سوف تزيد تلك الخطوة من ارتباطهم بالتنظيم وخصوصا أن العدد الأكبر منهم سوريون هدفهم قتال النظام السوري حصراً ولا يقاتلون معها باعتبارها فرعاً من تنظيم القاعدة. لن تحافظ النصرة على مقاتليها فحسب، بل ستتيح لها تلك الخطوة رفع وتيرة عمليات تجنيد السوريين. أما بالنسبة إلى الفصائل العسكرية السورية فسيشجعها ذلك على تعاون أكبر مع جبهة فتح الشام وصولاً إلى تأسيس تحالفات عسكرية وسياسية. وأخيراً فإن الخطوة سوف تزيل الحرج عن الدول الإقليمية الداعمة، من دون أن تدعم النصرة بالضرورة، ولكن يرجح أن تزيد دعمها للائتلافات العسكرية التي ستكون النصرة جزءًا منها.

وقد برزت انعكاسات الخطوة من حيث العلاقة الأوثق مع المعارضة السورية وزيادة الدعم الإقليمي من خلال إطلاق معركة حلب. اندفعت النصرة نحو المعركة بكل قوتها في ما يمكن أن يفسر على أنه رسالة موجهة للولايات المتحدة تؤكد على أن فك الارتباط بتنظيم القاعدة قابله تعزيز الارتباط بفصائل الثورة السورية، وأن الارتباط الأخير لم يعد بالإمكان فصم عراه. وليس سراً أن أميركا تراهن على، وتطلب، فك ارتباط فصائل الثورة السورية بجبهة النصرة إذ يعتبر ذلك أحد أهم نقاط الارتكاز التي تقوم عليها الخطة العسكرية المنتظرة مع روسيا.

تمارس جبهة النصرة السياسة على مستوى متقدم لأول مرة بمحاولتها وضع أكبر قدر من العراقيل أمام اتفاق روسي – أميركي على ضربها، ولا يمكن استبعاد أن تتمكن من إفشال ذلك الاتفاق أو إضعاف إمكانية تنفيذه بعد إعلانه، وخصوصاً أن الاتفاق يعاني أساساً من إشكالات ويواجه انتقادات حادة داخل البيت الأبيض حتى من قبل وزير الدفاع. ومن المرجح أن تزداد حدة تلك الانتقادات إذ تبدو الخطوة الأميركية عدمية بالمعنى السياسي، خاصة أنها ستضعف معسكر الثورة السورية على العموم وهو ما سيزيد من تعنت الأسد المتعنت أصلا والذي يمنع أي تقدم سياسي.

وأخيرا، فإن اندفاع جبهة النصرة لخوض معركة كبرى تهدف إلى فك الحصار عن 300 ألف مدني سوف يزيد من الموقف المحرج الذي تقبع فيه الإدارة الأميركية. تشاهد الأمم المتحدة والعالم أجمع بسلبية مذهلة هذا المستوى المرعب من إبادة المدنيين في سوريا وحصار ما يناهز مليونَيْ إنسان يفتك بهم الجوع في مشهد ينتمي إلى القرون الوسطى. ويا لها من مفاجأة ومفارقة أيضاً، أن تقوم القوى الإسلامية شديدة التطرف والموسومة بالإرهاب، وعلى رأسها جبهة النصرة سابقاً، بوضع مهمة تحرير المدنيين على رأس أولوياتها، فيما تهاجمهم الولايات المتحدة مساهمة في تأبيد حالة الموت والحصار في سوريا.

كاتب فلسطيني سوري

العرب

 

 

 

 

أميركا تؤفغن حلب ؟/ راجح الخوري

ليس مهماً ما تقوله واشنطن عن اسقاط عبوات من غاز الكلور السام على مدينة سراقب بعد ساعات من اسقاط المعارضة السورية طائرة هليكوبتر روسية من طراز “MI – 30″، المهم ما لم تقلّه موسكو عن هذه العملية، التي قد تشكل بداية انعطاف في الحوار الأميركي – الروسي حول الأزمة السورية، يمكن ان تكون له نتائج حاسمة في مسار الحرب السورية المتمادية منذ خمسة أعوام!

وزارة الخارجية الأميركية تقول انه اذا صحت التقارير عن قصف سراقب بغاز الكلور ستكون “العواقب خطيرة”. ولكن في وسع فلاديمير بوتين وبشار الأسد ان يستلقيا من الضحك على هذه العواقب، قياساً بكل ما سبق باراك أوباما أن قاله في 21 آب من عام 2013 عن توجيه ضربة تأديبية الى الاسد، بعد قصفه الغوطتين بما هو أشد خطراً ووحشية من غاز الكلور اي غاز “CS3” الذي قتل مئات السوريين، لكن أوباما لحس تهديده عندما أوقعه بوتين في حبائل خطة ملغومة تقضي بتخلي الأسد عن ترسانته من الأسلحة الكيميائية!

فعلاً المهم ما لم تقله روسيا عن قصف سراقب بالغاز حيث أُسقطت الهليكوبتر، فاذا كانت هي من استعمل الغاز المحرم دولياً فتلك مصيبة، واذا كان النظام هو الذي قام بذلك من دون علمها فالمصيبة أعظم، لكن الواضح ان عملية القصف جاءت رداً فورياً على اسقاط الطوافة الروسية، ولهذا لا يمكن ان يكون الرد جاء دون معرفة الطرفين.

استعمال هذا النوع من الأسلحة المحرمة جريمة فظيعة، لكن المخيف ان يتكشف الحادث عما هو أخطر، وخصوصاً عندما تنشر وكالة “رويترز” تقريراً عن ان الطائرة أُسقطت بصواريخ أميركية وصلت أخيراً الى المعارضة السورية، في حين قالت قناة “روسيا اليوم” انها أُسقطت باستعمال أنظمة مضادة متنقلة وهو ما قد يعني صواريخ “ستينغر” الأميركية المحمولة على الكتف!

الحديث عن أزمة ديبلوماسية بين واشنطن وموسكو، تؤدي الى نسف المساعي التي بُذلت أخيراً للتوصل الى اتفاق مشترك للتعاون توصلاً الى حل سياسي في سوريا، ليس مهماً كثيراً وان يكن سيضع الفخاخ سلفاً تحت مؤتمر “جنيف – ٣”، فالأهم ألا تكون واشنطن متجهة الى أفغنة الحرب في سوريا، عبر تحييد سلاح الجو الروسي وطيران النظام، بما يعني أنها قررت انهاء امتهان بوتين لهيبتها في سوريا والمنطقة كلها!

في ٢٠ نيسان نشرت مجلة “Foreign Policy” تقريراً عن تلميح مسؤولين أميركيين الى الاستعداد لتزويد “المعارضة المؤتمنة” منظومات دفاع جوي محمولة على الكتف، وقيل ان وكالة الاستخبارات المركزية أنشأت سراً برنامجاً لهذا الغرض، واذا صح هذا نكون أمام تحوّل جديد في مسار الحرب السورية يفرمل التحوّل الذي أحدثه التدخل الروسي في أيلول من العام الماضي!

النهار

 

 

 

 

 

لماذا ممنوع أن تسقط حلب؟/ محمد قواص

ليست معركة حلب معركة سورية يسمح للسوريين المتصارعين البت في مآلاتها. فمصير المدينة يحدد مصير البلد، والسيطرة عليها من قبل النظام أو المعارضة تلقي بظلال حاسمة في أي تسوية مقبلة. وفي الهجوم الذي شنّته قوات النظام والميليشيات الشيعية الحليفة بغطاء جوي روسي لإسقاط المدينة، وفي ذلك المضاد الذي باشرته المعارضة لقلب الطاولة ومنع ذلك، ما يفيد أن الأوان لم يحنْ بعد لأي طرف كان أن يحسم معركة حلب، وبالتالي أن يحسم معركة سوريا.

لم يأت الهجوم الدمشقي الإيراني الروسي على المدينة خارج السياقات الدولية أو معاندا لها. أعطي الضوء الأخضر للهجوم بعد ساعات من مغادرة وزير الخارجية الأميركي جون كيري لموسكو. قال الرجل إن المداولات مستمرة مع الطرف الروسي حول سيناريو التنسيق العسكري بين الطرفين لضرب تنظيميْ داعش والنصرة، فيما سرّبت موسكو ما مفاده أن الاتفاق لن يكشف عنه، بما أوحى أن معركة حلب هي في صلب الصفقة العتيدة.

لم تكن واشنطن وموسكو الوحيدتين في التواطؤ. كان يجب على كل الجوقة الغربية أن تدلي بدلوها مواكبة للحدث الحلبي. حمل كيري الاتفاق السري إلى نظرائه الأوروبيين متصاحباً مع ضجيج أوروبي بدّل رأي بوريس جونسون وزير خارجية لندن الذي أفاق على اعتبار بشار الأسد المشكلة بعد أن اعتبره قبل ذلك حلا. عزف الأوروبيون جميعا معزوفة واحدة ضد رأس السلطة في دمشق، على ما اعتبر رعاية أخلاقية نظرية منافقة لما ينتظر حلب.

كان بالإمكان استنتاج أن معركة حلب مطلوبة لموسكو لتحسين شروط التفاوض في جنيف، وليست لحسم الصراع في سوريا. وعلى قاعدة ذلك كان مسموحا دوليا العبور إلى تلك الحقيقة الجديدة المتوخاة، طالما أنها ليست مفصلاً لقلب التوازنات نهائيا. ليس في الأمر عبقرية استثنائية، ذلك أن مصير سوريا النهائي يقرره توازن قوى دولي إقليمي لا يبدو أبدا أنه بات مرجحا لتفوّق روسي، ناهيك عن أن القوى العسكرية المساندة للنظام عجزت منذ بداية الأزمة عام 2011، وما زالت عاجزة على حسم الصراع عسكرياً لصالح نظام الأسد في دمشق. تعرف موسكو حدود المعركة في حلب والحدّ الأقصى المتاح، وهو أمر، على ما يبدو، لا يروق لنظام دمشق ونظام الولي الفقيه في طهران.

حققت قوات النظام وحلفاؤها التقدم اللافت في حلب لسببين واضحين: الأول، قوة المهاجمين وكثافة نيرانهم وتناسق هجماتهم وتوافق قوى الأرض (السورية الإيرانية) مع قوى الجو (الروسية) التي لم تغب هذه المرة. الثاني، هو امتناع فصائل كبرى عن الدفاع وإعلانها عن ذلك لأسباب تتعلق ربما بحسابات تركيا في مداولاتها الحالية مع روسيا عشية زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان المرتقبة إلى موسكو. وفي دقة ذلك العزف الذي لا يتحمل نشازا، قرعت دمشق طبول النصر وأعلنت موسكو عن فتح ممرات إنسانية فُهم منها طموح لتفريغ مناطق المعارضة في حلب تمهيدا للانقضاض التام والكامل على المدينة.

انزعجت واشنطن وعواصم أوروبية مشككة بممرات موسكو لإخراج المدنيين والعسكريين مـن النصف الثاني للمـدينة الذي لم يسقط. وقد يفهم من ذلك الانزعاج أن من ابتلع النهر غص بالساقية، وقد يُفهم أيضـا أن تفاصيل الميـدان الحلبي قـد اخترقت خطوطا حمراء لم تَرْقَ إليها تفاهمات كيري في موسكو. بقيت أنقرة صامتة إزاء التطورات في سوريا وهي مازالت كذلك، مشغولة تصب جهدها المعلن على تداعيات محاولة الانقلاب. لكن أنقرة التي اهتز نظامها منذ ليلة الانقلاب الفاشل تسعى دون ضجيج إلى الاحتفاظ بأوراق القوة لديها.

سبق لأنقرة أن اعتبرت أن حلب جزء من فضائها الأمني الاستراتيجي، وبالتالي فإن سقوط المدينة سقوط لهذا الأمن. تأخذ تركيا منذ المصالحة مع روسيا مصالح وأجندات موسكو في سوريا بعين الاعتبار، لكنها غير جاهزة للتخلي عن أوراقها السورية مجانا كرامة لتقدم في علاقاتها المأمولة مع روسيا والتي قد تفرج عنها زيارة سلطان أنقرة لقيصر موسكو. وربما في الهجوم المضاد الذي شنته المعـارضة السورية في حلب تذكير لمن يهمه الأمر بمواطن القوة المريحة التي تمتلكها تـركيا، والتي لن تفرّط فيها دون شراكة حقيقية كاملة في المآلات السورية.

لا تسمح واشنطـن بتحقيق تسـوية ناجزة في سوريا في الأشهر الأخيرة لإدارة الرئيس بـاراك أوباما، ولا تمتلك النيـة والعزم والقدرة، لكنها غير معنية في هذا البلد إلا بـإسقاط الرقّة وطـرد داعش وبتجميد الملف لتسليمه معلّقا إلى الخلف في البيت الأبيض. لا تسمح واشنطن بأرجحية تثبت تفوّقا روسياً يخدم أجندة طهران الإقليمية. لا شيء في شكل العلاقة بين الغرب وإيران بعد التوقيع على الاتفاق النووي يتيح تسليما بالأوراق الإيرانية في المنطقة عامة، وسوريا خاصة. قد يتوافق المزاجان؛ الأميركي والتركي، في التفصيل الحلبي، وليس بريئا أن يتزامن الهجوم المضاد للمعارضة (تركي الهوى) مع زيارة قام بها رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركي الجنرال جوزيف دانفورد إلى تركيا، وهو ما يعيد تعريف العلاقة بين أنقرة وواشنطن، والتي يبالغ البعض في استشراف انهيارها، مقابل تنام غير طبيعي لعلاقة أنقرة بموسكو.

سيطل الرئيس التركي على روسيا، خلال أيام، بعد اعتذاره عن سقوط طائرة السوخوي، وربما أسفه لسقوط طائرة الهليكوبتر التي كـانت تقوم بـ“مهام إنسانية” حسب الرواية الروسية الرسمية والتي أسقطها سلاح أميركي وفق البعض من التقارير. ولا شك أن سيّد الكرملين أصبح مدركا لعدم قدرة تركيا على قلب نظام الحكم في سوريا، وأصبح مدركا أيضا لقدرة تركيا، مع ذلك، على تعطيل طموحات روسيا وجنرالاتها في سوريا. يثمّن أردوغان موقف الأسد في إدانته لمحاولة الانقلاب بتركيا. ليس في ذلك أي حركة ودّ تجاه الأسد، بل تعبير تركيا لروسيا عن مواهب المرونة التي تتحلى بها تركيا وقدرة نظامها السياسي على تدوير أي زوايا تتطلبها الرسوم الهندسية المطلوبة. شروط ذلك بسيطة: أن تعترف روسيا لتركيا بشراكة حتمية إذا ما أرادت لفلاحتها السورية أن تنتج ثمراً قابلاً للقطاف يوما ما.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

العرب

 

 

 

محورية معركة حلب وانعكاساتها على الحل السياسي/ ربى كبّارة

مجددا تتخذ معارك حلب طابعا محوريا اذ من المتوقع ان يحدد مآلها مسار الامور في سوريا، اما تقدما باتجاه العملية السياسية، او تواصلا للنزاع في المدى المنظور، مترافقا مع انكفاء في دور الولايات المتحدة يحرمها حتى من مجرد التصعيد اللفظي الذي ما زالت تواجه به عبثا التطلعات الروسية.

تنبع اهمية حلب خصوصا من كونها معقل المعارضة المعتدلة ومن موقعها المحاذي للحدود التركية. فنجاح النظام باستعادتها مدعوما بثقل الغارات الروسية، او مجرد نجاح المعارضة بكسر الحصار، يساهم في تقوية موقف الطرف الرابح على طاولة التفاوض، عندما يتحدد موعدها الفعلي في جنيف، بنظر سياسي لبناني متابع بدقة للتطورات على هذه الجبهة. وهو يذكر بتشديد المتحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية حسين جابر الانصاري مؤخرا امام المبعوث الدولي الى سوريا ستيفان دي ميستورا على ضرورة ان يأخذ الحل السياسي بالاعتبار «الحقائق الميدانية».

 

فمع نجاح النظام بقطع طريق الامداد للثوار عبر معبر الكاستيللو في 17 الشهر الماضي اشارت صحيفة «كوميرسانت» الروسية مثلا الى ان استعادة حلب تشكل «نقطة انعطاف في الحرب تعني انتصارا نهائيا للاسد». فيما اظهر ردّ المعارضة وتقدمها في الجنوب الغربي ان بامكان الفصائل ان تتوحد، وان تركيا عمليا لم تنكفئ الى الداخل بعد الانقلاب الفاشل« وإلا لما كانت المعارضة تنجح في هجماتها وخصوصا ان طرق الامداد تمر حاليا حصرا عبر حدودها.

وقد استبقت الولايات المتحدة لقاء الرئيس التركي رجب طيب اردوغان المقرر بنظيره الروسي فلاديمير بوتين بعد ايام قليلة وارسلت له رئيس اركان جيوشها الجنرال جوزف دانفورد رغم تلميحات انقرة الى تورط واشنطن بشكل ما في الانقلاب الفاشل وتمنّعها حتى الآن عن تسليم فتح الله غولن المقيم عندها والمتهم بالتخطيط للانقلاب.

ويتساءل المصدر ما اذا كان التقارب بين اردوغان وبوتين سيؤدي «الى توسع حقل التفاهم السياسي بينهما بما يعطي تركيا دوراً أكبر في سوريا»، لافتا الى ان ذلك في حال تحققه «يفتح امام تركيا الباب لتلعب دورا منعها الغرب عنه» خصوصا الولايات المتحدة التي لجمت مرارا الاندفاعة التركية بذريعة عدم التفرد باعتبارها عضوا في الحلف الاطلسي.

ومع انكفاء الولايات المتحدة، رغم تصعيدها الاعلامي الذي لم ينجح مرة في فرض فعلي لوقف اطلاق النار منذ التوافق عليه في شباط الماضي في جنيف، لا يستبعد المصدر ان يكون الهدف من تكبير دور روسيا في اطار التفاهم الروسي – الاميركي الذي انجز منتصف الشهر الماضي من دون ان تتوفر معلومات واضحة عن مضمونه «التوصل الى توازن في الميدان يمهد للحل السياسي«.

فثمة تحليلات سابقة عن تعارض بين روسيا من جهة وايران والنظام الاسدي من جهة اخرى بشأن حلب، اذ يرى الطرف الاول وجوب الاكتفاء بمحاصرتها فيما يريد الطرف الثاني اقتحامها وضمها الى سيطرته. لكن الوقائع الميدانية تدل على خلاف ذلك. فكثافة غارات المقاتلات الروسية مفهومة اذ ساهمت الى حد كبير في نجاح القوات النظامية باحكام الحصار على معاقل الثوار، ولكن ماذا عن تدخلها بوحشية اكبر في مواجهة هجمات المعارضة التي نجحت، الى حد ما، في تحقيق خروق؟

كما وان مبادرة روسيا، بعد احكام الحصار على حلب، الى فتح «ممرات انسانية» للمدنيين والمقاتلين بالتزامن مع اعلان الاسد استعداده للعفو عن كل من حمل السلاح يؤدي، وفق المعارضة، الى افراغ المدينة من مئات الآلاف. وقد قوبلت المبادرة الروسية بتشكيك غربي ومن قبل الامم المتحدة، الى حدّ ان وزير الخارجية الاميركي جون كيري اعرب عن خشيته من ان تكون «مجرد خدعة» وتحذيره من ان اثبات ذلك «سيوقف كل اشكال التعاون التي تحددت في تفاهمات موسكو».

المستقبل

 

 

 

بوتين وغروزني السورية!/ راجح الخوري

قبل ان يقرأ أعضاء مجلس الأمن رسالة بشار الجعفري التي هدفت الى الإيحاء بأن النظام انتصر في حلب وأنه يتصرف بمسؤولية عبر “الممرات الإنسانية” التي سيتعاون مع الروس في فتحها، كانت واشنطن تتحدث عن خديعة روسية، هدفها تفريغ حلب تمهيداً لاقتحامها وفق سيناريو سبق لموسكو ان طبقته في غوديرميس في تشرين الثاني من عام ١٩٩٩ تمهيداً لتدمير غروزني الشيشانية!

إستحضار سيناريو غروزني جاء على لسان أحد المعلقين الروس، ربما لأن العقل المدبر لما يجري في حلب هو روسي بالتأكيد، على رغم ان سيرغي ريباكوف ينفي هذا متهماً الأميركيين بأنهم ينسبون الى موسكو أفكاراً وإتهامات غير واقعية تستند الى الشبهات والآراء المسبقة.

لكن ستافان دو ميستورا يطرح سؤالاً وجيهاً رداً على “حيلة الممرات الإنسانية” كما سمّاها جون كيري، عندما يقول: وكيف سيخرج آلاف الناس من الأحياء التي حاصرها النظام منذ اسبوعين، تحت وابل من القصف الذي لا يتوقف، ثم ان أي عملية لفتح مثل هذه الممرات يفترض ان تتم في إشراف الأمم المتحدة؟

لكن المفاجأة في حلب جاءت على طريقة إنتظرناهم في الشرق فجاؤونا من الغرب، عندما شنت قوات المعارضة مع “جبهة النصرة” التي غيرت إسمها، هجوماً معاكساً وإستولت على مواقع مهمة كانت تحت سيطرة النظام وحلفائه، ما قد يمكنها اذا إستمرت في التقدم من تهديد سيطرة النظام على الأحياء الغربية من المدينة، بما يقلب الواقع الميداني رأساً على عقب!

ليست هناك أي مغالاة في إستحضار سيناريو غروزني التي دمرها الروس كلياً في كانون الاول من عام ١٩٩٩، ولقد برز السؤال منذ لحظة إحكام الحصار على الأحياء الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة:

اذا لم تكن موسكو والنظام يستعدان لعملية تطهير واسعة في حلب، فلماذا الضغوط لتفريغها من سكانها، وخصوصاً عندما يقول نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريباكوف انه لا يمكن ان تكون هناك مصالحة أو هدنة مع إرهابيين، وإن واشنطن تمارس الخداع السياسي بهدف إتاحة الفرصة للإرهابيين لإعادة تمركزهم وإن لدينا رؤية أخرى مفادها ان محاربتهم يجب ان تتواصل حتى النصر.

مع تغيّر الوضع الميداني في حلب انهارت الصفقة الروسية الأميركية التي تحدثت عنها “الواشنطن بوست”، أي تعاون واشنطن مع موسكو لإستهداف “جبهة النصرة” التي صارت “جفش” أي[جيش فتح الشام] مقابل وقف قصف المدنيين بالبراميل المتفجرة وعدم توجيه الضربات الى المعارضة التي تدعمها واشنطن.

ليس الدليل على هذا إعلان البيت الأبيض ان باراك أوباما لم يوقع هذه الخطة، بل أيضاً الهجوم المعاكس الذي تشنه المعارضة بالتعاون مع “جبهة النصرة”، بما يعني ان الطرفين يدمران حلب على طريقة غروزني!

النهار

 

 

 

حلب تحذّر العالم…الدنيا دولاب/ موناليزا فريحة

عندما هربت يسرى مارديني (18 سنة) مع أختها في آب 2015 من جحيم سوريا وبدأت رحلة شاقة طويلة عبر لبنان وتركيا واليونان والبلقان فأوروبا الشرقية وصولاً إلى المانيا، كانت قد فقدت الثقة بوعود العالم بحل قريب لمأساة بلادها. وعندما كاد يغرق القارب المطاط الذي ركبته مع مواطنين كثيرين لها هربوا من مصير مشؤوم ، في مياه المتوسط بين تركيا واليونان، قفزت مع أختها في البحر وساعدت في إرشاد القارب إلى شاطئ الأمان. يومذاك لم يخطر ببالها أن شجاعتها تلك ستتحول إنجازاً لها ولكثيرين من مواطنيها.

من مخيم للاجئين في المانيا، شقت يسرى، ابنة داريا التي تحدت الموت والاعتقال، طريقها الى الالعاب الاولمبية في الريو حيث تشارك الجمعة في سباق المئة متر.

وعلى خطى هذه الشابة السورية التي انتفضت على واقع مرير وواجهت الموت بشجاعة، تحدى الحلبيون في عطلة نهاية الأسبوع القذائف والصواريخ والبراميل، وخرجوا الى الشوارع يفكون حصاراً فرضته عليهم قوات النظام بمساعدة روسيا وإيران وبتواطؤ العالم أجمع.

أضرم أولاد المدينة النار في دواليب ليربكوا مقاتلات تدك بيوتهم واحياءهم بلا رأفة ولا رحمة. وبستارهم الدخاني، فرض هؤلاء حظراً جوياً تلكأت دول العالم في اعتماده منذ أكثر من خمس سنوات، ونجحوا الى حد كبير في تخفيف الضغط عن مدينتهم التي أحكم النظام وأعوانه الحصار عليها، وسط تهديدات جوفاء فارغة من الحلفاء المفترضين.

كان الأول من آب موعداً لبدء عملية انتقالية سياسية في سوريا، إلا أنه مرَّ كغيره من المواعيد والخطوط الحمر والصفر التي رسمتها واشنطن، فاندثرت العملية تحت براميل النظام وحلفائه. والعواقب التي لوح بها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في أيار الماضي للرئيس السوري بشار الأسد، إذا لم يلتزم الوقف الجديد للنار وخصوصاً في حلب، تبخرت، شأنها شأن سابقاتها. يومها قال كيري حرفياً إن الموعد النهائي للانتقال السياسي هو “الأول من آب ونحن في أيار، لذا إما أن يحصل شيء ما في الشهرين المقبلين، وإما ان يواجهوا مساراً مختلفاً جداً “.

لم يتوقع أحد بالطبع عملاً عسكرياً أميركياً ضد الأسد، لكن تصريحات كيري تلك أوحت بتغيير محتمل من حيث دعم المعارضة السورية، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل. سقطت تهديدات كيري، شأنها شأن الخطوط الحمر للرئيس باراك أوباما، سقوطاً مدوياً. ووحدهم السوريون المصرون على الانعتاق من أسر النظام غيروا “المسار” عشية الاول من آب.

النهار

 

 

 

 

 

حول «المهمة الإنسانية» لروسيا في حلب

رأي القدس

في تعليقها على سقوط مروحيّة لها في بلدة في محافظة إدلب السورية قالت وزارة الدفاع الروسية إن طائرتها العسكرية كانت «تشارك في العملية الإنسانية الجارية في مدينة حلب السورية».

إضافة إلى الطابع «الإنساني» لعمل المروحيّة أضاف الناطق باسم رئاسة الجمهورية الروسية ديمتري بيسكوف طابعاً بطوليّاً على الضابطين والجنود الثلاثة الذين لقوا مصرعهم إثر سقوط الطائرة بقوله إن «الذين كانوا على متن المروحية قتلوا كأبطال لأنهم كانوا يحاولون تغيير وجهة المروحية لتقليل عدد الضحايا على الأرض»!

استكمالاً للمهمة الإنسانية والعمل البطولي الذي أدّاه طاقم الطائرة الروسية هاجمت مروحيّة أخرى البلدة التي أسقطت فيها سابقتها بعد ساعات من الحادث وألقت براميل متوسطة الحجم تحوي عبوات من الغاز السام وكانت النتيجة تعرض ثلاثة وثلاثين شخصاً من سكان سراقب معظمهم من النساء والأطفال لحالات اختناق.

يمثل حدث إسقاط المروحيّة والأفعال والتصريحات التي تبعته نموذجاً تقليدياً للسياسة الروسية التي تعتمد، من جهة، القوّة الباطشة بأسوأ صورها، والدعاية الحربية (البروباغاندا) الفاقدة لأي مصداقية، من جهة أخرى.

تعود هذه المدرسة إلى الفترة السوفييتية التي كانت تجد أتباعاً لها ضمن نخب العالم اليسارية التي كانت تبرّر الجرائم الشنيعة التي تعرّض لها الروس أنفسهم وكذلك الشعوب الواقعة تحت مظلة حكم موسكو خلال فترات التطهير والتهجير القسري للشعوب والاضطهاد الديني والاثني وحملات التصنيع والمزارع الفلاحية الإجبارية.

وكان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان وبعدها الحرب الروسية التي شنّت لإخضاع جمهورية الشيشان وانتهت بمسح عاصمتها غروزني وتعيين حاكم محلّي ينفّذ الأجندة الروسية ضد شعبه أقرب الأحداث التاريخية إلى ذاكرتنا والتي تقدّم الوحشية العسكرية وتبريرها السياسي «الإنسانيّ» و«البطولي» جنباً إلى جنب.

لقد كانت مأساة حلب الحاليّة أحد أشكال ممارسة الأسلوب الروسيّ المشهور باستهانته بحياة البشر وحقوقهم بالترافق مع «البروباغندا» التي تستهين بالعقل والمنطق، فالتحالف الروسيّ مع النظام السوري والميليشيات اللبنانية والعراقية الشيعية تعاون على حرق المشافي واستهداف الأسواق والمخابز والمدارس وخطف المدنيين وقتلهم أو سجنهم ثم ترك أعداد منهم كدليل على وجود «الممرات الآمنة» المزعومة.

لقد كان السيناريو السياسي الروسي الكامن خلف هذه الممارسات يستثمر التواطؤ الأمريكي ضد ثورة الشعب السوري والانشغال التركيّ بلملمة شؤون الجمهورية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة للضغط على المعارضة السورية بحيث تقبل بالعودة للمفاوضات تحت بند إبقاء النظام الحالي ورئيسه بشار الأسد.

المفاجأة التي حصلت، والتي يعدّ إسقاط المروحيّة تفصيلاً صغيراً فيها، أن المعارضة السورية فتحت جبهتي ريفي حلب وحماه الجنوبيين وسيطرت خلال يومين على مناطق واسعة مستهدفة فكّ الحصار عن حلب.

لكن المفاجأة الأكبر كانت ابتكار وسائل جديدة لتحييد الطيران الروسي والسوري وكان المنفذون هم أطفال مدينة حلب الذين قاموا بحرق إطارات السيارات لخلق غطاء أسود يمنع المروحيات والطائرات من تدقيق أهدافها العسكرية، وهو ما أعاد من جديد شرارة العلاقة الحميمة بين المسلحين والحاضنة الشعبية، والتي افتقدتها الثورة السورية مع تزايد العسكرة والتطرّف والإحباط من التخاذل العربيّ والعالمي.

لقد أدخل استخدام الجمهور لـ«سلاح» الإطارات حماساً وتعليقات ربطت بين استخدام النظام لها في التعذيب، والأكراد في عيد النيروز، وأطفال حلب في التشويش على الطيران الروسي والنظاميّ، فاستعادت الثورة جزءاً من ألقها المفقود وتصاعد الأمل لدى السوريين بأن النفق ليس مغلقاً على آخره وأن ضوءاً ينتظر أطفالهم في المستقبل.

القدس العربي

 

 

 

 

سيناريو غروزني يتكرر في سورية/ رائد جبر

«معركة حلب أشبه ما تكون بالحملة في غوديرميس»… جملة عابرة قالها المعلّق الروسي، قبل أن يستدرك أن لكل حرب ظروفها.

ولكن، هل تذكّر حلب فعلاً بالمدينة الشيشانية التي شكّل «تحريرها من الإرهاب» ورفع العلم الروسي فوق أحد مبانيها الحكومية في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 1999، منعطفاً حاسماً في الحرب الشيشانية الثانية؟

ثمة ملابسات تبدو متشابهة على رغم اختلاف الظروف. فمن حيث الأهمية، حظيت المدينة بوضع خاص لأنها قلبت موازين القوى وفتحت الطريق نحو غروزني. لكن الأهم أن السيناريو الذي تعيشه حلب الآن، يكاد أن يكون متطابقاً مع واحد من أكثر فصول الحرب الشيشانية سخونة وتأثيراً في التطورات اللاحقة.

ولا يقتصر الأمر على الحصار المحكم، والقصف المركّز الذي يستهدف أحياء دون غيرها، لإتاحة مجال للتحكُّم بحركة اللجوء وتضييق الخناق على المقاتلين. ففي المرحلة الثانية، يأتي توجيه الرسائل إلى السكان بطرق مختلفة لمغادرة المدينة، وإلى المقاتلين بإلقاء السلاح و «العودة إلى الحياة المدنية» مع وعود بنيل عفو.

ذلك السيناريو طُبِّق حرفياً في غوديرميس، ثم في الشهر التالي (كانون الأول – ديسمبر 1999) في غروزني، عندما وجّهت السلطات الروسية نداءً إلى المدنيين للخروج من المدينة قبل أن تبدأ بعد نحو شهر المعركة الكبرى للسيطرة عليها.

لكن تشابُه الظروف الذي يوحي بأن العقل المدبّر الروسي هو الذي يدير المعركة، لا يعني تلقائياً أن النتيجة ستكون واحدة. فموسكو نفت في شكل قاطع نيّتها شن عملية عسكرية واسعة في حلب، وردّت على اتهامات أميركية في هذا الشأن بالإشارة إلى أن واشنطن «تتهم موسكو استناداً إلى آراء مسبقة وارتياب كبير»، وفق تعبير نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف الذي أضاف أن الأميركيين «ينسبون إلينا، استناداً إلى شبهاتهم وآرائهم المسبقة، أفكاراً غير واقعية. هذه الشكوك تمثّل محاولة جديدة لخوض لعبة سياسية، بدلاً من المساهمة في حل مشاكل إنسانية، خصوصاً المساعدة في إشراك المنظمات الدولية الإنسانية، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، في العملية».

ولكن، إذا كانت موسكو لا تستعدّ لعملية عسكرية واسعة في حلب، فما الهدف من الضغوط الساعية إلى تفريغ المدينة من سكانها؟ يتجنّب المسؤولون الروس الرد على أسئلة مماثلة، فيما توحي الاتصالات بين مسؤولين عسكريين روس وأميركيين في جنيف، خلف أبواب مغلقة، بأن الحديث لا يقتصر على إبلاغ واشنطن بتحرُّكات موسكو، بل يناقش الطرفان «تفاصيل» ما زال الجانب الأكبر منها محور خلاف، ما يفسّر سخونة الانتقادات المتبادلة بين الطرفين.

يدير الحوار من الجانب الروسي نائب رئيس إدارة العمليات في الأركان الروسية ستانيسلاف حجي محمدوف، في مؤشر إلى طبيعة الملفّات المطروحة للبحث وأهميتها.

وتبدو حلب المثال الأوضح على تباعد المسافات بين الموقفين، والأبرز هو الخلاف على توزيع الخرائط وتحديد لوائح الإرهاب، الأمر الذي أوضحه الرفض الروسي السريع للفكرة الأميركية بإعلان هدنة.

وكان نائب الوزير ريابكوف واضحاً عندما أعلن أنه «لا يمكن القبول بأن تكون هناك مصالحة أو هدنة مع إرهابيين». واتهم واشنطن بممارسة «الخداع السياسي»، عبر الدعوة إلى وقف العمليات قبل وضع لائحة موحّدة للإرهاب، لأن هذا يعني «إتاحة فرصة للإرهابيين لإعادة تمركزهم واستجماع قواهم». وزاد أن «لدى موسكو رؤية أخرى مفادها أن محاربتهم يجب أن تتواصل حتى النصر».

الحياة

 

 

حسم حلب حسم سوريا/ سميح صعب

حلب هي رقعة الصراع الاقليمي والدولي في لحظة سياسية دقيقة للأطراف المعنيين. فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يهمه أن يثبت أن المحاولة الانقلابية لم تؤثر على سياسته حيال سوريا. ودول الخليج العربية لن تستسيغ عودة حلب تماماً الى كنف النظام السوري. أما روسيا وايران فتريدان وقائع ميدانية على الارض تقوي أوراقهما التفاوضية عندما يحين موعد الحوار. أما بالنسبة الى النظام فإن حلب تعزز جدار الحصانة لدمشق.

منذ أكثر من سنة تجري التهيئة لمعركة حلب من الجانبين. ولو لم يبادر النظام الى فرض الطوق على الاحياء الشرقية بوصوله الى طريق الكاستيلو، كانت الفصائل المعارضة وفي مقدمها “جبهة النصرة” المتحولة الى “جبهة فتح الشام” ومن خلفها الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج العربية، تعد العدة للاستيلاء على حلب لتبعث برسالة لا لبس فيها الى النظام وروسيا وايران بأن اللعبة انتهت في سوريا وان دورهما بات محصوراً في كيفية إقناع الرئيس السوري بشار الأسد بالتنحي.

ولأن النتائج السياسية التي ستترتب على معركة حلب بهذا الحجم سواء بالنسبة الى المعارضة وداعميها أم بالنسبة الى النظام وروسيا وايران، فإن كل الاطراف يزجون بكل قواهم في معركة من شأنها حسم وجهة الحرب في سوريا كلها والتأثير على سياقات ما يوصف بالحل السياسي.

ولهذا لا يبدو أن كل المواعيد المضروبة لمعاودة حوار جنيف قابلة للتحقق قبل أن ينجلي غبار المعركة في حلب. وحتى التفاهمات الاميركية – الروسية على غرار تلك التي قامت في شباط الماضي، باتت مستحيلة قبل الحسم في حلب. ومن الواضح ان روسيا لم تعد تأمن الدعوات الاميركية لوقف النار في الوقت الذي كانت المعارضة هي المستفيدة من كل هدنة للملمة صفوفها والهجوم من جديد. ولا يبدو أن الولايات المتحدة في صدد تلبية المطلب الروسي وضع “جبهة النصرة” على لائحة الاهداف المشتركة للغارات الروسية والاميركية. إذ لا تزال واشنطن توظف ورقة “النصرة” بقوة في مواجهة النظام السوري ولو كانت الجبهة مصنفة على لائحة الارهاب الاميركية وتؤوي في سوريا الكثير من القيادات المخضرمة لتنظيم “القاعدة”.

ان العودة الروسية بقوة الى حلب أملاها التهرب الاميركي من التعاون مع موسكو في سوريا ميدانياً، الامر الذي لا يجد تفسيراً له لدى الكرملين سوى رغبة أميركية في شراء الوقت ريثما تكون فصائل المعارضة السورية من جهادية وغير جهادية قادرة على الحسم العسكري في سوريا.

لذلك أتت معركة حلب لتفرض وقائع جديدة على الواقع السوري برمته.

النهار

 

 

 

 

من يستعرض عضلاته على شعب منكوب؟/ محمود الريماوي

من غرائب موقعة حلب المستمرة أن الروس ظهروا وكأنهم حلوا محل النظام والمليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية في إدارة المعارك، وفي خوض الحرب الإعلامية. بدت موسكو الطرف الأكثر تمسكاً بإدامة الحصار على المدينة، في شطرها الشرقي، وعلى أجزاء واسعة من ريفها. وقد استكثرت على المقاتلين، وعلى المدنيين، مسعاهم لفك الحصار، فلما انقلبت الموازين جزئياً، منذ مساء الأحد الماضي، بعد الهجوم المنسق الذي شنه الثوار، لكسر الطوق عن المدينة التاريخية، وعمّا لا يقل عن 350 ألف نسمة من المدنيين الذين يرزحون تحت الأهوال، فقد تصرّفت موسكو بعصبيةٍ، ورأت في جهد المقاتلين لاستعادة مدينتهم ما يشبه التحدّي لها.

في واقع الأمر، رأى النظام المنهك، ومعه المليشيات الطائفية، وبالذات مليشيا حزب الله، أن من مصلحته إلقاء العبء على الجانب الروسي، في مقابل إطلاق أيدي الروس لتقرير ما يشاؤون. وقد لاحظ ملاحظون أن وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، هو من تحدّث عن “ممراتٍ آمنة ” للمدنيين المحاصرين. يعرف السوريون، بخبرتهم الحسية المريرة والطويلة، أنه لا أمن ولا أمان من نظام استمرأ الفتك بشعبه. ولذلك، لم تلق الدعوات لتشجيع الحلبيين على ترك مدينتهم آذاناً صاغية لديهم، فمن باب أولى أن يخرج الأجانب، كل الأجانب لأي طرفٍ انتموا من حلب الشهباء، لا أن يخرج الحلبيون. يستذكر المرء اللقاء الذي جمع وزير الدفاع الروسي، قبل أسابيع، برأس النظام الذي قال إنه فوجئ بوجود الوزير الروسي على الأراضي السورية. أسفر ذلك اللقاء عن قرار روسي بإدارة المعارك وقيادتها. ولهذا، بدا الإطباق على حلب بعد قطع طريق الكاستيلو انتصاراً لموسكو في أنظار مسؤوليها.

حلب قريبة من تركيا، ويحمل الاستيلاء عليها رسالةً إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل لقائه المقرّر مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم 9 أغسطس/ آب

“كل حديث عن الإرهاب لن يطمس الفظائع ضد المدنيين والمرافق المدنية” الجاري، لكن الرياح لم تجر بما تشتهي البوارج الروسية، فالسوريون يريدون الحرية لمدينتهم شبه المهدّمة بأسلحة روسية، استخدمها النظام، على مدى السنوات الأربع الماضية، ضد هذه الحاضرة التاريخية وضد أبنائها. زجُّ الروس في مواجهةٍ مباشرةٍ مع السوريين هو التكتيك الذي استخدمه المحور الإيراني من أجل إدامة العداء، وتغذية الضغائن بين الروس والسوريين. وقد جاء إسقاط الطائرة المروحية الروسية في إدلب، ليشكّل صدمةً شديدة لموسكو. والصدمة مفهومة، أما غير المفهوم فهو الشعور بالمفاجأة، فالمقاتلون السوريون يخوضون معاركهم بغير أي غطاء جوي، لكنهم يقاومون الطائرات المعادية، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. كانت الأيام السابقة على حادثة الطائرة قد شهدت قصفاً رهيباً ومتواصلاً ضد كل مظاهر الحياة في إدلب. كان أبناء المدينة وريفها يُعاقبون من المقاتلات الجوية الروسية على نشدانهم الحرية. والأهداف المفضلة دائماً هي الأسواق والمشافي والمساجد، وبلغ الاحتقان في صفوف المدنيين والمقاتلين الذروة، فيما كان الخناق، آنذاك، يشتدّ على حلب. وكانت الطائرات الروسية مع السلاح الجوي للنظام تدمّر ما تبقى من مشافي حلب. هذه الفظائع يسميها الإعلام الروسي “أعمالاً إنسانية”. وكأن هذا الإعلام ما زال يعيش في الحقبة الروسية، ليس من ناحية البروباغندا فقط، ولكن من تناسى أننا نعيش في عصر ثورة الاتصالات والوسائط التقنية الميسرة التي تنقل الأحداث بالصوت والصورة، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، وتوثّقها، ولم يعد أحد ينتظر أخبار راديو موسكو، وأنباء “البرافدا” و”الإزفستيا” ووكالة تاس وماكينة الإعلام البطيئة والمعلبة.

ينطوي إسقاط المروحية الروسية على مأساةٍ مهولةٍ لطاقم الطائرة ولذوي الضحايا الخمسة، ما كان ينبغي الانزلاق بهذه الصورة في حربٍ لا مشروعية لها، حربٍ تستعرض فيها قوة عظمى عضلاتها على شعبٍ منكوب، وعلى بلدٍ شبه مهدّم. من حق الروس أن يحرصوا على مصالحهم ونفوذهم، غير أن إبداء العداء السافر لملايين السوريين لا يضمن، على المديين المتوسط والبعيد، هذه المصالح. دولة عظمى تتمتع بروح المسؤولية، كان حريّاً بها المشاركة في إعادة البناء، لا العمل على تهديم ما لم يهدم بعد، والفتك بمن نجوا من السوريين. منذ تدخل الروس بالطريقة السافرة التي تدخلوا بها، تم الإجهاز على الحل السياسي إجهازاً تاماً، على الرغم من أن موسكو كانت شريكةً في التوصل إلى القرارات الأممية في جنيف، وفي مجلس الأمن، والتي تشق الطريق نحو حل سياسي، وبالذات القرار 2254. لسببٍ ما، ارتأت موسكو أن المزيد من الحلول العسكرية أفضل من الحل السياسي. وتجري ترجمة الصراع مع تركيا ومع الولايات المتحدة على الأرض، بتقويض ما تبقى من مظاهر الحياة السورية. والسوريون وحدهم يدفعون الثمن الباهظ والمروّع لهذا المنظور “الاستراتيجي” الروسي. وحين يخسر الروس 19 جندياً وخمس مروحيات يفاجأون، كما يفاجأ فريق صيادين محترف في غابة، بخسارة عدد ضئيل من أعضاء الفريق. السوريون وحدهم يجب أن يموتوا. وخلال ذلك، تجري تغطية الوقائع بألاعيب دبلوماسية ولفظية، من قبيل الحديث الذي لا يتوقف عن فصل “الإرهابيين عن القوى المعتدلة”، علماً أن المدنيين هم المستهدفون بالدرجة الأولى، وبصورة شبه دائمة، قبل “الإرهابيين” و”القوى المعتدلة”. وتعرّضت أحياء مدنية في حلب لقصفٍ متلاحق من المقاتلات الروسية، انتقاماً لسقوط المروحية الروسية، وسقط العشرات من الضحايا.

الذين نسوا ما جرى لغروزني الشيشانية، أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي، عادوا

“لم يعد السؤال ماذا تفعل روسيا في بلد الأمويين،  بل: ماذا تفعل روسيا بـ “نفسها”، بصورتها في سورية؟” واستذكروا تلك الوقائع الرهيبة، وذلك مع إصرار موسكو على خوض الحرب ضد كتلةٍ بشريةٍ سوريةٍ عريضةٍ، ترى فيها موسكو موئلاً للمعارضة، وحاضناً لها، وبيئة يتحرّك داخلها المقاومون. لقد أغلق الدور الروسي كل الطرق نحو مخارج محتملة ومفترضة للأزمة المستعصية. والمباحثات الثنائية التي لا ينقطع الحديث عنها بين وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرجي لافروف، يجري استخدامها بصورة منهجية للتمويه على ما يحدث، على الأرض وفي الأجواء السورية، وما يجري له اسم واحد هو: الفظائع التي تقشعر لها الأبدان، مما تحفل به تقارير المنظمات الإنسانية والحقوقية والإغاثية وشهادات ذوي الضحايا وشهود العيان من السوريين. تبين تلك التقارير اليومية الحقائق، وكل حديث عن الإرهاب لن يطمس الفظائع التي تقترف ضد المدنيين والمرافق المدنية ومصادر الماء والطعام والاستشفاء، ناهيك عن إشاعة الرعب في صفوف ملايين الناس البسطاء. والأكثر إثارةً للعجب أن وقف الأعمال العدائية والقتالية (إعلانات الهدنة) تخترقانه موسكو ودمشق بصورةٍ دائمةٍ، وهو ما تحدث به غير مرة وتكراراً الوزير كيري، لكن موسكو تتصرف باعتبار أن ما ينطبق على غيرها لا يشملها.

لم يعد السؤال ماذا تفعل روسيا في بلد الأمويين، فالمجريات اليومية تجيب بوضوح على هذا الاستفهام، السؤال الراهن هو: ماذا تفعل روسيا بـ “نفسها”، بصورتها في سورية؟ أطنان من الحديث اليومي عن الإرهاب في موسكو، فيما الدور الروسي في هذا البلد المنكوب لا يعدو أن يكون، حتى الآن، نشر الدمار والخراب، وتقويض إرثٍ من الصداقة الروسية مع الشعوب العربية، ومن ضمنها شعب سورية الذي يتم التضحية به، مع تاريخ الصداقة.

العربي الجديد

 

 

 

 

القانون الدولي الإنساني ومأساة حلب/ عبد الحميد صيام

نيويورك (الأمم المتحدة) ـ القدس العربي»: نقصد بالقانون الدولي الإنساني ذلك الفرع من القوانين الدولية المتعلقة بمسلكية الأطراف المشتبكة في صراع مسلح حيال المدنيين وكافة الأفراد والجماعات غير المشاركة في الأعمال القتالية. إنه جسم من القوانين العرفية التي تحولت إلى إتفاقيات ومعاهدات دولية تحدد ما هو مسموح وغير مسموح به من مسلكيات الجنود والضباط أثناء الحروب والتي تهدف إلى حماية المدنيين الذين ليسوا طرفا في الإشتباكات بين المتحاربين. ويضم القانون الدولي الإنساني رزمة من المعاهدات والاتفاقيات من بينها «إتفاقيات جنيف الأربعة»، و»اتفاقيات لاهاي» وثلاثة بروتوكولات لاحقة إعتمدت عام 1977 و 2005 متعلقة بجانب أو بآخر من مسلكيات المتحاربين أثناء المواجهات المسلحة ومعاملة المدنيين. وتعمل هذه الرزمة من الاتفاقيات على الموازنة بين الإعتبارات الإنسانية للمدنيين وضرورة حمايتهم من جهة ومتطلبات العمليات العسكرية المسموح بها أثناء المواجهة من جهة أخرى بهدف تخفيف الآثار التدميرية والمعاناة الإنسانية.

وينطلق القانون الدولي الإنساني من الضحايا أولا وما يلحق بهم من أذى جماعي وإذا ما كانت حقوقهم الإنسانية قد إنتهكت وبشكل متعمد ثم يقوم القانون بشكل متوازِ أو بأثر رجعي إلى مرتكبي تلك الجرائم. فيكون تشخيص الجريمة أولا وتحديد معالمها والتحقيق في تفاصيلها وتصنيفها كجريمة حرب أولا قبل البحث عن المجرم لأن الحروب قد تخفي كثيرا من الفاعلين وقد تختلط الجرائم في ساحة المعركة ولا يعود أحد يميز بين مصادر الجريمة بسهولة وخاصة في مسألة الحروب الأهلية حيث تتقارب المسلكيات والممارسات وعمليات الانتقام والأسلحة والضحايا. فمثلا من الطبيعي أن يقوم أحد الطرفين بالتسلل إلى صفوف الطرف الآخر ويطلق قذائف نحو مدنيين يقعون ضمن خطوط المجموعة التي ينتمي إليها ثم يتهم الخصم بارتكابها. أو أن يرتكب مجزرة داخل الدائرة التي يسيطر عليها ويتهم الخصم بارتكابها. إذن عملية التحقق من المنتهك للقانون الدولي الإنساني أمر صعب وقد يستغرق وقتا طويلا.

وعلى صعوية تحديد الجاني نذكر بمثال ما جرى في الغوطة الشرقية في سوريا حيث تم استخدام مواد كيميائية يوم الأربعاء 21 آب/أغسطس 2013 أدت إلى مقتل 1400 مدني من بينهم أعداد كبيرة من الأطفال والنساء. أقر فريق التحقيق الدولي المشترك بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بأن الأسلحة الكيميائية المحظورة دوليا قد إستخدمت فعلا. لكن لغاية الآن لم تحسم قضية الفاعل إذ إن تضارب المعلومات والتقارير وبيانات الشهود وصور الأقمار الصناعية وتقارير المخابرات الأمريكية والروسية والفرنسية والبريطانية لم تتفق إلا على أن جريمة حرب إرتكبت أما التهم الموجهة للنظام أو للمعارضة فتكاد تكون مسيسة تماما مع أن كل طرف يدعم حججه بمعلومات تبدو موثقة ودقيقة إلا أن النتائج متضاربة تماما.

القتال حسب القانون الدولي الإنساني

تشير مجموعة «قوانين لاهاي» ما يمكن أن نسمية «أصول التصرف في الحرب» أو قوانين الحرب السليمة وتشير مجموعة «قوانين جنيف» إلى القانون الإنساني المرتبط بالحرب. «قوانين لاهاي» تشير إلى حقوق وواجبات المتحاربين في إدارة العمليات العسكرية وتقليص الخيارات المتاحة أمامهم والتي قد تلحق الأذى بغير المتحاربين. أما «قوانين جنيف» فتتعلق بحماية غير المشاركين في الحرب من منطلق إنسانيتهم وضرورة تقديم المساعدات الإنسانية لهم عن طريق طرف محايد مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

تتضمن القوانين الأساسية للقانون الدولي الإنساني أثناء الاشتباكات المسلحة قواعد ومنها: حماية الأفراد غير المشاركين في القتال، وحماية ورعاية الجرحى والمرضى، وحماية الأسرى من أي نوع من العنف، وغير مسموح بممارسة التعذيب أو المعاملة القاسية أو الحط من كرامة المحاربين المستسلمين أو تعريضهم لإجراءات عقابية وبعض الأسلحة المحرمة يجب أن لا توضع بين أيدي المتحاربين.

حلب وجرائم الحرب

وبامكاننا أن نحدد قائمة بما يمكن أن نطلق عليه جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية والمحرمة حسب القانون الدولي الإنساني وما تم إرتكابه ويتم إرتكابه هذه الأيام في حلب وحسب تقارير الأمم المتحدة. هذه الجرائم في حالة تحديد الفاعلين فيما بعد، يمكن إحالتهم إلى محكمة الجنايات الدولية.

  1. الاستهداف المتعمد للمدنيين: يسكن في حلب نحو مليون مدني موزعين بين الأحياء التي تسيطر عليها القوات الحكومية وقوات المعارضة بكافة تنويعاتها. هؤلاء المدنيون يتعرضون إلى هجمات يومية من قبل جميع الأطراف. وقد أثارت الأمم المتحدة في تقاريرها المختلفة إستخدام الأطراف لأنواع من الأسلحة تؤدي إلى قتل جماعي على رأسها: البراميل المتفجرة التي تسقط من أسلحة جوية عن إرتفاع كبير بحيث تصبح إصاباتها عشوائية وتعرض المئات للقتل والإصابة والتهجير والدمار. يلي ذلك الصواريخ والقذائف المدفعية التي تدمر المباني والمنشئات والبيوت والملاجئ. فمثلا تم توثيق مقتل 83 مدنيا وجرح 700 مدني في منطقة الشيخ مسكين في حلب نتيجة القذائف الصاروخية. والفئة الثانية التي تلحق الأذى الأكبر بالمدنيين هي الغارات الجوية والتي قد تستهدف مواقع عسكرية أو «مواقع مشروعة» لكنها منتشرة في مناطق المدنيين وبالتالي تصبح محرمة. إذ إن هناك جريمتين ترتكبان في الوقت نفسه من قبل طرفين متحاربين: إستخدام المدنيين كدروع بشرية أو مناطق إختباء من جهة وقصف هؤلاء المدنيين بحجة أنهم يخبئون بينهم مقاتلين.
  2. قتل على الأقل 112 مدنيا بمن فيهم 33 طفلا منذ بداية الهجوم الحالي الذي شنته المعارضة إبتداء من يوم الأحد الماضي. من بين القتلى 65 مدنيا و 22 طفلا قتلوا في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. بينما قتل الباقي في مناطق المعارضة من جراء القصف الجوي. كما قتل خمسة مدنيين في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في منطقة الشيخ مقصود. وفي أحد الغارات الجوية قتل عشرة مدنيين من بينهم سبعة أطفال في مناطق المعارضة.
  3. إعتقل في شهر تموز/يوليو 619 شخصا أو أخفوا ولم يعد هناك إتصال بهم من قبل أهاليهم
  4. تم قصف عدد من المستشفيات والعيادات الطبية من بينها مستشفى ولادة في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة مما أدى إلى وقوع ضحايا حسب تقرير لمنظمة «أنقذوا الأطفال» كما قصف مستشفى في بلدة كفر تخاريم وأصبح معطلا تماما.
  5. قامت جماعات تابعة لتنظيم الدولية بقتل 24 مدنيا في مناطق الأكراد.
  6. هناك تقارير مؤكدة تقول إن سائل الكلورين استخدم مؤخرا في حلب والأمم المتحدة تسعى الآن لتوثيق الجريمة.
  7. تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن هناك نحو 300,000 محاصر في مناطق حلب تقطعت بهم السبل بعد سيطرة قوى النظام وحلفائها على طريق كاستيلو، المنفذ الوحيد للوصول إلى تركيا، وبدأت المواد الغذائية والأدوية والمحروقات تنفد بسرعة.
  8. هناك مناطق محاصرة ومن الصعب الوصول إليها يصل عدد المشمولين فيها إلى 1.2 مليون إنسان. سلاح الحصار والتجويع ومنع قوافل المساعدة من الوصول إلى تلك المناطق جريمة حرب. مثلا مضايا والزبداني محاصرتان من قبل القوات الحكومية في ريف دمشق ويقوم أفراد من المعارضة بالرد على الإساءة بأسوأ منها فيحاصرون الفوعة وكفرايا للضغط على الننظام ومساومته على فك الحصار. والنتيجة أن عشرات الألوف يتعرضون للتجويع المتعمد والذي يعتبر جريمة حرب.

هذا غيض من فيض جرائم الحرب التي ترتكب في كل سوريا وخاصة في مدينة حلب. لكن السؤال المهم هل سيتم معاقبة مرتكبي هذه الجرائم أم سيفلتون من العقاب؟ وهل سيأتي اليوم الذي يمثل فيه مرتكبو تلك الجرائم في سوريا عامة وحلب خاصة إلى المحكمة الجنائية الدولية بغض النظر عن إنتماءاتهم وارتباطاتهم التنظيمية؟

الجواب صعب. فنظرة إلى الواقع الآن ترى أن تقديم هؤلاء المجرمين عن طريق مجلس الأمن وصولا للمحكمة غير ممكن في هذا الوقت بالذات ونشك أن المحاولة ستتغلب على الفيتو المزدوج.

القدس العربي

 

 

 

دواليب حلب/ ديانا مقلد

ديانا مقلدليس بالإمكان المراهنة على تدخل دولي عادل وحاسم إزاء ما يجري في حلب، هناك الكثير من عبارات التحذير والتضامن والقلق حيال السكان المطوقين بالنار والتجويع في داخلها، بل هناك من رفع الصوت من خلال مقارنة حصار النظام المطبق بذاك الذي سبق أن عانته مدينة سربرينتسا البوسنية قبل نحو عقدين.

هرعت المنظمات الدولية لاستنهاض العالم والقول إن الوضع الانساني مروع وأن الطيران البعثي قد استهدف المستودعات وشبكات المياه ودمر المستشفيات ويكاد يبيد السكان عن بكرة أبيهم، لكن مع ذلك لا يبدو أن شيئاً في المقاربة الدولية للدم السوري المراق سيتغير.. لقد سبق لسربرينتسا أن شهدت مجزرة أودت بثمانية آلاف من أبنائها تحت سمع وبصر الامم المتحدة، وها هو العالم وقبل كارثة حلب شهد مقتل وهلاك مئات الآلاف من السوريين ولم ينبس، فأي ضجيج يرتجى من ذاك الدائر عن حصار حلب وعن مصيرية المواجهة الحاصلة بين قوات النظام المدعومة من الطيران الروسي والميليشيات الإيرانية مقابل فصائل المعارضة المتفاوتة الأهداف والمصالح. لا شك أن صور تجمعات أطفال حلب يحرقون إطارات السيارات للتعمية على طيران النظام كانت لحظة مفصلية لمعنويات الأهالي المحاصرين دون المبالغة في الجدوى العسكرية التي يمكن التعويل عليها لمثل هذا التكتيك خصوصاً أن لا الطيران الروسي ولا طيران النظام تورعا عن القصف العشوائي وقتل المدنيين.

نعم، الأمر معقد. فالعالم الغربي الآن يعيش هواجس الاستهدافات الأمنية التي أربكت الحكومات الأوروبية بشأن سياساتها تجاه اللاجئين كما أنه منشغل بالحملات الانتخابية الأميركية وذاك السيل الذي لا ينتهي من ارتكابات للمرشح الجمهوري دونالد ترامب. هذا العالم ليس مهيئاً بعد لـ”ترف” التركيز على ثلاثمئة ألف مدني محاصر داخل المدينة.. حلب كما كل سورية متروكة لمصيرها وهناك تجري معركة كبرى توصف بأنها معركة حياة أو موت بالنسبة لقواتا لأسد وبالنسبة إلى فصائل المعارضة وبالنسبة إلى القوى الأكبر التي تقف من الخلف ونعني روسيا وإيران وتركيا.

المآساة ليس فقط ان حلب مطوقة بل أن قوات الأسد ومن معها يهدفون الى التجويع أو التفريغ وهذه سياسة اعتمدت تكراراً في المأساة السورية. لقد تم قصف حلب بكثافة في الأسابيع الأخيرة، وبالكاد هناك أطباء باقون في المدينة وآخر مستشفى تم تدمير هو وكالة الامم المتحدة تقول أن مُؤن الغذاء بالكاد تكفي لشهر واحد. وما الإعلان عن ممر إنساني للمدنيين والمسلحين الذين يريدون الهرب سوى مسحة ساخرة للمشهد السودواي الحاصل. فمن غير المفاجئ أن سكان حلب لم يهرعوا إلى تلك المعابر المزعومة التي لاوجود فعليا لها على الأرض. لقد أعلن الروس والنظام السوري عن ممرات إنسانية دون تبليغ أو استشارة أحد ولا حتى نظرياً وهذا ليس سوى دليل آخر على أنهم لا يريدون شهوداً على ارتكاباتهم أو أنهم تجاوزوا حتى مرحلة المبالاة. وللحقيقة، لم يسبق أن أظهرت الحكومة السورية أنها تبالي بشأن القانون الدولي أو بشأن حقوق الإنسان، فآلة قمع النظام لا تميز بين مسلحين ومدنيين وبين أطفال وبالغين.

محنة المحاصرين في حلب بلغت حدوداً قصوى ومالم يمارس ضغط دولي على روسيا لتجبر قوات الاسد على التراجع فستزهق مزيد من الأرواح والضغط الدولي المنتظر على موسكو لا يتوقع الشروع به منقبل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في أشهره الأخيرة والدول الكبرى مشغولة الآن بمعارك متفرقة مع “الإرهاب”.

لا شك أن دواليب أطفال حلب خرقت مشهد الحصار وقدمت أمثولة في رفض المطوقين للنظام ومن معه لكن أيضاً للعالم قدرة على تقويض تلك المحاولات الشجاعة وهذا ما اختبرناه قبلا ويخشى تكراره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى