صفحات العالم

ممانعة النظام السوري: مأساة أم ملهاة؟


عبده حقي

في ناموس الطبيعة ليس هناك خياران لضمان البقاء .. إما أن يقبل الكائن الحي بالتطور والتكيف مع قوانين وقواعد فصولها، وإما المآل إلى النهاية بالتدمير الذاتي .. فلكل فصل طبيعي خصوصياته البيولوجية والمعنوية التي تتفاعل بحسب قانــــون التكوين .. النشوء .. والإرتقاء ثم النهاية الطبيعية المحتومة التي تعني بشكل من الأشــكال إنتقال الكائن إلى حياة أخرى متجددة، مليئة بالحيوية .. مشبعة بالنشاط والتطور.

ومما لاشك فيه ليس هناك كائن يدب على هذا الكوكب الأزرق .. كائن حي وعاقل لايقبل تلقائيا إن لم نقل فطريا بشروط هذه الحياة في تطورها وارتقائها .. وهذا أيضا هوحال الدول والأمم والحضارات … تنطلق من برعم فكرة (فلسفة أوعقيدة أومذهب) أو قد تنطلق من حدث (حرب أوثورة) ثم تشكل واكتمال وأخيرا أفول لكي يشرق من جديد فجرآخر بديل .. بطقس جديد .. برجال جدد .. بمؤسسات جديدة .. وبفلسفة تدبير جديدة للحياة أيضا …

ما يبررإستهلالنا بهذه العتبة المكرورة والتي توغل في منطق دورة الطبيعة هوعدم قبول بعض بني البشرككائنات حية بقانون التطور.. تطورالكائن وقبوله بمنطق الزوال الذي ليس بالضرورة أن يكون زوالا ماديا .. جسديا وإنما نقصد به زوالا فكريا ومعنويا إلتأمت في كينونته الماضوية جميع القيم والأنساق الفكرية والسياسية والمؤسساتية القديمة ..إلخ مايعني تشبثه بالبقاء على أرض جليدية تشرف على شفيرالطوفان.

مايعتمل في الخارطة العربية راهنا لايجعلنا نتعب ذهنيتنا لماذا نستهل مقالتنا بهذه المقدمة المكرورة لنطرح أكثر من سؤال .. لماذا كل هذا العناد الديكتاتوري والقمعي ضدا على الرغـــبة الطبيعية للشعوب العربية في التطورمع الفصل الربيعي وحقها في التمتع بلذة حريتها في مختلف تجليات الحياة اليومية .. أليست هذه الشعوب العربية ككل الشعوب في أرض الله جديرة بأن تحيى دورتها الطبيعة .. لتختارطقسها السياسي والمؤسساتي الذي يخول لها تكريس إختياراتها من أجل أن تتطور…

ماينهرق وينسفك من دماء في الشوارع العربية وبسلاح الحكام العرب يجعلنا نجزم كما لوأن هؤلاء الطواغيث قد بوؤا قسرا على أرائك حمكهم بدعم من جهات غيرعربية بقصد تركيع الشعوب ولجم أصواتها وقص أجنحتها لحرمانها من التحليق في سماوات الحرية، وللحاكم العربي في أشكال هذا القمع كل العبقرية على إبتداع المبررات في النزول إلى الشارع بمدرعاته ومدفعيته وفيالقه .. فإن لم يكن خطرالقاعدة فهناك خطرالعدوالخارجي المفترض، وإن لم يكن هذا وذاك تكون الممانعة والإصطفاف الكركوزي في ما يسمى بجبهة الصمود العربية، ظاهرها التصدي للعدوالصهيوني وباطنها المستتر تكريس وضع استاتيكو سياسي يخدم مصالح خارجية أكثرمنها ذريعة لحماية الأمن الداخلي من الخطرالخارجي ..

هكذا رأينا كيف أن الديكتاتورالقذافي صنع من المد الإمبريالي غولا لتخويف شعبه، تخويفا أمن له البقاء في حكمه المستبد لأزيد من أربعة عقود وسمت بتورطه الواضح في خلق قلاقل وتوترات وانقلابات وتصدعات في الصف العربي خدمة للآخروليس دفاعا عن الأممية العربية كما كان يدعي في خطبه وخرجاته السياسية المسعورة … وكانت نهاية هذه المسرحية القذافية رفع ستارها على تواطؤ مكشوف لعل أقل مظاهره العلنية ضخه لآلاف الملاييرمن الدولارات من عرق الشعب الليبي في حساب القائد (البطل) وأبنائه في بنوك (أعدئه الإمبرياليين) .

وها هو حاكم فرعوني يصنع من ذريعة التطرف الإسلامي ومن الإرهاب بعبعا يرهب به الغرب ويهدد به الإستقرارالمصري من أجل بقائه في الحكم، كما عمد وذاك ديدنه إلى توظيف جميع الآليات والأحابيل الديكتاتورية الدنيئة لتزييف إنتخابات مجلس الشعب وجعل صناديق الإقتراع خزائن في ملكه الخاص تذرعليه 99 ‘ من الأصوات أي مزيدا من بقشيش الدولارات وتحويلها إلى حسابه أيضا في المصاريف الأوروبية والأمريكية … في الوقت الذي تصطف فيه طوابيرالشعب المصري الغلبان من أجل كسرة خبز(عيش)، لكن الله يمهل ولايهمل وهاهي رياح الربيع العربي تعصف به لتعري فداحة وحجم الفساد في بطانة السيد الرايس وأزلامه …

وهاهو الحاكم الصوري وليس السوري يختلق وصفة الممانعة ضد شعبه وليس ضد إسرائـــــيل يكشف بما لايدع مجالا للشك أن هذه الممانعة ليست إلا فذلكة ديبلوماســية ومؤامرة ذكية على الشعب السوري الذي يحمل في جيناته الطبيعية وإرثه التاريخي وذاكرته الثقافية كل مقومات الإقلاع نحوالتقدم والإنعتاق من طقوس البيات السياسي الذي تطوقه به هذه الممانعة البغيضة … وهكذا نرى أنه في الوقت الذي تتجه إختيارات الإنسانية قاطبة إلى عصرالتعددية الديموقراطية ورحمة الإختلاف، نرى أن الطغمة الحاكمة في سوريا مازالت تجترما تبقى من عبث بعثيتها الستالينية البائدة والتي لايعني كل هذا العض العصابي عليها بنواجد الديكتاتورية سوى الشجرة التي تخفي غابة التواطؤ..

ومن اليقين أن قطارالديموقراطية الذي يعبرحاليا قرى، مدن وعواصم العالم العربي لابد إن عاجلا أم آجلا أن يمرعلى دمشق عبر درعا وحمص وغيرهما سواء إعترض سكته جمرك الممانعة أو بأية ذريعة جديدة من قبيل المؤامرة الخارجية على وحدة سورية باعتبارها (الدرع العربي القوي في مواجهة الخطرالصهيوني) كما يتشدق بذلك حكامها.

وهذه الممانعة هي أشبه ماتكون ببورصة أسلحة يعتاش عليها النظام وأزلامه بدعم من النظام الموسكوفي .. هذا الأخيرالذي لم يتخلص وبعد مرورزهاء ربع قرن على الكلاسنوست والترويكا من عقلية التآمرعلى الشعوب العربية (الحليفة) بتحريضها على الرفض والممانعة كآخرالإختيارات السياسية من أجل تكريس وضع الستاتيكوفي منطقة إستراتيجية ملتهبة كان من الأولى أن تكون منطقة لتعايش الأديان والتسامح وتكريس القيم الكونية الديموقراطية … لكن مع الأسف هي منطقة كانت ومازالت ومنذ النكبة الفلسطينية المحرك الأساسي لمصانع الأسلحة في الشرق الأوسط، بمعنى الإصرارعلى أن يبقى قدرها الأزلي منطقة لصناعة الموت العربي بمختلف أشكاله وأسبابه.

إنه نفس السلاح السوري عفوا الروسي الذي مازال يفتك بأرواح الأبرياء والذين بلغ عدد ضحاياهم إلى حدود هذه اللحظة 5000 قتيل من بينهم قرابة 400 طفل وهو رقم رغم فداحته الإنسانية لم يحرك مع الأسف البالغ ولوكرسيا واحدا في مجلس منظمة حماية الطفولة العالمية (اليونيسيف).

لقد عرى الربيع العربي عن خريف السياسة الكامن في ثنايا عقليات بعض الحكام العرب والتي تقوم على منطق إطلاقي لايختلف عن عناوين بعض المسلسلات المكسيكية مثل (المستبد) و(أنا أولاأحد) و(السجينة) و(الخيانة) ..إلخ

من يصدق اليوم تصريحات الرئيس السوري وجرأته البلقاء في عدم مسؤوليته الواضحة علن كل رصاصة تطلق على صدرالمواطن السوري الذي لايطالب أكثرمن فتح كوة أوكسجين في سورالممانعة الحديدي ليشتم هواء التعددية الحزبية والإعلامية والبرلمانية

والحقوقية …

وأخيرا دعوني أسرد عليكم هذه القصة الواقعية من زمن القمع السوري، فقد حكى لي أحد الكتاب المغاربة أنه وخلال فعاليات إحدى الملتقيات الثقافية في المغرب إستضاف في غرفته بالفندق أحد الكتاب السوريين .. وبعد تطور ودفئ علاقة الصداقة بينهما خلال تلك المدة القصيرة من الملتقى طلب هذا الكاتب المغربي من شقيقه السوري أن يتحدث له عن المشهد السياسي والحقوقي في سورية .. فبدت على محيا هذا الأخيرعلامات التردد والتوجس ثم في لحظة قام صديقي وأغلق باب الغرفة بالمزلاج إلى آخرلفة .. ورغم ذلك لم يسلم صاحبنا من إحمرارالتردد والتوجس .. ثم قام وجال ببصره في كل أركان الغرفة وتفحصها زاوية زاوية إلى أن تأكد بأن المكان آمن وأن ليس به لاكاميرا ولاميكروفون مدسوس يتربص به .. ولاعين جاسوس تتلصص عليهما من فتحة ما .. وبالرغم من كل شروط الأمان والثقة الزائدة التي وفرها صديقي الكاتب فإن صاحبنا المثقف السوري الغلبان لم يجرؤعلى أن ينبس ولوبكلمة واحدة في حق النظام في سورية ثم فجأة قام وانصرف.

ألهذه الدرجة أيها السادة يسكن رقيب الممانعة في تلافيف سيكولوجية بعض المثقفين السوريين، فمابالكم بالمواطن العادي الذي لايطمح سوى لحياة كريمة ؟ أهذا أقصى ما استطاع الحكام في سورية أن يحققوه .. مواطن لايفتح فمه إلا عند التثاؤب.

‘ كاتب مغربي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى