صفحات الرأي

منعاً للإحباط واليأس

 


خالد غزال

ما زال العالم العربي يعيش تحوّلات في أكثر من قطر عربي، تعبّر عن نفسها بالنزول إلى الشارع وطرح مطالب يغلب على معظمها الحرية والديمقراطية والخبز. ويقدّم المشهد العربي الراهن صورة مختلفة عن التغيرات التي كانت الدول العربية قد عرفتها منذ الخمسينات من القرن الماضي من خلال هيمنة النخب العسكرية على السلطة، وإقامة أنظمة سياسية اتسمت على العموم بالديكتاتورية والإستبداد وقمع الشعوب العربية وحرمانها من الديمقراطية والحريات والتعبير السياسي، إضافة إلى العجز عن حلّ معضلاتها الإقتصادية والإجتماعية. رغم الشعور المفعم بالفرح والأمل الذي يعيشه الإنسان العربي، إلاّ أنّ عوامل القلق من عدم تمكّن الإنتفاضات من تحقيق ما تسعى إليه يظل قلقاً مشروعاً، ويهدد بالنكوص إلى يأس وإحباط وإصدار أحكام عدمية تطال الشعوب العربية وتضعها في خانة الشعوب الفاشلة. لذا من المهم الوعي بما يحصل موضوعياً وتعيين الممكن وغير الممكن، بعيدًا عن التضخيم وبعيدًا عن العدمية، لكون القراءة الواقعية وحدها تمنع الانزلاق إلى اليأس من أيّ تعثر قد يحصل.

لا شكّ أنّ الانتفاضات الجارية هي الإبنة الشرعية للأنظمة القائمة وسياساتها على امتداد عقود من الزمن. وعدت الأنظمة التي هيمنت عليها العسكريتاريا شعوبها بتحسين مستوى شعوبها وتوظيف الثروات لصالح مشاريع التنمية وتحديث هذه المجتمعات وإدخالها في العصر، فتمخّضت تلك السياسات عن عالم عربي يسجّل أعلى درجات في مستوى الأمّية والبطالة والفقر والمجاعة. هذا في وقت تتكشف فيه وقائع مذهلة عن نهب الثروات من قبل النخب الحاكمة وامتلاك الدولة وأموالها، على غرار ما ظهر من حجم الثروات للسلطة الحاكمة في مصر وتونس وليبيا، مقارنة مع نمط البؤس والتخلف الذي تعيشه شعوب هذه المجتمعات. يضاف إلى ذلك ما تناقلته الصحف الغربية خلال الأزمة المالية العالمية منذ سنتين عن خسارة رؤوس الأموال العربية لحوالي 2500 مليار دولار في انهيار البورصة، وهو رقم فلكي يكفي ربعه فقط لنقل المجتمعات العربية من واقع مزرٍ إلى حال من البحبوحة.

وأنتجت السياسات الاجتماعية والإقتصادية للحكام العرب أجيالاً من الشباب المتعلم والمتخرج من الجامعات، لكنه عاجز عن تأمين الوظيفة اللازمة وعن استيعابه في مؤسسات الدولة أو المجتمع، مما وضع هذه الأجيال الشبابية في حال من البطالة والتهميش واليأس والفراغ، واضطرار إلى مزاولة مهن لا تتناسب مع طبيعة التعليم الذي تلقاه، فيضطر إلى قبول هذا الواقع، أو الهجرة إلى الخارج ومعاناة الحصول على عمل. هذا الجيل من الشباب يشكل اليوم حوالي 60% من الشعوب العربية، تدفعه ظروفه الصعبة إلى ألوان شتىّ من الممارسات، منها ما أفادت منه الحركات الإرهابية الأصولية فشكّل قسم من الشباب جيشها، ومنه ما انخرط في عصابات وتحوّل الى التطرف والإرهاب، ومنه القسم الذي يتصدى اليوم للنظام عبرالنزول إلى الشارع وتوظيف خبراته في خدمة التغيير.

وخلافاً للوعود بالديمقراطية وحرية التعبير وبناء الأحزاب السياسية، فقد تكشفت ممارسات هذه الأنظمة عن تسلّط واستبداد وقمع لم يبق فيه نوع من أساليب الاضطهاد إلاّ وطبقته القوى الامنية لهذه الانظمة. حولت الانظمة جيوشها لقمع حركات الاعتراض، ومنعت الرأي المخالف، ومارست مع قوى المجتمع المناهض لسلطتها أساليب من العنف تبدأ بالسجن وتتدرج إلى النفي وٌتتوّج كل ذلك بإرسال هؤلاء المعارضين إلى القبر. على امتداد سنين زرعت الخوف في نفوس الشعوب، وواجهت أدنى تحرك شعبي بأقسى وسائل العنف والترهيب، وذلك كدرس لمن يحاول أن يفكّر في نقد الواقع السائد، فكيف بتغييره. أمّا الوعود التي قدمها بعض هذه الأنظمة في التحرر الوطني والقومي، فتحولت إلى هزائم متتالية يتجرعها الإنسان العربي بغضب، فيما لا تخجل هذه الأنظمة من تقديم هزائمها في شكل انتصارات.

انجدلت تلك العناصر الموضوعية المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بعامل مهم يتصل بتآكل الحياة السايسية للقوى الاعتراضية في العالم العربي، وهو تآكل تسبب به القمع الوحشي الذي مارسته الأجهزة الأمنية من جهة، لكنه كان أيضاً تآكلا داخليا ناجما عن تراجع القوى الحزبية التقليدية، سواء منها اليسارية أم الليبرالية، وهشاشة مواقعها الشعبية وترهل نخبها. لكنّ الأفدح في هذا المجال كان المآل الذي وصلت اليه الأيديولجيات والمفاهيم الفكرية والثقافة السياسية التي شكلت عماد المرشد النظري لهذه الأحزاب. انحكمت المنطقة العربية إلى ثلاث أيديولوجيات، القومية العربية، والاشتراكية، والإسلامية، وطبّقت جميعها برامجها إلى هذا الحد أو ذاك وعبر مواقع متعددة. لم تكن أي منها تحمل بذورالاعتراف بالآخر والاحتكام إلى الديمقراطية في الحكم، بل جمعها قاسم مشترك أساسه رفض الآخر وقمعه والانفراد بالسلطة واضطهاد المخالف لها. في وقت عجزت هذه الأيديولجيات عن حلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والوطنية. وبدا ارتباك هذه القوى كبيرًا مع انفجار الانتفاضات، حيث لم تستطع أن تعي ما المتغيّر في نبض الشارع، وما ستسفر عنه هذه التحركات، مما وضع بعضها في خانة الشك بالحركة الجماهيرية وأهدافها.

في ظل هذا التشخيص يصبح مفهوماً ومنطقيا قراءة الأسباب التي حدت بجيل الشباب إلى إطلاق حركات الاعتراض وتصدّرها، وملء الفراغ الذي تركه تراجع الأحزاب والتنظيمات السياسية. الجديد المهم الذي دخل في ميدان المعركة، والمسؤول عنه جيل الشباب بشكل رئيسي، هو ادخال التكنولوجيا الحديثة المتمثلة بثورة الاتصالات بمختلف أشكالها في ميدان المعركة، واستخدامها وسيلة مركزية في التعبئة الجماهيرية. لم يكن بإمكان أجهزة السلطة هذه المرة أن تمنع حرية الرأي والتعبير والتعبئة، كما كان يتاح لها ذلك عبر منع الصحف ووسائل الإعلام التقليدية، وهو الأسلوب المتبّع لديها، فقد كانت وسائل الاتصال الحديثة أقوى منها بما لا يقاس، وكان بإمكان أجهزة هذه الإتصالات أن تحوّل أي بلد عربي إلى “قرية صغيرة”، بل هي فعلا حوّلت العالم العربي في متابعته للأحداث إلى بقعة صغيرة تتيح ضخ ومشاهدة كل ما يحصل دقيقة بدقيقة. لعلّ هذا التقدم العلمي اليوم يقضّ مضاجع كل حاكم عربي يتمنى في قريرة نفسه لو أنّ العالم العربي يعود إلى العصر الحجري.

صحيح أنّ العالم العربي يعيش مخاض الحركات الإحتجاجية والسعي إلى التغيير، منها ما حقق إنجازًا كما حصل في تونس ومصر، ومنه ما يكابد ويدفع ضريبة الدم للوصول إلى هذا التغيير. وصحيح أيضاً أنّ ما تحقق يحتاج إلى استكمال وإلى نضال مديد، لكن يجب رؤية الجوانب الإيجابية جدًا في المسار الراهن والمقبل والبناء عليه. لعل أهم الإنجازات يتعلق بكسر جدارالخوف الذي نجحت الأنظمة القمعية في زرعه داخل كل مواطن عربي. لم يكن امرًا بسيطاً هذا النزول إلى الشارع والإصرار على البقاء فيه والتعرض إلى القمع الدموي في كل مكان يجري فيه الحراك. لقد أدخلت الأنظمة بوليساً إلى داخل كل فرد ليشكل رقابة على التفكير ويحدد له مسار الوعي المسموح به. هذا الخوف المنكسر يشكل أحد عوامل استمرار النضال مستقبلاً لإكمال المسيرة وتحقيق المطالب. وقدمت الانتفاضات قاسماً مشتركاً من الشعارات في كل مكان أساسها إلغاء قوانين الطوارئ السائدة والإفراج عن حرية تشكيل الأحزاب السياسية وتأمين التعبير الإعلامي والفكري الحرّ، إضافة إلى مطلب مكافحة الفساد ومحاسبة مرتكبيه وناهبي ثروات الشعوب العربية. ولعل أهم المكتسبات شعور الانسان العربي بالقدرة على النهوض وتجاوز الهامشية التي أقام فيها طويلاً.

يسود نقاش جوهري وحقيقي اليوم عن القدرة على الحفاظ على المنجزات ومنع اقتناصها من قوى النظام مجددًا، أو هيمنة الحركات الأصولية والأحزاب الدينية عليها. إنه هاجس مشروع، ويشكل أكبرالتحديات أمام مطالب التغيير والقوى التي أطلقته. هنا يجب رؤية الأزمة ومأزق الحركات الجارية، وذلك بالمعنى الإيجابي للأزمة وليس بمعناها السلبي. أطلقت القوى الشبابية حركة وهي تفتقر إلى تكوّنها في أحزاب وتنظيمات، حتى أنّ بعضها كان يؤكد على عدم التزامه برامج سياسية معينة. هذا الواقع هو أحد عناوين المآزق الكثيرة حالياً. أمكن للحركة المندلعة أن تسقط النظام بمعنى من المعاني، وهي سائرة إلى نفس الهدف في سائر الأقطار التي تشهد حراكاً، فما يجب إدراكه أنّ فارقاً كبيرًا بين إسقاط النظام وبين التمكن من استلام السلطة وإدارة النظام الجديد. لسنا في أي قطر عربي أمام احزاب قوية وواسعة تقود التحرك نحو إسقاط النظام وإقامة نظامها البديل المحدد في برامجها (على غرار ما عرفته روسيا عام 1917 مع الثورة البلشفية). هذا الواقع يعني أنّ بقايا النظام وتنظيماته ستفعل في المرحلة المقبلة بشكل أو بآخر، كما أنّ بعض التنظيمات ذات التوجه الديني والتي تحوي قدرًا غير قليل من التنظيم سيكون لها موقع فاعل بحكم قدرتها التنظيمية هذه. مما يعني أنّ التحدي مطروح على الغالبية العظمى من الناس الذين لا يجدون تعبيرًا لهم عبر هذه القوى التقليدية.

إنّ اهم المكاسب هو إلغاء حالات الطوارئ وانتزاع الحق في تأسيس الأحزاب، والحق في التعبير الإعلامي والفكري، وهي مكتسبات تشكل الأساس الذي سيسمح بإعادة بناء حركة شعبية وسياسية جديدة، مقرونة بتكوين ثقافة سياسية وفكرية وبناء نخب على هذا الأساس. هذه الإنجازات هي القوة التي ستستمد منها قوى التغيير موقعها الجديد في البناء التنظيمي، والقدرة على النزول مجددًا إلى الشارع كلما لاحت ممارسات تنحرف عن الأهداف الأصلية للحراك. قد يأخذ هذا المسار وقتاً، هذا صحيح، فلا تتشكل الحركات السياسية وتصبح لها قواها الشعبية بين ليلة وضحاها، فهناك ممرات اجبارية ستمر بها لتصبح قوة مقررة، لكن الضمانة في الوصول إلى هذه القوة أن يظل نبضها على نبض الشارع، وأن تتمكن من بلورة برامج وخيارات اجتماعية تتصل وثيقاً بمصالح الناس. أما العيش في القلق من عدم التمكن بالإمساك بالسلطة راهناً وخسارة المواقع الأولى، فهو أقصر الطرق للإحباط واليأس. في هذا المجال، قد يكون غير حكيم ذلك التوجه الذي اتخذته بعض القوى في مصر تحفظاً على التعديلات المطروحة من جانب قوى النظام الحالي. فهذا التحفظ له نتيجة هي إطالة الحكم العسكري، وهو أمر جد مقلق بالنظر إلى كون العسكريتاريا العربية ليست مولعة بالديمقراطية ولا تقع ضمن ثقافتها.

ستمر جميع حركات التغيير بمراحل انتقالية، وستشهد نكسات صعودًا أو نزولا، ومحاولات إجهاض من القوى المتضررة من التغيير. لكن الضمانة تبقى في مدى القدرة على تجاوز حالات “الفوضى” التنظيمية لدى القوى الطامحة في وصول الإنجازات المتحققة إلى خواتيمها. إن الافادة من المناخ الديمقراطي السائد وتوظيفه في بناء حياة سياسية متقدمة، والتطلع الى الشارع دوما والنزول إليه، هي الطريق القادرة على إبقاء شعلة الأمل بالتغيير متوقدة.

موقع الآوان

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى