صفحات الرأي

من أجل بناء فكرة المواطنة/ لطفي العبيدي

 

 

انكشفت مساوئ الدولة الشمولية، التي تسبّبت في مآس كثيرة تركت المجتمعات تئنّ تحت وطأة الاستبداد ومصارع الاستعباد. فعندما تُحتكر الدولة لصالح نخب معيّنة على حساب الغالبية الساحقة يصبح المواطن العادي يبحث عن مصلحته الخاصة، ولا يضيف شيئا للدولة، التي لا يجد ذاته ضمن مؤسساتها تعبيرا وتمثيلا، فهو يرى عوالم متعارضة لا متعاضدة، أو متضادّة لا متداخلة ومندمجة، تستبطن معنى ما وبذلك يُوقّع بطريقته على نهاية السياسة وانحرافاتها.

وما يُقلّل من فرص الأمن والسلام داخل الدول، السياسات الخاطئة التي تُغيّب العدل والمساواة، ما يُنتج الاضطرابات الاجتماعية والسياسية على الدوام. ففي غياب التوزيع العادل نسبيّا للثروة، لن يكون هناك أداء سياسي فعّال، ولا اقتصادات مستقرّة، ولن تكسب الحكومات المتعاقبة أية شرعية في نظر شعوبها، فهي إمّا ضعيفة أو فاسدة أو عديمة الجدوى، لا رؤية لديها وغير متمثّلة لمشروع وطني تنموي فعّال.

أمّا التحول الديمقراطي فهو مرهون بقدرة الأنظمة السياسية على مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن اندماجها في الاقتصاد العالمي، ضمن سياقات العولمة، وأيديولوجيا الليبرالية وتحرير الأسواق، أهم ملامح تحدّيات النظام الدولي الجديد. فالاختبار الحقيقي ليس في التنظير والسفسطة السياسية، بل يكمن في طرح برنامج وطني ديمقراطي يتفهّم طبيعة المرحلة، وكيفية إدارة العمل السياسي بعيدا عن المصالح الفئوية والحزبية الضيقة، والتعامل الاقطاعي مع مؤسسات الدولة، بما يعنيه من ولاءات تنحكم بها التعيينات في مختلف المناصب، وتُقصى فيها الكفاءات وتُغيّب ضمن أطر التهميش واللامبالاة، ولا فرصة تُعطى للكوادر النوعية في إدارة الشأن العام. تلك ثقافة سياسية سائدة في تونس اليوم، يكرّسها حزبا النداء والنهضة الحاكمان، وفيها تقويض جوهري لنظام الحكم الديمقراطي، فالأحزاب السياسية الحاكمة عندما تفقد الرؤية والمشروع الوطني الديمقراطي العقلاني، تصبح عندئذ غير قادرة على التعبير عن تطلّعات المواطنين في الدولة المدنية الحديثة، أو معاملتهم وفق ألف باء المواطنية الدستورية. ومثل هذه الأحزاب التي تنهش الوطن والدولة لا تُعدّ بديلا عن التعبيرات القديمة القائمة على الاحتماء بالعشيرة أو القبيلة أو الطائفة، فهي ترفع الديمقراطية شعارا وتدين بالولاء للزعامات المعصومة من الخطأ والمُلمّة بأحوال السياسة دون غيرها، تحرصها «العناية الإلهية»، وغيابها أو مجرّد الإشارة إلى إمكانية غيابها «يُقوّض الأمن القومي» ويهدّد كيان الدولة والسلم الاجتماعي.

مثل هذه الثقافة السياسية تحرص بعض الفضاءات الإعلامية على تلميعها والتبشير بها وكأنّنا بها نسيت أو تناست أنّ الجماهير ليست قطيعا يُسيّر كما تشاء، وسكونها الغامض يُفترض أن يكون تعبئة حركة. ذاك درس التاريخ لمن شاء أن يبحث في ثناياه، وغياب المساءلة وجميع أشكال المحاسبة للسياسيين الذين يتقاسمون النفوذ مع رجال أعمال فاسدين، ينهض دليلا قاطعا على تمثيلية ما يسمّى «الحرب على الفساد»، فاللوبيات المالية تتقاطع مصالحها مع مكوّنات حزبية فاعلة، ولا أمل يُرجى من شخصيات سياسية تابعة، تقدّس الزعيم أو رئيس الحزب ضمن علاقة عمودية تُغيّب الموقف والتعبير الصادق، وهي صورة مثلى عن المراهقة السياسية وغياب النضج السياسي، ومثل هذه الحال تسمح بالارتحال من حزب إلى آخر طلبا للمصلحة الآنية هنا وهناك، ويزداد الوضع قتامة عندما تصبح مصالح المواطن اليومية شبه اهتمام من الدرجة الثالثة.

ذاك شيء من فهم يدفع إلى العمل من أجل تحقيق التغيير الضروري للعقليات والبنيات الفكرية – ذلك التغيير الذي من شأنه توفير الشروط الملائمة لحياة أكثر عدلا وأكثر إنسانية، فالمشهد السياسي والحزبي التونسي لا يمكن أن يمثّل عامل استقرار وطني، ولا إطارا فاعلا في بناء العملية الديمقراطية عندما تزداد أشكال الفساد وتعطى الفرصة من جديد لقوى النظام القديم للعودة إلى السلطة، وإعادة تمتين البنية الكلاسيكية الفاسدة سلفا. وما ذلك إلّا هدم للذات المواطنية بالقدر الذي نهجر فيه المشروع الوطني الذي نادت به الجماهير الشعبية وتطلّعت إليه.

كاتب تونسي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى