صفحات الرأي

من أين جاء هؤلاء المتطرفون؟/ إبراهيم غرايبة

 

 

تمضي استراتيجيات مكافحة التطرف القائمة في العالم العربي اليوم وفق رؤية غير معلنة ولكنها واضحة، الدولة تحتكر الدين، فالحرب في جوهرها ليست ضد التطرف بذاته، ولكنها ضد ممارسة الدين أو تطبيقه وحتى فهمه خارج المؤسسة الرسمية، فالجريمة لا تختلف عن تهريب السلع غير الممنوعة لذاتها، السجائر والتبغ ليست محظورة على سبيل المثال ولكن يحظّر توريدها إلى البلاد بعيداً من الجمارك والمنافذ الحكومية المخصصة لاستيراد البضائع والسلع. وعلى رغم بساطة هذه الفكرة ووضوحها، فإن أحداً لا يريد أن يأخذها في الاعتبار؛ الدولة ومؤسساتها الدينية والإعلامية والأمنية، وأعداء التطرف الجادون من المثقفين وغير المتدينين والمتدينين المعتدلين، لأنهم وببساطة لا مكان لهم في مواجهة التطرف إلا بالتحالف مع الدولة التي لا ترفض التطرف ابتداء ولكنها ترى نفسها في حالة حرب ومواجهة لا تختلف عن المهربين والخارجين على القانون.

فهو تحالف مراوغ، يترك فيه المثقفون أنفسهم ينخدعون؛ فيشاركون في برامح ومؤسسات إعلامية وفكرية وبحثية، موهمين أنفسهم بأنهم يعملون لأجل الاعتدال والتسامح والتنوير، ويبدعون في التنظير لأجل التوفيق بين الإسلام والديموقراطية والعلم، ويجدون أدلة بلا حدود على التسامح والاعتدال والتعايش، ولا يحاولون ملاحظة أن أحداً لا يستمع إليهم ولا يريدهم، وأن المتطرفين أقرب إلى السلطة منهم، إنهم في نظر رجل الدولة ليسوا سوى مجموعة من الثرثارين الذين لا حاجة لهم سوى أن يسمعهم الغرب، وهؤلاء (الغرب) بمنظماتهم ومؤسساتهم المشغولة بحقوق الانسان والتنمية والديموقراطية هم ايضاً يُشعرون أنفسهم بالرضا الزائف معتقدين أن ثمة قطاعاً واسعاً وممتداً من المعتدلين والمناضلين لأجل قيم الديموقراطية والتسامح، لقد رأوا بأنفسهم المئات منهم في كل لقاء أو احتفال في فنادق الخمس نجوم وبخاصة في الغداء وحفلات الاستقبال، وهو جمهور يبدو أكثر عدداً واهتماماً من الناشطين في الغرب، ويتحدثون الانكليزية بكفاءة، ويطبّقون أسلوب الحياة القريب الى العالم المتحضر!

ولكن أحداً من هؤلاء المعتدلين والمتنورين الأنيقين لا يريد أن يعترف بأن قيم الاعتدال والتسامح والديموقراطية التي يتحدثون عنها بإسراف في الفنادق والندوات ووسائل الإعلام لا يستطيع أصحابها التقدم بها الى الناخبين وستفشل في الاختبار الديموقراطي الذي يدعون إليه، إنها ببساطة إيقونات جميلة ورائعة ولكنها لا تملك قواعد اجتماعية تتحرك لأجلها وتنتخب أصحابها في المجالس النيابية والبلدية والنقابية.

والحقيقة الأخرى القاسية المؤلمة أن التنوير والاعتدال يحلاّن في مجتمعات ومدن قائمة بالفعل، وتسعى في تشكيل وعيها لذاتها؛ ما يعني بالضرورة أن جهود وبرامج بناء الاعتدال والتسامح يجب أن تكون عمليات وبرامج لتجميع الناس والمجتمعات والجماعات والمدن والأماكن حول أولوياتها ومصالحها وأن تلاحظ المجتمعات بالفعل العلاقة بين مصالحها وتقدمها وبين الاعتدال والتسامح؛ إنها في الواقع تشكيل المجتمعات واستقلالها وقدرتها على بناء مواردها ومؤسساتها، ثم وبطبيعة الحال بناء القيم والثقافة والافكار التي تحمي هذه الموارد والمؤسسات وتطوّرها. لكن تكاد لا توجد لدينا مدن ولا مجتمعات، وهذه القيم الجميلة التي ندعو إليها تفتقر الى الشرط التقني الأساسي لنجاحها وهو وجود المدن والمجتمعات.

والحقيقة الثالثة والأكثر إيلاماً وقسوة هي أن المصادر الفكرية والدينية للمتطرفين هي نفسها المصادر القائمة والمتقبلة لدى العرب والمسلمين على مدار واقعهم وتاريخهم، فهم لا يستخدمون في واقع الحال أدلة ونصوصاً غريبة علينا ولا يؤمنون بغير ما نؤمن به، ولكنهم في نظر الدول يريدون تطبيق مبادئهم بأنفسهم، وهذا حق الدولة وواجبها، وهم في نظر الجماعات الإسلامية السياسية (المعتدلة) متعجلون لا يأخذون بسنن التدرج، ولم يلاحظوا أن الرسول سكت على الأصنام حول الكعبة وأجّل هدمها الى حين امتلك القوة الكافية لذلك، بمعنى أننا لا نختلف عن الجاهلية في شيء، بل نحن جاهلية، وأن الفرق بين «داعش» و «الإخوان» هو في التدرج وفي توقيت ذبحنا وهدم أصنامنا! ولا خيار لنا سوى الهروب من التطرف الجماعاتي الأرعن إلى تطرف الدولة!

* كاتب أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى