صفحات العالم

من الأمّة إلى الإمارة فالدويْلَة


نسيم ضاهر *

تخطَّت حلقة السلطة في دمشق الخطوط الحمراء كلها، بمعايير القرن الحادي والعشرين، وهي متمادية في تحدِّي أبسط القواعد وفي دوس حقوق الإنسان، كما لم تشهده دولة مُتحضّرة، ولم يمارسه أي حاكم عربي، عدا صدّام حسين في زمن سطوته باسم البعث والنشامى. الحال، أن المشتق البعثي في بلاد الشام له من النسب المشترك ما يُؤهِّله لإشهار السيف في وجه الرعية، لتلازم موقف الإخوة الأعداء من قضية الديموقراطية والحريات، علاوة على مفهوم السلطة ووظائفها. لذا، ينبغي التنويه بأن عناوين الصالح العام والأصالة الشعبية ومقدرات البلد والأطُر السياسية والمؤسسات، في عرف المدرسة المفلسة، إنما عنت إرادة الحاكم وبطانته، وانبثقت منه، يفعل بها ما يشاء. كذلك، ليس الحل الأمني ذلك الطارئ على نظام شمولي متشدِّد، لأن لزومه من الأساس، رافق نشأته، وهو يحمي بقاءه ما أمكن، بل إن شرط استمرار النظام رهن بمعادلة الأمن واستيلاء أدواته على الحياة العامة، خدمة لرأس الهرم، وعملاً بتوزيع المهمات والمسؤوليات.

إن الذي تشهده سورية وتعاني منه منذ شهرين ونيّف يتجاوز المعرّف عنه بالأمني، ويندرج في نطاق الحملات العسكرية المتعاقبة على المدن والبلدات، بغية عزل معاقل الثورة الشعبية وتقطيع أقنية التواصل بين بُؤر الاحتجاج. ثمّة وحدات من الجيش تشاطر الأجهزة مهمة القمع، يناط بها سحق التمرّد واقتلاعه بما توافر لها من أسلحة وعتاد. للمرة الأولى في التاريخ الحديث، تلجأ السلطة الى قطعات بحرية لإخماد الاحتجاج في مدينة، كما شهد العالم بأسره الطوق المضروب على اللاذقية، لاذقية العرب كما يسمُّونها، تدكّها مدافع العروبيين.

في الواقع أنجبت عملية الإصلاح المزعومة، التي ما زالت لبّ الدعاية الرسمية المضادة للحقائق، حزمة تدابير استئصالية، طابعها دموي بامتياز، استدعت زجّ القوات المسلحة، بعد تبيان فشل الأجهزة الأمنية في لجم الانتفاضة واحتواء الحراك الشعبي. ستؤول هذه الخطيئة الكبرى، على الأرجح، الى تأجيج الصراع الداخلي والدفع باتجاه الحرب الأهلية، خشبة الخلاص البادية في خطاب الطغمة، حيث تتفوق القوة على صدور المحتجّين العارية، وتتحقق نبوءة الشؤم التي ردّدها في خصوص العصابات المسلحة والمندسين.

كما بُنيت فصول الحملة العسكرية على حاجات القيادة ومخططات الأركان العامة، كذلك تبنى السيناريوات، العاجلة والبديلة، تبعاً للضرورات من وجهة نظر واضعيها وأعوانهم. تقول العودة الى الأساسيات والركائز، ان سورية الأسد قلّما تشبه الجمهورية السورية، سواء من ناحية المقدمات، أم من زاوية المحددات. أريد للجمهورية السورية ان تكون عربية، تختصر الأمة الى حين تحلّقها حول دمشق وتوطدها، فجادتها الانقلابات ببذور حركة تصحيحية تربّعت على السلطة بشخص منفذها وخضوع بطانة تأتمر به وتعاونه متكئة على هيكل حزبي وتعبئة عشائرية أمسكت بالمفاصل الأمنية وخولت مركز القرار السلطة المطلقة بقبضة حديدية. هكذا أضحت المؤسسات الدستورية مجرد توابع تحفها الديكورات، حفظت المواقع شريطة الولاء المطلق لقاء الانتفاع بها، وبخيرات اقتصاد موجّه أساساً، تشاركت فيه وعليه شرائح بورجوازية مدينية مع ريفيين من أبناء النظام.

ولئن أَذِنَت ساعة التوريث، انتقلت العهدة الى الرئيس بشار إثر تعديل دستوري سريع مناسب، فما أحسن العهد الجديد إكمال الطريق وانطفأت المحاولات الاصلاحية الخجولة. بل تكسّر التكيف مع مطلع الألفية الجديدة عند بنية نظام يأبى التغيير، ويرفع شعار الممانعة ومصائر الأمة غلافاً للتردّي الداخلي، وغطاءً للتحجّر والجمود في المكان.

خلافاً لأسطورة تأبطّت الأيديولوجية محفظتها، أسّست العسكريتاريا إمارة بحجم مملكة، وراثية، اختزلت في سورية على نحو الإقطاعية، يسود شعبها الصمت قسرياً، وتحوز وكالة حصرية عن الأمة ومصالحها. وفق هذه الترسيمة، أضحى وضع اليد على لبنان جائزاً مشروعاً، لتعذر ابتلاعه، وتم التسويغ للوصاية على فلسطين وتجاوز منظمة التحرير والسلطة الوطنية، فكان نصيب الموصى عليهم تفتيت كيانهم السياسي وزرع الشقاق في ما بينهم تحت راية القضية وممانعة التنازلات. وعلى مدى العقود، بقي الجولان محتلاً والجبهة هادئة، لانشغال مهندس الأمة بسائر سورية الجنوبية، أي التعايش الصعب مع الأردن العاصي، على رغم القلائل التي أثيرت وأجهضت، وإقعاد من استجاب فلسطينياً لدعوات دمشق في لاءات لم تنتج إلا المناورات والهزائم والمآسي.

بلغت سورية حافة الانهيار لتعنّت النظام وتمسكه بالسلطة القهرية رافعة له على نمط كولونيالي. كانت بوادر الأزمة الاقتصادية تتراكم منذ أعوام والمؤشرات سلبية في معظم الميادين الى أن بدأت مواجهة الاحتجاج بالعصا الغليظة وما تلاها من إراقة دماء. وحده المكابر ينكر أن النظام دخل نزاعه الأخير، ولن يفيد في إنعاشه دواء. وعليه، انقضت فترة السماح المعطاة له في السابق بغية إنجاز تسوية مقبولة، ولا شفاء لسورية بوجود أصل العلة في جسدها بعد الآن. ولن يفاجأ متابع الشأن السوري إن قررت حلقة السلطة الهروب الى الأمام، لا باتجاه إخضاع المحافظات الملتهبة هذه المرة، إنما نحو الدويلة المعدّة كملاذ.

فعند المصائب يهون التخلي عن الأحلام والأوهام، ويطفو المكتوم الخفي على السطح، وهو الحاضر على شاكلة البديل المحصّن بالأتباع. هل هذا مستحيل؟ فلننظر الى واقعة اللاذقية ونتفحّص ما تخبئه من غايات. اما النزول من علياء الأمة الى مستوى الدويلة فمقوماته ظاهرة في الإمارة. وإذا لا مفرّ من ضياع الإمارة، فالعوض بدويلة تحدُّ من الخسارة وتقي من الرياح. وهل نعجب من واضع كتاب الأمة على مقاس حكمه، إذا ارتأى سحبه من التداول والمكتبات.

* كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى