صفحات العالم

من الأولى بالسجن : عمر كوش أم سجّانوه ؟!

 


عريب الرنتاوي

أعترف بأن نبأ اعتقال الكاتب والمفكر السوري عمر كوش، قد هزني شخصياً أكثر من أي نبأ عن الاعتقالات التي لم تتوقف في سوريا طوال الأسابيع والأشهر القليلة الفائتة، وذلك لأسباب عديدة، أولها أنني عرفت الرجل عن كثب خلال السنوات الأخيرة، ولم أجد فيه سوى ذاك المثقف الهادئ والمخلص لقضية بلاده وشعبه وأمته…رأيت فيه النظرة الموضوعية المتزنة والإحساس العميق بالمسؤولية الوطنية…رأيته أبعد ما يكون عن «التطرف» بكل صوره وصيغه…زاملته في ندوتين، وكلتاهما بترتيب مني ومن زملائي في مركز القدس للدراسات السياسية، الأولى عن «كوسوفو وفلسطين» والثانية عن»التجربة الديقراطية التركية»، ولم يكن أداؤه في كلتيهما مدعاة لتوقعات بالسجن والاعتقال، حتى وفقاً للمقاييس العربية بعامة والمعايير السورية بخاصة.

وثانيها: أن الرجل جاء إلى أنقرة بدعوة مني شخصياً للمشاركة في «الرحلة التعليمية» التي نظمها المركز لعدد من البرلمانيين والمفكرين والقادة الحزبيين من 17 دولة عربية، ولولا تطور المواجهات في سوريا، لكان من المفترض أن يكون معنا إلى جانب كوش، كل من الدكتور جورج جبّور والأستاذ محمد حبش، وكلاهما غير محسوب على المعارضة، ولا أدري ما إذا كانا سيواجهان الاعتقال من المطار عند عودتهما من أنقرة كما حصل مع زميلنا كوش…في هذه النقطة بالذات، أشعر بمسؤولية شخصية، حتى لا أقول بعقدة ذنب، كوني المتسبب – ربما – في هذا الوضع الصعب الذي وجد كوش نفسه فيه، برغم مكانته الأدبية وتقدم سنه النسبي، وحالته الصحية.

وثالثها، أن كوش لم يغادر أنقرة، نحن من حجز له وتتبع رحلته، نحن من استقبله لحظة وصوله وودعه لحظة مغادرته…لم يشارك في اجتماع اسطنبول للمعارضة السورية، هو يرفض أساسا أن يصنف نفسه معارضاً، حدثني عن لقاءات له مع وزراء إعلام في بلده، كان يحرص أن يقدم نفسه كـ»مثقف نقدي» وليس كشخصية سياسية معارضة…وأحسب أن الأخوة في سوريا ربما ظنوا أن زميلنا كان في اسطنبول…هو مرّ بمطارها فقط (ترانزيت)، لعدم وجود رحلات مباشرة من أنقرة إلى دمشق ومعظم العواصم العربية…لدي مئة شاهد على الأقل على ما أقول، ومن مختلف المستويات القيادية والأكاديمية، العربية والتركية .جميعهم يؤكدون روايتي ورواية كوش على الأرجح…مع أنني والحق يقال، أقف بقوة ضد اعتقال أي سوري بتهمة انتمائه للمعارضة أو مشاركته في أي من اجتماعاتها ومؤتمراتها.

لا أدري ما المبرر أو المسوّغ الذي يمكن للسلطات السورية أن تسوقه لاعتقال كاتب ومثقف مثل عمر كوش..هل هو ضالع في «المؤامرة» التي يتحدثون عنها…هل هو ناشط في العصابات المسلحة التي يزعمون قيامها بعمليات القتل والتخريب والترويع والقنص من على أسطح المنازل والعمارات…هل هو عضو سري في خلايا القاعدة والإخوان المسلمين النائمة واليقظة؟…لماذا يُعتقل عمر كوش، وإذا كانت جميع الاعتقالات في سوريا من طبيعة هذا الاعتقال، وعلى صورته وشاكلته، فمن حقنا أن نكذّب وبالفم الملآن الرواية الرسمية السورية، وهذه المرة لدينا الدليل والشاهد…إن كانت كل الاعتقالات من هذه الشاكلة وهذا الطراز، فمعنى ذلك أنه لم يتبق على النظام في سوريا سوى أن يشرع في اعتقال جميع السوريين، أو يطلق حملة لتسييج سوريا برمتها وتحويلها إلى سجن كبير، داخله مفقود وخارجه مولود.

لقد سمعته يتحدث إلي هامساً – ليلة سفره – عن مخاوف وخشية من مواجهة مصير مماثل، ربما كان حدسه أو عقله الباطن، قد استيقظ…ربما قراءته للتزامن المزعج بين زيارة وفدنا لتركيا وانعقاد مؤتمر اسطنبول…ربما لمعرفته الأعمق بشعاب سوريا الذي هو من أخلص أهلها لها….لكنني أعترف بأنني لم أتوقع أبداً ان شيئا كهذا يمكن أن يحدث، وأن يحدث في ذروة انتعاش العرب وانتشائهم بربيعهم…لم أكن أصدق بأن حوارات «أكاديمية» عن الإسلام والعلمانية والمدني والعسكري في التجربة التركية يمكن أن تدفع بكوش إلى سجن المزّة…سيما وأن الرجل في سجالاته، كان منافحاً هادئاًَ عن التعددية في مواجهة الأحادية والشمول، والعلمانية في مواجهة الدولة الدينية، والمدني بديلا عن العسكري في حكم البلاد والعباد…كوش تحدث بلغة العصر ومنطقه، وسجّانيه يريدون أن يعيدوا عقارب الساعة للوراء، ولكن هيهات أن يكون لهم ما أرادوا.

النظام في سوريا يخسر كل يوم صديقا أو جملة أصدقاء..حتى الذين راهنوا عليه، ها هم ينقلبون عليه أو يرسلون له آخر كتب النصيحة…القادة الدوليون الذين انفتحوا عليه في أزمنة العزلة والحصار، ها هم يتقدمون صفوف المطالبين بإخضاعه لأقصى العقوبات….النظام يخسر كل يوم صديقا، ورصيده ينفد، وما لم يبادر الرئيس الأسد شخصياً، إلى أحداث الانعطافة الجذرية والشاملة والفورية، ما لم يسلك طريق الحوار الشامل الذي لا يستثني أحدا، والإصلاح الذي لا يقف على العمليات التجميلية…ما لم يبيّض السجون، بدءا بإطلاق سراح زميلنا عمر كوش، ويوقف حملات الاعتقال وسفك الدماء، فإن المجهول والمجهول وحده، هو ما ينتظر هذا النظام…أما سوريا فباقية ما بقيت جبالها وسهولها وهضابها وأنهارها…سوريا باقية ما بقي في شعبها عرق ينبض.

الدستور

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى