زين الشاميصفحات سورية

من الزبداني إلى حمص… حكايات الأصدقاء


زين الشامي

منتصف شهر نوفمبر خرج محمد خالد برهان من المعتقل بعد أن قضى فيه نحو ثلاثين يوما ذاق خلالها أقصى أنواع التعذيب والإهانات بسبب مشاركته في التظاهرات في مدينة الزبداني، غرب دمشق، ضد النظام الاستبدادي. يقول شهود انهم رأوه يبكي عندما كان في السجن فسأله احدهم: ما بك؟ فقال له «لم يتركوا طريقة بالتعذيب إلا وجربوها معي ولا تهمة إلا وألصقوها بي.»…

ويضيف الشهود أنه عندما أفرج عن محمد سمعوه بالباص يقول انه اشتاق لأولاده كثيرا، وأنه اتصل لحظة سماعه خبر الافراج عنه بزوجته وطلب منها إيقاظ الأطفال لأنه يريد أن يحضنهم جميعا، ويشم رائحتهم، ويقبلّهم كل واحد على حدة مئة قبلة…

عندما وصل محمد إلى الحي الذي يسكن فيه خرج الأقارب والاصدقاء لاستقباله، ولم يكن وصل إلى منزله حيث أطفاله وزوجته ينتظرونه. ومن شدة فرح الأقارب والأصدقاء به قاموا بإطلاق الألعاب النارية… القناصة ورجال الأمن والشبيحة الذين كانوا قريبين من المكان استاؤوا من كل هذا الفرح فأطلقوا وابلا من الرصاص، إحدى الرصاصات اخترقت جسد محمد أمام الجميع، الرصاصة ذاتها نفذت إلى جسد قريب له كان يعانقه بحرارة، يسقط الإثنان على الأرض… الأطفال والزوجة بقوا ينتظرون، لم يستطع محمد خير برهان أن يحتضن ويقبل أطفاله مئة قبلة كل حدة.

وكان قد بث ناشطون على «اليوتيوب» صورا مؤثرة للحظات وداع أصدقاء وأسرة محمد الذي كان ملتفاً بالأبيض بينهم، وسط عويل الأطفال والنساء والرجال، وكان المشهد الأكثر ألماً لطفلته التي كانت تبكي وتصرخ غير مصدقة فقدان أبيها، ثم تطبع قبلة اخيرة على وجنته.

قالوا ان الزبداني كلها بكته… حتى السماء في ذلك اليوم هطلت بغزارة، قال بعضهم ان السماء كانت تبكي بغزارة والأشجار كانت داكنة. أحدهم رأى شبيحا يحمل بندقيته على سطح مبنى قريب وينفث سيكارته…

وفي الزبداني ذاتها القريبة من الحدود الجبلية مع لبنان، وفي اليوم نفسه خرج الطبيب والناشط السياسي كمال اللبواني الذي اعتقل في مطار دمشق في 2005 بعد عودته من الولايات المتحدة حيث قابل مسؤولين بالبيت الأبيض. هذه الزيارة كلفت اللبواني حكما بالسجن 12 عاما مع الأشغال الشاقة بتهمة «التحريض على الغزو»، وقد كان ذلك غريبا لأن اللبواني ومن خلال أكثر من لقاء صحافي من داخل الولايات المتحدة عبر عن معارضته لأي تدخل أجنبي أو عسكري في سورية. لكن المؤسسة الأمنية، ومن يشرف عليها، كان لهم رأي آخر، فكمال اللبواني، وأنا أعرفه عن قرب، شخصية تجعل النظام وكل من فيه يرتعد خوفا، لأن كمال هو معارض سياسي محبوب من قبل الناس، وهو جريء وصادق أيضا، اي من النوع الذي «لا يخشى في قول الحق لومة لائم».

خلال سنوات سجنه بدا أن الناس نست كمال اللبواني، لكن وما ان اندلعت الحركة الاحتجاجية حتى ثبت لنا العكس، ففي 21 أبريل الماضي، اتجهت مظاهرة لأهالي الزبداني إلى عيادة الدكتور اللبواني المقفلة منذ سنوات، لتمسح الغبار عنها من الخارج، ولتطالب بإطلاق سراحه، في الوقت نفسه تماما كانت مواقع التواصل الاجتماعي تبث صورا من داخل سورية عن إسقاط المتظاهرين لتماثيل الرئيس حافظ الأسد، وإحراق صور ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد… لم ينس السوريون أبدا ولن ينسوا.

في حي باب سباع في مدينة حمص أخبرني ناشط ومشارك يومي في الاحتجاجات منذ اندلاعها في منتصف مارس الماضي أنه عندما يتعرض للتفتيش فيما بنادق الجنود موجهة إلى صدره نحو 4 مرات أثناء ذهابه وعودته من صلاة الجمعة، وعندما يرى أكثر من 300 جندي مدججين بأنواع السلاح كافة مع سيارة عسكرية أمام باب المسجد، مع انتشار القناصة على أسطح البنايات المطلة على المسجد، وعندما يرى رعدة تسري في جسد العسكري حينما تلتقي النظرات مع بعضها البعض، ثم ينهزم ذلك العسكري ويزيح نظره بسرعة، عندما تحدث هذه الأشياء كلها، قال صديقي «أشعر أن حمص لا تختلف عن القدس المحتلة»…

وفي حمص، قلب سورية وقلب «ثورتها» هناك، ويوميا، مشاهد لن تنسى ولا يمكن وصفها. على «اليوتيوب» رأيت عبدالباسط ساروت حارس مرمى منتخب شباب نادي الكرامة ورفاقه في حمص العدّية يهتفون بالكردية والعربية، ويغنون للقامشلي والحرية: آزادي، ويقولون باعلى الصوت «الشعب السوري واحد»، إنهم يحطمون ما بناه النظام وحزب «البعث» طيلة عقود، إنهم يبنون سورية الجديدة. أحسدكم يا اهل حمص… ويا لروعتكم.

وفي حمص أيضا، وقبل نحو خمسة أشهر أضحك أحمد مروان عروب ملايين الناس في الوطن العربي بمقطع فيديو في حي الخالدية بحمص وهو يحمل «بوري مدفأة» ويتظاهر بأنه مدفع ثم يستلقي على الأرض ويحمل ألعاباً نارية و يطلقها باتجاه عصابات الأمن… لكن الآن أصبح اسم أحمد… الشهيد أحمد بعد أن قتلته القوات الأمنية التابعة لنظام الأسد.

منذ أيام كانت مدينة القورية في دير الزور تقصف بكل أنواع الأسلحة، بالدبابات والرشاشات والمدفعية، وقبل ذلك تم قطع الكهرباء والماء عن المدينة التي تعاني بالأصل من نقص حاد بالخبز والمازوت كل شيء، لكن أهالي المدينة خرجوا بالشموع ليهتفوا بسقوط النظام غير آبهين بأصوات القذائف، في اليوم التالي تم تقسيم الخبز والوقود والأدوية بين الناس… كتب صديق لي على صفحته على «الفايسبوك»: «وقف رجل وسط الساحة وقال… عندي خمسين دونم أرض وعندي سيارة وسبع شباب وأربع بنات وأنا… كلنا فداء للثورة».

وفي بنش في محافظة ادلب… أخبرني صديق كان يشارك في جمع التبرعات والمواد الغذائية ليصار إلى إيصالها إلى أهل حمص المحاصرين منذ أشهر، ويتعرضون لحملة قمع رهيبة وحصار خانق، إن إحدى الأرامل أتت حاملة نحو نصف كيلو غرام من زيت الزيتون قائلة انها تريد المشاركة في مساعدة أهل حمص. قال لي صديقي أن تلك المرأة لم تقبل أن نردها خائبة بعد أن قلنا لها ان وضعها مأساوي، وهي بحاجة أصلا

للمساعدة، ويضيف: «بعد أن خرجت تلك المرأة، ذهبت الى زاوية المسجد حيث نجمع التبرعات وبكيت».

الثورة في سورية كنهر العاصي، تمضي وتنظف في طريقها كل الأدران وما علق من قبح «البعث» والمافيا الحاكمة.

كاتب سوري

الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى