صفحات مميزة

من السياسية الطائفية إلى مقدمات الإقتتال الطائفي: هيثم وقاف

 

هيثم وقاف

كان تناول موضوع الطائفية في المجتمع السوري، ضرباً من الهرطقة السياسية. يمكن أن يواجه بكل أشكال التعنيف. في الوقت الذي كان الجميع يعلم، أن السياسة الطائفية للنظام، تتغلغل في كل مفاصل الدولة والسلطة والمجتمع. كانت السلطة تعيّ مخاطر إخراج هذا الموضوع إلى العلّن وتداوله. فالحديث في الشأن الطائفي سيفضي، إلى تفكيك خطابها “القومي العلماني” المهيمن، ويكشف مدى زيفه وتهافته. وسيضع سياستها الطائفية في نصابها الحقيقي، بوصفها عائقاً أمام الإندماج الوطني، وبناء الدولة الحديثة، القائمة على أساس حقوق المواطنة المتساوية. وقد يشجع، في ظروف خاصة، على بلورة خطاب طائفي يطالب “بالعدالة الطائفية”. الأمر الذي سيطال شرعية الحاكم الأول، بحكم انتمائه الأقلوي. بديلاً عن هذه المخاطر المحتملة، تعمل سياسة الحجب، على تعزيز المشاعر الطائفية المكتومة،وزيادة الطلب على حضور السلطة،

 كلاحم وطني أوحد، لفئات متزررة ومتنازعة.

توخت استراتيجية النظام الطائفية،العنصرية نشر وهم حماية الأقليات بعضها من بعض، ومن الطائفة الكبرى: السنية/العربية على وجه أخص. وبحسب هذا الوهم يعتبر النظام القائم،صمام الأمان لإقتتال أهلي محتمل، في أي وقت تتعرض فيه سيطرة الطغمة الحاكمة للخطر. إقتتال لا علاقة للسلطة به من أي وجه. بل هو أقرب إلى أن يكون من طبيعة الأشياء. فالناس في سوريا ينتظمون في طوائف، وإثنيات متعددة ومتنافرة. ويضمرون لبعضهم البعض أحقاداً تاريخية موروثة. وما إخاؤهم الظاهر إلا تكاذباً فيما بينهم. والسلطة التي خبرتهم، هي وحدها، التي تعرف كيف تسوسهم جميعاً….. وهكذا ما إن تتعرض السلطة، لأزمة في الهيمنة حتى تبدأ ماكيناتها السياسية والإعلامية في الإشتغال على موضوع الإقتتال الأهلي والتخويف من وقوعه. حدث هذا على سبيل المثال: عند صراع الأخويين على السلطة في الثمانينات، وكذلك عند موت الأسد الأب.

وفي الوقت الذي روجت فيه السلطة لمزاعمها في الوطنية والعلمانية، كانت سياستها الفعلية تغذي المخيّال الطائفي، وتبث روح الكراهية بين أطياف المجتمع كافة، وتخوّف الكل من الكل، وتستثمر الاختلافات في العقائد والطقوس استثماراً طائفياً /عنصرياً. الأمر الذي أعاق جدياً، تكوين هوية وطنية جامعة وصلبة. وجعل السوريين يعرفون بهوياتهم الجوهرية الثابتة، لا بمواطنيتهم السورية. لقد أسهمت السياسة الطائفية هذه إلى حدّ كبير في إنعزال الأقليات السورية، وعززت قلقها الوجودي، وبلورت لديها صورة نمطيّة عن ذاتها وعن الآخر،وزادت من مخاوفها على مستقبلها.

وفي الوقت الذي حاربت فيه السلطة، أي مسعىً لإنتقال الطوائف إلى مكونات سياسية مستقلة. أفسحت لها المجال للحضور ضمن أجهزة الدولة، والسلطة، والحزب،والمنظمات الشعبية، وفقاً للترسيمة الطائفية التي اعتمدتها.

وهي ترسيمة قامت على إحتكار الطائفة العلوية لجهاز السلطة. قابله إقصاء لبقية الطوائف عن هذا الحقل، الذي هو حقل السيطرة السياسية بإمتياز. بكلام آخر، تمّ استبعاد الطائفة السنية خاصة، وبقية الطوائف عامة عن ميدان السيطرة.

في الواقع، باتت الممارسات الطائفية للطغمة الحاكمة، أشدَّ وضوحاً واستفزازاً منذ إنتصارها الساحق على الإخوان المسلمين في الثمانينات من القرن الماضي. وتكرست في العقود التالية الحقوق الطائفية غير القابلة للتصرف. وكان يعاد إنتاج السلطة طائفياً،عبر انتخابات شكلية تعيد بدورها إنتاج التمايزات الطائفية، وتعمق الوعي الطائفي النابذ للوحدة الوطنية. لكن النظام في كل الأحوال، كان عاجزاً عن إقناع محكوميه من غير العلويين، أن هذاهو النظام الطبيعي. وأن التفاوت في مواقع النفوذ،على أساس الإنتماء الطائفي هو أمر متخيّل. وترك لأجهزة الضبط والمراقبة والعقاب، مهمة كتمّ قناعات المحكومين ومشاعرهم، طيّ صدورهم، حتى قيام الثورة.

 على قاعدة  الولاء السياسي التي لا غنى عنها في أنظمة السيطرة،غالباً ما كان الصعود الى مواقع الهيمنة، مرهوناً بالإنتماء الطائفي.هذا يتسق مع استراتيجية طائفية لسلطة مغلقة، يتربع على عرشها حاكم أقلوي. وتحتاج في ديمومتها إلى الإعتماد على مايسمى بأهل الثقة، الذين يتوافرون عادة عند ذوي القربى في الدائرة الأضيق،وعند أبناء الطائفة في الدائرة الأكثر اتساعاً. وكانت تهدف هذه الإستراتيجية الطائفية، من جهة أخرى إلى تمكين الطغمة الحاكمة، من إقناع الطائفة العلوية بتمثيلها سياسياً تمثيلاً حصرياً، وأن في ذلك، الحافظ لوجودها في مواجهة الطوائف الأخرى التي تعاديها وتتربص بها.

وإذا كان المبدأ الأصيل في هذا النظام هو الولاء للحاكم المطلق. فإن لهذا الولاء محددات ضرورية لإعتباره. محددات بعضها واجب الوجود، في مواقع معينة للمسؤولية. ففي أجهزة السلطة الأمنية أو وحدات الجيش الخاصة، يصبح الإعتبار الطائفي هو المحدد الأساسي للولاء. يعززه الإعتبار المناطقي أوالعشائري أوالعائلي أوالشخصي في بعض الأحيان. أما في أجهزة الدولة فالولاء السياسي كافٍ بحد ذاته. ماعدا المواقع التي ترتبط بالتوازنات الطائفية،والمناطقية والعشائرية. عندئذ تؤخذ المحددات الأخرى كشروط لا غنى عنها لإعتبار الولاء: مثلاً المواقع التي يشغلها رئيس الوزراء، الوزراء، المحافظون الخ…

 لكن إذا كانت الهيمنة هي من لون طائفي محدد، فهذا لايقتضي بالضرورة أن تكون للطائفة بذاتها حصة الأسد من المغانم. فالذي يأخذ السلطة بالغلبة يحكم بهواه. وحتى عندما يفصّل القوانين وفق إرادته العليّة، فلا شيء يمنعه من خرقها.فالحكم بالهوى هوالأصل في الحكم الطغياني. والمحكومون هم مجرد رعايا، يتساوون في الخضوع أمام الحاكم، ويتشابهون حدَّ التطابق في مرآة تسلطه.  ويصبح إذن من النافل القول:ليس للطغمة الحاكمة ولاء يعتدّ به لطائفتها. إن الولاء الوحيد الذي تعرفه، وتعترف به هو ولاؤها لذاتها.

لقد وظفت السلطة كل وسائل الإغراء والإخضاع، لتدجين الطائفة العلوية وإلحاقها بها. فأهملت عن عمد تنميّة الرّيف، الذي يقطنه العلويون. واستغلت أوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية الصعبة، وشروط إنتاجهم المتخلفة، لتدفعهم للهجرة إلى المدينة. وفي الوقت الذي لم تكن فيه المدينة، قادرة على توفير فرص العمل والخدمات لجموعهم، ناهيك عن تمدينهم. كانت مؤسسات السلطة هي الحاضنة الأولى لهم. فيها تربوا على أن الولاء للسلطة، هو الولاء الذي لايدانيه ولاء. وقد كان من المغريّ لهم حقاً، الالتحاق بأجهزة السلطة، لما تمنحه هذه الأجهزة من إمتيازات مادية ومعنوية، مقارنة بغيرها من أجهزة الدولة. وما تقدمه من فرص للإنغماس في الفساد دون مساءلة. وفي هذه المرابع، تأمّروا وأثروا وفسدوا وأفسدوا وسادت ثقافتهم ونبرة ريفيتهم التي كانت يوماً ما، موضع تندر وتهكم.

ولتمكين ولاء الطائفة العلوية، حالت السلطة بين أي وجه اجتماعي مستقل، أو معارض سياسي، وبين التأثير في صفوف الطائفة، بما يخالف مشيئتها وإرادتها في السيطرة. والى حدِّ كبيرأمكنها، خلال العقود الماضية، تفريغ الطائفة من وجهائها المستقلين. وبرزت تلك الوجوه، التي أنتجتها السلطة وسوقتها.  لقد كانت السلطة يقظة وشديدة الحساسية، تجاه أي تمثيل مستقل للطائفة، حتى ولو كان دينياً خالصاً. وساهم المحسوبون عليها من المشائخ، بخلق نوعٍ من التماهي بين الطائفة والسلطة. وتعزيز الوعي الطائفي، وتقديم الهوية الطائفية على الهوية الوطنية الجامعة. وربط الولاء للطائفة ولعقائدها، بالولاء للسلطة.

الثورة السورية والطائفية:

منذ نجاح الثورة في تونس، أدرك النظام أن رياح التغيير الديموقراطي، تهب على المنطقة كلها. وفي الوقت الذي كانت رموزه تصدح، بأن سوريا لن تكون في دائرة التغيّير الجاري، لممانعة نظامها، وإلتفاف الجماهير حول قيادتها الخ… كانت الأجهزة الأمنية والعسكرية الخاصة، تعد العدة لقيام الساعة السورية. بالتالي لم يكن التصديّ للمتظاهرين في درعا، في الثامن عشر من آذار، وبهذه الوحشية، قراراً فردياً اتخذه المسؤول الأمني هناك. لقد تمّ ذلك في سياق استراتيجية لمواجهة الشعب الثائر،تطلب الإنتصار عليه، وإعادته إلى بيت الطاعة، مهما كانت الأثمان. تلك الإستراتيجية أعدت في الدائرة الضيقة،على أعلى المستويات، وبالتشاور والتنسيق مع الحلفاء الإقليميين والدولييّن. وبالتالي لم يكن هذا الضابط إلا أداتها التنفيذية.

 رفعت الثورة شعاراتٍ عابرة للطوائف. تتناقض مع جملة السياسات التسلطية، التي حكمت المجتمع السوري طوال عقود مضت. في استرايجية مواجهة الثورة، سعت السلطة إلى طمس وإنكار خطاب الثورة الديموقراطي، وإلى تحويله ما أمكن إلى خطاب طائفي، يستنفر الأقليات ضده، ويعجز بحكم تماثله مع سياسات السلطة، أن ينزع شرعيتها. كما ويسمح بممارسة أقصى درجات العنف تجاه حوامله.

لم يحد النظام عن هذه الإستراتجية، في مواجهة الثورة. بل أمعن في تطبيقها بمختلف الوسائل الوحشية. وكلما كان ساعد الثورة يشتدّ، كان النظام يمعن أكثر في دمويته وإرهابه، ويذهب أبعد في تطبيق استراتجيته هذه. إلى حد التلويح بالتقسيم مؤخراً. ولم يعد خافياً على أحد، أن سياسة التطهير الطائفي، التي ينتهجها في المناطق المتاخمة للعلويين، لاتهدف فقط، إلى تأجيج الصراع الطائفي، بل تندرج في إطار خيار أرعن يتمثل في دويلة طائفية، لا حياة لها.

يمثل السنة والعلويون، قطبيّ الصراع الطائفي المحتمل. لذلك فإن الإرهاب الدمويّ المطبّق على الطائفة السنية، لايتوقف عند كونها تمثل المكون الإجتماعي الرئيسي للثورة. فمن ضرورات قلب الصراع من صراع سياسي، ذي محتوى ديموقراطي، الى صراع طائفي، ذي محتوى رجعي، أن تطيّف الطائفة السنية.ولتحقيق ذلك يواجهها النظام، مواجهة طائفية مفتوحة، بأكثر الأساليب همجية ودموية. أما الأطراف الطائفية الثانوية، كالدروز والمسيحيين والإسماعليين،فليسوا بمنأى عن الاستقطاب إلى هذا الصراع، على هذا النحو أو ذاك. ربما من أجل هذا الغرض بوشرت العمليات الإرهابية ضد الإسماعليين والدروز (السلمية، جرمانا). ويمكن أن تبدأ أيضاً في المناطق المسيحية والعلوية في أي وقت.

تسير هذه الإستراتيجة الطائفية الآن، في مناخ إقلمي ودولي مواتٍ لها. فالربيع العربي بإعتباره حركة تاريخية نحو الحرية والعدالة والتقدم، يتناقض مع مصالح كثيرين. ولعلّ من الواضح أن الأطراف الخارجية المنغمسة في “المسألة” السورية، ترغب أن تكون سوريا هي الوجه القبيح للربيع العربي، وخاتمة مطافه. وليس أقبح، ولا أسوأ بنتائجه، من تطيّيف الصراع الدائر حالياً في سوريا. ومما يثير أعمق القلق، على مصائر الثورة السورية، وجود جماعات جهادية لاتخفي خطابها الطائفي. يتزايد تأثيرها ونشاطها، مع الميل العام لأسلمة الثورة في صفوف الثائرين. في المقلب الآخر، هناك مساعٍ لدى الأقليات الطائفية للتعبير عن ذاتها بشكل مستقل. ترتدي أحياناً اللبوس الديموقراطي واليساري. وتلقى هذه المساعي، دعماً من الأطراف الراغبة في تطيّيف الصراع،والخروج منه بتسوية طائفية.

وتتحدث تقارير الامم المتحدة، وتصريحات الأمين العام، ومستشاريه، عن حرب طائفية في سوريا. أوأن الصراع هناك بات يأخذ منحىً طائفياً وعرقياً. وأن ممارسات النظام الطائفية باتت أوضح، وأن ردوداً من الأطراف الأخرى،وعلى نفس الأرضية أخذت بالبروز. تشيّ مثل هذه التقارير والتصريحات، باحتمال الذهاب إلى خيارات سياسية توافقية مع النظام، تجهض أهداف الثورة.وعلى خلفية حماية المكونات الإجتماعية الأهلية، من صراعات وجودية تدميرية.

سيقودنا الإصلاح الطائفي!! إلى إشهار الطائفية السياسية والتخندق فيها.سيقودنا الى دولة شبيهة بالدولة الطائفية في لبنان، تحمل إمكاناً مفتوحاً دائماً على الحرب الأهلية.

إن الثورة السورية بمضمونها الديموقراطي تمثل النقيض الفعلي للنظام الطائفي. وهي الضامن لوحدة المجتمع، والسبيل الوحيد لإنتقاله من عصبياته التقليدية، إلى الإنتماء الوطني الجامع. وهي الطريق الى تحرير العلويين،وغيرهم، من إنتماءاتهم العصبوية.

لم يعد كافياً، ترداد أن الثورة السورية ليست طائفية، وأن الشعب السوري واحد واحد، وأن الصراع هو بين نظام سياسي فاشيّ وفاجر، وبين شعب يطالب بالحرية والكرامة. في الحقيقة لا ضمانات كاملة تمنع تحول الصراع، في الإتجاه الذي خطط له النظام وسعى إليه، وكان القوة القاهرة المدعومة، من حلفاء أوفياء. في الوقت الذي أفرد العالم الثورة السورية “إفـراد البَعيـر المُعَبَّـدِ”.

ومع حفظ الفارق الرئيسي يمكن القول: لم يعد النظام وحده الطائفي، ولم تعد ممارساته وحدها الطائفية. وعلى الرغم من التماسك االذي يبديه النسيج الإجتماعي حتى الآن، وعلى الرغم ومن الوعي الشعبيّ بخطورة الإنزلاق في المسار الطائفي. فإن هناك قوى طائفية صريحة التوجه في صفوف الثورة، وإن قلّ عددها. لكن عودها يشتدّ يوماً بعد يوم. إن بذور الطائفية بدأ تنتش في رحم الثورة. وهذا بحدِّ ذاته نجاح، يسجل لإسترايجية النظام الطائفية، وفشل بالمقابل، يسجل للخطاب المدني الديموقراطي العقلاني.

لابدَّ من التركيز على مقاومة الخطاب الطائفي، من أية جهة جاء. وفضحه وتفكيك مرتكزاته. من خلال عمل سياسي ودعاويّ ونضاليّ منظّم. يتمسك بالمبادئ الأساسية لثورة الحرية والكرامة، وبأهدافها في إقامة نظام ديموقراطي تعددي، قائم على أساس حقوق المواطنة المتساوية، وسيادة القانون واحترام حقوق الانسان الخ…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى