صفحات سوريةورد كاسوحة

من تونس إلى دمشق… اليسار العربي على محك الإسلام السياسي


ورد كاسوحة

حتى الآن لا يبدو أنّ اليسار الراديكالي قد وجد ذاته تماماً داخل الصراع القائم في المنطقة (وعليها). قد لا يكون هذا التقدير محل ترحيب كثير من «اليساريين» اليوم. فهؤلاء لا يزالون مقتنعين بأنّ الحيّز الذي انخرطوا (في الصراع) على أساسه لا يزال موجوداً، حتى لو اتخذ أحياناً أشكالاً مغايرة لتصوراتهم المسبقة عنه. والتصورات المسبقة تنزع بطبيعتها إلى التنميط واختزال «الكتل الشعبية» التي تتحرك إلى «مسوخ» أيديولوجية متماثلة، وبلا ملامح تقريباً. حصل ذلك معي مرة. كنت في بدايات الأزمة منخرطاً في نقاش مع أحد الرفاق حول دور اليسار في الحراك السوري. بدا لي الرجل حينها متحمساً للانخراط في الحراك، ومتماهياً أكثر مني بكثير مع «حقيقة ما يحدث». أبديت له حينها ملاحظاتي وخوفي المبكر من إمكان استحواذ سلالات النفط (كان الدور التركي القذر غير ملحوظ حينها) على أجزاء كبيرة من الحراك. وقد حصل ذلك فعلاً، ولأسباب كثيرة: منها مثلاً أنّ الحراك غير متجانس بما يكفي للانخراط فيه من جانب المتشككين (كأن يكون مدنياً خالصاً لا حراكاً ريفياً قابلا للعسكرة والاستقطاب الأهلي!)، ومنها أيضاً أنّ السلطة التي يواجهها الحراك مركبة مثله، فلا هي طائفية تماما،ً ولا هي منحازة كلاسيكياً ضد الفقراء ومحدودي الدخل (بما يسهل التصويب عليها طبقياً). لم نناقش حينها هذا الجانب كفاية، ولو حصل ذلك وقتها لأمكن لنا تهيئة الارض لنقاش أعمق وأكثر جدوى. نقاش يتناول البعد الحقيقي للصراع لا الصوري: البعد الايديولوجي ـــــ الطبقي. فعندما تحدد «ولو على زغل» «موقعك الشكلي» من الصراع، يسهل عليك لاحقاً نقل النقاش إلى الحيّز الذي تعتقد (عن خطأ أو عن صواب) أنّه يناسب أكثر شروط خوضك للمعركة (وهي كذلك فعلاً). والمعركة كما بدت لي حينها ولا تزال، هي معركتنا مع ملحقات الرأسمالية في المنطقة (مستعمرات الخليج وتركيا الأطلسية تحديداً)، ومع سعيها المحموم لإعادة إنتاج نظمنا المتآكلة بما يتوافق واستراتيجية السيطرة الرأسمالية الجديدة. وهي استراتيجية تتزين بأقنعة مختلفة، فمرّة تدعو القوى التي «أسقطت الدكتاتوريات» (تبيّن أنّها قوى تابعة في معظمها لرأس المال الدولي وعميلة غير معلنة لمؤسساته) إلى «تأمين انتقال سلس وآمن للسلطة»، ومرة أخرى تعارض محاكمة من أعاق ذاك الانتقال وجمده لمدد غير محددة! عند انتقال النقاش إلى هذه النقطة تحديداً قلت للرفيق: تعال نستعرض معاً أمثلة عينية عن ذاك الانتقال الآمن والسلس الذي تدّعي الولايات المتحدة حرصها عليه. سقت له حينها نموذجين مختلفين للتطور الديموقراطي «السلمي»، ويقفان تقريباً على طرفي نقيض: الأول هو نموذج أوروبا الشرقية، حيث أفضى الانتقال هناك بمعية أميركا ومنظمات «مجتمعها المدني» إلى نسق نيو كولونيالي مافياوي يشبه إلى حد كبير جمهوريات الموز التي كانت قائمة في أميركا اللاتينية، إبان صعود اليسار الراديكالي في السبعينيات من القرن الماضي. طبعاً، ما حصل حينها هو انتزاع الامتيازات الطبقية الاحتكارية من النخب الاوليغارشية العسكرية، ونقلها «كما هي»، وعلى نحو سلس للغاية إلى نخب أخرى (مدنية) لا تقل اوليغارشية وتسلطاً، عن نظيرتها العسكرية. وهذا المعطى الشكلي (نقل السلطة من دون إراقة نقطة دم واحدة) هو الذي «أبهر العالم» في تجربة الثورات الأميركية الملونة، وجعله يغضّ الطرف عن الدلالة الطبقية الفارقة لذاك الانتقال. كل ما نعرفه اليوم عن تلك المنطقة أنّها تحكم «عبر صناديق الاقتراع»، ومن خلال أقنية «غير عنفية» (لا نعلم على وجه التحديد ما هو تعريف الرأسماليات المافيوية وملحقاتها للعنف) تتيح حداً أدنى من «التداول السلمي» للسلطة. في المقابل، لا نكاد نقرأ شيئاً في الإعلام المهيمن (والمملوك من كارتيلات السلاح التي تموّل حروبنا الأهلية العربية وغير العربية) عن المافيات التي تحتكر الثروة هناك، وتعيّن الرؤساء والنواب والوزراء، وتتقاسم مع الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسيات (هل من يذكر هذا المصطلح اليوم، أم أنّ رواجه ما عاد مناسباً كثيراً) السلطة الحقيقية في أوروبا الشرقية ما بعد الحقبة السوفياتية. بعد هذا العرض الموجز لتجربة أوروبا الشرقية الصورية قلت للرفيق: إذا كان هذا هو النموذج المراد لسوريا أن تنزلق إليه، فاعتبرني منذ الآن خارج الحراك تماماً. أما إذا كان النموذج «المعروض علينا» (لاحظوا هذه الصياغة المدرسية الساذجة) في سوريا (الثاني) هو الديموقراطيات «الراديكالية» التي قامت في أميركا اللاتينية على أساس القطيعة الجذرية مع النسق الرأسمالي المهيمن في الغرب، فأنا مستعد منذ الآن للانخراط في الحراك عملياً (لا نظرياً فحسب)، ومن دون تحفظات. طبعاً، انتهى النقاش حينها عند هذا الحد، ولم نخرج لا أنا ولا هو بأي خلاصات جدية ممكنة. يبدو لي اليوم بعد انقضاء اشهر على تلك الواقعة أنّ من يخوض نقاشات مماثلة إنما يضع يده على مأزقنا نحن اليساريين إزاء الصراع الدائر في سوريا (وعليها). والصراع في سوريا (وعليها) يكاد يختزل صراعات المنطقة جميعها، وكذا نقاشات كل القوى الراديكالية المنخرطة في تلك الصراعات. خذوا مثلاً حزب العمال الشيوعي التونسي. صحيح أنّ البنية المجتمعية «المتجانسة» هناك وغير المنقسمة على أساس طائفي، قد وفّرت على الرفاق في الحزب خوض نقاشات مماثلة (لنقاشاتنا في سوريا وفي غيرها من الدول المتذررة مجتمعياً) عن هوية الكتل المنخرطة والتصدعات المجتمعية العمودية و…الخ، إلا أنّ ذلك لم يكن كافياً لإبقاء تونس وتجربتها بمنأى تماماً عن العصف الأيديولوجي المصاحب لمخاضات التصدع الاجتماعي الممسوك فوقياً. كان الرفيق حمّة الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي يتطلع في بداية المخاض التونسي إلى بناء ائتلافات عابرة للانقسامات الأيديولوجية، بما يؤمن قاعدة مجتمعية مؤقتة توفر للتونسيين مخرجاً آمناً بعد «سقوط الدكتاتورية». وفي سبيل ذلك، لم يتورع الحزب عن التحالف مع خصوم أيديولوجيين تاريخيين محسوبين على تيار الإسلام السياسي المتحالف تاريخياً (الآن بات ملتحقاً به ذيلياً) مع الغرب الرأسمالي. لنقل إنّها تسوية مؤقتة اضطرت الأحزاب اليسارية الراديكالية في تونس إلى إبرامها، ريثما تتّضح صورة المشهد هناك. وبالفعل اتضحت الصورة تماماً الآن. فمن كان شريكاً مؤقتاً في إسقاط الذراع المدنية للدكتاتورية بالأمس، عاد اليوم إلى تموضعه الأساسي: خصم في السياسة والأيديولوجيا والتموضع الطبقي والموقع الموطني. كل هذه التناقضات الجوهرية قائمة ويساريو تونس يزعمون التحالف مع النهضة! يحار المرء فعلاً في توصيف تناقضات اليسار أحياناً! سأترك هذا النقاش لمناسبة أخرى، وسأكتفي هنا بإيصال فكرة «استسلام اليسار لقوى الأمر الواقع» إلى خواتيمها. وعلاقة اليسار التونسي بالنهضة ومنطقها ليست استثناءً أبداً، بل هي القاعدة في كل علاقات الإسلام السياسي بالقوى التي يستخفّ بها و«يستخدمها» أحياناً للوصول إلى السلطة، لكن مشكلتنا كيساريين مع الإسلام السياسي ليست تماماً هنا، أو لا يجوز أن تكون في هذا الموضع. فهنالك من داخل اليسار نفسه، أحزاب تشتغل بالمنطق الانتهازي ذاته الذي يشتغل به الإسلامويون، لا بل يتفوقون عليهم أحياناً. والأمثلة على ذلك في تونس أكثر من أن تحصى (حركة التجديد، الحزب الديموقراطي التقدمي …الخ). والسؤال عن التناقض بيننا وبينهم يبدو ساذجاً اليوم، لأنّه يوحي بأنّ المشكلة الوحيدة حالياً في تونس والمنطقة هي مشكلة العلاقة بين قوى الإسلام السياسي وخصومها الإيديولوجيين ـــــ حلفائها البراغماتيين سابقاً. لا أعلم حقاً إلى متى سنبقى نتنازل للمنطق الصوري الاستعماري الذي يؤجل صراعنا مع المافيات الحاكمة التابعة إلى ما لانهاية. مرة أخرى نقول إنّ صراعنا ليس مع الإسلام السياسي بوصفه طرفاً يشتغل على تسييس الدين وإقحام نسخته المسيّسة عنوة في حياتنا (وإن كان هذا الصراع ضرورياً جداً في مرحلة لاحقة وقريبة)، بل بوصفه الطرف الذي يدأب على إعادة وصل ما انقطع مؤقتاً مع المافيات الكومبرادورية الملتحقة ذيلياً بالغرب. قد لا يتفق معنا في هذه الوجهة من الصراع كثيرون (ليبراليون ونيوليبراليين و..الخ)، وهذا أمر مفروغ منه في «السياسة»، على اعتبار أنّ هؤلاء يمثلون مصالحهم ومصالح من يرعاهم (هكذا تفهم الليبرالية السياسة عادة: تجسيد لمصلحة رأس المال)، لكن عندما لا يتفق معنا يساريون في ذلك، نصبح أمام مشكلة جدية فعلاً. مشكلة تحتاج إلى مراجعة جريئة ووقفة طويلة مع الذات. وأستطيع أن أزعم اليوم أنّ هنالك حراكاً جدياً في ذاك الاتجاه، إذ بدأت كتلة لا بأس بها من يساريي تونس ومصر في مراجعة تجربة انخراطها في الصراع إلى جانب «أعداء» طبقيين وسياسيين و…الخ. حتى «الائتلاف» السابق بين الاثنين في مواجهة الدكتاتوريات، ما كان ائتلافاً بالمعنى الذي جرى التسويق له دعائياً. فالائتلاف عادة يجري بين خصوم أو قوى لا تجمع بينها مشتركات كثيرة، لكن ما يوحدها هو المواجهة مع خصم مرحلي يتعين أن ينفرط الائتلاف بعد إسقاطه. وما حصل في مصر وتونس أنّ الخصم لم يسقط بخلاف كل الدّجل الذي تشيعه الأبواق النيوليبرالية النفطية وغير النفطية. طبعاً، الإسلامويون يقولون إنّه سقط واليسار لا يعترف بهذا السقوط الصوري، ويريد له أن يكون كاملاً. تخيّل نفسك وأنت تخوض صراعاً مستمراً مع مافيا يقف إلى جانبها اليوم من كان يزعم بالأمس أنّه حليفك في «إسقاطها». هكذا هي حال العلاقة اليوم بين اليسار (أو ما بقي منه) وقوى الإسلام السياسي، أو هكذا يجب أن تكون. ومن يراهن على تأجيل ذاك التناقض أو طمسه بحجة أنّ المعركة الآن هي بين العلمانيين بأطيافهم المختلفة وقوى الإسلام السياسي يجب عليه أن يعيد حساباته. لقد جرّب اليسار الراديكالي أمراً مماثلاً، عندما تحالف مع الإسلام السياسي وبعض الليبراليين ضد الذراع المدنية للدكتاتورية، فإذا بهم يبيعونه عند أول محطة صدام حقيقية مع العسكرتاريا الرجعية المتحالفة مع الغرب. وإذا ابتلع الطعم مجدداً وتحالف مع الليبراليين هذه المرّة ضد تفاهمات الإسلام السياسي والجيش، فسيعاودون الكرّة، ويتركونه وحيداً في مواجهة الجميع. والأرجح أنّه كذلك الآن. تموضعه الطبقي يفرض عليه ذلك، وكذا طروحاته الاجتماعية التقدمية المناهضة لقيم الحداثة الشكلية والتابعة. ماذا ينتظر إذاً حتى يعلن معركته المستمرة ضد الجميع: ضد العسكريتاريا الفاشية، ضد الإسلام السياسي الرجعي والتابع لسلالات النفط، ضد القيم النيوليبرالية التي تحاول إبقاء ثقافة الريع والعداء للتصنيع والإنتاج (خارج إطار التبعية الاقتصادية من موقع طرفي)، ضد إملاءات رأس المال الغربي ومؤسساته اليمينية العاملة شكلياً في «المجال الحقوقي»، ضد المنطق الصوري النفطي الذي يصادر الصراع ويفرض علينا شكله النهائي، أو يحاول أن يوحي بذلك. ضد هؤلاء جميعاً نقف اليوم وحدنا. لا خلاص لليسار إلا بأن يكون وحده ضد الجميع من أجل ثورة حقيقية هذه المرة، لا صوريّة وملوّنة كما هي الحال الآن.

* كاتب سوري

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى