صبر درويشصفحات سورية

من دوما هلّت “بشاير” النصر


دمشق ـ صبر درويش

أنا من مدينة السلمية ـ تقول فاطمة ـ وأعيش في مدينة دوما منذ ما يقرب من خمسة عشر عاماً، لي منزلي ولي حياتي في هذه المدينة التي أقل ما يمكن أن أقوله عنها أنها مدينة أبية، أنا دومانية بقدر ما أنا سلمونية.

تنتمي مدينة دوما إلى ما يعرف بالغوطة الشرقية، وهو القوس المحاذي من جهة الشرق للعاصمة دمشق، يبلغ عدد سكان المدينة حوالي الثلاثمائة ألف نسمة، وهي بذلك تعد أكبر مدن الغوطة الشرقية؛ ومن المعروف تاريخياً عن المدينة طبيعتها المحافظة والمغلقة، كما من المعروف عنها تجانسها السكاني، فغالبية السكان من الإسلام السنة.

بدأت القصة في دوما عندما خرج بضعة شبان لم يكن يتجاوز عددهم العشرات- باعتصام من أمام مبنى البلدية، نصرةً لمدينة درعا، وتعبيراً عن رفضهم لما كان يجري هناك، تقول فاطمة: لم يرفع المعتصمون أي شعار، كان الاعتصام صامتاً تماماً، فجأةً بدأ رجال الأمن السوري بإطلاق النار على المعتصمين، وفجأةً سقط ثمانية شهداء على الفور؛ كان الموضوع صادماً، وكان السؤال حاضراً: لماذا؟

في اليوم التالي أيضاً خرج بضعة مشيعين لدفن الشهداء، ومرةً أخرى لم يتوانَ رجال الأمن عن إطلاق النار على المشيعين ليسقط حوالي ستة عشر شهيداً، في تلك اللحظات سيتذكر الجميع أن عنف رجال الأمن السوري هو من أيقظ مارد المدينة، فبعد هذه الأحداث ستنتفض المدينة عن بكرة أبيها، فدوما من سيُخرج إلى الشارع أكثر من مائة ألف متظاهر، وستكون دوما المدينة السباقة في رفع شعار اسقاط النظام، ومن تلك اللحظة سيواجه النظام السوري واحدة من أكثر المدن السورية تمرداً على حكمه.

روج نظام الأسد لرواية مفادها وجود جماعات مسلحة في المدينة، ممولة ومدعومة من قبل السعودية، وهو الشيء الذي حاول من خلاله تبرير اطلاقه النار على المتظاهرين. تقول فاطمة: كنت من أولى النساء اللواتي شاركن في التظاهرات، حتى أنني كنت المرأة الوحيدة في تلك الأثناء، كنت أبحث بجد عن أولئك المسلحين المزعومين، الذين يتحدث عنهم الاعلام الرسمي، في الحقيقة لم أعثر على أي مسلحين، لم يحمل المتظاهرون في أيديهم عصا أو سكين أو أي شيء يذكر، أنا التي رأيت ما كان يجري، كانت تظاهرات سلمية بالكامل؛ كانوا شباناً يملؤهم العنفوان والشغف، كانوا يأتون إلي ويطلبون مني العودة إلى منزلي كي لا أتأذى، كان خوفهم عليّ واضحاً، وكنت أبكي من فرحي، شبان شعرت أنهم جميعهم أبنائي وأخوتي.

في الحقيقة تعامل النظام مع الحراك الشعبي في دوما كباقي المدن السورية المنتفضة، وكان الخيار الأمني هو وسيلته الوحيدة للتصدي إلى مطالب المتظاهرين السلميين؛ وهذا الخيار هو الذي كان مسؤولاً عن كل ما جرى في المدينة ، تقول فاطمة: قوات الأمن ولا أحد سواهم من أحرق القصر العدلي في المدينة، وهم المسؤولون عن قتل شبان بعمر الورد. كان رجال الأمن يصطفون خلف بعضهم في مواجهة المتظاهرين، بينما يطلب ممن في المقدمة إطلاق النار على الناس، كان يقوم من في الخلف بإطلاق النار على كل من يرفض إطلاق النار من قوات الأمن، وهو شيء أشبه بالإعدام الميداني. وبعد ذلك يتم اتهام الجماعات المسلحة بذلك.

كان من أول شهداء دوما شابان من آل القادري، وللشهيدين قصة تكثف سيرة الممارسة الأمنية في المدينة، تقول فاطمة: طلب الحاجز الأمني المتواجد عند أحد الشوارع من الشاب التوقف، وعندما لم يفعل قاموا بإطلاق النار عليه ليردوه قتيلاً على الفور، صرخ أخوه فيهم وقال لهم أن أخاه أصم لا يسمع لذا لم يتوقف، فما كان منهم إلا أن أطلقوا عليه النار أيضاً ليموت من فوره. عشرات الحوادث من هذا النوع تؤكد الإجرام الذي تعاملت فيه قوات الأمن مع السكان السلميين، ولا شيء يدعو إلى التشكيك في هذه الشهادات، والتي وإن اختلفت مصادرها إلا أن مضمونها واحد.

تأخرت مشاركة نساء دوما في المظاهرات قليلاً، حيث بدأت من خلال المشاركة في تشييع الشهداء، ثم ما لبثت هذه المشاركات الخجولة أن توسعت، إذ سرعان ما بدأت المرأة الدومانية بالمشاركة في التظاهرات أسوة بغيرها من الناشطين، ثم راحت الناشطات ينظمن مظاهرات خاصةً بهن.

سرعان ما ستنخرط المرأة في دوما في جملة النشاطات الثورية السائدة، ستخرج للتظاهر، وستصطدم بقوات الأمن، وستكافح من أجل حماية الشبان المتظاهرين، ستحيك الأعلام وتكتب اللافتات، وستؤمن الطعام للثوار، وستساهم في علاج الجرحى، وستقف معتصمةً أمام المقار الأمنية للمطالبة بالمعتقلين. تستعيد فاطمة حادثة وقعت في مديرية الأوقاف في دوما، حيث اقتحمت النسوة هذا المقر، وقمن بتمزيق صور الرئيس السوري وصور أبيه، وبدأن بعدها باعتصام طالبين فيه بالإفراج عن المعتقلين، كل هذا ولم تتجرأ قوات الأمن على أن يتسببوا لهن بأي أذى، لمعرفتهم بأن التعرض للنساء سيثير موجةً عارمة من التظاهرات.

تروي لنا فاطمة عن أحد الحوادث: في إحدى المرات أصيب عدد من المتظاهرين برصاص قوات الأمن، فقمنا بنقلهم إلى المشفى، وعندما أتى رجال الأمن ليعتقل الجرحى تفاجأوا بوجودنا صفاً واحداً أمام المشفى، حيث أقسمنا على حماية الجرحى حتى لو تسبب ذلك بمقتلنا؛ وفعلاً استطعنا حماية الجرحى، كما استطعنا تهريبهم من المشفى بعد أن ألبسناهم لباس النساء حتى لا يراهم رجال الأمن.

تغص مدينة دوما كما باقي المدن السورية الثائرة، بقصص تروي المشاركة الفعالة للمرأة السورية في ثورة شعبها، حيث أننا سنجدها في كل المواقع أسوة بالرجال، وهو تغير طرأ على التركيب الاجتماعي السوري في ضوء الثورة الراهنة، وربما سنلمس أثره في المستقبل القريب، فالمرأة السورية مع الثورة لم تعد ضلعاً قاصراً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى