صفحات سوريةمحمد أبي سمرا

من يوميات الانتفاضة السورية في مدينة بانياس


محمد أبي سمرا

 التظاهرة الأولى… خروجاً على الخوف والتصوف إلى الحرية ولإسقاط النظام

للإنتفاضة السورية خصوصياتها المحلية في كل محافظة ومنطقة ومدينة. وهي بدأت عفوية وبلا خطة، وبمطالب محلية متباينة، قبل رفعها مطلب إسقاط النظام. في مدينة بانياس التي تروي هذه السطور وقائع تظاهرتها الأولى في 18 آذار الماضي (بالتزامن مع انتفاضة درعا)، نقلاً عن ناشط سوري شاب شارك في انتفاضتها وأعتقل وأطلق سراحه – لعب خروج مجموعات واسعة من شبانها على التصوف وحلقاته، الى إسلام دعوي شبه سلفي وغير جهادي، طوال العقد الأول من الألفية الثالثة، دوراً حاسماً في تأطير هذه المجموعات الشابة، ودفعها الى تصدر التظاهرة الأولى في المدينة، مستلهمة الثورة المصرية.

كانت مطالب التظاهرة الأولى محلية صرفة: رفض الاختلاط ما بين الجنسين في مدارس بانياس، من دون سائر المدن السورية. وذلك لأن الاختلاط كان قد فُرض على أهالي المدينة عقاباً لهم، بعد مشاركتهم في إضراب عام، احتجاجاً على مقتلة حماة المروعة في العام 1982. والخوف والترويع الأمنيان اللذان أصابا المجتمع السوري كله منذ تلك المقتلة، دفعا فتيان بانياس وشبانها الى الانكفاء والانضواء في حلقات الذكر الصوفية.

نحن، الذين فاتنا الانتباه الى الثورة التونسية ومتابعة اخبارها، عشنا يوميات الثورة المصرية الشبابية، وتتبعنا مشاهدها يوما بيوم، ولحظة بلحظة، مسمرين امام شاشات التلفزيون والكومبيوتر، متواصلين ومتحادثين في ما بيننا، او بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي عبر الانترنت، عما يحدث في مصر، معتبرين ان نجاح ثورتها سيغير وجه المنطقة العربية، لأن مصر مركز الثقل العربي وقطبه ورافعته. هذا ما دفعنا الى التفكير في ما يمكن ان نفعله في سوريا، مستلهمين ما بثته مشاهد الثورة المصرية من حمية ومشاعر وصور في حواسنا وجوارحنا وكلماتنا. وفي ظهيرة نهار الجمعة 11 ايار، حين وقف إمام جامع الرحمن، الشيخ انس عيروت، خطيباً في جموع المصلين، وقال ان الظلم الواقع على مدينة بانياس يجب ان يتوقف، وان اهاليها ما عادوا يرضون بالاختلاط بين الجنسين في مدارسها، ولا بتحمل نفقات الطاقة الكهربائية التي يصرفها غيرهم في القرى المجاورة (العلوية ضمناً)، جاوبه المصلون هاتفين “الله اكبر، الله اكبر”. كان حماس الشبان هو الاقوى في ترداد الهتاف، من دون ان يفكر احد منهم بالخروج في تظاهرة. لكن بعضهم، تحادثوا في ما بينهم، فيما هم يخرجون من المسجد، عن ضرورة التظاهر نهار الجمعة المقبل، لتحقيق المطالب التي ذكرها الشيخ.

التظاهرة الأولى

في ظهيرة 18 آذار، بلغ عدد المصلين في جامع الرحمن في بانياس حوالي 3 آلاف شخص، معظمهم من الشبان الذين قدموا من احياء المدينة وقراها القريبة، بناء على ما جرى من احاديث مباشرة في لقاءات يومية، وعبر الانترنت. وهذا ما ادى الى مضاعفة عدد المصلين في الجامع الذي لا يتسع لأكثر من الف شخص، ولم يكن يتوافد الى الصلاة فيه اكثر من 700 شخص في نهارات الجمع السابقة. لكن الشيخ عيروت لم يدعُ الى التظاهر في خطبته التي قال فيها ان الناس لم تأتِ بهذه الكثافة الى المسجد لأنه دعاها الى المجيء، بل استجابة منها الى صوت الحق.  في محيط الجامع كان رجال الامن منتشرين، حين خرج منه المصلون من دون ان تنصرف جموعهم الى بيوتها واشغالها، على جاري العادة، فيما وقف الشبان متحلقين في مجموعات، حائرين ماذا يفعلون. انا الذي رحت اتنقل ما بين داخل المسجد وخارجه، مترقبا ما سيحدث، كنت في الداخل حين سمعت في الخارج صوتا يعلو هاتفاً: “الله اكبر، الله وسوريا وحرية، وبس… حرية، حرية، حرية”. مسرعاً خرجت من المسجد، فأبصرت الشاب أنس الشغري محمولاً على الاكتاف، يهتف ويشجع الناس على الهتاف، قائلا لجموع الشبان من حوله: ما بكم. قولوا الله اكبر، اهتفوا: الله وسوريا وحرية وبس، فاشتعل الهتاف، وبعد وقت قليل بدأت الجموع تسير بطيئاً بطيئاً، في اتجاه دوار محطة البلدية على مسافة 300 متر من جامع الرحمن. الهتافات أخذت تصدح عالياً، جاذبة جموعاً اضافية من الناس، فيما انتشر رجال الامن المسلحون على اطراف التظاهرة التي استمر سيرها نحو الساحة وتجمهرها فيها طوال ساعة سبقت وصول تعزيزات امنية كثيفة من اللاذقية وطرطوس، وانتشارها في الشوارع المحيطة بالساحة من دون ان تقترب منها. وحين اقترب مدير جهاز الشرطة في بانياس من بعض المتظاهرين، محاولا التحادث معهم، لم يستجب احد له. سيارة الامن العسكري التي اقتربت من الساحة، جابهها بعض الشبان، وصعدوا الى سطحها هاتفين، لكن شبانا آخرين سارعوا الى انزالهم عن سطح السيارة، وتركوا سائقها يقودها ويبتعد من الساحة. بعد مضي اكثر من ساعة احتار المتظاهرون ماذا يفعلون، والى اين يذهبون. وفي الاثناء اعتقل  رجال الامن شابا كان يقف على طرف الساحة، واقتادوه الى كاراج سيارات السرفيس (الفانات). جموع من الشبان هاجمت الكاراج، وحطمت ثلاثة فانات، اثنين يملكهما علويان، وثالثاً لرجل سني. شبان التظاهرة الواعون منعوا الآخرين عن استكمال هجومهم على الفانات، مرددين شعار “سلمية، سلمية، سلمية”. وحين وصل رئيس البلدية والشيخ عيروت وغيره من المشايخ، وحاولوا تهدئة المتظاهرين الغاضبين، لم تُستجب محاولتهم، الا بعدما أطلق رجال الامن سراح الشاب الذي اعتقلوه، متداركين تهديد المتظاهرين بمهاجمة مقر الشرطة. اخيراً دعا شبان الى السير نحو مقر امن الدولة، فاستُجيبت دعوتهم، وبادرت مجموعات الى دخول المقر الذي كان يغص بمئات من رجال الامن المسلحين. وبين الساعة الثالثة والنصف والرابعة والنصف تكاثرت اعداد المتظاهرين امام المقر الامني وفي ساحة محطة البلدية. رؤساء الفروع الامنية الذين وصلوا من طرطوس واللاذقية حملوا الشيخ عيروت على الدخول الى مقر أمن الدولة لاخراج المتظاهرين منه. في المقر اقنع الشيخ الشبان الذين دخلوه بأن يدونوا مطالبهم على ورقة. بعد اخذ ورد، توصل المتظاهرون الى صوغ المطالب وتدوينها، فقام الشيخ بقراءتها على الجموع من على شرفة مقر امن الدولة. تضمّنت الورقة 11 مطلباً، 8 منها محلية وخدمية، وتناولت رفض الاختلاط بين الجنسين في المدارس، وعدم دفع المستحقات الإضافية من قيمة فواتير الطاقة الكهربائية، والعدالة في توزيع الوظائف الحكومية، وعزل مدير الموانىء، وغيرها. اما المطالب الوطنية العامة، فكانت: الغاء قانون الطوارىء، اطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

بعدما أعلن الشيخ هذه المطالب، دعا المتظاهرين الى الانصراف من امام مقر أمن الدولة ومن ساحة محطة البلدية، والعودة الى بيوتهم، ووعدهم بالتظاهر في نهار الجمعة المقبل، اذا لم تتحقق مطالبهم. كان عدد المتظاهرين ما بين 4 و5 آلاف شخص، فاقاموا صلاة العصر في الساحة، ثم غادروها، بعدما قام جمع من الشبان بجمع مبالغ مالية من الناس، ودفعوها كتعويض لأصحاب الفانات المتضررة.

في تلك الظهيرة وحتى منتصف الليل، استمر تحميل صور التظاهرة التي التقطها شبان بكاميرات هواتفهم المحمولة، على موقع يوتيوب، وبثها منه.

ليلة الشبيحة الاولى

في حوالى الساعة العاشرة من مساء السبت، 19 آذار، شاع بين أهالي بانياس خبر عن سيارات مدنية وامنية تمر مسرعة على اوتوستراد المدينة البحري، وتطلق من مكبرات للصوت عبارات موتورة تأمر الناس بمغادرة المقاهي وقفلها. دب الخوف في نفوس الاهالي وكلماتهم، اذ كانت قد وصلتهم في النهار اخبار من مدينتي جبلة واللاذقية، تفيد بأن رجالا من الشبيحة قاموا طوال ما بعد ظهر الجمعة ، 18 آذار، بالتجول في سيارات في شوارع المدينتين الساحليتين، واطلقوا عشوائيا نيران بنادقهم الرشاشة، مرددين من مكبرات الصوت هتافات “الله وبشار وسوريا وبس”، فروّعوا الاهالي كي لا يخرجوا في تظاهرة على منوال ما فعل اهالي بانياس.

مديدة ومريرة هي تجارب السوريين مع من تعارفوا على تسميتهم الشبيحة الذين تنتسب الغالبية الساحقة منهم في مدن الساحل السوري، الى الطائفة العلوية، بل الى بطانة عشيرة الاسد ورهطها. في البداية كانوا يعملون في إمرة نافذين في العشيرة، كفواز ومحمد وجميل الاسد. وبعدما قام الرئيس الراحل حافظ الاسد بخنق نفوذ اخيه رفعت، وتفكيك “سرايا الدفاع” وميليشيا “الفرسان الحمر” اللتين كان يقودهما، انخرطت مجموعات من رجالهما في عصابات الشبيحة التي تمكن نجل الرئيس، باسل الاسد، بعد تسلمه قيادة لواء الحرس الجمهوري، من تصفية نفوذهم، قبل مقتله في حادث سير. وفي عهد بشار الاسد الرئاسي استعاد الشبيحة نشاطهم، لكنهم قللوا من تعدياتهم وتسلطهم على الناس، وانصرفوا الى اعمال تهريب المخدرات والسلاح والادوات المنزلية والتبغ والآثار، ما بين سوريا وتركيا والعراق ولبنان.

ليلة السبت، 19 آذار، ما ان علم اهالي احياء بانياس السنية الخائفين، بأن رجالا من الشبيحة تجمعوا في حي القصور العلوي، مستعملين حوالى 25 سيارة، استعداداً للهجوم على احيائهم، حتى حملهم خوفهم على الخروج مذعورين من بيوتهم، للدفاع عن عائلاتهم واحيائهم، حاملين ما توافر لديهم من العصي والخناجر والسيوف وقضبان الحديد (شنتيانة وفقاً للتسمية المحلية العامية)، اضافة الى القليل من بنادق الصيد. في مشهد خروجهم الليلي المذعور، كانت تمتزج مشاهد قديمة من عاميات اهلية، ومشاهد من عراضات اهالي الاحياء والحارات، اضافة الى مشهد تظاهرهم الحاشد ما بعد ظهيرة الامس، غير المسبوق في ما عاشوه وخبروه طوال تاريخ سوريا الاسد. جماعات جماعات اندفعوا من بيوتهم واحيائهم، واتجهوا نحو مقر جهاز امن الدولة في المدينة، حيث بلغت اعداد حشدهم الليلي بضعة آلاف. جذوة شجاعتهم وتجاسرهم في تظاهرة الامس، كانت لا تزال حية راعفة في اجسامهم وارواحهم المعجونة بمهانة ذلك التاريخ المديد وذله وخوفه. قوة جديدة استفاقت في تلك الاجسام والارواح العزلاء، المكتومة والخرساء، منذ سنين، فانطلقت منها صرخات الخوف والترويع تهديداً ووعيداً للشبيحة ولآل الاسد. رجال الامن الذين سربلتهم تلك الصرخات واذهلتهم، حذروا الشبيحة من الاقتراب من الاحياء السنية، ودعوهم الى البقاء في حي القصور العلوي، ثم استدعوا الشيخ أنس عيروت ورئيس البلدية لتهدئة غضب الأهالي وسخطهم. لكن الشيخ ورئيس البلدية لم يقويا على تهدئتهم واقناعهم بالانصراف الى بيوتهم، إلا بعد منتصف الليل الذي أمضوا نصفه الثاني ساهرين جماعات جماعات، ومتحادثين في البيوت، كما لم يفعلوا مرة من قبل.

لم يشارك العلويون في تظاهرة 18 آذار. وبعد ليلة شبيحة السبت، امتنع علويو حي القصور وغيرهم من أهالي القرى القريبة، عن التوافد الى سوق بانياس، برغم أن الحياة اليومية في المدينة استمرت على حالها تقريباً، حتى نهار الجمعة التالي، 25 آذار. طوال أيام الاسبوع السابقة لذلك النهار، دار في أوساط الأهالي لغط محموم، فانقسمت آراؤهم ما بين من يريد التظاهر مجدداً، ومن لا يريده في انتظار تحقيق المطالب التي سرعان ما استُجيب منها مطلب الفصل ما بين الجنسين في مدارس المدينة التي توافد اليها مقدمون من أجهزة الأمن في اللاذقية وطرطوس، لحمل الشيخ عيروت، المسموع الكلمة بين الأهالي، على الحؤول دون خروج الناس الى التظاهر، ودعوتهم الى الامتناع عنه. وفي الاثناء جاء من حلب بعض من مشايخ التصوف لثني أهالي بانياس عن التظاهر مجدداً، قائلين لهم إن الخروج على طاعة الحاكم وأولي الأمر من أفعال الفتنة، فحصلت ما بين أولئك المشايخ وجماعات من أهالي المدينة وشبانها الخارجين على الصوفية، ملاسنات غاضبة أدت الى طرد المشايخ، فيما إتصل بعض من مشايخ التصوف الحلبيين والدمشقيين بالشيخ عيروت هاتفياً، وطلبوا منه الحؤول دون خروج المصلين في مسجد الرحمن الى التظاهر.

مساجد وعائلات وأشخاص

يتصدر جامع الرحمن، الى جانب جامع القبيات، جذب العدد الأكبر من المصلين في مدينتنا، لأنهما يقعان في حيين شعبيين أكثف سكاناً بين أحياء بانياس، والتعارف والتواصل بين الأهالي المقيمين فيهما يتميزان بالسيولة والحيوية، والعلاقة بين إمامي مسجديهما والأهالي وثيقة وتقوم على التكافل والتضامن. والى هذين المسجدين هناك في بانياس ما يزيد عن سبعة مساجد، منها البحر والنور والرضوان والتقوى وأبو بكر الصديق. وقبل مستهل الألفية الثالثة، كان لحلقات التصوف ولمريديها الكثيرين حضور في جامع الرحمن، فتعرض الخارجون منهم على الدعوة الصوفية وحلقاتها  الى النبذ والإقصاء في بدايات ذلك الخروج الذي أخذ يتسع طوال العقد الأول من هذه الألفية التي شارفت الصوفية في نهايتها على خسارة الغالبية الساحقة من مريديها، لكن من دون أن يزول أثر النبذ والاقصاء الاجتماعيين من نفوس أوائل من تعرضوا لهما في بدايات الخروج على التصوف. والشيخ أنس عيروت، الذي لا يتجاوز السابعة والثلاثين من العمر، هو الذي تصدر دعوات الخروج تلك في بداياتها، حينما كان دعاة التصوف وحلقاته على نشاط قوي بين رجال عائلته وشبانها الذين قاموا بإعلان حرب دعوية عائلية على الشيخ الشاب، إمام مسجد الرحمن وخطيبه. فعائلة عيروت دينية ويتكاثر التصوف على الطريقة الشاذلية الدرقاوية بين رجالها، على خلاف عائلة الأعسر التي يتكاثر التصوف بين نسوتها اللواتي تصدرن حلقات تصوف النساء في بانياس. أما عائلة الترك في مدينتنا – وهي غير الدمشقية التي منها الشيوعي المشهور رياض الترك – فكانت معروفة بكثرة الإخوان المسلمين بين أبنائها، شأن عائلة الشغري. لكن حملة النظام السوري الدموية لاقتلاع الإخوان المسلمين من المدن السورية بعد مقتلة حماة (1982)، أدت الى قتل بعض من إخوانيي عائلتي الترك والشغري في بانياس، والى اعتقال بعضهم الآخر، فيما فرّ رجال منهما الى خارج الديار السورية. وفي أيام التظاهرات المتلاحقة التي خرجت في مدينتنا منذ 18 آذار 2011، اعتبر رجال الأجهزة الأمنية أن الشيخ أنس عيروت هو الرأس المدبر للتظاهرات والداعي اليها والمحرض عليها، مما حمله على التواري والاختفاء مع اشتداد الحملات الأمنية والعسكرية على المدينة، من دون أن يعلم أحد مصيره، والأرجح أنه لم يتعرض للاعتقال.

إذا كان الخروج على الصوفية قد دفع كثيرين من عائلة عيروت الدينية والصوفية، وشجعهم على المشاركة في التظاهرات، فإن نقمة آل الترك والشغري الدفينة، والتي نجمت عن تعرض كثيرين من أبنائهما للقتل والاعتقال والتشريد، هي التي حفّزت أبناء العائلتين الكبيرتين على التظاهر. فالشاب الجامعي أنس الشغري الذي لا يتجاوز عمره 23 سنة، هو من صرخ الصرخة الاولى هاتفاً بجموع الحائرين أمام مسجد الرحمن في ظهيرة 18 آذار، فجاوب الشبان صرخته وهتافه بمثلهما: “الله وسوريا وحرية وبس”، فانطلقت في شوارع بانياس تظاهرات الحرية والكرامة، وبرز الشغري الشاب لولباً فاعلاً فيها. أما عائلة الصهيوني، صاحبة النفوذ المادي والاجتماعي المرموق في مدينتنا، لأن كثيرين من أبنائها يعملون أعمالاً حرة في تجارة السيارات والأدوات الكهربائية والالكترونية، فقد ساهم شبانها في التحريض على التظاهر وشاركوا فيه، وكان دورهم أساسياً في الإعلام والإتصالات عبر أجهزة الكومبيوتر والهواتف المحمولة.

لا أذكر في أي من التظاهرات صادفت ذلك الشاب الذي لا أعرفه ولا يعرفني وأجهل اسمه ولم أسأله عنه فيما كان يسير الى جانبي في التظاهرة، وقال لي إنه لن يكف عن التظاهر مهما أطلقوا نيران بنادقهم على المتظاهرين، وإنه لا يهاب القتل والموت، قبل أن يسأل نفسه ويسألني: “ليش نحنا عايشين؟!”. ثم هاأنذا أكمل عباراته المتقطعة، وأنقلها الى لغتي: أي حياة هذه التي نعيشها؟! لا شغل ولا عمل، والزواج والحصول على وظيفة ضروب من المستحيل. لا أملك بيتاً، ولا أستطيع استئجار بيت. والكلام، حتى الكلام في شؤون حياتنا كما في بلاد الله الواسعة، ممنوع علينا وينطفئ في صدورنا ويتآكل، أو تبتلعه حناجرنا، قبل أن يصير كلمات ولغة ماتت في مداركنا لكثرة ما كتمناها طوال سنين. وها نحن نمشي ونتكلم الآن خائفين هلعين من رصاصة مفاجئة. الشهادة أحلى من هذه الحياة التي نعيشها، قال الشاب ايضاً. كأنما هذه العبارة الأخيرة هي نفسها التي كانت تصرخ بها حناجر المتظاهرين: “عَ الجنة رايحين: شهدا بالملايين”، كما صرخت بها قبلنا حناجر المصريين. لكن صراخنا بها، نحن السوريين، أشد وقعاً وقرباً من الحقيقة التي أصابت ذلك الشاب المجهول، برصاصة قاتلة في رأسه، فيما كنا نسير معاً في تلك التظاهرة، صارخين: “شهادة، شهادة، شهادة”، على وزن “حرية، حرية، حرية”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى