تهامة الجنديصفحات الناس

من يوميات اللجوء السوري: أنتظر وتكبر خيبتي/ تهامة الجندي

 

 

تبعاً لقوانين الدولة البلغارية الصديقة، لا أستطيع التماس الحماية، قبل أن تنتهي تأشيرتي الممنوحة لثلاثة شهور، ومن بعدها يستغرق النظر في طلبي قرابة نصف العام. في الوقت الضائع من عمري الذي لم يبقَ منه الكثير، ، لن أتمكّن من وضع علامات البداية، ولن أشعر بالاستقرار، وإن صادف ومُنحت حقي باللجوء، لن أحصل على حقوق اللاجئين في الدول الأوروبية الغنية، من المعونات المالية الشهرية، إلى الرعاية الطبية، وبرامج الإدماج.

أواجه مصيري بمفردي، وعلى مسؤوليتي، وأينما توجهّتُ، أدفع أتعاب إقامتي، ويسألني البلغار الذين ألتقيهم: «ما الذي يحدث في سوريا؟». أكثرهم يظن أنها حرب دينية، يقودها إسلام خطير، ويفضلون بقاء الأسد على رعب «داعش»، والإعلام البلغاري قلّما يتطرّق للخبر السوري، وعلى الأغلب يقتصر على إخفاق الحكومة الفقيرة في احتواء أزمة تدفق اللاجئين. لا أحد يأتي على ذكر ثورتنا، وأشعر اني موضع شك الجميع.

ألاحق شمس النهار، أتفقد الليل من شرفتي، لا أصادف «الزهرة» رفيقة سهري، ولا أبصر طالعي بين النجوم. لن أوقّع عقد العمل الذي حلمتُ به، وتركت الإذاعة. معيشتي تبقى رهن بما أكتب، وما يُنشر لي، ويُرسل إليّ من استكتابات، وأحيانا لا أجد ما يستحق الذكر، ولا يطاوعني قلمي. دورة كاملة، متصلة من القلق والانتظار، جعلتني ألهث وراء الوقت، وأنسى حياتي. أنهي جرعة أخرى من مراسيم الموت، وأهب روحي لقلب المدينة، أمشي بلا مواعيد ولا رفيق، أستأنس بالمّارة، أتسلّى بالنظر إلى الفنانين الجّوالين، أتابع الموضة على الواجهات، وأشعر باختلافي.

أحيانا أصادف زملائي السابقين، يستوقفوني مرحّبين، ولا أذكر معظمهم، خليط من جنسيات أنهكتّها المعارك، طلاب علم ونضال، صاروا من أصحاب الأعمال، أو المعارضين المخضّرمين، نتبادل بعض الكلام، ويغادروني مسّرعين. أتابع دربي، أشتري طعامي وحاجاتي، وحين اتعب، أرشف قهوتي على مقاهي الرصيف. لم يعد التدخين مسموحا في الأماكن المغّلقة، مثلما كان في أيامي الخوالي، وارتفع سعر علب الدخان إلى ما يفوق مقدرتي. تعلمّتُ أن أتجاهل تقلّبات الطقس، وألفّ سجائري بيدي في الهواء الطلق، وأنا أرقب الكلاب الصغيرة، المدلّلة، تتبختر أمامي برفقة ذويها، تضع القبّعات، أو ترتدي السّتر الأنيقة، تشاكسني وابتسم لها.

أبدأ رحلتي بصعود الترولي «تسعة»، وبعد نصف الساعة أجدني أمام المكتبة الوطنية «كيرل إي ميتودي»، أنزل وأمشي باتجاه السوق المقبب «خاليته»، أقطع نحو ثلاثة كيلومترات، أمر بنصب القيصر الروسي الكسندر الثاني، المتحف الوطني، نادي المحاربين، مجلس الشعب… وأينما نظرت أرى الكنائس القديمة، تتأملني بعينيها المسالمتين، وأشعر أني في معّبد مترامي الأطراف.

أول من ألقي تحيتي عليها، هي كاتدرائية «القديس ألكسندر نيفسكي»، ثاني أكبر الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في شبه جزيرة البلقان، بُنيت عام 1912، تخليداً لذكرى مئتي ألف جندي روسي وبلغاري وأوكراني، قضوا في حرب تحرير بلغاريا من العثمانيين عام 1878. جدرانها الخارجية مكّسوة بالحجر الأبيض، أبوابها مصنوعة من خشب البلوط، قبابها ملبّسة بالذهب، وفي سردابها معرض دائم لفن الأيقونة الأرثوذكسية.

دخلت الكاتدرائية قبل حوالى ثلاثة عقود مع صديقي الفلسطيني، أشار بيده إلى رسوم القبة والجداريات، وقال: «هذه فلسطين»، تأملّتها مفتونة، ولأجل عينيها أشعلتُ شمعتي. لم يمضِ شهر، حتى أُعلنت الدولة الفلسطينية في المنفى، هاتفني والفرح يتدفق من صوته، قال: «أنت أول من سنمّنحها الجنسية»، ضحكت ولم يخطر ببالي، اني سأشيخ قبل أن يحلّ السلام، وأتجوّل في أحياء بيت لحم والقدس، بل حتى التسكع في أزقة دمشق القديمة، سيغدو واحدا من أحلامي.

أقطع المسافة التي قطعتها مئات المرات في شبابي، كأنني أقطع سواتر الزمن، وأدخل الماضي، حينها لم أكن أكترث بتاريخ المدينة ومعالمها الروحية، كنت مشغولة بحاضري ومستقبل الفقراء، أعيش الحب بكل درجاته وألوانه وأسمائه الحسّنى، وحين يعذبني، أشعل شموعي لسيد المحبة والسلام، وعلى دربي كانت تقف عشر كنائس، قبل أن أصل الجامع الوحيد في العاصمة، وأجده مغلقا، أشبه بخربة.

أمرّ بالجامع اليوم، بعد ان رُممت قبته الضخمة، ومئذنته العالية، وفتح بابه الواطئ للمصلين، أمرّ ولا أستطيع دخوله بسفوري، أكتفي بصوت المؤذن الجميل، وأرّفع صلاة الغائبين، وأنا أعبر الشارع، باتجاه «الخاليته»، ثم أمشي بجوار أكبر كنيس ليهود السفارديم في أوروبا. لم أكن أعلم بوجوده، لفتني بناؤه الضخم ونجمته السداسية، وأنا أخرج من السوق العربي، أحمل الملوخية والقهوة بالهيل. وقفت في المثلّث، الذي ترسم أضلاعه أعين الكنيس والجامع والكنيسة، وفي قلبي رجاء واحد، أن تنتصر ثورتنا، ويقّتص القضاء من الطغاة والمجرمين، سألتني السماء: وهل ستكفي محاكم الأرض؟

قبل أن أدخل الحدود البلغارية، كنت معجبة بصفحة «الجالية السورية الحرة» على الفيسبوك، أتابع أنشطتها، وأتشوّق للانضمام إليها، وزيارة مقرّها، الذي سمعت انه الفريد من نوعه في أوروبا، وما إن رتبّتُ أموري، حتى اهتديت إلى المقرّ، يقع ضمن مركز تجاري ضخم، يشرف على مفترق طرق واسع في صوفيا. رأيت علم الثورة، يتمايل على الواجهة الزجاجية، وخفق قلبي، دخلت البهو الصغير، الذي تحتل معظم مساحته زاوية تخديم الزبائن، لم أجد أحدا، ولم أعثر على مكان للجلوس، سألت النادلة، أين الأعضاء؟ أشارت بيدها إلى الأعلى، صعدّتُ السلّم، ووجدتهم منغمسين في تناول الطعام. كان الشهر الفضيل في أواسطه، وكانوا قلائل، ولم يعرّني أيا منهم اهتمامه، حتى بعد أن حييّتهم، وعرفّتهم باسمي وجنسيتي. وقفتُ حائرة، ثم تمنيت لهم إفطارا هنيئا وانصرفت.

بعد أيام جاءتني دعوة للإفطار من «الجالية الحرة»، عن طريق أحد أصدقائي، ذهبت وانضممّت إلى حلقة معارفه. هذه المرة كان الحشد كبيرا، والجو دافئا، والطاولات مرّصوفة على الرصيف بمحاذاة المقرّ. سرّني أن جميع ألوان الطيف السوري، تشرق على وجوه المدّعوين، وأحزنني أن الجنس اللطيف قليل، مع أن سطوته واضحة على المكان. لقيّتُ الكثير من الترحيب، تناولت طعامي بشهية، دخنّت النرّجيلة، وتبادلت الأحاديث وأرقام الهواتف مع من أعرف، ولا أعرف من النشطاء السوريين والبلغار، لكني أحسسّتُ أن الحاضرين منقسمون في تكتلات، والمعارضين المخضّرمين، هم من يمسكون بالزمام، وأشعرني نقاش بعضهم عن الدور الريادي، والأحقية في القيادة، أن أعضاء الجالية ليسوا على وفاق تام. عند العشاء لفتني أن بعض الرجال، ينسحبون إلى داخل البهو، ويقيمون الصلاة، وقبل أن أغادر الجميع، التقطت صورا للحضور بجانب مجسّم ساعة حمص، وتصوّرت تحت راية الثورة.

زرت المقرّ أكثر من مرة، وتواصلت مع الذين التقيتهم في ذاك الإفطار اللطيف، حاورت بعض ناشطي وناشطات الغوث، ونشرت ملاحظاتي عن وضع السوريين، المقيمين واللاجئين. باغتتني موجة من امتعاض الجميع، أن معلوماتي لم تكن دقيقة، وأني بالغت في تسجيل السلبيات، ومنهم لم يعجبه أني تجاهلت فساد المتطوّعين، وأهملت المحّتاجين. أصّغيت، ولم أشعر بالاستياء، لي رأيّ، ولهم رأيهم. آلمني حضوري اجتماعهم لإصدار بيان يدين «داعش»، لم يكّتسِ النقاش بالقدر الكافي من الجدية والشّفافية، أغلب الحاضرين ظل صامتا، خوفا من أجهزة التنصّت وكتبة التقارير، ومعظم من تحدّث كان ضد المذابح من منظور الدفاع عن قيم الإسلام وعدالة الشريعة. حاولت أن أذكرهم، أننا نوقّع البيان لأن تنظيم «النحّر» ليس منّا، يرفع علمه الأسود، ولا يؤمن بالديموقراطية والدولة المدنية، قاطعوني، وبُترتّ الجلسة قبل الاتفاق على صدور البيان أو تحديد بنوده.

رحل الصيف مسرعا، حلّ انقلاب الخريف، وتساقط الثلج قبل أوانه، وأنا أنقّب عن نشطاء الثقافة والإعلام، وحين عثرت على بعضهم، وجدتهم يقاطعون «الجالية الحرة»، ويعيشون في جزر معزولة، لن تفتح أبوابها لاستقبالي. سمعت الكثير عن هيئات الإغاثة والمغيثين، ولم أحصل على أدنى عون. لكني تلقيت عروضا كثيرة، مقابل مبالغ متفاوتة لتهريبي إلى دولة أوروبية أخرى. رفضّتُ الإتجار بأحلامي، ولم أعد استغرب تسلّل الدواعش إلى كل مكان.

أخذتني الكآبة، ولذت بجدران غرفتي، أنّفثُ دخاني، وعلى رمادي تزحف تغريبة التنكيل والجوع. أين حراكنا السلمي؟ كيف دخلنا لعبة الأيقونات والشّلل الضيقة؟ كيف افترقنا إلى عرب وكرد، ملل وطوائف وتنظيمات متناحرة؟ والكل يطالب بحصته من الأرض الخراب. الثورة ليست حكرا على أحد، ولا تحتاج من يمثّلها، هي التي مثّلتنا حين خرجنا بسوريتنا الكاملة نطلب الحرية، وهي من تسقط الشرّعية عنا، حين نخون مطالبنا.

أدخل المفوضية البلغارية لشؤون المنكوبين، أصطفّ في طابور التماس اللجوء، وأغلب الواقفين معي من الكرد والأيزيديين والأفغان. أنتظر موعدي مع المحقّقين، وتكبر خيبتي، أنتظر في الممرات الكالحة، وأصادف الكثير من معارفي السابقين واللاحقين، يقومون بدور المترّجم الوسيط، ما بين الجهات الرسمية واللاجئين، في بلد لم يمنحني الأمان بعد.

صوفيا (بلغاريا)

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى