صفحات الرأي

من 2 شباط 1982 (حماة) إلى 3 شباط 2012 (سوريا)

 عشرة آلاف يوم ومئة وثلاثة أيام ويوم واحد

وضاح شرارة

“عذراً حماة”، كان وسم الجمعة السورية (الواقعة) في 3 شباط 2012. وصادف اليومُ انقضاءَ 30 سنة تامة ويوم على والمرء في حيرة من تسمية هذا اليوم وحوادثه، جميعا أم فرادى، مجزرة مذبحة ملحمة مقتلة، من غير قيد غير ذاك الذي تقيد التسميةَ به أصداء الاسم وترجيعاته، وقربه أو بعده من أسماء حوادث “تشبه” الحادثة التي يسميها الاسم: مجزرة مذبحة ملحمة مقتلة . ويضيف: حماة. ولا بأس بالاقرار بأن اسم جمعة التذكر، مرة أخرى “عذراً حماة”، استغلق فهمه، على بداهته. فمتظاهرو اليوم يعتذرون من قتلى مجزرة مذبحة ملحمة مقتلة حماة، بعد قبل، على ما كان ليكتب باول تسيلان (نوافذ- المستقبل 5 أيار 2011، ص 14، التصفح على مدونة الكاتب waddah-charara.blogspot.com)، ثلاثين سنة. فعمَّ يعتذرون؟ عن أنهم لم يقتلوا يذبحوا يجزروا يلحموا معهم؟ وهم، معظمهم الساحق، لم يكن ولد في عام الشؤم ذاك؟ وبعضهم من أولاد من قتلوا ذبحوا لحموا ورمى آباؤهم بأنفسهم على الموت- القتل تفادياً لموتهم قتلهم هم. أم يعتذرون عن نسيانهم المقتولين المذبوحين المجزورين الملحومين، وعن توسيدهم الغيم (تسيلان) الخفيف والبعيد، وعن سكوتهم المتمادي عنهم ومجاراتهم القتلة الجزارين الذباحين اللحامين على انكار الحادثة واستحقاقها التذكر فيمر الثالث من شهر شباط في 1983 1984 1985 1986… وحتى في 2011 من غير أن يرفع أحد من الذين شهدوا سمعوا يومها أم من بعد صوته أو صمته أو دمعه أو دقات قلبه في هيكل صدره العريض الخاوي الموحش، وينعطف إلى اطياف المتدافعين من غير وجه مضرج رأس مضرجة دماغ مضرج عين مضرجة خد مضرج كتف مضرجة رئة مضرجة ذراع مضرجة يد مضرجة حوض مضرج بطن مضرجة ذكر مضرج حر مضرج فخذ مضرج ركبة مضرجة عقب مضرجة اصبع مضرج، على بوابة دار الموت، ويسألهم عن أسمائهم اسماً اسماً: حمزة رؤى هيثم عليا ابراهم أسماء اسامة جمانة أحمد حسانة؟ أم يعتذرون عن ترك حمزة رؤى هيثم عليا ابراهيم أسماء جمانة أحمد حسانة في عراء عام الشؤم “يحفرون، يحفرون، على هذا (يـ)مضي يومهم، ليلهم (…) يحمدون الله الذي فهموا- شاء هذا كله، الذي فهموا- علم هذا كله” (تسيلان “كان فيهم تراب و/كانوا يحفرون.)؟ يعتذرون عن طاعة الجزار اللحام القاتل الذباح طوال ثلاثين سنة شباط 1982 شباط 1983 1983- 1984 1984 -1985 2010 -2011 في أثنائها أمر الجزار اللحام القاتل الذباح من اتخذهم التراب بيتاً مسكناً منسىً- منفى بحفر قبور أهل – حماة في جبانات عام الشؤم؟ فكيف رجع المقتولون المذبوحون الملحومون المجزورون واجتمعوا على بوابات أيام الوقفة الكثيرة، وعلى وجوههم وجباههم المغسولة أسماء من غير أكفان ولا تراب؟

“كانوا يحفرون، ولم يفهموا من بعد شيئاً” (تسيلان). من يحفرون، جباناتهم الفسيحة تملأ الارض، والتراب فيهم وهم “يحفرون، يحفرون،” لا يفضي بهم حفرهم الى الفهم أو الحكمة أو ابتكار اغنية أو تخيل صنف واحد من اللغات. وفي وسع الهدوء والعاصفة والبحار كلها المجيء والتعاقب والرواح، فلا تنم صدىً أو معنىً غير الحفر. وهذا حال الدودة، الموقوفة على دورٍ يدور، ولا يصنع فعلاً ولا عملاً. والدور يدور، و”يفضي… لا إلى جهة”. وصاحبه، أي دودته، يَعرى من الجهات، ويخرج من التعريف والماهية الى النفاية والاغفال.

وفي مراثينا (من تكون “نا” هو السؤال أو المسألة)، وتآبين موتانا وقتلانا، وأسفار محننا ونكباتنا، لا يرضى الشاعر المنشد المغني المقرئ الجالس المحنةَ التي يصفها الشاعر الروماني الألماني اليهودي الكتابي، محنةَ الدودة. بلاء الدور من غير جهة ولا حكمة ولا لغة ولا توقيع ولا فرقٍ (“وما يغنّي هناك يقول: إنهم يحفرون”). فيسرع المعنى، وفي ركابه وموكبه المَلَكيّيْن الحكمة واللغة والتوقيع والفرق، الى القتل والموتى، والى القتلة والموت. ويحسب المنشد المغني المقرئ الجالس أن الحكمة واللغة والعلم والفهم والغناء هي التراب الذي ينبغي أن يواري مقتولينا مجزورينا ملحومينا مذبوحينا. وهي ما يليق بهم وبنا.

وهذا إنكار لدور الدودة القتل ودورانه لا إلى جهة. فنكاد نصدق صاحب القتل أو “رجله” حين يزعم وهو لم ينفك يزعم هذا منذ استوائه قتّالاً جزّاراً ذبّاحاً لحاماً أن مقاتله مذابحه مجازره ملاحمه ليست حفر دودة، بل هي ثمرة حكمة وفهم وعلم ولغة وغناء. ونصدق هذا، أو نكاد (هل نكاد وحسب؟)، لأن حمل صاحب القتل، فرداً فرداً وجماعة أو جميعاً، على غير الدودة يجنب مقتولينا وموتانا محنة الدودة، على وجهها السالب، أو يخيل لنا ذلك. فهم كذلك خاضوا في حكمة وفهم وعلم ولغة وغناء، تفوق تلك التي يزعمها صاحب القتل لنفسه، فرداً فرداً وجماعة أو جميعاً، حقيقة وصدقاً. فتخليص من قضوا من غير وجه مضرج رأس مضرجة دماغ مضرج من حَفر أو قتل لا ينتج فهماً ولا استواء على كرسي الحكمة، يدعو الشاعر المنشد المغني المقرئ الجالسَ الى تنكب محنة الدودة، وإثبات نقيضها وخلافها. ولم يمسك تسيلان نفسَه عن إثبات النقيض والخلاف. فيكتب بعد “آه”:” أنت تحفر وأنا أحفر”. والحفار الجديد هو غير الحفارين القدامى. فهم “أنا”، ويسعه قولها وتدبرها واختبارها ما شاء وأراد. وهو يحفر في نفسه. “أحفر فيَّ”. ويحفر على قصد غاية يقصد إليها، ويريد بلوغها، هي أنت. والحفر، اللفظة، يقال على وجه الاشتراك. فالحفر في النفس، والقول أنا، وقصد الغير، وجواز بلوغه، تؤول الى تتويج: “على إصبعنا الخاتم يستفيق.” والاصبع في الخاتم او التختم بالخاتم، علامة، في القول العامي، على قران وعهد، وعلى اجتماع “نحن” من أنا وأنت. وإفاقة الخاتم والعهد والنحن ابتداء عالم واحد هو عالم اليقظة، على قول الحكيم اليوناني، أو عالم “الشريعة” وعروتها والاجتماع عليها، على القول النبوي.

والليل، قبل الافاقة على التعاهد وخاتمه، كان بهيماً. وتحوم البهيمة حول المدينة، وتستدخلها وتُعمل فيها، وفي أطفالها ونسائها وشيوخها وشبانها العزَّل وغير المسلحين، السيف الذابح والقنابل الجزارة واللحامة والكذب القتَّال. وتجدد عملَ الدودة وحفرها الأعمى. وتحمل هذا على السياسة، وتدعو الى حمله على السياسة، والمجادلة فيها. والتسليم للاشتباه، أو للتشابه ولتطاوله الى اختلاط رعاية خاتم التعاهد بعمل الدودة القتّال الجزّار الذبَّاح، من مراوغة الدودة الآمرة بالحفر. ويغزو التشابهُ النفيُ الإغفالُ الحكمةَ الفهمَ الاغنيةَ اللغةَ. ويجرها الى محاكاته المقلوبة والمعكوسة، ويكرهها على ترك إيجاب الفهم، وإيقاع الغناء والانشاد والرقص، الى الرد الواحد والسوي، على سوية واحدة، إلى نفي النفي وإغفال الاغفال وحفر الحفر.

وكتابة تسيلان الشعرية، على مثال أو شاكلة لحن الاوغاد والشطار الذي غناه أمبريه بونتواز بباريس (على مسمع) باول تسيلان، من تشيرنوفيتش بساديغور، على مثال أو شاكلة كتابة هنري هاينه، في أوقات مظلمة، بآدوم، تقترح على حماة حمص درعا ادلب بانياس الزبداني بنش الرستن دوما ريف ريف ريف ابتكارَ أغنيةٍ لغةٍ فهمٍ حكمة. وليس “فناً شعرياً”. والحق ان المغنين الراقصين العازفين الاوغاد والشطار بحماة حمص درعا ادلب، وبعضهم استعجل القتَّالون الجزارون الذبَّاحون اللحامون الحفارون على أبواب المدن على باب الليل البهيم ذبحهم من غير كناية ولا استعارة ولا طباق ولا جناس- المغنون الاوغاد الشطار والراقصون ابتكروا الاقتراح الآتي من بعيد وقديم. فهم التمسوا وحدهم “خروجاً من نفسهم”، “مؤتلفاً”، وسألوا: “ألم يكن ذلك/ إذا جاز القول اسماً؟” -ابراهيم حمزة- هيثم-.

والاسماء، أسماء المغنين الشطار الراقصين الاوغاد، مؤتلفة ومركبة ومفردة. وهي، في أحيان كثيرة، أضداد، ومؤتلفة من أضداد وأفراد آحاد. “الطفل العين” (“جليد، عدن”). “البعيد القريب” (“والنبيذ والخسارة، و”) “الصحراء السموات” (“مزمار”) المضيَّع القريب (“كيميائية”). ولكل مركب حكاية. وحكاية “الطفل العين” تبدأ ببلد: “هناك بلد”، أو كان يا ما كان كان “في” (هناك) بلد. والبلد كان “ضائعاً” . ومن أمارات ضياعه أن “قمر(ه) يطلع في القصب”، على ضفاف نهر، ربما وحول نواعير ربما. والبلد “ميت من البرد”، “معنا”، مثلنا، من عدوى البرد في السهول الداخلية؟ أم مؤاخاةً وتقرباً وتدويناً ونماً “بأنيننا”/ في واحدة/ من لغتهم ذات الصور”)؟ والبلد ضياعه وقمره وقصبه وبرده ومعيته، “يشع في الجوار” العريض: بين ماردين وحوران، وبين الجزيرة والمتوسط، و”يرى” وعيونه الكثيرة (هي) “أراضيه المضيئة”. المضيئة في “الليل، الليل”. الليل الأليل، الليل الذي “يقلي” (بالسمن الحموي؟ بالنار السماقية؟) أرض الضوء والقصب والضياع والموت والبرد. و”الطفل العين” هو هذه جميعاً من غير كيف. و”الطفل العين” هو هذا في هذه الحكاية، هذا البلد، البرد، الجوار، الارض، الليل. وهو في بلد غيره، وبرد وليل وجوار وأرض، “طفل- عين” (مفقؤة)، “طفل أنف” (مجدوع)، “طفل ذَكَر” (مكلوم)، “طفل قصبة هوائية” (مقصبة)، “طفل- اصابع” (مجرومة)، طفل قلب، طفل بطن…

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى