صفحات سوريةعلي كنعان

مواقف.. للتاريخ


علي كنعان

من غرائب العصر وأعاجيبه تاريخ سورية الحديث، وأغرب ما فيه أن حجم الدجل والتزوير كان بلا حدود.

بدأ هذا التاريخ باعتبار مشروع سد الفرات العظيم من منجزات الجنرال، مع أن الذي وضع حجر الأساس فيه هو الرئيس نور الدين الأتاسي الذي ما تزال ذكراه العطرة تملأ نفوس كل من عرفوه أو شاهدوه من قريب أو بعيد. لكن الإعلان عن بداية تلك المرحلة كان بعد أربعين جمال عبد الناصر بما لا يزيد عن عشرة أيام، وقد أطلقوا عليها ‘الحركة التصحيحية’، ولم يخطر في بال أحد أن يربط بينها وبين هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو، وخاصة أن المسؤول عن الحدثين جنرال واحد. وأول ثمرة من ثمار ‘التصحيح’ كانت اغتيال اللواء محمد عمران في طرابلس بلبنان، ثم انفرطت حلقات السلسلة وتناثرت في كل مكان، وجاءت الأحداث الدامية التي قام بها الجناح العسكري في جماعة الإخوان المسلمين، لتستمر الاغتيالات، وقد ألحقت جميعها بشباب ذلك الجناح. ولعل هذا واحد من الأسباب التي حالت دون المصالحة الوطنية بين الجماعة وقيادة البعث الحاكم. وكان للشيخ الجليل الراحل محمود مشوِّح (أبو طريف) دور كبير في السعي لتحقيق المصالحة، دون أن يتمكن من ذلك. وتلك قصة طويلة، أرجو أن يسعفني الوقت يوما في كتابتها، إنصافا لهذا الصديق الحميم والعلامة الكبير. ومن الفاجع المؤلم أن بلادنا تدفع اليوم ثمن ذلك الصراع من دماء أبنائها، وإن كانت بشائر الحرية والخلاص تملأ النفوس.

ـ 1 ـ

إن تاريخا سوريا جديدا بدأ في 15 آذار/ مارس من هذه السنة. لقد زلزلت انتفاضة جماهير شعبنا قواعد الاستبداد وأطاحت بحواجز الخوف والحذر إلى غير رجعة، لتبدأ كتابة نصها الجديد ممهورا بالتضحيات الجليلة ودماء الشهداء. والانتفاضة التي تتحول إلى ثورة شعبية شاملة تؤكد مسيرة انتصارها يوما بعد يوم، لا بكلماتنا البائسة الخجلى من بعيد، ولا بالمتربصين الباحثين من وراء البحار عن شطر من الكعكة الشامية الدسمة، إنما بإصرار الجماهير على مواجهة العنف الأعمى والرصاص الغادر بالأيدي العزلاء والاحتجاجات السلمية، حتى تكتمل الملحمة باستعادة قيم الحرية والكرامة الإنسانية وإقامة دولة القانون التي اختصرها المفكر العزيز الطيب تيزيني بهذه العبارة المضيئة: ‘تفكيك الدولة الأمنية المهيمنة’، تأسيسا لتحقيق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين. لن تكون بلادنا بعد اليوم ‘سوريا الأسد’، بل ستكون سورية شعبها والأوفياء من قادته ورجالاته الأحرار، ولن يكون بينهم أحد ‘.. ممن تلوثت أيديهم بالدم والمال الحرام’، كما يقول المناضل المخضرم رياض الترك في آخر حوار أجراه معه الأستاذ محمد علي الأتاسي.

ـ 2 ـ

الثورة منعطف تارخي تصنعه جماهير الشعب، مستلهمة آلامها المزمنة وآمالها الكبرى. إنها لحظة فاصلة في مسيرة التاريخ والمجتمع والوطن. إلى جانب ذلك، نحن أمام انبثاق وتشكل منظومة معرفية جديدة، لا سابقة لها، عمادها الشباب الجريح الغاضب الواعي والمتبحر بأحدث تكنولوجيا الاتصالات. وأول ثمارها وأغلاها أن يزول الاستبداد ومؤسساته القمعية. إن واقع العسف والفساد هو الدافع الأكبر للثورة وتقديم التضحيات الجليلة، أما محاولات السلطة المهيمنة في كبح المد الشعبي بانتهاج أقسى وسائل العنف والبطش من جهة، وبالرقص على الحبال والتفنن في ألاعيب اكتساب الوقت من جهة ثانية، فإن قراءة الأحداث وتصاعدها تؤكد أن لا جدوى من أي عنف ولا فائدة لأي تخدير أو ترقيع مرشوش بدهان الإصلاح!

يبدو لي أننا نجري نحو كارثة لا تقل فظاعة ودمارا عن كارثة العراق إذا استمر النظام بنهجه العنيف. وأمام هذا الدم المسفوك في الشوارع كل يوم، أتساءل بكثير من المرارة والسذاجة: ‘أليس في قيادة البعث والحكم في سوريا مسؤول راشد واحد يصرخ بقوة وشهامة: ‘كفى!.. كفانا إيغالا في برك الدم’! هل تستحق الكرسي قطرة دم واحدة من إصبع مواطن؟! إن النظام الذي يتعامى عن ذلك ويواصل البطش بأبناء شعبه لم يعد نظاما دكتاتوريا أو سلطة استبدادية طاغية، إنما هو عصابة إجرامية حمقاء لا هم لها ولا هدف إلا الاستمرار في الهيمنة والبطش والتنكيل والرقص في أعراس الدم. وأبو الطيب يقول: لكل داء دواء يستطب به/ إلا الحماقة أعيت من يداويها.

ـ 3 ـ

أخيرا بدأ العزف بقوة على وتر الفتنة الطائفية، خوفا أو تخويفا، وراحت أنغامه تضج في إعلام النظام.. ولم يتأخر عن مجاراته في إثارة هذه الفزاعة الظلامية المدمرة أبواق مريبة من الخارج. إن الحديث في الطائفية نادر وكريه في سوريا إلى أقصى درجات القرف والخزي والازدراء، وهو منطق صهيوني/ استعماري لا أحد يطيق نبشه أو رعايته وتهييجه، ولا شك أن انتهاجه لا يحمل غير الدمار الشامل، فلماذا يصرون على التلويح به وهم يركبون الموجة ليستمروا بالتسلط والنهب والاستبداد؟ إن ثلاثين سنة من السيطرة على خيوط اللعبة في دهاليز لبنان علمت ألوفا من المسؤولين السوريين، عسكريين ومدنيين، كيف يحتضنون الجرثومة الطائفية في دمائهم ويستثمرونها في حياتهم وأعمالهم وصفقاتهم، لا بالوضوح اللبناني الفاقع والمكشوف والمتفق عليه من جميع الأطراف، وإنما تحت ألف قناع وقناع. ولكن مآل أي محاولة من هذا النوع إلى مزبلة التاريخ.

إذا كانت الديمقراطية حكم الأكثرية، كما يعرف حتى التلامذة الصغار، فمن حق الأكثرية الإسلامية في بلادنا أن تشعر- بعيدا عن أي منطق طائفي أو انعزالي بغيض- أنها الشعب، نعم الشعب الذي يحتضن بين حناياه جميع الديانات والأقليات المذهبية والإثنية، وإن كانت موزعة بين أحزاب وتيارات سياسية وفقهية متعددة. وهذا التلاحم الشعبي المتماسك يذكرنا بقول المتنبي عن الريش الكبير والصغير في جناح النسر: ‘فإن الخوافي قوة للقوادم’. ومن هذا المنطلق الوطني والقومي والإنساني الأصيل اختار زعماء الثورة السورية سلطان باشا الأطرش قائدا عاما لها، وكان إبراهيم هنانو وصالح العلي وسعيد العاص وحسن الخراط.. وسائر زعماء سوريا منضوين تحت تلك القيادة الحكيمة بلا تردد ولا إكراه. والذين حاولوا، على مر التاريخ أن يجعلوا من الأكثرية الشعبية طائفة لغايات مريبة في نفوسهم، لفظتهم أمواج البحر الشعبي وتركت آثارهم هباء للرياح العاصفة. إن مقتل سوريا كامن في أن تشعر الأكثرية المسلمة أنها طائفة، وليست شعبا حاضنا للجميع وملتحما بهم، وأن يتصرف بعض رجالها ودعاتها بمنطق انعزالي ودافع انتهازي رخيص، كما يفعل مرضى الاستبداد للحفاظ على مناصبهم. وهذا لن يكون أبدا، وإن ظهرت حالات انفعالية طائشة من الانتقام الفردي أو العائلي والعشائري. وهذا ما أكده رياض الترك بقوله: ‘.. على الحياة السياسية في سورية الجديدة أن تتسع لجميع أبنائها، ما عدا أولئك الذين تلوثت أيديهم بالدم والمال الحرام’.

وأود أن أشير هنا إلى واقعة تاريخية نبيلة لا تنسى، وإن رحل كثير ممن عرفوها وعاشوها، دون أن يجرؤ أحد منهم على إعلانها. كانت سورية مهددة بالفتنة الطائفية في الأحداث الدامية التي عاشتها من أواسط سبعينات القرن الماضي حتى بلغت ذروتها بمجزرة حماة. ولكن المناضل الوطني الصلب رياض الترك وقف بحزم ضد تلك الفتنة وحمى بنفسه وأحاديثه ولقاءاته المئات، إن لم أقل الآلاف، من القتل على الهوية. هذه المكرمة لا يعرفها إلا قلة قليلة من السورييين، لكنها ستظل صفحة بيضاء مشرقة في تاريخ هذا القائد الوطني الكبير. وربما كان هذا الموقف أحد أسباب اعتقاله وحبسه طوال تلك السنين.

ويوم أبرم السادات اتفاقية كامب ديفيد، عصفت بعشرات المثقفين السوريين موجة من اليأس والحيرة، ولم يكن هناك من ملجأ فكري نلوذ به إلا رياض الترك. وفي أكثر من بيت دمشقي حميم، التقينا الأستاذ والأخ الكبير، أبا هشام، أكثر من مرة. وأذكر أنه قال يوما: فعلة السادات في كامب ديفيد محدلة.. ولا بد أن تأخذ طريقها وتجر الآخرين.. وهكذا كان مؤتمر مدريد، وصدق حدسه العميق في استشراف المستقبل. ولعل العبارة التي وردت في حواره الأخير ستظل وهاجة في ذاكرة كل مواطن: ‘سورية باقية.. والاستبداد إلى زوال’.

‘ شاعر من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى