صفحات العالم

موجبات بقاء النظام

 


تتفق التقديرات على أن النظام السوري باق، كما تلتقي على التساؤل: كيف يبقى؟ ثم تحاول الإجابة. وأول ما تحذر منه أن يواصل النظام نمط السلوك الذي أغرق نفسه فيه، أي تغليب الأمن على السياسة. فهو جرّب الأمن طوال نحو خمسين عاماً، ليفاجأ بعدها بأن الأمن لم يغسل أدمغة مواطنيه، وأن وعيهم ظل سالماً معافىً. للأسبوع الخامس على التوالي واصلت خريطة الاحتجاجات توسعها، ما يعني أن منطق المطالبة بالإصلاح بات السيرة المفتوحة في البلد. ومن الطبيعي في هذه الحال أن تتسلط الأضواء على المجتمع ومكوناته. لأن مصاعد الاحتجاج تستدعي محاولة الفهم، داخلياً وخارجياً. ذاك أن سوريا ليست بلداً عادياً، لا في البعد العربي البحت ولا في البعد الجيواستراتيجي، وبالتالي فاحتمال التغيير فيها يثير الترقب ويشعل بورصة التوقعات. معروف عن هذا النظام أنه ماهر في لعب الأوراق الإقليمية، باعتبارها وسيلته الوحيدة لمواجهة اختلال النظام العربي الرسمي ومتغيرات الصراع العربي الإسرائيلي فضلاً عن تداعيات احتلال العراق. فسوريا لم تشأ ركوب “قطار السلام” على الطريقتين المصرية والأردنية، فتركت وحيدة بمواجهة الانقلاب الإسرائيلي على “عملية السلام”. وبديهي أن البراعة في لعبة تلك الأوراق تمت وتتم بثمن داخلي باهظ، وبمجازفات إقليمية خسرت في سبيلها الكثير من المصالح. وينظر إلى سوريا كعنصر توازن واستقرار، بمقدار ما تعتبر مصدراً للمخاطر في محيطها. فجبهتها مع إسرائيل هادئة منذ 38 عاماً، فيما يصعب إخماد الحرائق في لبنان والعراق وفلسطين. وهي في حال حرب معلنة مع إسرائيل، لكن حروبها تخاض على جبهات غير مباشرة. لذلك فموجبات التغيير ومتطلباته تستدرج حسابات معقدة ومتناقضة. إذ ترتسم مفارقة لافتة قوامها أن النظام يعزو التحولات الداخلية إلى “مؤامرات” خارجية، لكن المرشحين المفترضين للتآمر يبدون الأكثر حرصاً على بقاء النظام، لسبب واضح هو أن بديله المفترض يثير القلق، إسلامياً كان أم “مجهولا”. في بعض ردود الفعل الرسمية الأولى قيل إن كل ما يطالب به المحتجون، سبق أن نوقش واتخذت توصيات بشأنه. لكن نقطة الضعف في هذه التأكيدات قولها إن النقاش والتوصيات حصلا في إطار مؤتمرات الحزب الأوحد، أي حزب “البعث” الحاكم. واستطراداً فإن التباطؤ والتلكؤ والإهمال يُسأل عنها الحزب وليس البرلمان أو الحكومة، ولا أحد يسائل الحزب إلا الحزب نفسه! غير أن الرسالة القوية التي أطلقتها الاحتجاجات تثبت أن هذا الحزب في وادٍ والمجتمع في وادٍ آخر، كما ظهر الحزبان الحاكمان سابقاً في تونس ومصر و”اللجان الشعبية” في ليبيا. تحاول المصادر الحكومية تأكيد أن ثمة أزمة إصلاحات في طريقها للتحقق. لكن الصورة لا تبدو واضحة، ما يعزز الشكوك بأن الجدل داخل أروقة النظام لم يحسم بعد. لكن لابد من الاعتراف بوجود تعددية سياسية وبوجوب أخذها في الاعتبار لدى صياغة الإصلاحات. فقبل أيام أطال الرئيس الجزائري على شعبه ببرنامج لتجنب أي انتفاضة يراوح بين مراجعة الدستور وحرية الإعلام. وقبله خرج العاهل المغربي بمبادرة جريئة لورشة إصلاحية عميقة بات حكمه موضوعاً على محكها. لم يعد خافياً أن رفع اليد عن الحريات يعني تغيير الثقافة الفوقية للأمن بمفاهيمه وتطبيقاته ووظائفه. ولعل الاعتماد على الأمن في سوريا أدى إلى توريط النظام أكثر مما ساعده، ثم أنه اضطر في بعض الحالات للجوء إلى الجيش الذي يتمتع باحترام ومصداقية. لكن بات على النظام أن يبادر سياسياً، وهذا ما يدعو إليه ويتوقعه أصدقاؤه والآخرون من غير الأصدقاء الذين يتمنون ألا يحرجهم، فلا أحد منهم يدعو لإسقاطه أو رحيله، لكن بقاءه صار يستوجب قوة السياسة وشجاعتها، وليس فظاظة الأمن.

نقلا عن (الاتحاد) الإماراتية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى