أنور بدرصفحات الثقافة

نجوم سطعت في عتمة المرحلة: تظاهرة ‘معا الى الشارع’ فرزت بين فناني ومثقفي النظام والشعب


أنور بدر

دمشق – ‘القدس العربي’ من أنور بدر: قد لا تساوي تظاهرة المثقفين السوريين شيئا بالمقارنة مع حجم التظاهرات التي تكاد تنطلق في كل يوم وفي مجمل البلدات السورية، وفي أحياء دمشق وريفها أيضا، لكنها بالتأكيد شكلت معلما مهما في هذا الحراك الجماهيري لجهة تأكيد سلمية الانتفاضة وشموليتها لكل شرائح المجتمع السوري وانتماءاته، كما أنها شكلت معلما أهم في بنية المثقف السوري وهويته الوطنية من جهة ثانية.

ذلك المثقف الذي غُيّبَ عن الفعل السياسي لنصف قرن من الزمن، لصالح بنى واتحادات ومثقفين كانوا تابعين للسلطة الســياسية، يستجدون عطاءاتها ويســـبّحون بحمدها، ومن أبى وتلكأ فالسجن مصيره أو الإبعاد والإهمال.

من هنا كان غياب المثقف السوري عن مشهد الانتفاضة في بدايتها بالقياس إلى ما حصل في دول عربية أخرى سبقتنا في هذا الطريق، غياب ربما استنكره كثيرون ممن لا يعرفون الخصوصية السورية، لكنه بالنسبة لنا كان غيابا مفهوما ومؤلما أيضا، غياب حاول البعض كسر سياقاته عبر التوقيع على بيان هنا وآخر هناك، بيانات لم يستطع النظام الكلياني تقبل ملاحظاتها الخجولة هو الذي سبق واعتقل الموقعين على بيان مثقفي بيروت- دمشق لسنوات، وفصل آخرين من وظائفهم، وعاقب فئة ثالثة منهم بمنع السفر، ومضايقات أخرى كثيرة، شكلت حائلا دون تكرار التجربة، لذلك لم يستطع هذا النظام تقبل بيان وسطي وخجول من بعض الفنانين، فضغط عليهم للانسحاب منه وإعلان البراءة بحجة التغرير ببعضهم، وعدم معرفة البعض الآخر بفحواه، وعندما أكدت السيناريست ريما فليحان مع مجموعة أخرى من الفنانين والكتاب والمثقفين على حقهم في التعبير عن موقفهم عبر نداء يطالب بضرورة إيصال الغذاء والدواء لأطفال مدينة درعا، بدأت عمليات التشبيح عليهم حتى من قبل زملائهم من الفنانين، تشبيح وصل ذروته في بيان وقعته 21 من شركات الإنتاج الفني السورية، لإعلان المقاطعة لكل الفنانين والمثقفينô الذين وقّعوا على بيان الحليب كما بات يُعرف، لأن الوطن وكرامته برأيهم ‘فوق كل اعتبار’ وهو تشبيح في اللغة ودلالاتها إذ يعتبر إيصال الدواء والغذاء لأطفال درعا يشكل عداءً للوطن وإساءة لكرامته!.

وتكرر الموقف مع بيان السينمائيين، حيث استنكر الإعلام الرسمي أن يشارك بعض السينمائيين السوريين بالتوقيع عليه بالتوازي مع ‘سينمائيين ينتمون إلى جنسيات ودول معادية لسوريا’ وطالبوا زملائهم من السينمائيين السوريين بتوقيع بيان مضاد.

لم يتوقف الأمر عند حدود البيانات والبيانات المضادة، حيث لجأ النظام لاستنفار شبيحته للهجوم على الكتاب والمثقفين الذين شاركوا في ‘اللقاء ألتشاوري للمعارضة السورية الأول’ في فندق السميراميس، وتحديدا مثقفي الساحل السوري كما حصل مع الروائي نبيل سليمان والكاتب المعارض الدكتور منذر خدام وآخرون كثر، تعرضوا للهجوم على بيوتهم وسياراتهم والتعرض لعائلاتهم، وتكرر الأمر مؤخرا في مدينة السويداء مع اعتصام المحامين هناك أمام مبنى القصر العدلي، بحجة الدفاع عن النظام المقاوم. ويمكن رصد الدلالات المذهبية والطائفية في هكذا تشبيحات وفي زمن يبدو العمل فيها مستميتا لجر مدينة حمص تحديدا لحرب طائفية، بينما لا زال الناس والشعب بكل مكوناته عصيا على هكذا خيار.

في هذا السياق جاءت تظاهرة ‘مثقفون لأجل سورية’ وتحت عنوان ‘معا إلى الشارع’ لتشكل خطوة مهمة في مسيرة المثقفين السوريين، خطوة نقلتهم من توقيع البيان إلى مظاهرة علنية في شارع الميدان وسط العاصمة دمشق. مظاهرة لم تتجاوز 300 إلى 500 مشارك ولم تستمر إلا لدقائق كانت كافية لترديد النشيد الوطني ‘حماة الديار’ وإعلان سلمية التظاهرة مقابل هراوات الأمن والشبيحة الذين كانوا يحاصرون المكان. وفي دقائق كان قد اعتقل قرابة أربعين مثقفا وفنانا، ربما لم يكونوا من نجوم البرامج الفضائية التي ينتظرها ويتابعها البعض، لكنهم بالتأكيد أصبحوا نجوما لدى جماهير الشارع المنتفض التي كانت تنتظر هكذا مبادرة بفارغ الصبر، وحققت التحاما ذا مغزى دلالي كبير بين هؤلاء المثقفين وبين مجتمعهم وهمومه وقضاياه، حتى أن تلك الجماهير بادرت وبعفوية إلى حمايتهم من بطش الشبيحة في لحظة الإفراج عنهم من ‘القصر العدلي’، لم يسألوا أحدا عن دينه أو معتقده، لم يسألوا أحدا عن رأيه وموقفه، كانوا بالنسبة لهم النجوم التي سطعت في عتمة المرحلة أو رماديتها، النجوم التي قالت لا وسط صمت الآخرين وتذبذب مواقفهم. وخرجوا من هذه التجربة أكثر إصرارا على فضح الحالة الأمنية التي اعتدت على حقهم الطبيعي في التظاهر السلمي، وأكثر إصرارا على تعرية البنية السياسية التي شكلت ظاهرة الشبيحة المرعبة في حياتنا الثقافية والسياسية.

لم يتوقف الأمر هنا بل شكلت هذه التجربة مساحة لممارسة البعض دورهم الثقافي والتنويري داخل السجن، فقدم الأخوين ملص تجربتهما المسرحية ‘مسرح الغرفة’ داخل السجن، وتابع آخرون بعد خروجهم قضية الناس التي ترزح في هذه الأقبية من زمن بعيد، فالمثقف يتفاعل مع واقعه ويتأثر به، ليعيد إنتاج وعيه بهذا الواقع ويحاول تغييره مجددا، فعل الاعتقال والحياة داخ السجن وقصص السجناء والحوارات معهم وممارسة حق التعبير عن الرأي واحترام الرأي الآخر تجربة ستمثل في ضميرهم وعيا جديدا لا يمكن أن ينسوه. من هذه التجربة جاءت شهادات رامي العاشق، وباسل شحادة وآخرين، قصص الذين جيء بهم من الساحل السوري ليعتدوا على السفارة الأمريكية فأصبحوا موقوفين، قصص الذين أدلوا بشهادات تحت التعذيب على قناة الدنيا، ومن رفض هذا الدور، قصص الرجل البخاخ والآخرين الذين انطلت عليهم الكذبة، قصص ستوثق لمرحلة جديدة بكل تأكيد.

وإذا كان فنانون آخرون سارعوا عبر فضائيات النظام للتنديد بزملائهم المتظاهرين وتخوينهم كفنانين وتخوين الحراك الجماهيري الذي سعوا إليه، إنما هو الفرز الحقيقي بين مثقفي النظام، ومثقفي الشعب، وهو السبب الذي غيّب أسماء كبيرة في الأدب والفن والإعلام عن الكثير من نشاطات الانتفاضة، وعن مظاهرة المثقفين ‘معا إلى الشارع’، إذ عزّ علينا خلال نصف قرن من الزمن مشاهدة المثقف الحقيقي ومعرفة دوره التنويري، لهذا فإن الانتفاضة الحالية لابد أن تفرز مثقفيها، ولابد أن تأتي بيانات المقاطعة ومواقف التخوين من أناس لم يألفوا الحرية ولم يعرفوا يوما أن يكونوا أحرارا. ولا بدّ أن الكثيرين ممن يترددون عن اللحاق بركب الانتفاضة حاليا، سيأتون إليها لاحقا، سيأتون مدارين خجلهم أو جهلهم، فالحرية مساحة للعيش المشترك تتسع للجميع.

من هنا أعتقد بأن الانتفاضة السورية التي يؤرخ لها بيوم 15/3 /2011 ستحتفي بيوم آخر بالتأكيد هو 14/ 7 /2011 باعتباره مفصلا أساسيا في حراك المثقفين السوريين، بل في ولادة المثقف الجديد الذي لا يخون رسالته التنويرية، ولا يخون نضالات الجماهير في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية. مثقف نحج بتحويل تهمة المندسين إلى شعار للمرحلة، حين يصبح الشعب كله مندسا، مثقف لا يتاجر بفنه أو مبادئه، فإذا كان يسعى في عمله الفني لفضح الواقع وتعرية الفساد والخطأ فيه، فحري به فضح هذا الواقع وتعرية الفساد والخطأ فيه في حياته ومجتمعه أيضا.

* هامش إضافي للتذكير بأسماء الشركات التي أعلنت ألمقاطعه بحق الفنانين الموقعين على ‘بيان الحليب’ كما جاء على صفحة نجدت أنزور على الفيس بوك:

الهاني للإنتاج الفني / هاني مخلوف

نجدة أنزور للإنتاج الفني / نجدة أنزور

مجموعة شركات الشرق ولين للإنتاج الفني / نبيل طعمة

المسار الدولية للإنتاج الفني / محمد أيمن شامية

سوريا الدولية للإنتاج الفني / فراس دباس

غراند للإنتاج الفني / محمود المصري

دانة للإنتاج الفني / عماد الرفاعي

عاج للإنتاج الفني / هاني العشي

حكيم للإنتاج الفني / مظهر الحكيم

المسار للإنتاج الفني / هالة البكري

القلمون للإنتاج الفني / محمود العبد

بلاك تو / أمير نعمر

جيدا فيلم / حسان داود

غزال للإنتاج الفني / أسامة شحادة

المؤسسة العربية للإنتاج الفني / وائل سويداني

المدار للإنتاج الفني / كايد طالب

الفردوس للإنتاج الفني / علي الصالح لورا أبو أسعد

غولدن لاين للإنتاج الفني / نايف الأحمر وديالا الأحمر

العنود للإنتاج الفني / جنان البكر

المركز الدولي للإنتاج الفني / رياض محفوظ

ميديا للصوتيات / عبد الله حمودة

بانة للإنتاج الفني / عماد محسن ضحية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى