صفحات الرأي

نحن والغرب

 


ميشيل كيلو

ليس ممكناً بعد اليوم أن يتجاهل الغرب نوع التغيير الذي يجتاح وطننا العربي من أقصاه إلى أدناه . ليس ممكناً بالتالي أن يستمر نمط العلاقات الذي كان قائماً بينه وبيننا، وأخذ في طور أول مديد شكل استعمار مباشر لبلداننا، وفي طور تال له، عرف بمرحلة التحرر الوطني والاستقلال السياسي، صورة تبعية متنوعة المظاهر والمضامين، خضعت لها بلداننا المختلفة بدرجات متفاوتة، كان هدف الغرب منها إقامة ظروف تعيد بآلياتها الذاتية إنتاج تبعيتنا، بما في ذلك ضمن المجال السياسي، الذي كنا نريد إرساء استقلالنا الاقتصادي وتالياً الاجتماعي بمعونته وانطلاقاً منه  . ولعل أحداً لا يماري في أن الحقبة الثانية لم تكن أقل خطورة بالنسبة لنا، وأقل فتكاً بنا من الأولى، وأننا وجدنا أنفسنا خلال السنوات التي خضعنا خلالها لفعلها وتأثيرها في حالة ترد جعلتنا نظن أننا لم ننل استقلالنا السياسي، أو أن جيوش الاستعمار المباشر لم تغادر أراضي أوطاننا .

وقد بدا جلياً خلال الحقبة الاستعمارية أننا كنا نفتقر إلى طبقة على مستوى التحدي، وأن القوى التقليدية، سواء كانت دينية أم تجارية أم عقارية، كانت أشد ضعفاً وتأخراً من أن تستطيع وعي الظاهرة الاستعمارية من جهة، وتطوير وعي حديث ومناسب تواجهها من خلاله وتكبح هجماتها من جهة أخرى، وأخيراً من الصمود في وجهها وحفظ استقلال مناطقها . هل حدث هذا لأن هذه القوى كانت متقوقعة على ذاتها، عاجزة عن فهم الإسلام وقراءته في ضوء العصر وحاجاته، غارقة في المحلية والعزلة، معادية لمفهوم الكونية الذي حمله وقال بتحقيقه الإسلام، فاقدة لروح المبادرة والخيال الموافقين للواقع؟ مهما تكن الإجابة، فإن المرحلة التالية شهدت رداً على هذا السقوط تمثل في مشروع إصلاح وإحياء ديني حاوله أفذاذ كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وآخرين، لعب دوراً مهماً في التمهيد للرد التاريخي على السقوط أمام الاستعمار، الذي حملته الطبقات الوسطى العربية المتعلمة والعاملة، وتمثل على أكمل وجه في ثورة عبدالناصر المصرية وما تلاها وواكبها من ثورات قومية واشتراكية، تحررية ووطنية، عصفت بمختلف الأقطار والكيانات القائمة، أو طردت الاستعمار من بلدان كان لا يزال ممسكاً بها .

هل كان الرد التاريخي الجديد من مستوى تحدي التبعية، الذي طال الاستقلال الوطني الحديث، وكانت أدواته سياسات استهدفت أفراغه من مضامينه وإعادة دمج البلدان المستقلة في حاضنة دولية جديدة سميت في أوائل ستينات القرن الماضي الاستعمار الجديد، ثم منذ تسعيناته العولمة، ونجحت في دحر وتقويض ما عرف بالثورة العربية، ولوت ذراعها وجعلتها تقبل ما كانت ترفضه في البداية: العلاقات غير المتكافئة، والمساعدات الاقتصادية المشروطة، والقواعد الأجنبية أو نصف الوطنية، والتبعية الثقافية . . . الخ؟

لا أعتقد أن المرء بحاجة إلى أدلة كثيرة ليقنع نفسه بأن استقلال البلدان العربية كان ولا يزال منقوصا أو مجتزأ أو محدوداً، في مجالات كثيرة، بما في ذلك المجال السياسي، الذي يفترض أنه يكثف ويلخص الإرادة الوطنية، ويعد مكاناً يمكن انطلاقاً منه وفيه إنتاج شروط ومقومات حياة جديدة، يتيح توفرها لنا اللحاق بالعصر وبلوغ نوع من الندية مع العالم المتقدم .

عندما انفجرت الثورة الشعبية العربية الراهنة، تبين بسرعة أنها تريد استرداد أو استكمال الاستقلال الوطني وتعريفه بطريقة جديدة تحميه . فهل سيكون باستطاعتها ذلك، في زمن انفلات العولمة وما تحمله وتنتجه من ثورة علمية تقنية وتدويل لرأس المال والصناعة والزراعة والعمل، ومن تلاش في الدول المتأخرة وكوننة للدول المتقدمة؟

أعتقد أن هذا سيكون أحد أهداف هذه الثورة، في كل دولة عربية تعيشها، بما في ذلك سوريا، التي تعد دولة منتهكة السيادة منقوصة الاستقلال بسبب احتلال “إسرائيل” للجولان، ومنضوية اقتصادياً في النظام الرأسمالي العالمي من موقع الضعيف، وتالياً التابع، الذي يرتبط بقوة مع الخارج في حقلي الاستثمار والتجارة، ويفتقر إلى القدرة على تحقيق ما يريد، إذا افترضنا أنه يمسك بإرادته وقراره .

سيكون من أهداف الثورة الشعبية العربية استعادة أو استكمال الاستقلال السياسي والاقتصادي  . بما أن هذه الثورة تتم في وقت واحد، ولها مطالب واحدة، وتمتلك قوة وحضورا وكفاحية بفضل حامل مجتمعي يخترق سائر الأقطار ويتطلع إلى أهداف واحدة عبر عنها في شعاراته المتقاربة أو الموحدة، فإن استعادة أهداف هذه الثورة من قبل هذا الحامل المجتمعي والوطني / القومي الجامع ستتيح لها الإفادة من ثروات وأموال العرب، وستوفر لها بالتالي شرطين لا بد أن يدفعا الغرب إلى إعادة نظر جدية في علاقاتها معها هما: إقامة مجال اقتصادي مندمج ومتكامل، وقيام وحدة، أو في أقل تقدير تعاون يوفر دعما سياسيا وغير سياسي لنظمها الجديدة، التي يرجح أن تكون من طبيعة ستميل إلى تخطي التجزئة الراهنة، التي بنت النظم القائمة كياناتها عليها، ورتبت أمورها على الإفادة من انقسام وتجزئة العرب، وما هو قائم أو مزروع في جسدهم كأمة من تناقضات .

أعتقد أن هناك بديلين سيحكمان مواقف الدول الغربية عامة وأمريكا خاصة: أولهما التكيف مع وضع لم يسبق لهما أن واجها ما يشبهه في علاقاتهما معنا، خلال أية حقبة من حقب الماضي القديم أو الحديث . وثانيهما محاولة الالتفاف عليه والحد مما قد يكون فيه من توجه مناهض لهما، قد يرتب نتائج سلبية على وجودهما ومصالحهما ونفوذهما عندنا، التي عززها طول توطنهما في بلداننا وسعة علاقاتهما معنا . أما التكيف فهو يأخذ منذ الآن شكل التظاهر بقبول ما يجري على الأرض والعمل على كبحه كي لا يبلغ حدوده الحقيقية . بينما سيأخذ الالتفاف أشكالاً متنوعة ومبتكرة في كثير من جوانبها، علماً أن الغرب سيجد نفسه مجبرا في الحالتين على القيام بخطوات تراجعية، سيكون مضطراً خلالها لتقديم تنازل هنا أو هناك، والتخلي عن موقع هنا وآخر هناك .

. . . أخيراً، فإن كل شيء سيتوقف من الآن فصاعداً على طريقتنا في بناء أنفسنا، وعلى درجة ابتعادنا أو اقترابنا من أهدافنا الكبرى داخل بلداننا أو على المستوى القومي بأسره، وعلى خياراتنا وممارساتنا التي ستمكننا من شق دروب تقدم أصيل ولا رجعة عنه نحو مستقبل يكون لنا، نصنعه بأنفسنا لأنفسنا، ونصونه من أي تدخل أو انتهاك داخلي أو خارجي .

هل نستطيع فعل ذلك؟ نعم، سنستطيع، لأننا في زمن عربي جديد يشير كل شيء فيه إلى أنه سيكون لنا، لأنه من صنع الألم الذي عانيناه خلال نصف قرن، والوعي الذي يبعث نوره في قلوبنا ويضيء عقولنا ويشحذ إرادتنا .

نحن في بداية علاقة جديدة مع الغرب، لن نكون خلالها في موقع الضعيف أو المستضعف، وسيكون لنا ما نستحقه من دور فيها، إن عرفنا كيف نوحد قدراتنا الهائلة ونستخدمها لصالح قضايانا المحقة والعادلة .

الخليج

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى