صفحات سوريةمصطفى اسماعيل

نحو إعادة إنتاج الدولة في سوريا


مصطفى اسماعيل

منذ أشهر والمكونات السورية ترسم خارطة طريق عملية وميدانية إلى سوريا الغد, مقدمة في سبيل ذلك ما تيسر لها من أرواح وتضحيات فردية وجماعية, ومدن أصبحت منكوبة بقدرة السلطة الغاشمة التي أجادت التعاطي بمنطق الهدم والشطب والإزالة, مقاطعة كل الدعوات الموجهة إليها لكبح عنفها الغلوائي المتطرف.

خلال ذلك برز أكثر من ائتلاف ممثل للحراك الشبابي وممثليات عليا للحراك الجماهيري وأطر معارضة, وضعت نصب أعينها مع إدارتها للثورة مسألة رسم تفاصيل وآفاق الدولة السورية القادمة, على أنقاض الدولة التي تمت مصادرتها من قبل حزب البعث والأجهزة الأمنية والمصالح الضيقة العائلية للطبقة الحاكمة.

شعارات ( إسقاط النظام ) و ( أرحل ) ليست مقتصرة ومنصبة سياسياً على شخوص محددين في أعلى هرم النظام الحاكم المستمد شرعيته من انقلابات العسكر ولاحقاً التوريث, وإنما يمتد – برأيي – إلى ترتيب الدولة السورية وفاقاً لمفاهيم جديدة ورؤى جديدة على قطيعة مع الرؤية الأحادية التي تسيدت البلاد منذ أواخر خمسينيات القرن المنصرم, حيث تم تحويل البلاد بنتيجة السياسات الإقصائية والأمنية العدائية الممنهجة إلى كائن سلبي ومشوه مغاير للمجتمع وتطلعاته ومعاد له.

لأن الدولة تنظيم اجتماعي مصطنع من قبل الأفراد والجماعات, ولأنها واقع ومعطى اجتماعي إنساني, ولأنها مجموع السلطات متلازمة عضوياً وبنيوياً مع حيوات الأفراد والجماعات, فإن لكل فرد في المجتمع ولكل مكون الحق في التعبير عن رؤيته حيالها وتقديم تصوراته عن شكلها الأمثل المبتغى. طائفة من النخب الثقافية والفكرية والسياسية السورية وأحزاب وأطر معارضة ومؤسسات للمجتمع المدني فعلت ذلك خلال الأشهر المنقضية, إلى درجة القول أننا بتنا نملك ترسانة من المفاهيم والرؤى والتصورات المستقبلية عن الدولة السورية المفترضة, كبديل للحالية المختزلة إلى مجرد أجهزة قمعية.

بإجراء تقاطع بسيط بين الأفكار المقدمة لتبيان شكل الدولة المطلوب غداً, دولة تكون لكل مواطنيها وليس مجرد دولة/ سلطة, فإن السمات الأبرز لها تتلخص في واجب كونها دولة علمانية وديمقراطية وتعددية وبرلمانية, دولة مؤسسات, دولة غير مدجنة من قبل الأجهزة الأمنية, إذ مل السوريون وأتخموا قمعاً وعذابات من قبل الدولة اللوياثان البعثية, ولا يريد السوريون تكرار التجربة الكارثية وتسليم القياد مجدداً لدولة مهترئة بنيوياً, دولة محطمة وفي قمتها يتربع العسكر والمخابرات مستنزفين إياها إلى النخاع.

إن تقديم المعارضات السورية لمشاريعها وبرامجها الحاضة على الدمقرطة والحريات تنطلق من محاولة تحقيق غايات السوريين في الانتقال من وضعية الرعية إلى وضعية المواطنين, أبعد من ذلك لتحقيق غايات السوريين في المعرفة والرفاه والسعادة وتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية الحقة لهم, بما يكفل شروطاً معيشية أفضل, بعد تجريدهم لعقود منها, كما أن المفاهيم المتحضرة ( ديمقراطية. تعددية. برلمانية. علمانية ) من شأنها خلق نوع من التكامل والتجانس بين السوريين من أقصى البلاد إلى أقصاها, وهذا التغيير غير ممكن مع نمط الدولة الأمنية الاستبدادية الشمولية الظالمة الفاسدة, فهذا النمط المشوه من الدولة هو نتاج عملية سطو تاريخية, حيث تم إقصاء الفرد لصالح مصالح فئوية عابرة تجثم في أعلى هرم السلطة.

ذات يوم عبر كل من أرنست كاسيرر في كتابه ( أسطورة الدولة ), وليو شتراوس في ( القانون الطبيعي ), وكارل بوبر في ( المجتمع المفتوح وأعداؤه ), وجاك ماريتان في ( الدولة والفرد ), عن تعارض الدولة الظالمة الاستبدادية الفاسدة والمفسدة مع الوجدان الفردي لمواطنيها, إذ أن الدولة الحقة برأيهم لا تحظى بالاحترام الواجب إلا إذا انغمست في المجتمع وخدمت أغراض أفراده.

الملفت في المشاريع والبرامج والوثائق المقدمة بين الفترة والأخرى من لدن المعارضات السورية, أنها تهجس بقيم انوارية أثبتت صلاحيتها من خلال تجارب عديدة في عالمنا الراهن, ملفت أكثر هو غياب هاجس ( الخصوصية ) والتشدق به, وهذا يبعث على التفاؤل إلى حد ما, لأن ( الخصوصية السورية ) هي قبل أي شيء مجرد معزوفة سمجة من ترسانة المعزوفات التي يملكها النظام السوري الحالي, ولأن الهاجس هو إنتاج دولة مفارقة للحالية فإن من البداهات الأنوارية الدعوة إلى دولة موافقة للعقل بحسب هيغل. دولة إنسانية تسيرها العهود والمواثيق الدولية, غير خاضعة للعنف والقهر والظلم وشهوة التملك الحصري, وموافقتها للعقل لا يعني قطعاً أنها ستكون دولة فاضلة أفلاطونية أو مجرد هيكل مثالي طوباوي.

الدولة التي نريد في سوريا الغد هي دولة القانون واحترام الدستور, غير إلهية, وغير منفلتة, وغير همجية, بمعنى آخر نريد تلكم الدولة التي تساوي إرادة الجماعة الواعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى