حازم نهارصفحات سورية

نحو يسار جديد.. إنساني أولاً

  

    حازم نهار

    ربما يثير الشطر الأول من هذا العنوان الاشمئزاز في نفوس الكثيرين، وهذا ناجم من جانبٍ من كثرة العناوين المبتذلة التي تحمل العنوان ذاته، لكننا نكتشف بعد القراءة أن لا جديد فيما تعرض ولا هم يحزنون. ومن جانبٍ آخر، ربما بسبب القرف من اليسار ذاته وكوارثه ومهازله، بخاصةٍ في طرق تفاعله مع ثورات الربيع العربي التي جاءت إلى حضنه وتنكّر لها. الشطر الثاني من العنوان يشير إلى جوهر ما أعتقده المشكلة الرئيسة لدى الطيف الأوسع من اليسار، وهي أن أيديولوجيات اليسار أكلت الإنسان، أو ضمر فيها الروح الإنساني.

    بالطبع، لا يمكن لمقالة أن تعالج أمراً معقداً كأزمة اليسار أو أن تأتي بالجديد المأمول، لكنها يمكن في الحدّ الأدنى أن تحرِّض التفكير وتحفِّز الروح لاستلهام هذا الجديد. على أنه ينبغي ألا تؤخذ أي فكرة في هذا الإطار في سياق التعميم بل في سياق بثّ الهواجس والتفكير بصوت عالٍ.

    في سياق إعادة الاعتبار للإنسان ليكون جوهر كل الأيديولوجيات والمعايير والقيم يضع اليسار خطوته الأولى في الطريق الصحيح، ليبدأ بعدها بمعالجة أمراضه العديدة. فعندما يكون الإنسان هو المنطلق والمستقر، وهو معيار القيم، والأساس الذي تنبني عليه الأيديولوجيات والسياسات يمكن القول إن شيئاً جديداً يمكن أن يولد في سياق معالجة مشكلات اليسار. ففي معظم التجارب السابقة كان الحزب والأمين العام للحزب والنصوص الأيديولوجية والشعارات والدول “الممثِّلة” لليسار أهم من الإنسان وروحه وآماله وسعادته ومصالحه.

    على أنه لا يمكن الزعم أن اليسار كله يمكن أن يوضع في بوتقة واحدة، إذ لا بدّ عند محاولة تشريحه من تحديد اليسار المعني بالتوصيف. ربما كانت الأحزاب الشيوعية – أو الأفراد الذين خرجوا منها، لكن تخثّر وعيهم عندها – هي المعنية أكثر من غيرها بالنقد، بخاصةٍ في بلدان المشرق العربي التي شغلت فيها حيزاً واسعاً من الحركة السياسية.

    لعل أهم المسائل التي ينبغي على اليسار أن يفكر فيها، بعد وضع الإنسان أساساً ومرتكزاً، هي تجاوز رهابه من الإسلام، وإعادة بناء هويته وانتمائه على أساس الوطن والمواطنة لا على أساس الأيديولوجية، والتخلص من حالة الاغتراب التي يعيشها بين الانتماء الأيديولوجي والنوازع الإنسانية الطبيعية، وتوسيع حضور الفكر والفلسفة على حساب الأيديولوجية والشعارات، وإقامة التصالح المنطقي والضروري بين الليبرالية والماركسية والوطنية/القومية، والتمييز بين السياسة والأيديولوجية، بخاصةٍ في حقل السياسات الدولية.

    أولى مشكلات هذا اليسار هي رؤيته للدين. ففيما هو يرفض الدين، وينظر ضمنياً إلى معتنقيه نظرة استعلائية، تراه أكثر أصولية من الحركات السياسية الدينية. لا تختلف أيديولوجيته في العمق عن أيديولوجياتها إلا من حيث القشرة الخارجية وطقوس الحياة، بل إن مطلقاته تطفّ على مطلقاتها، بخاصة عندما تكون النصوص هي الحكم الفصل في مشاكل الحياة. إنه للمفارقة يرفضها، لكن بالاستناد إلى المنهج ذاته في التفكير، فكما هناك أصولية دينية هناك أيضاً أصولية شيوعية أو يسارية.

    جهل اليسار بالإسلام شكَّل لديه رهاباً معيقاً للتفكير. فإذا به يضع كل الحركات المستندة إلى الإسلام في سلة واحدة، وينسى أن الإسلام ،كما اليسار، طيف واسع، ولا يمكن حشره بمجموعة أو في صيغة محدّدة. إن تجاوز الجهل بالإسلام شرط أساسي لبناء فكر يساري عميق ومنفتح بعيد عن الرهابات المرضية إزاء الإسلام أو غيره، وهذا ما يمكن تسميته بمنهج التجاوز عن طريق الهضم، أي تجاوز الشيء نحو الأنضج بعد استيعابه وفهمه.

    ليس خفياً أن نسبة لا بأس بها من اليساريين، وفق ما يحبّون أن يطلقوا على أنفسهم، هم من أبناء الأقليات الدينية. وهذا طبيعي، ربما لسهولة تجاوز القضية الإيمانية قياساً بغيرهم. لكن هذا الأمر طبع اليسار بطابعٍ أقلوي، لأن معظم هؤلاء اليساريين لم يتخلصوا من شعورهم الأقلوي، ولم يتصرفوا بثقة بمواطنيتهم، ولذلك بقي هذا اليسار غريباً عن المجتمع ومغترباً عنه.

    يظهر ذلك مثلاً في الفهم الدارج المبتذل للعلمانية التي تجعل لدى اليساري مشكلة كبيرة مع من يذهب إلى الجامع، فيما لا مشكلة لديه مع من يذهب إلى الكنيسة. إن علمانية هذا النمط من اليساريين أكثر أصولية من جماعات التكفير والهجرة، وبشكل تلقائي يصل الإنسان العادي لاستناج أن هذه العلمانية ما هي إلا قشرة تخفي تحتها روحاً أقلوية. أما شعار “الدين لله والوطن للجميع” الصحيح، فإنه يعني في العمق أيضاً، وبتوسيع أفق التفكير اليساري، أن الأيديولوجيات كافة لأصحابها والوطن للجميع.

    على العموم، تخبرني تجربتي المتواضعة ومشاهداتي أن من وصلوا إلى اليسار من بيئات دينية إسلامية كانوا أكثر اتزاناً في قناعاتهم ورؤاهم تجاه الدين، وهذا موضوعياً بحكم معرفتهم بحجم تأثيره في حياة الناس، بل كانوا موضوعياً أيضاً أكثر معرفة ببلدهم، ببشره وروحه وتجاربه وثقافته، على الرغم من أن بعضهم قد عاد إلى البيئة التي جاء منها، ربما بسبب هشاشة ثقافة اليسار عموماً.

    أما بعض من جاؤوا إلى اليسار من بيئة الأقليات الدينية، فإنهم – غالباً – ظلوا غرباء عن بلدهم، لأنهم أخرجوا الدين كليةً من الثقافة الوطنية ومن دائرة اهتمامهم، وهي الثقافة التي يفترض بها أن تضم كل التنوع الموجود في المجتمع. وفي أوقات الأزمات، الشخصية أو العامة، تراهم يتأرجحون بين انتمائهم الأقلوي ويساريتهم. بالطبع قد يفهم من هذا الكلام ما هو سيء أو يخاطر البعض بالتعميم، لكن الغاية من هذا التوصيف السريع هي تحريض التفكير ومعالجة المشاكل لا التشكيك.

    لماذا تصبح “كيف سقينا الفولاذ” أهم من التراث العربي والسوري والإسلامي والمسيحي المشرقي عند اليسار؟، ولماذا يغدو التغني بأمجاد الجيش الأحمر والانتصار على النازية أهم من خالد بن الوليد ومعركة اليرموك؟ ولماذا تصبح معرفة مكسيم غوركي وتشيخوف أكثر مدعاة للفخر من الكواكبي وأبوخليل القباني وسعدالله ونوس؟ بالطبع ليس المقصود التشجيع على عدم الاطلاع على ثقافات الغير، بل على العكس. لكن اليسار عموماً أزاح ناظريه عن واقعنا وانتمى روحياً لواقع وتاريخ أمم أخرى، ولذلك وقف في أكثريته ضد الربيع العربي، ربما لأنه لم يأت بحسب المواصفات اللينينية.

    على اليسار أيضاً إعادة الاعتبار للفلسفة أو الفكر في مقابل تقليص مساحة الأيديولوجية والشعارات التي أكلت الرأس والتفكير. فمعظم أهل اليسار لا يقرؤن في الفلسفة، وأيديولوجيتهم مختزلة في بضعة شعارات حول السياسة الإمبريالية والأجور والأسعار والخبز. في اجتماعاتهم الحزبية يرهقون أنفسهم بالحديث عن السياسة الأمريكية والصراع الطبقي والعمال، فيما هم في الحياة العادية يكدون ويجتهدون من أجل الانتماء للحضارة الغربية لباساً وفناً وروحاً ودراسة، وأحياناً نكون معهم أقرب إلى أرستقراطية مبتذلة ومتصنعة، وادعاء حضاري سطحي ليس أكثر.

    وفي سياق العودة للفكر، من الأهمية بمكان عدم ربطه بسياسة دولة ما، فالفكر لا يتجسّد بداهة في سياسة دولة ما. وعندما يتوهم البعض ذلك، فإنما يعني تقزيم الفكر إلى مجموعة شعارات ديماغوجية فحسب وفقاً لمصالح هذه الدولة. فالدول لا تهمها بالدرجة الأولى الحقوق والأفكار بل المصالح، وهي تستخدم الأيديولوجيات لتغطية هذه المصالح أو لتوكيد شرعيتها. تماماً كما عانينا من “ماركسية سوفياتية” أو من “ليبرالية أمريكية”.

    العودة للفكر تفترض أيضاً إقامة تصالح منطقي وتاريخي بين الليبرالية والماركسية والقومية/الوطنية، فالفكر لا يقيم حدوداً بين الثقافات، وينظر إلى الثقافات جميعاً كحلقات متصلة تتولد من بعضها، فيما الأيديولوجيات تقسم البشر إلى معسكرات متقاتلة تغيب التفكير والإنسان. الماركسية من دون الليبرالية هي مجرد نظرية اقتصادية. فما كان ماركس ليكون لولا هيجل وجان جاك روسو وسبينوزا ومارتن لوثر وديكارت، وهؤلاء ما كانوا لولا الأديان وابن رشد وأرسطو وغيرهم. هنا فحسب تصبح الماركسية فلسفة إنسانية لا أيديولوجية مخصية، كما هو حال أيديولوجيات الأحزاب الشيوعية.

    الليبرالية شيء والسياسة الأمريكية شيء آخر. بل إن السياسة الأمريكية، لم تكن أمينة لليبرالية، وما نلمسه منها منذ عقود لا يعدو أن يكون شعارات لتغليف سياسات النهب والهيمنة، تماماً كالوظيفة التي أدتها شعارات الصراع الطبقي والدفاع عن حقوق العمال في العالم بالنسبة للسياسة الروسية/السوفياتية.

    أعتقد يمكن أن يكتشف هذا اليسار في سياق معالجة المشاكل والأسئلة السابقة أن القضية المركزية والحارة في منطقتنا هي الديمقراطية وحقوق الإنسان قبل أي شيء آخر. فالقضايا الأخرى، على أهميتها، لا يمكن أن نتقدم فيها خطوة واحدة، أو أن نخدمها بالشعارات المرفوعة، قبل إنجاز هذه المهمة الحارة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى