مراجعات كتب

جميلة جنكيز إيتماتوف.. أيقونة الرواية الروسية/ كمال الرياحي

 

 

لم يسبق أن قدم أدب عالمي ما قدمه الأدب الروسي من عمق وما تركه كتابه من إرث إبداعي ظل ملهما للبقية، محرجا الآداب الأخرى، مربكا النقاد والمنظرين في كل مكان وزمان.

فبينما يتحدث النقاد عن مدينية الرواية وأنها الجنس الأدبي الذي نشأ في المدينة وتشعباتها باعتبارها فضاء مركبا مؤهلا لاندلاع الصراعات والعلاقات المعقدة ومن ثم ذهبوا إلى أن القرية ليست الفضاء المناسب والمؤهل ليضطلع بأدوار سردية، يأتي الأدب الروسي ليفند هذه النظرية ويقدم لنا الأدلة الدامغة على أن الرواية هي الجنس الذي ينشأ في اللامتوقع.

فهي مثل نبتة برية سحرية تنشأ في المدن كما في القرى كما في الصحاري، وأن ليس من فضاء بعصي عنها، بل إنها قادرة على الترعرع في اللامكان وفي غياب الإنسان نفسه.

وتعتبر رواية “جميلة” للقرغيزي جنكيز إيتماتوف الصادرة حديثا في ترجمتها العربية لهقال يوسف بدار الساقي اللندنية واحدة من هذه الروايات التي وقعت في الريف.

“الأنشودة الرعوية”

ينسف إيتمانوف مقولة مدينية الرواية بضرب أوتاد برنامجه السردي في قلب الريف الروسي أثناء الحرب العالمية، فتأتي الصفحات الأولى معلنة عن طوبوغرافية الفضاء “في يوم من تلك الأيام القائظة، حين بدت المناجل متوهجة من الحصاد، وأثناء عودتي من المحطة بعربة فارغة، قررت أن أعرج على البيت. بجوار المخاضة تماما، على الرابية حيث ينتهي الطريق، تنتصب عربتان مسيجتان بسياج متين من اللبن، وتحيطهما أشجار حور سامقة”.

هنا ينسج الكاتب القرغيزي حكايته بمعجم خاص يأتي به الروائي منسجما مع بيئته، فترتفع أصوات المناجل والسنابل والعربات والخيول وأشجار الصفصاف والبيادر ليرسم لنا تلك المزارع الغامضة الشبيهة بما ورد في لوحات الهولندي فان كوخ.

والحق أن جنكيز إيتماتوف لم يكن بعيدا عن الرسم، حيث افتتح الرواية على تأمل الراوي الرسام في لوحته الريفية الناصعة التي لم يعرضها من قبل ويأخذ في وصف تفاصيلها، لتكون مسرحا للأحداث فيما بعد “ها أنذا أقف مرة أخرى أمام اللوحة الصغيرة في إطارها المتواضع.. (..) في عمق اللوحة: جانب من سماء خريفية باهتة. الريح تطارد سحبا بلقاء عجولة فوق سلسلة جبلية بعيدة. وفي مقدمة اللوحة: سهب شيخ أحمر، ودرب أسود لم يجف بعد، بعد مطر قريب العهد. على جانبي الطريق تزدحم شجيرات صحراوية يابسة محطمة، وعلى امتداد آثار عجلات العربات تمتد آثار أقدام مسافرين، كلما ابتعدا خفت آثارهما، بينما المسافرون كأنهما سيخرجان من إطار اللوحة إذا ما قاما بخطوة أخرى”.

إن هذه الافتتاحية التي وضعها صاحب “المعلم” يجعلنا أمام فضاء القحط والجمود والغياب والرحيل، بل الفناء إن أردنا الذهاب في التأويل أكثر من خطر الخطوة الأخيرة للرجلين، لكن في قلب ذلك العدم والبشاعة المترتبة عن الحرب يشعل الروائي فتيل حكاية للحياة والجمال، حكاية “جميلة”.

أرض التبن

تسرد الرواية حكاية جميلة، النبتة الوحشية والكنة الحسناء، التي اضطرتها الفاقة أن تترك بيت العائلة المحافظة لتلتحق بالعمل في الحصائد. فمعرفتها بتدبر الخيول وتفوقها في السباق أهلاها لتقوم بدور الحوذي الذي ينقل العلف والتبن والحنطة من البيادر، وكانت قد تعلمت ذلك في بيت والدها.

كانت جميلة فتاة شرسة يهابها الجميع نساء ورجالا، لذلك أقدمت على ما ينتظرها من عذابات وإكراهات العمل في مثل تلك الفضاءات.

تنهض جميلة نموذجا لقرية فقدت رجالها، أولئك الرجال الذين تركوا نساءهم وأطفالهم لمصيرهم ورحلوا للمشاركة في الحرب. فعم اليبس والقسوة العلاقات بين سكان القرية في تلك الأرض المنسية هناك في “كولخوزنا” المهددة طيلة الوقت بفيضان نهر” كوكوريو”.

وتمضي الرواية في سرد وقائع نضال هذه المرأة ذات الملامح الذكورية التي نذرتها لهذه المعركة مع القسوة ضد التعصب الذكوري الذي اشتد في غياب معظم الرجال، ولم يفلت من التجنيد إلا أصحاب الجاه والفاسدون والمعوقون وأصحاب العاهات.

ويتقدم إيتماتوف في الحكاية ساردا وقائع صمود هذه الجميلة الحرة التي أخذت مسؤولية إعالة عائلتين يهددهما الفقر المدقع.

الرقيب الحميم

تُروى هذه الملحمة على لسان الطفل سعيد الذي رشّح نفسه لمرافقة جميلة وحراستها منذ اليوم الأول، فهو “سلفها” أو شقيق زوجها الغائب. ذلك الزوج الذي تتناقل حوله روايات مختلفة، منها أنه اختطف جميلة بعد أن سبقته في سباق الخيول وتركها بعد أربعة أشهر فقط ليلتحق بجبهة القتال.

ويروي الطفل بالتفصيل المراحل التي مرت بها جميلة في رحلتها لمواجهة مصيرها كزوجة فقدت زوجها، وهذا الراوي المصاحب مثل صوتا ناظما للحكاية وأعطاها رونقا خاصا، فتح الرواية على موروث الرواية الروسية المنغمسة في تحليل بواطن الشخصيات، فراح يسرد هذا التنازع الداخلي بين تعاطفه مع جميلة المنسية حتى في خطابات شقيقه من الجيش، ومسؤولية حراسته لها، وقصة تعرفها بالجندي المصاب العائد من الجبهة دانيار الذي جعل منه ذريعة ليعطي موقفا من رواية الحرب عندما يجيب الجندي الطفل الفضولي الذي يريد أن يروي له حكاية عن الحرب قبل النوم: “الأفضل ألا تعرفوا شيئا عن الحرب”.

ومنها أدرك الفتى وأصحابه أنه “لا يمكن الحديث عن الحرب بهذه البساطة، وأنه لن ينتج عن ذلك حكاية ما قبل النوم. الحرب متخثرة كالدم في أعماق قلب الإنسان، والحديث عنها ليس بالأمر السهل”.

دانيار الهادئ

وكما أدرك الفتى كنه الحرب أدرك كنه الحب من تلك المشاعر التي تولدت أمامه بين جميلة الصاخبة ودانيار الهادئ، الذي يقضي يومه يحمل العربات بالحنطة ويغني للوطن بعد أن ترك الجبهة مرغما بسبب الإصابة في ساقه.

يبدو أن الكاتب استلهم شخصية الفتى العامل من سيرته الذاتية، فقد عرف العمل في المزارع منذ طفولته، سن الرابعة عشرة، بعد أن أُعدم والده الكاتب المرموق.

بعيدا عن الروايات النهرية لدوستوفسكي وتولستوي “الجريمة والعقاب” و”الشياطين” و”المراهق” و”الأبله” و”الحرب والسلام”، يجترح جنكيز إيتماتوف رواية قصيرة تقطع مع هذا التاريخ الديستوفسكي، فيعلن التكثيف إستراتيجية سردية، منطلقا من مشهد لوحة ليرسم لوحة سردية في 79 صفحة كانت كافية لينقل لنا حكاية عميقة عن الحب والحرب في الريف الروسي العميق، حتى لكأن الكاتب هنا نحّات يعمل معوله في الرخامة المحدودة، مؤمنا أن ضرب السرد كضرب المبرد في الخامة الثمينة، إذا أخطأ هدفه الدقيق أفسد الخامة/الرخامة كلها أو أصاب يده، لذلك يبدو الروائي حريصا على نحت جملته القصيرة البراغماتية وهو يسرد وهو يصف، ضمن برنامج سردي محكم يدفع العمل مع كل صفحة نحو رشاقة حكائية نادرة تجعل الرواية أشبه بقصيدة من قصائد بوشكين أو مقطوعة من موسيقى تشايكوفسكي.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى