صفحات الثقافة

نساء الثورة وصورهنّ القليلة الضوء الشديدة القوة


يوسف بزي

ذات ليلة ربيعة دمشقية، وقفت قلة من النسوة وقفة احتجاجية، في صمت مضاء بالشموع للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. كان ذلك الاعتصام، الذي فاجأنا بجرأته، أحد أبرز تلك الشرارات المتفرقة قبيل اندلاع الثورة السورية، المنطلقة من مدينة درعا.

في اليوم التالي وزعت الوكالات الصحافية العالمية صوراً لذاك الاعتصام المسائي، وقد غلبت عليها صورة “الناشطة” سهير الأتاسي، بوجهها الكتوم والأليف في آن معاً، والتي تعرضت في تلك الليلة لاعتقال دام ساعات معدودة.

مهد ذلك الاعتصام المسائي لوقفة احتجاجية أخرى أمام وزارة الداخلية السورية في قلب العاصمة، ما جعلنا نحدس أن محطة الثورات العربية التالية قد تكون في سورية البعث، مع كل ما صاحب ذاك الحدس من توجس إزاء طبيعة رد فعل النظام الشديد البأس والقسوة، ومدى قابليته لاستخدام العنف من غير كابح.

رحنا نتخيل “قوة” هذا النظام إزاء ذاك الاعتصام النسائي وشموعه، متذكرين حكاية تلك التلميذة طل الملوحي التي تكتب الشعر “العادي” والتي ذهبت إلى زنزانة المخابرات السورية بعد نشرها لتعليقات فايسبوكية وقصائد معارضة للنظام (ما زالت في الزنزانة). رحنا نتخيل صورة ضباط المخابرات وروائحهم وشواربهم الكثة مقارنين إياها بصورة طلّ الملوحي التي انتشرت عبر الانترنت: فتاة ضئيلة، بيضاء البشرة، ترتدي حجاباً أبيض، كأي مراهقة سورية “تقليدية” خجولة، تعيش في كنف أسرة محافظة ومتدينة. ومتذكرين أيضاً كيف أن الرئيس السوري بشار الأسد رفض العفو عنها، تاركاً مصيرها بين أيدي أولئك الضباط.

قبل طلّ الملوحي ظهرت صور فداء الحوراني، التي وزعت عبر الوكالات والأنترنت عقب اعتقالها من منزلها، وثمة طفل صغير يجلس في حضنها في إحدى صورها، وهي ذات الوجه الذي يختلط فيه التحدي مع الجمال. لتبدو هكذا كإمرأة مستقلة، تشكل “استقلاليتها” خطراً سياسياً إن صح التعبير. مع تداعي الذاكرة منذ صورة سهير الأتاسي ذات الشمعة، انتبهنا أن لا صورة لدينا لرزان زيتونة، كان ذلك مفاجئاً، نحن الذين لدينا شعور أننا “نعرفها” جداً، وهي التي دأبت على العمل الحقوقي وعلى الكتابة والنشر منذ العام 2004 تقريباً. انتبهنا بغتة أننا لا نعرف وجهها، فقط مع انطلاقة الثورة سمعنا صوتها عبر الفضائيات التلفزيونية. صوت ناعم بنبرة حاسمة و”إدارية” (إن جاز القول).

منذ أيام نشر أحد شبان الثورة السورية “ملاحظة” فايسبوكية سرد فيها بعض أبرز أسماء النسوة والشابات السوريات اللواتي تحولن رموزاً للثورة ويومياتها. كتب: الأميرة منتهى الأطرش، الأخوات رزان زيتونة، سهير الأتاسي، دانة الجوابرة، سمر يزبك، خولة دنيا، روزا ياسين، غالية قباني، منهل السراج، مي سكاف، يارا صبري، ريما فليحان، هالة العبدالله، يارا نصير، مروة غميان، طل الملوحي، مجد جدعان… تلك “الملاحظة” الفايسبوكية كانت عبارة عن تحية لشجاعة نساء سورية في مواجهة “أعتى وأعنف نظام استبدادي”.

في أوائل أيام الثورة (ومن الصعب تحديد “اليوم الأول”) انتشر شريط “يوتيوب” بثته الفضائيات لتظاهرة صغيرة في أحد أزقة أسواق دمشق العتيقة. شريط قصير بنوعية رديئة لمسيرة صغيرة صُورّت من الخلف، فلا تبين الوجوه أو ملامح المشاركين فيها. وأدركنا على الفور ان تصوير الناس من ظهورها لا من وجوهها أمر مقصود ومتعمد لدواع أمنية. كما لاحظنا أيضاً ان هناك غلبة نسائية على أعداد المتظاهرين. إنهن من أولئك النسوة اللواتي يلبسن المعاطف التقليدية الطويلة الأكمام مع الحجاب المحكم على الرأس ولو في عز الصيف. انهن النسوة السوريات التقليديات كما نعرفهن من صورهن النمطية. وها هن خارج كل نمطية. يمشين في تظاهرة سياسية!

تلك كانت أولى العلامات المميزة للثورة السورية: ندرة الصور، غياب وجوه المتظاهرين، انتفاضة المجتمع “التقليدي”، بروز النساء في النخبة الثورية.

لم نستطع ان نجمع بين صورة بورتريه حمزة الخطيب وتفاصيل جريمة تعذيبه وقتله. فصورته التي تكشف عن صغر سنه وبراءته المدرسية لا تستقيم معها تلك الأفعال المريعة التي مورست عليه “لأسباب سياسية”. وعلى مستوى آخر، وبسبب الإيحاء الطفولي لصورة الخطيب، يتعذر علينا أيضاً تخيّل صورة الذين قتلوه من دون الوقوع في الابتذال الكاريكاتوري. ربما لهذا السبب وعدا صورة بشار الأسد الصماء يصعب علينا تكوين صورة بورتريه نموذجية لـ”رجل النظام” الشبيح، الضابط، المحقق، الجلاد.. وهذا على عكس ما أنتجه بوفرة نظام صدام حسين مثلاً، الذي صمم وعمم نموذجاً لصورته هي على “موديل” صدام نفسه، أو مع بعض الانحراف هي على “موديل” إبنه عديّ. كذلك فان النظام الليبي كان باستمرار باذخاً في انتاج بورتريه عمومي خاص به كثير البهرجة، غريب الأطوار، شغوف بموضته المتقلبة، الفلكلورية المصطنعة…

ما يميز النظام السوري كرهه الاستثنائي للصورة، عدا عجزه عن انتاج بورتريه خاص به. اما المفارقة فهي ان الثورة الممنوع عنها كاميرات العالم وصحافته، اضطرت إلى إنتاج الصور “البديلة” الرديئة النوعية الضعيفة، المهتزة باستمرار، إلى ان باتت تلك الصور والشرائط “حقيقة” الثورة واليوميات السورية، في حين أن النظام، ولمواجهة صور الثورة، اضطر مكرهاً لتصنيع وانتاج صور معاكسة هي تلك الواضحة، النقية المتطورة، واللائقة للبث التلفزيوني.. فبدت لهذا السبب بالذات مزيفة، ومفبركة وغير قابلة للتصديق، على نحو ما كتب يحيى جابر على الفيسبوك : “رأيت متظاهرين بأنهم يتظاهرون ” تعليقاً على الحشود المؤيدة للنظام.

ميزة الثورة السورية فقر صورتها وصعوبة التقاطها. فهي دوماً على حدّي الظهور والاختفاء كما في الشرائط التي تصوّر المتظاهرين من الخلف كي لا تبين وجوههم، أو كما في الشرائط التي تظهر فيها مسيرات النسوة السوريات اللواتي يعمدن إلى تغطية وجوههن أمام كاميرات الهواتف الخلوية. ونحن اذ نراهن ملثمات، ندرك من طريقة لبسهن وأرديتهن انهن لسن “سلفيات” مبرقعات، لكنهن يتشبهن بهن بقدر تشبههن بـ”الفدائيات” الملثمات بالكوفية مثلاً.

منذ يومين عادت سهير الأتاسي للظهور في شريط يوتيوب بثته احدى الفضائيات العربية. وجه سافر يواجه الكاميرا في مكان ما في دمشق، في نداء إلى المواطنين السوريين للمشاركة في التظاهر والخروج من منازلهم إلى الساحات والميادين، بدت في الغرفة السيئة الاضاءة كأنها في مكان اختباء، لكنها في انطباع التخفي الظهور هذا، وكأنها ملثمة سافرة، كانت أكثر قرباً من حقيقة اللحظة السورية الآن، مقارنة بظهورات بثينة شعبان المرتبة والأنيقة.. والمزيفة في آن معاً.

بمعنى آخر، كلما استعصت الصورة في سورية كانت حقيقية ومقنعة أكثر، لأنها التعبير العملي عن فعالية القمع وأفاعيله والتعبير المباشر عن طبيعة النظام وسيطرته المفرطة على وسائل التعبير. بل وكلما استحالت الصورة كان “خبرها” أشد فعالية، حيث الخيال الجانح إلى التضخيم والمبالغة وتصور الأسوأ يسيطر على الانفعال والانطباع، إلى درجة أن منع الصورة وقمعها يؤديان إلى النتيجة المعاكسة تماماً. وعلى هذا يمكن القول أيضاً أن رداءة التصوير أضفت “شاعرية” إضافية على الثورة السورية بوصفها ثورة تنتج إعلامها ولا يُنتجها الإعلام، مقارنة بالثورات والحروب المعاصرة وعلاقتها بالكاميرا التلفزيونية المعولمة. بل إن “التعاطف” مع الثورة، في جانب منه، متأتٍ من هذه المعوقات التي يصنعها النظام بين الإعلام المعولم ووقائع الشارع السوري. فالثورات العربية اقترنت وقائعها بـ”تحرير” الكاميرا. في تونس، ما إن غادر الرئيس زين العابدين بن علي البلاد حتى دخلت الكاميرات إلى بولفار الحبيب بورقيبة. في مصر، عندما سيطر المتظاهرون على ميدان التحرير، بدأ البث الفضائي المباشر. في اليمن عاد طاقم “الجزيرة” إلى العمل عندما سيطر الناس على ساحة الحرية في صنعاء. حدث الأمر نفسه في بنغازي.

عندما سنشاهد أول بث مباشر للفضائيات من قلب دمشق أو حلب أو حماه أو حمص، عندها ستكون الثورة السورية قد حققت أولى انتصاراتها الميدانية. إذ ما ان تبدأ الصورة بأن تكون حرة يبدأ سقوط النظام.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى