روزا ياسين حسنصفحات الناس

“نساء في مجاهل العتمة”/ روزا ياسين حسن

 

 

 

في الوقت الذي كنت أعمل فيه على كتابي “نيغاتيف” الصادر عام 2007، وهو عن تجربة السجينات السياسيات في سوريا، صُدمت بعوالم وحكايات لم يكن يخطر ببالي أنني أتشارك معها بلداً واحداً! فعلى الرغم من أني تربيت في بيت أب يساري معارض، إلا أن تفاصيل الاعتقالات كانت مغيّبة عنّا، كما عن معظم بيوت سوريا. كان الأمر أشبه بصدمة المعرفة القاتلة! العمل على كتاب “نيغاتيف” جعلني أطّلع على تجارب السجينات السياسيات عبر لقائي المباشر مع الكثيرات منهن، وقد ربطتني فيما بعد علاقات صداقة متينة مع بعضهن، أو عبر الرسائل التي استطعن تهريبها من المعتقل لأهاليهن وأولادهنّ، أو عبر مذكراتهن. المذكرات لعبت دوراً كبيراً في قراءة الحدث وأبعاده النفسية، فلن يقدر أحد على روي قصة الفجيعة كالضحية نفسها! كان الأمر أشبه بتأريخ، ولكن بقلم المهمّشين! فعبر أدب السجون نقرأ الوجه الآخر للتاريخ، أو التاريخ السرّي لإنسان.

للسجن في سوريا، كما للسجن في بلاد الديكتاتوريات، جزء كبير من الوجدان الوطني العام، فلا يكاد أحد عمل بالسياسة ونجا من الاعتقال! أما التعذيب بكل أشكاله، والذي يتعرّض له كل سجين، فما هو إلا وسيلة للحطّ من إنسانيته، تلك التي جعلته يخرج عن حكم الطاغية، وتحويله إلى كائن مقهور بدون كرامة!

صاحت إحداهنّ فيّ وسط المقابلة وهي تجهش فجأة:

– لماذا فتحت لي جرحي الذي بقيت سنوات أحاول إغلاقه؟! لماذا ذكّرتني بما كان؟!!

وتوقّفت مقابلتنا هنا!

حكايات السجينات السياسيات اللواتي انتمين إلى طيف إيديولوجي واسع، يمتد من أقصى اليسار الراديكالي مروراً بالوسط القومي العربي والكردي والليبرالي وانتهاء باليمين المتطرف المتمثّل بالإسلاميين، قلبت حياتي برمتها بألم تفاصيلها. لكن ذلك الألم لم يخفّ حين رحت أدوّن قصص السجينات بعد الثورة، أي بعد مرور أكثر من خمس سنوات على نشر كتابي، فألم المعرفة لا يمكن أن يخفّ بالتراكم!

نهاية لا بد من القول أنه رغم كل الشجاعة التي لمستها لدى الكثيرات في الحديث عن تجاربهن قبل الثورة، لكن الخوف كان مايزال معشّشاً في قلوب بعضهن، الخوف الذي جعلهنّ عاجزات على البوح بتجاربهن رغم مضي سنوات طويلة على إطلاق سراحهنّ، خصوصاً السجينات الإسلاميات اللواتي تعرضّن إلى ويلات التعذيب. ولكن مع مرور الوقت يمكن للمرء أن يلمس تداعي جزء كبير من جدار الخوف بعد الثورة، حين راحت السجينات يتحدّثن عن تفاصيل الويلات التي تعرضن لها في عتمة المعتقلات.

السجينات قبل الثورة السورية:

ليس هناك حتى اليوم إحصاءات دقيقة عن عدد السجينات السياسيات قبل سنة 2000 خلال حكم “حافظ الأسد”، لكنها تقدّر بالمئات، وتراوحت سنوات اعتقالهنّ بين 3 سنوات إلى 18 سنة. أما التعذيب فقد تراوح بين الجلد، الضرب بالدولاب، الحرق بالسجائر، الصعق بالكهرباء على الأثداء والمناطق الحسّاسة واللسان ومناطق أخرى، حرق الأصابع، والأهم الاغتصاب الذي تعرّضت له السجينات الإسلاميات أكثر بكثير من السجينات الأخريات. فيما كان واضحاً حرص السجانة على إسماع المعتقلة أصوات تعذيب المعتقلين الآخرين كوسيلة للضغط وتسريع انهيارها للاعتراف.

إذاً الأمر في المعتقل أشبه بحرب نفسية منها بسجن مادي بجدران.

أساليب التعذيب الشديدة أدّت في حالات إلى الموت أو الإعاقة البدنية، لكنها أثّرت على التوازن النفسي أيضاً لكثير من السجينات، وقد التقيت باثنتين منهن أدى التعذيب بهما إلى خلل نفسي تبدّى في نوبات من الهيستيريا أو الصرع، قد يخيّل للمرء أحياناً بأنه أقرب إلى الجنون. بالإضافة إلى مشاكل كثيرة في الاندماج بالمجتمع بعد الإفراج عنهن وفي العمل والتوازن الشخصي، خصوصاً مع عدم وجود مصحّات نفسية مختصّة أو علاجات نفسية تلي سنوات الاعتقال.

بالنسبة للإسلاميات فقد كان الأمر أكثر عنفاً، فغالبية السجينات كنّ رهائن عن أزواجهن أو أبنائهن، فلم تكن التنظيمات الإسلامية تجنّد وقتذاك النساء، وقد تعرّضت الكثيرات منهن إلى الاغتصاب أمام رجالهن أو أولادهنّ، الأمر الذي تسبب في كوارث نفسية أعقبتها غالباً انهيارات للمعتقلين. النظام آنذاك كان يعرف بالضبط كيف يعزف على وتر الأعراف الاجتماعية، ويعرف بالضبط أن ما من شيء يمكنه شرخ روح المعتقل الآتي من بيئة دينية محافظة قدر الاعتداء على شرفه المتمثّل في النساء!

ثمة الكثير من الأطفال الذين ولدوا في السجون وتربّوا فيها مع أمهاتهن، في وقت كان ثمة أعداد كبيرة من السياسيات مسجونات إلى جانب القضائيات أو المحكومات بجنايات السرقة والقتل والدعارة! ناهيك عن مئات الأطفال الذين كبروا بعيداً عن أمهاتهن وفي غالب الأحيان عن آبائهن كذلك. وكان لقائي مع الكثير من أبناء السجينات السياسيات يتمحور حول حدث أساسي سيعتقده البعض “الغياب” ولكنه كان: “الزيارات”! التي كان يُسمح بها كل حين للأطفال. هل يمكن أن يتخيّل المرء على ماذا تكبر ذاكرة الأطفال وهم لا يرون أمهاتهم لسنوات طويلة إلا من وراء الشبك في زيارات لسجون الاعتقال؟!

الحرمان من أبسط حقوق البشر كان سلاح النظام السوري، أما الأسلحة الأهم التي كانت بيد السجينات فأولها الخيال، وعبره فقط خرجن من جدران الزنازين العفنة الرطبة والمظلمة، وثانيها الأغاني، فلم ألتق بمعتقلة إلا وحدّثتني عن الأغاني تلك التي تأتي من ذاك الجزء العميق من إنسانيتنا والمدفون في الداخل، أو باختصار محاربة القبح بجمال الفن والموسيقا، وثالث الأسلحة كان الأمل!

سجينات الثورة والحرب:

عند النظام والمعارضة

سيأتي العام 2011 ليغيّر شكل سوريا تماماً، وما كان مختبئاً في الأقبية سيخرج بكل قبحه إلى الشوارع! لتغدو حصيلة القتلى من النساء 22823 خلال السنوات الست، وذلك من قبل: (القوات الحكومية السورية، القوات الروسية، تنظيم الدولة الإسلامية، جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً)، القوات الكردية، فصائل المعارضة، والتحالف الدولي)، كما فيما بلغ عدد المعتقلات السياسيات حتى اليوم 40 ألف معتقلة.

لن تتغيّر أساليب النظام السوري في تعامله مع المعتقلين، بل ستزداد عنفاً وشناعة، وما كان محصوراً في شريحة معينة من المجتمع سيتمدّد ليشمل معظم شرائح المجتمع المعارضة. حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها السنوي الصادر في تشرين الثاني 2016 بعنوان: “طوق الحرمان” فهناك حتى اليوم ما لا يقلّ عن 8413 معتقلة ومختفية قسرياً لدى النظام السوري بينهن 312 طفلة و2418 مختفية قسرياً. وقد مات ما يقرب من 40 معتقلة منهن تحت التعذيب، من هؤلاء الكثير من الأمهات اللواتي متن أثناء الولادة لعدم توافر أدنى الشروط الصحية في السجون. فيما تصاب واحدة من كل 20 معتقلة بمرض عضال جراء سوء شروط الاعتقال. ومع تمدّد الصراع وتحوّل الثورة إلى ما يشبه الحرب الأهلية صار هناك سجينات في سجون المعارضة، وحسب التقرير نفسه فالفصائل المعارضة المسلّحة اعتقلت 798 أنثى، بينهن 391 طفلة. كما اعتقلت داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) 714 أنثى منهن 205 مختفيات قسريًا، و13 أخريات قتلن تحت التعذيب. في حين نسب التقرير تعرُّض ما لايقل عن 2143 أنثى للاختطاف والاختفاء القسري من جهات مجهولة، بينهن 419 طفلة. وأشار التقرير إلى أن “وحدات حماية الشعب” الكردية احتجزت 1819 سيدة بينهن 208 طفلة. على الرغم من أن معرفة الأرقام الحقيقية للمعتقلين والمعتقلات مازالت صعبة للغاية في ظل منع المراقبين المستقلّين من الوصول إلى مراكز الاعتقال سواء عند النظام أو المعارضة. وكل التوثيقات ما هي إلا ثمار جهود مضنية مبذولة من قبل عدد من الجماعات الحقوقية.

الكثيرات من السجينات في سجون النظام لم يكن لهن نشاطات ثورية أو معارضة، عجائز وأطفال، معظمهن رهائن أيضاً. فاعتقال النساء صار بعد الثورة السورية مهمّ لعمليات التبادل مع أسرى الجماعات المعارضة المسلّحة، بالإضافة إلى أنه جزء أساسي من تحطيم المجتمع والأسرة ومن تفكيك بنى الروابط الأسرية والاجتماعية. حيث تُعتقل أعداد هائلة من نساء المناطق المعارضة، معظمهن لا علاقة لهنّ بالعمل الثوري، كي يتم تبادلهن في صفقات التبادل بين النظام والمعارضة. كما يمكن النظر إلى اعتقال النساء كوسيلة ضغط على أفراد الأسرة. وكلا الفصيلين: النظام والمعارضة يستخدمان النساء اليوم كورقة مساومة في تبادل الرهائن! كما أن الاختطاف مازال أسلوباً متّبعاً حتى اليوم من قبل الجهتين، ولعلّ من أكثر الناشطات المختطفات شهرة: رزان زيتونة وسميرة الخليل، المعارضتان العلمانيتان الديمقراطيتان اللتان يعتقد بأن “جيش الإسلام”، أحد الفصائل الإسلامية المعارضة في غوطة دمشق، قد اختطفهما.

وثقت الكثير من شهادات السجينات أساليب التعذيب نفسها في سجون النظام، من ضرب واغتصاب وسماع أصوات التعذيب ورؤية الجثث المشلوحة في كوريدورات الفروع الأمنية وغيرها، ولم توثّق حتى اليوم إن كان ثمة أساليب لتعذيب النساء في سجون المعارضة. وقد عملت الهيومن رايتس ووتش على إصدار أكثر من تقرير حول ذلك، وكذا منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الحقوقية السورية والعربية والعالمية. لكن الأهم هو أن أطفال السجينات السياسيات، الذين تمّ اعتقال قسم منهم مع أمهاتهم، أخذ قسم كبير منهم ليودع في المياتم، ويمنع ذويهم وأقاربهم من رؤيتهم، كما حدث مع الناشطة رشا شربجي التي اعتقلت مع أطفالها الثلاثة وهي حامل، ومع الكثير من السجينات غيرها. كما تمّت محاكمة الكثيرات من سجينات النظام، ومعظمهنّ من الناشطات السلميات في محكمة الإرهاب، كـ”لانا مرادنة”، ابنة معتقلين يساريين سابقين، والممثلة “سمر كوكش” وغيرهن الكثير من الناشطات السلميات المعارضات.

نهاية:

على الرغم من أن عدد السجينات السياسيات في سوريا اليوم أقل بكثير من عدد المعتقلين من الذكور إلا أن ما تعانيه السجينات في فترة الاعتقال وما بعده من نبذ المجتمع ورفضه لا تقلّ ألماً عن الاعتقال. فاللواتي يُكتب لهن الخروج على قيد الحياة لا يسلمن من الحديث عن عمليات الاغتصاب التي تعرضن لها، مما يفاقم من الآثار النفسية السلبية عليهن، خصوصاً إذا كان الأمر قد تمّ أمام أعين الأزواج أو الأبناء. فالاغتصاب في المجتمعات المحافظة له تأثير مضاعف على النساء، الأمر الذي يعرفه النظام جيداً، كما تعرفه المعارضة!

تقول إحدى السجينات السياسيات الخارجة من سجون النظام: “مجتمعنا لا يتقبل المرأة المعتقلة، فبعد خروجي طلّقني زوجي، ورفضني مجتمعي، وكنت أستشف من نظرات الناس نهايتي، وكنت أشعر أنني أُغتصب في كل نظرة شفقة ممزوجة بالإهانة ينظرها الناس إليّ”.

لا شيء يشبه وجه سوريا اليوم كما المعتقلات السياسيات، أولئك المثخنات بالجراح النفسية والجسدية، المتعبات، المحطّمات، والمنتظرات نهاية النفق المعتم والطويل.

جريدة دي تسايت Die Zeit

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى