صفحات المستقبل

نشيد الأنشاد الحموي


سامر الطحان

حينما غادرت حماة أول مرة في حياتي ـ كان ذلك منذ عشرين عاماً ـ كنت قد هربت من قبضة والدي إلى حمص، حلم كل حموي، هناك شارع الدبلان هو المشتهى الدائم، لا أعرف حتى الآن ما المشتهى فيه، لكنه بحد ذاته الشارع الهدف. لم أكن قد تجاوزت حينها سني الأحد عشر.

كنا نأنف نحن الشباب الصغار من حماة، تلك المدينة التي رفضتْ أن تنسى جرحها، فأورثته للشوارع حول القلعة، وتفاخرت بندبتها وعورتها في حي الكيلانية أمام كل زائر. نأنف من تفاخرها وحدادها الدائم، من جلابيات رجالها البيضاء ومن صخب نواعيرها النائحة. نأنف حديثاً مكرراً دائماً عن المجزرة القديمة في كل بيت، عن دم لم يتجلط بعد على ضفاف النهر السخي.

فنهرب إلى حمص، حيث المدينة الملونة.

كان من الصعب علينا كجيل لم يشهد مجزرة الثمانينات، أن يدرك أن مدينة تحمل جرحها على كتفيها، ستحمّله أولادها أينما حلو، وإن لم يشهدوا مصيبتها حين وقعت.

في معسكر طلائع البعث، خارج المدينة في التسعينات، كان اكتشافي الأول أنني من مدينة ـ شتيمة، سألني المشرف:

“من أين أنت ؟” فأجبته أنني من حماة، فطلب مني أن أجلس بعيداً بعض الشيء، وقرب إليه زملائي المنحدرين من مدن أخرى، متجنباً النظر في وجهي تارة، مستنكراً وجودي حيث أنا تارة أخرى، كمصاب بجرب مزمن.

في عيون مراقبي الامتحان في الصف التاسع الإعدادي، لمحت ذات النظرة، في شدة انتباههم لأكثر الحركات بساطة، التي تبدر عن أي طالب ينتمي إلى نفس الشتيمة.

في صف العاشر، حيث التجنيد الإلزامي عبر المدارس في صفوف البعث، دخلت إلى الامتحان الشكلي، جلست مع ثلة من الطلاب أمام لجنة من ثلاثة أشخاص يدخنون بشراهة الدب الكسلان. لم يسألوني عن المبادئ النظرية لحزب البعث، تجنبوا يدي المرفوعة دائماً للإجابة عن أهداف الحزب، عن تاريخ تأسيسه، عن ثورة الثامن من آذار، وقبل نهاية هذه المقابلة، التفت نحوي أحد الثلاثة، وداهمني طالباً مني الغناء، ارتبكت، ثم وقفت منتصباً بنحولي المذهل، وأنشدت موالاً بلدياً بصوت عال… صفق الجميع على إثره.. وانخرطت في صفوف الحزب،… عرفت بعد عمر أن هذا الاختبار هو الأقسى من نوعه، لأن ابن حماة ـ كما ينظر إليه “اشتراكيو البعث” ـ جاهل متدين يرفض الموسيقى بوصفها ممارسة محرمة، لذا ـ لسذاجتهم ـ رأوا باستجابتي تلك خرقاً لمنظومة الجهل المفترضة في المدينة.

“لا تقل لأحد ـ إن لم تضطر لذلك ـ أنك حموي” هكذا كانت وصية والدي حين ودعني إلى الجامعة.

“ابتعد عن الحموية في الجامعة ـ ما استطعت” هكذا كانت وصية أمي أيضاً .

وبين الوصيتين عشت سني جامعة أربع، متأرجحاً بين التفاخر بأن إحدى جداتي من حمص، وبين كتماني لمسقط رأسي. وبعد خمس سنين في المدينة الجديدة، وجدت حلاً ناجعاً، صرت أقول أن ” أصل العائلة من حماة، لكنني من دمشق” حل كان مرضياً لجميع الأطراف، إلا لحماة نفسها.

بعد عشر سنين من الرفض والإنكار والهجران والشتائم،كنت قد فقدت أبي وأمي، واسترجعت المدينة، تلك المدينة التي لم تعد شتيمة. وكنت طُرِدت طوعاً من الحزب الذي أدخلت إليه مغنياً.

عرفت بعد حين، أنني لم استطع فهم المدينة لأنني تنكرت منذ البداية لرائحة الدم المنبعثة من حجارتها، رفضت حدادها وعويلها المكبوت، وأنكرت عليها ـ كما الآخرين ـ رغبتها بالصراخ، وحين وصلتُ مرتبة الألم المقاربة لألمها .. أحببتها، فلا شيء يمكن له أن يجمع رجلاً بمدينة بعد عشر سنين سوى الموت.

قامت الثورة، خرجت درعا. سكتت حماة.

نهضت دوما، استضعفت حمص، استغاثت إدلب، وتعبت دير الزور..

لكن حماة ظلت ساكتة.

شعرت بالخذلان، بالخديعة، بسوء الفهم، صرت أبرر صمتها بالألم من الجرح ، بخوف استرجاع المجزرة القديمة، أبرره بأني لم أنشد لها موالاً حموياً كاملاً كما فعلت حينما ضممت لصفوف البعث، بل اكتفيت بالبكاء الحار في حضنها كطفل فقير مشعث حين موت.

ثم، في يوم جمعة آخر، رأيت في مقطع فيديو عبارة تقول: “حماة مستعدة لتقديم 70 ألف شهيد آخر”.

مس من الجنون اجتاح جسدي، شعرت بالانتصار، لم تخذلني المدينة كما ظننت.

أنهت حدادها على عجل، وقامت بحياء المتعب.

تتالت أيام الجمع، خرجت المظاهرات في كل المدن. ثم نفضت حماة عن جسدها كل الوهن.

زرتها بعد ذلك التاريخ الرديء، توجهت نحو ساحة العاصي، رعديداً كنت كخرقة …

عند الحاجز الأول، أوقفني الثوار .. سألوا عن هويتي .. فأجابهم خالي: “من عنا .. حموي مع وقف التنفيذ، كان مسافر”. مط أحدهم رأسه من شباك السيارة ضاحكاً وقال: “الحمد الله ع السلامة، روح ع الساحة وشوف بلدك كيف صارت”…

تلك الساحة … نشوة لا منتهية ..

صليت هناك غناءً وراء منشدها، غنيت حتى ذاب صوتي في صوتها، حتى ذاب ألمنا معاً. رددت الأغاني والشعارات المنعشة وراء إبراهيم قاشوش، الذي لم يكن يومها إلا أحد أصوات الثورة في ساحة العاصي.

عندما صحوت فجر اليوم التالي كنت نائماً على ضفة نهرها .. أيقظني صوت النواعير الثائرة .. ووجه رجل الأمن يسألني في المطار “من أين أنت؟”: فأجبت دون تردد ” من حماة!” ، تابعَ: “من أين من حماة؟”، فأجبت متحدياً : “من المدينة!”، نظر إلي طويلاً ثم أعاد لي جوازي، وقدم لي علبة صغيرة.

مضيت في طريقي نحو باريس سعيداً، لقد أنقذتني حماة لأول مرة، لا أعرف كيف. مضيت إلى مقهى فرنسي قريب، لأحكي لأصدقائي عن ثورتنا الشجاعة. فتحت العلبة فصعدت منها رائحة الدم ..

كانت حنجرة إبراهيم، منشد المدينة، قد استقرت في قاعها حمراء ناصعة، تردد وراءها ملايين الأصوات:”يلا ارحل يا بشار”، عرفت حينها أنه غنى للمدينة كما غنيت أنا منذ سنوات …. لكن مواله كان حموياً .. حموياً حتى النخاع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى