صفحات مميزة

نصف قرن من الديكتاتورية وسنتان من الثورة: الوطن على مفترق طرق

 

لم تكن الثورة السورية التي انطلقت قبل عامين، وليدة عوامل مستجدة، بل نتاجا لعملية تراكمية تاريخية، جرى فيها تغييب الديمقراطية و الحريات من خلال انقلابات عسكرية متتالية، كان آخرها الانقلاب العسكري الذي قاده حزب البعث عام 1963، و الذي استطاع ترسيخ نظام حكم شمولي، اعتمد العنف الأمني والأيديولوجي أداة أولى للبقاء في السلطة، من خلال أجهزة أمنية، عسكرية وسياسية استمدت تماسكها من الروابط الطائفية و العقائدية. خلال هذه الفترة، أظهر المجتمع السوري أكثر من مرة رغبته في استعادة زمام الحياة السياسة، لكن القبضة الأمنية والدعاية الإيديولوجية حالا دون نجاح هذه المحاولات.

وفي 2011 تضافرت جملة ظروف موضوعية محفزة ، ضمن سياق إقليمي مساعد ألهم شرارة الثورة بشكلها السلمي الأولي.فواجهها النظام السوري من البداية بسياسة الحل الأمني مع المتظاهرين السلميين من خلال القتل والاعتقال و التعذيب ، ثم أقحم الجيش ليمارس سياسة العقاب الجماعي ضد المناطق الثائرة، عبر المجازر و التدمير الوحشيّ الممنهج لممتلكات المواطنين و مصادر رزقهم، فهيأ بذلك الشروط الموضوعية لنشوء قوى عسكرية ثورية تحت مسمى الجيش الحر، و انتقلت الثورة من شكلها السلمي المدني إلى حالة متعاظمة من المجابهة العسكرية. و مع مرور الوقت، تعددت قيادات و توجهات و ولاءات كتائب الجيش الحر، و افتقرت إلى مركزية القيادة العسكرية، بسبب تشرذم المكون السياسي للثورة و عجزه عن الاتفاق على رؤيا مرحلية واحدة و واضحة تواكب سياسياً الحراك على الأرض, وتشكل رافعة سياسية ودبلوماسية مناسبة، فضلاً عن تنوع مصادر تمويل الكتائب العسكرية و حاجتها لذلك التمويل. و كان من تداعيات غياب المرجعية السياسية و العسكرية و كرد فعل على عنف النظام أن سجلت حالات انتهاك لحقوق الإنسان قامت بها بعض الكتائب الثورية و حالات فساد مالي، كما استغلت الفراغ الأمني مجموعات مسلحة وقامت بأعمال تتنافى مع توجهات وأهداف الثورة الأساسية. لقد أوصلت هذه المجابهة العسكرية غير المتوازنة البلادَ إلى وضع كارثي تعبر عنه الأعداد المتزايدة للشهداء و النازحين و اللاجئين و تدمير العمران و البنى التحتية و حتى المعالم الأثرية.

إننا إذ نتفهم دوافع من حَمَل السلاح في وجه النظام ونقدر تضحيات المقاتلين الثوريين، ونحمّل النظام مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد, ننوّه بضرورتين أساسيتين ينبغي العمل سريعاً على إيجاد وسائل تحقّقهما:

1- مواجة المخاطر المتزايدة التي تنذر بتعطيل أو إلغاء التغيير الديموقراطي المنشود جديا ، ومنها تعاظم نفوذ بعض التيارات الأيديولوجية المتطرفة، التي تريد جرّ البلاد إلى وجهة أخرى تتعارض مع أهداف الحراك الثوري

و اتخاذ كافة الوسائل الممكنة لتجنب الانجرار إلى حرب أهلية طائفية شاملة، تهدد بتقسيم البلاد اجتماعيا و من ثم سياسيا.

2ـ العمل على إيقاف المعارك المدمّرة التي دخلت حالة من الاستعصاء تنذر باستحالة الحسم العسكري، و التي يترتب عليها، إلى جانب ما ذكر، كوارث اجتماعية و اقتصادية و إنسانية يصعب تداركها، قياسا لتجارب دول أخرى، خاضت حروبا أقل تدميرا و عنفا و دموية.

و عليه فإننا نرى لمواجهة تلك المخاطر، و نتائجها المتمثلة باستمرارية العنف، و ترسيخ الكراهية الطارئة، و خطر انهيار الوطن بمقوماته الديموغرافية والاقتصادية و حدوده الجيوسياسية، وابتعاد العملية الثورية عن مقصدها، أنه يجب التصدي للتحديات الكبرى التالية :

1ـ العمل على إزالة التشوش المتزايد في رسالة الثورة ووجهتها. السبب الأول للثورة هو غياب الحريات وبالتالي فهدفها الأول يتركز على استعادة هذه الحريات من خلال إقامة النظام الديمقراطي بمعاييره العصرية التي تقوم على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وعلى المساواة بين المواطنين دون أي تمييز, و على التعددية وتداول السلطة. للأسف فإن هذا الهدف لا يعلن بوضوح وإنما يتم التحايل عليه وتغليفه بمفاهيم غامضة وغريبة عنه، بل ويجري الدفاع عن قوى تعاديه بوضوح مما يغذي الشكوك حول ديناميات الثورة ومآلاتها ويبعد عنها شرائح هامة من المجتمع السوري ويحرمها من سند دولي لابد منه. وكل هذا يعيق تقدمها, بل ويدخلها في إطار صراعات اقليمية لا مصلحة لها ولا للوطن السوري فيها.

2 ـ العمل على تفعيل دور القوى الديمقراطية و قوى العمل المدني، و ذلك من خلال تأمين الحد الأدنى من تنسيق العمل السياسي بين القوى الديمقراطية بهدف تشكيل تيار فاعل يسعى لضمان ديمقراطية الدولة المقبلة و مدنيتها، و التزامها بمعايير الدولة العصرية، عبر التعاون مع قوى المجتمع المدني العديدة و المتنوعة في الداخل السوري، و بشكل يضمن تجاوز المعوقات التي تفرضها الشخصنة. وفي سبيل هذا الهدف، ندعو لتأسيس مؤتمر دائم يضم ممثلين عن القوى والشخصيات الديمقراطية والمدنية، ضمن الأجسام السياسية القائمة راهنا أو من خارجها، ليكون إطارا معبرا عن التيار الديمقراطي ومؤثرا في الوضع السوري.

3. إعادة الاعتبار للعمل السياسي والجماعي والذي نتج عن غيابه ارتهان السياسة للعسكرة، و ارتهان العسكرة و السياسة بدورهما للقرار الخارجي، و شلل في أداء المجالس و الهيئات و الائتلافات المشكلة منذ انطلاقة الثورة حتى اليوم. لقد ألغى النظام خلال نصف قرن السياسة والعمل المنظم والجماعي في المجتمع، فنتج عنه ثقافة فردانية واحتقار للعمل السياسي. وهو يراهن الآن على أن تقود هذه الثقافة بما تنتجه من تخبط وفوضى وعدم فاعلية، إلى اجهاض الثورة وابتعاد الناس عنها.

4ـ تنظيم المناطق الخارجة عن سيطرة النظام: اليوم تخضع أقسام هامة من الأراضي السورية لسيطرة الجيش الحر أو غيره من الكتائب المعارضة. ورغم وجود نواة لإدارات محلية تتشكل بشكل متفاوت في بعض المناطق، إلا أن غياب إطار وطني يدعمها ماديا وخبراتيا، ويحدد المعايير والمبادئ لعملها، يحد من قدراتها، ويجعل المسؤولية القانونية والسياسية في هذه المناطق في حكم المجهول ويتركها مرهونة لخيارات هذه الكتيبة أو تلك، أو هذا القائد أو ذاك، بل وحتى لكل التجاوزات والتعديات. لهذا يتعين تشكيل طاقم إداري سياسي وحقوقي تتوافق عليه الأطراف السورية الفاعلة، يستند على مبادئ الحرية والكرامة واحترام القانون والانسان وتوفير الامكانيات اللازمة له لكي يقوم بعمله في تلبية حاجات المواطنين الأولية، والطلب من كل الفصائل دعمه والتعاون معه والخضوع لأحكامه.

بالتوازي مع هذه التحديات، ينبغي اليوم إعطاء الأولوية إلى حقن دماء السوريين ومساعدة المنكوبين منهم في سياق هدنة توفر الشروط اللازمة لذلك، والبحث عن حل سياسي يضمن تغيير النظام الحالي للوصول إلى نظام ديموقراطي، وذلك ضمن إطار دولي يكفل نجاح هذه العملية. سيلقى هذا التوجه معارضة قوية من العديد من الأطراف السورية والخارجية، لاسيما من النظام الذي سيحاول الالتفاف والمراوغة، لكن هذا لا يجب أن يثني السوريين التواقين للحرية من أخذ المبادرة وبذل جهود خارقة لخلق وضع دولي ومحلي يجعل من هذه العملية ممكنة ومن نجاحها خيارا ضروريا وطنيا وإنسانيا. وإلا فإن أخطارا كبرى تنتظر سوريا والسوريين، تفوق بما لا يقاس ما حصل حتى الآن.

لقد فقد النظام كل شرعية في إدارة البلد، بسبب خروجه عن كل المعايير الحقوقية والإنسانية في تعامله مع الثورة، فارتكب بحق مواطنيه جرائم ضد الإنسانية و جرائم حرب، و ذلك بدلا من حمايتهم، كما تقتضي واجبات أية حكومة، و فضل التعامل مع الثورة السلمية بعنف مفرط و وحشية منقطعة النظير. وإن كان النظام يتجاهل أنه لا يمكن للقوة العارية أن تنتصر على شعب ثائر، كما لا يمكن للعنف، مهما طال، أن يحل محل الحق، فإن على القوى المعارضة، والديموقراطية بالأخص، أن تعي مخاطر الوضع الحالي الذي قد يؤدي إلى انهيار الوطن وتقهقر الإنسان فيه، وأن تسارع إلى التصدي لهذه التحديات ومجابهتها بأعلى قدر من المسؤولية الوطنية والانسانية إجلالا لشهداء الحرية وتقديرا لمعاناة الملايين من السوريين، المعتقلين أو المتشردين أو الجرحى، وتضامنا مع اهاليهم وذويهم ومن أجل الوصول إلى سوريا حرة وديموقراطية تحترم المواطنين وتساوي بينهم وتعمل على ازدهارهم. فهذا الهدف هو الوحيد الذي يعطي معنى لكل تضحيات ومعاناة السوريين منذ نصف قرن.

دمشق، ٣١ آذار ٢٠١٣

التجمع السوري من أجل الديموقراطية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى