صفحات سوريةعمر قدور

نطقها كيري أخيراً/ عمر قدور

 

 

حسناً فعل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إذ وضّح ما تعنيه مطالبة إدارته برحيل الأسد. ما قاله كيري في ختام مباحثاته مع نظيره البريطاني السبتَ الماضي معروفٌ من قبل، لكن للصراحة وقعاً مختلفاً، وهي على الأقل تبدد الأوهام التي يشيعها مسؤولون عرب وأقلام صحافية بشّرت وتبشّر بنهاية قريبة جداً لبشار الأسد. إذاً يقول كيري: “لا يوجد إطار زمني محدد لبقاء الأسد، وليس من الضرورة أن يكون من اليوم الأول أو الشهر الأول… هناك عملية ينبغي أن يجتمع فيها كل الأطراف معاً للتوصل إلى تفاهم بشأن كيفية تحقيق ذلك على أفضل وجه”.

لقد كشف الروس قبل كيري عن قبول الإدارة الأميركية مبدأ بقاء الأسد في مرحلة انتقالية، وأن الخلاف المتبقي هو على أحقيته بالترشح للرئاسة بعدها. والحق أن الروس لم يكذبوا في هذه النقطة، ولم يكذبوا في صداقتهم القوية والداعمة طوال الوقت للنظام. الذين كذبوا على أنفسهم أولاً، وروّجوا الأكاذيب، هم مَن راهنوا على غموض الإدارة الأميركية إيجابياً، ومَن ظنوا أن أصدقاء أميركا في المنطقة قادرون على تغيير موقف أوباما. في أحسن الأحوال، هم مَن ابتلع عبارات دبلوماسية أميركية من دون التفكر في أبعادها. ولن يكون مستبعداً من قبلهم فَهْم تصريحات كيري الأخيرة بحرفيتها، لا باعتبارها قد تكون مقدمة لتراجع أميركي آخر تحت زعم أن الإدارة أوضحت مسبقاً أن رحيل الأسد خاضع لاتفاق السوريين في ما بينهم، الاتفاق المستحيل بالطبع.

أي كلام عن موقف إدارة أوباما إزاء الملف السوري سيكون مخففاً ما لم ينطلق من أنه فضيحة أخلاقية مشينة لا بدّ أن يرافقها أداء سياسي مبتذل، على الأقل منذ أبرمت صفقة الكيماوي مُكرِّسة مبدأ تسليم أداة الجريمة بدل معاقبة المجرم. مرة أخرى، لندع الأوهام العربية التي روّجت أن الإدارة لا تريد استفزاز إيران أثناء مفاوضات الملف النووي، وأن موقفها سيكون أكثر فعالية بعد التوقيع على الاتفاق. إذ لا يوجد ما ينفي الاحتمال المعاكس، وهو إعطاء ضمانات سرية لإيران بعدم دعم أي جهد إقليمي لإسقاط الأسد عسكرياً، والباقي تتكفل به إيران وروسيا. بالعودة إلى الأداء المبتذل المكشوف ينبغي أن نلاحظ أن الإدارة أبدت قلقها من دخول قوات ومعدات روسية إلى سوريا مؤخراً، لكنها في الأسبوع نفسه أبدت استعدادها لبدء محادثات عسكرية مع الروس للتنسيق في سوريا. هذا الابتذال رافقته فضيحة مدوية “تليق” بالدولة الأقوى عالمياً، ففي جلسة للجنة الدفاع في مجلس الشيوخ صرح الجنرال لويد أوستن بأنه لم يبقَ من أول دفعة سورية دربتها أميركا سوى أربعة أو خمسة مقاتلين من أصل 54 مقاتلاً أنهوا برنامج التدريب.

مثل هذه الإدارة لن ترى حرجاً في إلقاء اللوم على السوريين لأنهم فشلوا في أن يكونوا مقاتلين معتدلين على مزاجها، أو بالأحرى لأنهم فشلوا في التوقيع على تعهد بقتال داعش من دون الأسد. وقد سبق للإدارة نفسها أن أعلنت أن برنامجها لن يكون مع أية جهة من المعارضة السورية، أي باختصار هو برنامج لا يتمتع بأي غطاء سياسي محلي، وبوضوح أكبر هو برنامج لتدريب مرتزقة سوريين غايتهم الوحيدة القتال على الأرض دعماً لغارات التحالف، من دون أن يكون لهم أي موقف وطني. وعلينا الانتباه جيداً إلى أن أهم نصر تبتغيه الإدارة الآن هو إنزال بعض الهزائم بتنظيم داعش أمام الرأي العام الأميركي، قبل الاستحقاق الانتخابي في السنة المقبلة، ومن أجل هذا النصر لا مانع لديها من التحالف مع أية جهة كانت، بما فيها نظام بشار الأسد الذي تعلم أنه سهّل تمدد المتطرفين.

المسألة بسيطة جداً لمن يشاء فهم التطورات الأخيرة. فالحلف الدولي ضد داعش فشل فشلاً ذريعاً. في العراق فشل الجيش والحشد الشيعي في دحر داعش، وأثبتا فشلهما أيضاً بالممارسات الطائفية التي رافقت المعارك. إعادة تجربة الصحوات غير ممكنة الآن، وتجاهل العشائر السنية أو مطالب السنة عموماً غير ممكن أيضاً، لذا من الأفضل بدء الحملة الشرسة على داعش لإضعافه انطلاقاً من سوريا. الساحة السورية أقل حساسية، بحكم الإبادة والدمار اللذين يرتكبهما النظام. هذه الوضعية تتيح للإدارة انتهاج أساليب قذرة، بما فيها التضحية بمدنيين، أكثر مما هو متاح لها في العراق.

لا مشكلة لدى الإدارة في أن يدعم الروس القادمون موقع بشار الأسد، إذا كانوا جادين في محاربة داعش، بل لا مشكلة لهم مع بشار الأسد نفسه إذا تخلى عن ازدواجيته في التعاطي مع التنظيم. المعادلة بسيطة جداً، إدارة أوباما لا تريد التورط علانية في عمليات قذرة، وإذا تكفل الروس والنظام بها فهي ستكون ممتنة لهما، ولن تمانع في دفع الثمن المطلوب. لا مشكلة لدى الإدارة في أن ينفذ الروس مع النظام “نموذج غروزني” بأسوأ مما نُفّذ به حتى الآن، أي لا مشكلة إذا تولى الروس سياسة الأرض المحروقة بدل غارات التحالف المستندة على معلومات استخباراتية وقائمة من الأهداف التي يُفترض أنها عسكرية ومنتقاة. وأن يقضي الروس بالتوازي على الفصائل التي تقاتل النظام فهذه خسارة هامشية جداً، وأن يبقى بشار ما بقيت هذه الإدارة فهذا أيضاً تفصيل ثانوي.

في منطق الحساب المبتذل هناك مقايضة أميركية روسية رابحة للطرفين، على حساب مزيد من الإبادة والدمار للسوريين، ولفهمها لا نحتاج إلى سوءَ الظنّ. على كل حال الأيام القادمة ستبدد تلك الظنون القائمة على أن الروس أتوا فقط للدفاع عن “دولة الساحل” وعن قاعدتهم العسكرية فيها.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى