بكر صدقيصفحات سورية

نظام دمشق بين الإفتاء بالجهاد وخطة النقاط العشر

 

بكر صدقي *

إذا صرفنا النظر عن لغته الركيكة ودعوته الغريبة، ينطوي بيان مجلس الافتاء الأعلى على دلالات مهمة، ستحاول هذه المقالة التوقف عند أهمها. وإذا كان البيان قد مد تاريخ الممانعة السورية ضد «التوسعية الصهيونية» ومن يقفون وراءها إلى بضعة قرون، فحول صراعاً سياسياً حديثاً إلى تراجيديا إغريقية بطلها – ولا بد – نظام الأسد، فإن زلة الإفتاء هذه قد تشير إلى تاريخ موغل في القدم حول المظلمة الشيعية أو العلوية، لتصبح ترجمة النزعة التوسعية الصهيونية: نزعة توسعية إسلامية سنية.

على رغم شطط هذا التأويل وبنيانه المفارق، فهو ليس بعيداً من منطوق أبواق النظام، كحال بشار الجعفري الذي اتهم إسرائيل، داخل جدران المنظمة الدولية، بالسعي إلى إقامة شريط حدودي لـ «عملائها» (ويقصد الجيش السوري الحر) على غرار الشريط الحدودي الذي أقامته، في 1982، في جنوب لبنان (ما الذي ذكّره بتلك التجربة البعيدة؟ أهو الحنين إلى الزمن الجميل؟). وكان حسن نصر الله قد سبق زميله الجعفري بأشهر حين أعلن أن كل معارضة وطنية لنظام الأسد عمالة لإسرائيل.

من المفيد التذكير بأن إقحام إسرائيل في كل صغيرة وكبيرة من شؤوننا الخاصة، هو من لزوم ثقافة سياسية كانت تلقى قبولاً واسعاً، يتهم فيها الخصوم بعضهم بعضاً بخدمة إسرائيل أو العمالة الصريحة لها.

هذا الإفلاس الإيديولوجي لما سمّاه بشار الأسد بقلعة العلمانية الأخيرة، المتمثل بفتوى الجهاد، يضع الأمور في نصابها الصحيح ويسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية. لكنّ هناك شيئاً غريباً في الفتوى التي لا تلزم إلا «أهل السنّة والجماعة» كما يقال. من المستبعد أن يلبي العلويون والمسيحيون والدروز فتوى الجهاد السنية. ترى، هل هو مؤشر إلى قرب تفكك العصبية الطائفية التي شكلت السند الاجتماعي الأهم للنظام خلال سنتي الثورة، فبات هذا يتوسل جهاداً سنياً دفاعاً عن بقائه؟ الأخبار المتسربة أخيراً من القرداحة، عاصمة الطائفة، بقتال بين أبرز العائلات فيها بفعل الخسائر البشرية التي لم تعد تطاق في الصراع الدموي الدائر، إضافة إلى الضغط الاقتصادي العام الذي لا يعترف بالحدود بين الطوائف والمذاهب، والضغط النفسي الشديد الذي تعانيه الطائفة بسبب تورطها في الدم السوري دفاعاً عن نظام ساقط حتماً… كلها عوامل ومؤشرات في الاتجاه الذي نخمّنه.

كان لافتاً في هذا الصدد تزامن الفتوى السنية مع صدور أول موقف من مشايخ من الطائفة العلوية بعنوان «خطة النقاط العشر لحل الأزمة»، تقوم على وقف إطلاق النار من الطرفين وإلقاء جميع الأطراف أسلحتهم وسحب المظاهر المسلحة من المدن والتجمعات السكنية، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والمخطوفين، وتقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى أواخر العام الحالي على أن يقدم بشار الأسد وعداً صريحاً بعدم الترشح لها، وتسليم السلطة الانتقالية إلى هيئة سياسية مشكّلة من جميع الأطراف.

لا تخفى على مراقب ملاحظة أن هذه الخطة قد تأخرت كثيراً، وهي نتاج موازين القوى الجديدة على الأرض التي فرضها الجيش الحر في مقارعة قوات النظام، وأنها تخلو من أي نقد ذاتي يمهد لمصالحة وطنية حقيقية لا بد منها للحفاظ على الكيان السوري ووحدته. لا بأس من انطلاق الخطة من موازين القوى الواقعية، إذا استوفت الخطة متطلبات هذا الأساس: كيف يستقيم أن «يلقي جميع الأطراف أسلحتهم»؟ هل يشمل ذلك الجيش الذي يطلق صواريخ السكود من ضواحي دمشق جنوباً إلى أحياء حلب الآهلة بالسكان في الشمال؟ واضح أن المقصود بجميع الأطراف هو تشكيلات الجيش الحر من جهة، وتشكيلات الشبيحة وكتائب البعث من جهة ثانية. يريد مشايخ علويون أغفلوا أسماءهم الصريحة، في مؤشر مقلق إلى تهربهم من المسؤولية، أن يقنعونا بأن موقفهم متوازن. هذا ينطلق من قناعة راسخة لم تهزّها ثورة عمرها سنتان تحولت إلى حرب إبادة، لدى «عقلاء» الطائفة هؤلاء: الجيش والدولة فوق الصراع الدائر بين تشكيلات ميليشيوية «من الطرفين». مع أن جميع الناس باتوا يعرفون أن الدولة انهارت في سورية، والجيش طرف في الصراع الداخلي. والطرفان المشار إليهما ليسا متساويين أبداً في أي شيء. الطرف المتهم بالعمالة يعمل على تحرير سورية من الاحتلال، في حين أن الطرف الذي يسمّي نفسه بالدولة يدمر مقومات الدولة بدأب غير مشهود.

ارتكابات الجيش الحر تواجه بالنقد فوراً من البيئة الاجتماعية للثورة، في حين يصمت «عقلاء» الطائفة العلوية صمت القبور إزاء المجازر التي ترتكبها قوات النظام، وقسم منها ذو طابع طائفي صريح.

مثير للاهتمام، على رغم الاعتبارات السابقة، هذا «التنوع الفكري» الذي يعتمل داخل النظام ويعبر عن الضغط الهائل الذي أدى أخيراً إلى هذا التباين الطفيف بين من يلخص النظام في رأسه الذي لا يمكن التخلي عنه تحت طائلة انهياره، ومن باتوا يتقبلون أخيراً فكرة التخلي عن الرأس لإنقاذ الجسد. فإذا تخلت الطائفة عن الأسرة الحاكمة مقابل ضمانات معينة خاضعة لمفاوضات، لم يبق لهذه الأخيرة غير الجناح السنّي الداعم لها الذي أصدر فتوى الجهاد كفرض عين دفاعاً عن النظام المنهار.

تشكل خطة النقاط العشر، على رغم كل شيء، أول اختراق علوي لعقدة الأسد، في محاولة لملاقاة أفكار روسية محتملة لتسوية ما.

* كاتب سوري

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى