صفحات سوريةعلي جازو

نظام دمشق يحصد ثمرة سياساته المتناقضة


علي جازو

ما كانت سياسات نظام دمشق الخارجية، طوال عقود الاستبداد البعثي الأمني، سوى شهادة دامغة على تناقضات غريبة، بلبلت هوية سوريا الداخلية كـ”دولة تبنّت العلمانية والنهج الاشتراكي”، وأقامت سمعتها الخارجية على دعم ومساندة قضايا “وحدة ومصلحة العرب”.

احتضنت سوريا البعثية التي رأت فلسطين قضيتها الوجودية (سوريا لفلسطين بقدر ما هي فلسطين لفلسطين)، المقاومة الإسلامية في غزة، وهي إخوانية التوجه، وضربت بذلك وحدة الصف الفلسطيني، رغم بقاء الوحدة عزيزة على قلبها، وفي الآن عقدت حلفاً عميقاً مع حزب الله إيران، وانقلبت على نفسها إذ دعمت أعداء حلفائها في عراق ما بعد صدام حسين، وكانت من قبل قد شاركت بـ “جيشها” مع قوة الحلف الدولي حين أخرجته من الكويت، على ثمن هو طرد عدوّها ميشال عون الذي فرّ إلى فرنسا ثم هلَّ “عوناً” للقيادة السورية المقاومة!

ولم يشهد موقفها الخارجي والداخلي سواء مع أكرادها أو أكراد تركيا والعراق سوى التناقض واللعب على الأزمات واختلاقها، فتنقلت بين دعمهم من جهة وإنكار وجودهم من جهة ثانية ( رعاية عبد الله أوجلان ثم تسليمه لتركيا، ومواصلة شد الخناق على أكراد سوريا؛ وعدم الاعتراف بالاقليم الفدرالي في كردستان العراق) فكانت دمشق مع إيران وضدها، ومع الفلسطينيين وضدهم، ومع لبنان وضده، ومع العلمانية وضدها، ومع الأكراد وضدهم.

وإذ تناست حجر صلابتها القومية، فقد شكلت برامجها الداخلية على أرض الواقع، خلال العقد الماضي بشكل خاص، ضربة لمؤيدي النظام من الطبقات الفقيرة التي قامت إيديولوجية البعث “دولة العامل والفلاح” أساساً على النطق باسمهم وحماية حقوقهم.

وإذا كانت هكذا سياسات خارجية، مرحلية وتكتيكية في وقت ما، تمكّن سوريا من اللعب على أكثر من خط وتحفظ لها قوة إقليمية تفوق إمكاناتها الحقيقية، فقد غدت أخيراً سبباً لتململ الداخل السوري، الذي كان النظام أول من أضعف طبقته الوسطى التي كانت في السبعينيات حتى أواخر التسعينيات عامل حماية ذاتية له، وتمتلك في الآن المبرر الفكري لاستمرارها في هذه الحماية. وإذ (فتحت) سوريا بداية العقد الماضي اقتصادها على نحو أدخل أكثر من ستة ملايين سوري في عداد فقرائها السابقين، وتجاوزت نسبة شبابها 60% من سكانها، إنما وضعت نفسها على حافة الهاوية الاقتصادية، وترافق كل ذلك مع تراجع اجتماعي ثقافي يمكن تلمس وجهته الأخيرة في بروز أفكار شخصية دينية محافظة منغلقة كالبوطي ونسيان شخصية علمانية مدنية منفتحة كالراحل أنطوان مقدسي.

هكذا شكل غياب كل من الغطاء الإيديولوجي القومي الذي انحدر بالوحدة العربية وضرورة التوزان الاستراتيجي إلى صروف المقاومة الغامضة، إضافة إلى سقوط الضمان الاقتصادي الذي كان مقبولا ومحفزاً لفئات غير قليلة ربطت مصيرها بقوة الدولة الاقتصادية ـ الأمنية، شكّل هذا الغياب المزدوج معاً الضربة التي سددها نظام الحكم نحو عمقه الاجتماعي وبنيته السياسية ورصيده الثقافي. وللحال بدت محاولات إرضاء هذا وذاك، اللذين لا يمكن إرضاؤهما معاً، تغرق سنة إثر أخرى في تعفن إداري وفساد منقطع النظير، ما هلهل البنية الحكومية، وأفقد الصلة العضوية بين القاع الاجتماعي وقمة الهرم السياسية، ولم يبق للقمة هذه التي تترنح الآن، سوى سلاح واحد هو الأمن الخاص والثروة الخاصة التي انحصرت أكثر فأكثر بيد فئات قليلة. ولأن استفحال التناقض لا بد أن يفضي في النهاية إلى مأزق، فإن آلية الخروج من المأزق لا ينبغي أن تُبنى على تناقض أكثر بروزاً.

وليس من الخطأ القول إن النظام يسقط نفسه بنفسه، وإذ يحاول الخروج من مأزق يدخل نفسه في مآزق أخطر وأكثر حرجاً، من بينها مثلاً: إلغاء أوروبا من خارطة العالم، وتفضيل الروبل على اليورو، وكوبا وفنزويلا على مصر والسعودية، والأخذ برأي “الخبير الإعلامي” ناصر قنديل دون الإصغاء إلى نداءات مجلس حقوق الإنسان، إلى حدّ اعتبار العرب بـ”جامعتهم العربية” متآمرين على سوريا وشعبها.

ثمة فرصة ما، هي الأخيرة، ليس فقط لمصلحة النظام الحاكم، بل لسوريا بما تبقى من دولتها ووحدة شعبها، على من فوّت العديد من الفرص، وأوقع نفسه في مطب إثر آخر، ألا يلغي خرائط الدول العربية أيضاً، فيغدو بلا أوروبا وبلا عرب، كانت وحدتهم رأس أهداف البعث ـ العقل الوحيد الذي يخطط لمصلحة سوريا والعرب منذ 1963!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى