صفحات سورية

نظرية تجميع الأقليات خطرة عليها أولاً


طلال خوجة

للتغيير العربي محاذير جدية لكن لتخفيفها علينا جميعاً، نخباً ومثقفين، رجال دين ومواطنين أن لا نقف في وجه الثورات وليس بيدنا وقفها على كل حال…

حين وصلت الى بلدة بقاع صفرين لمتابعة جدارية المدى التي ينفذها إبن بنهران محمد حسين وجدت معه مساعداً من حماة يدعى أبو جوني. أبو جوني المجنس يعيش منذ عقود في ميناء طرابلس ولكنه ما زال يأتي بمونته من حماة، ربما لهذا بدا النحات السبعيني محشواً بالسمنة الحموية التي تتدلى من معظم مكوناته.

لحماة الآن معنى سحري عند الطرابلسيين كما لمعظم مدن ودساكر سوريا التي غيرت الصورة النمطية للانسان السوري لبنانياً، وهو ما كان ينظر اليه كعامل زراعي أو بروليتاري رث ينتظر الفرص في ساحات المدن اللبنانية أو كجندي يدقق في هوياتنا على الحواجز أو كضابط مخابرات يختال بنظارته السوداء السميكة. ولحماة وشائج مع طرابلس، فقد شارك أهلها في استقبال فوزي القاوقجي قائد جيش الإنقاذ وقضى منهم الكثير تدافعا في أعقاب إطلاق نار. أبو جوني يتفاخر بأن المسلمين، والسنة خصوصاً يعيشون في حماة بوئام حقيقي مع الأرثوذكس، ومع استنكاره الشديد للقتل الشنيع الذي يمارسه الأمن في المدينة، إلا أنه لعن أميركا و أوروبا لعناً شديداً، لا أعرف كيف ستنجو منه.

السيدة صدفة أتت من اللاذقية إلى طرابلس (حيث تسكن اختها المتزوجة من طرابلسي نسيب والدها الطرطوسي الأصل) بعد أن أودعت والدتها  في بلدة كسب المرتاحة نسبيا في أيادي الأرمن. صدفة هرّبت ابنها المطلوب لمشاركته في مسيرة، وقد كاد يقبض عليه من الشبيحة كما قبضوا على بعض رفاقه، لولا الصدف وصلابة وحسن تدبير صدفة. ما يزيد من حزن صدفة  أن والدها الراحل لن يشهد “سقوط الطاغية وعائلته”.

نصرة المولودة في التبانة (بعل محسن) من ام وأب  سوريين والمتزوجة من طرابلسي ذي أصول يسارية، لطالما كانت تردد قبل أن يبدأ السوريون المنتفضون مسيرة الأمل ما ذكره بشار لـ”نيوزويك” من أنه ممانع وشعبه يحبه ويحب الممانعة، وربما أنه صدّق هذه المشاعر في بداية الانتفاضة فذهب الى مجلس الشعب ضاحكاً ومازحاً، واعداً ومتوعداً.

والدتي من آل الدباغ، وفي طرابلس يقال المصري الدباغ أو الحمصي الدباغ، الآن نركز على الحمصي الدباغ، اذ لم تعد حمص مركزاً للتندر أو التسوق بالنسبة للطرابلسيين فقد أصبحت مركزاً للتفاخر. عمة والدتي التي تزوجت في حماة قبل أن أولد، منقطعة أخبار عائلتها منذ عقود، الآن تعود الى ذاكرتنا هي وملاءتها وابتسامتها وناعورتها، الآن أتذكر أيضا الصبية السمراء من بانياس التي كانت تتردد دائما على عائلة والدتها في حارة عقبة المفتى.

فجأة أصبح كل شيء ذي ماض سوري جميلاً بالنسبة للطرابلسيين الذين ربما عانوا مضاعفة من ثقل الآلة الأمنية السورية الرهيبة.

 ربما نتفهم القلق عند الطائفة العلوية التي نجح النظام السوري في إنشاء خطوط تماس بينها وبين محيطها السني اجمالاً، وضمن واقع النظام الطائفي السياسي اللبناني الذي ساهمت الوصاية السورية، المستمرة باشكال مختلفة في مذهبته، واذ دفعت كل الطوائف و المذاهب والمناطق والفئات ثمن الإدارة السورية للبلد، خصوصاً حين تحول الى ساحة المواجهة الاقليمية والدولية الأساسية، فقد دفع المسيحيون (رغم أنهم استخدموا ذريعة لتشريع القوات السوؤية) والسنة قبلهم (بعد ضرب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية وحرب المخيمات) الثمن الأكبر.

واذ تطلبت الإدارة السورية صعوداً للثنائي الشيعي ضمن قسمة عمل جرى ترتيبها مع ايران بعد الحرب الأهلية الشيعية، فاننا نستطيع أن نتفهم القلق الشيعي أيضا، خصوصاً أن الثنائي، وان بتفاوت، مصر على ربط مصير الطائفة وبالتالي البلد بالواقع الاقليمي وبمصيرنظام آل الأسد، فضلا عن إصرار “حزب الله” بعد صدور القرار الاتهامي على اقحام الطائفة الشيعية الكيانية في مواجهة المحكمة الدولية الخاصة ما يزيد الواقع السني – الشيعي توتراً.

 لذا قد يكون العمل على تبديد هذا القلق والانفتاح على المكون الشيعي من أولويات حركة 14 آذار والقوى الديموقراطية والاستقلالية عموماً، إلاّ أنّ هذا الانفتاح يجب أن لا يسقط في فخ مشابه للحلف الرباعي لجهة عدم مطابقة المصلحة الشيعية مع مصلحة الثنائي، رغم قبضة “حزب الله” القوية على الطائفة.

كما يجب الوضوح في مسألتين اساسيتين :

-1 قضية السلاح الفئوي والاستئثار واستطرادا ربط مصير البلد بمحور اقليمي معين.

-2  قضية المحكمة والعدالة ووقف رخص القتل السياسي دون مساءلة.

-3 قضية الربيع العربي الذي تسقي زهوره الدماء العربية وخصوصاً دماء المنتفضين السوريين الذين أدخلوا على قاموس الثورات منذ سبارتكوتس معاني ومفردات وعبرا، على علماء السياسة والاجتماع دراستها لاحقا. فرغم أن جمهورية الخوف السورية لم تكن الوحيدة، الا أن المعاندة في كسر أساسات الخوف من قبل الشعب السوري كانت استثنائية لجهة اصرارها (حتى الآن!) على المواجهة السلمية الموحدة رغم القمع العاري ورغم المواقف المخزية والمرتبكة للمجتمع العربي والدولي، وهنا نرى أن النخب والمثقفين، خصوصا من أصحاب السوابق اليسارية، وجب عليهم التواضع أمام انتفاضة الشعب السوري الذي تحولت ساحاته الى “تيان آن مين” يومية.

قد يكون لكل اقلية هواجسها في هذا الشرق المتنوع، ولكن من “الخطيئة” أن تصل هذه الهواجس للدعوة، وإن المضمرة، الى حلف الأقليات لمواجهة الأكثرية مع ما يتضمن ذلك من تساهل مع الاستبداد والشمولية، وهو ما سميناه سابقاً زواج المتعة بين الاستبداد والاقليات، علماً انها متعة من طرف واحد، خصوصاً أن هذا الطرف يمتلك القوة ويتصرف مع الآخر تصرفاً ذمياً عملياً.

 ومن المؤسف أن يستحضر البعض بمن فيهم البطريرك الماروني الخوف مما حصل للمسيحيين في العراق (وهو جزء مما حصل ويحصل للعراقيين جميعا) مما يبرر للبعض السكن في جلباب “حزب الله” ونظام الأسد والوقوف عملياً في مواجهة اول ثورة نوعية فعلية في العالم العربي الذي لطالما اتهمت شعوبه بالخمول والاستتباع والتخلف، علماً أن الموضوع العراقي مختلف تماماً حيث أنه اتى في تداعيات الاحتلال الأميركي المباشر والذي روعي وأديرت صراعاته ايرانياً وسورياً وفي بلد مزق ديكتاتوره الراحل نسيج مجتمعه، بعكس الانتفاضات عموماً والانتفاضة السورية خصوصاً، حيث ترك الشعب السوري ليواجه وحيداً عارياً آلة قمع استثنائية من قبل نظام استبدادي جرى التسامح معه طويلاً حتى من الأميركيين والاسرائيليين القلقين ربما من دمقرطة فعلية غير مضبوطة الخطى في بلد استراتيجي كسوريا.

لم نر رايات سوداء، بل أعلام سورية وشعارات حضارية، طريفة، ذكية، معبرة وموحدة، تدل على التواصل والوعي ومقاومة العسكرة رغم كل المغريات، إلاّ اذا كان البعض يرى صورته في بعض مظاهرالحداثة الشكلية عند بعض النخب الشامية، وتصبح المرأة المحجبة في المدن السورية المنتفضة خطرا أصولياً والمرأة المتجلببة في الضاحية الجنوبية طريقة لباس، تماماً كما تصبح الديموقراطية ضرورة حين توصلنا الى السلطة وكارثة حين توصل أخصامنا اليها. فالأحداث تصنعها منقبات صنعاء والمحجبات (والسافرات طبعا) اللواتي زنّرن كنائس مصر لحمايتها (كما زنر الأقباط وغير المصلين مصلي الجمعة في ميدان التحرير بمساعدة هوانم الغاردن سيتي ونساء إمبامبة) تماما كما تدفقت نساء وصبايا لبنان (مرتديات أزياء شتى) إلى ساحة الحرية في 14/3/2005. فالحرية هي الزي الموحد، وربما وجب التذكير بأن سوريا هي بلد رئيس الوزراء الأسبق فارس الخوري والثوار صالح العلي وسلطان الأطرش وابرهيم هنانو ويوسف العظمة ولا تزال مآثرهم حية في سوريا المنتفضة رغم نصف قرن من القمع والحكم الأقلوي.

طبعاً بعض المتخوفين والقلقين على حق، لأن النظام السوري  الى زوال ليس لأن الأميركيين يرغبون بذلك ، بل لأن السوريين مصممون على ذلك، والقلقون اللبنانيون على حق أيضا لأن لسقوط النظام السوري تداعيات، إيجابية بالاجمال، للعملية الديموقراطية، خصوصا أن المواطنة في سوريا ستعزز المواطنة في لبنان. ألم يقل الزعيم الجنبلاطي يوماً أن الديموقراطية اللبنانية على هشاشتها لن تكون بخير طالما أن النظام في سوريا استبدادي.قالها سمير قصير بوضوح قبل تفجيره عندما كتب عن ربيعي بيروت ودمشق.

  طبعاً لكل هذه العملية محاذير جدية، خصوصاً حين يصر النظام المتداعي على التفجير الأهلي وخصوصا حين تتضارب المصالح الباردة للقوى الإقليمية والدولية، ولكن لتخفيف هذه المحاذير علينا جميعاً، نخباً ومثقفين، رجال دين ومواطنين أن لا نقف في وجه هذه الثورات، وليس بيدنا وقفها على كل حال، بل علينا دعم الحرية التي لا تتجزأ، والإقلاع عن نظرية تجميع الأقليات، “الخطرة على الأقليات قبل الأكثريات” (أحد الظرفاء قال أن حكم الأقليات هو ديموقراطية بالمقلوب) والعمل لدفع قضية المواطنة الحاضنة للتنوع والتعدد قدما، ذلك أن عدم إدانة القمع الوحشي ومعاكسة الثائرين الأبطال، فضلاً عن أنه غير أخلاقي، فانه يزيد من خطورة هذه المحاذير، خصوصاً أنه يصب الماء في طاحونة الاستبداد، ويعرّض هذه الأقليات للخطر، على كل هي جماعات وليست أقليات، خصوصاً المسيحيين الذين يشكلون عصباً أساسياً وليس أقلية في هذا الشرق، ولطالما كانوا في طليعة النهضويين والداعين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولطالما قلنا إن زوال الاستبداد يؤدي الى زوال التمييز على أنواعه. وبما أن الإستبداد إلى زوال فيصبح موقف البعض خطأ سياسيا وموقفا عبثيا في آن واحد.

(                     استاذ في الجامعة اللبنانية)

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى