صفحات الرأي

نـحــو نـظـريــة سيــاسـيــة لـلـتـحــولات الـعـربـيــة

 


تأثيرات التحولات العربية على العلم والنظرية والوعي السياسي

علي فياض

يقدم الدكتور علي فياض محاولة نظرية، لفهم التأثيرات الحاصلة في العالم العربي، وتأمل «السفير» فتح باب النقاش لاغناء المعرفة وتحريض العقل وتشريع البحث عن إجابات تفرضها التحولات العربية على العلم والنظرية وأنماط التفكير.

تنطلق فرضيتنا الأساسية في هذه الدراسة من أن ما يشهده العالم العربي من تحولات، هو مجرد عتبة لولادة عالم عربي جديد، إن التحولات تتجاوز لكونها تغييراً في بعض الأنظمة السياسية، أو تعديلاً في دساتير الدول أو تحقيقاً لمطالب إصلاحية، بل إنها مجرد مرحلة انتقالية تتسم بكل السمات الأساسية للمراحل التاريخية الاستثنائية، التي تمهد لتحولات أكثر جذرية. بيد أن اللا استقرار هو سمة الراهن، والغموض هو سمة المآلات، وبينهما عملية تاريخية متدحرجة غير قابلة للضبط إلا بصورة موقتة، وعلى الرغم من اختلاف المسارات وتفاوت إيقاعها، إلا أن العودة إلى الوراء تبدو شبه مستحيلة.

لقد مرت المجتمعات الغربية بحراك تاريخي عاصف يشبه إلى حد ما، ما تمر به المجتمعات العربية، لا يقتصر الأمر على التحول الذي عاشته أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إنما قبل ذلك، القرن الثامن عشر، حيث فتحت الثورة الفرنسية الطريق على تداعيات هائلة، تعرضت لارتدادات وانتكاسات عدة قبل أن تنضج نتائجها التي احتاجت إلى عقود طويلة كي تستقر.

لقد انفجرت الثورة الفرنسية في العام 1789م، لكنها جوبهت بتكتلات أوروبية متلاحقة تجلت بحروب عديدة، وقد رست في مؤتمر فيينا (1814-1815) على هزيمة الثورة وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبلها وتأكيد شرعية العائلات في الإمساك بالعروش. ثم لتنفجر ثورات مضادة عدلت في اتفاق فينيا (1830م) وثورات أخرى أدت إلى قيام النظام الجمهوري في فرنسا (1848) وإحداث تعديلات دستورية في النمسا وإطلاق مسار معقد من التحولات انتهى بالوحدتين الايطالية والإلمانية (1870).

إن كل ثورة ستقابل بارتدادات معقدة، وإن مسار التغيير السياسي الشامل لا يمكن حصوله بين ليلة وضحاها، إلا أن علينا أن نلحظ الوتيرة المتسارعة لحركة المجتمعات المعاصرة المعولمة والتي ترتكز حركات التغيير فيها، كما في الحالة العربية، إلى أدوات التواصل الالكتروني، مما يشكل تغيراً جوهرياً في وتيرة التغيير.

في الواقع إن التواصل الالكتروني سمح بتجاوز، ليس فقط المشكلة التنظيمية، إنما أيضاً بتجاوز الاستئثار الفئوي والحصرية الحزبية. ذلك أن أداة الاتصال الالكتروني فتحت الطريق أمام غلبة «العقل الاتصالي» على ما عداه.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم شكل احد المرتكزات الأساسية لفلسفة «يورغين هابرماس» في نقده للطابع التقني الوضعي القمعي للعقل الغربي في الممارسات الرأسمالية والاشتراكية، حيث يرى أن التفاعل الاجتماعي هو أيضاً بعد أساسي من أبعاد الممارسة الإنسانية وليس الإنتاج وحده، … فالعقل الاتصالي عند «هابرماس»، هو فاعلية تتجاوز العقل المتمركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الاداتي الوضعي الذي يفتت ويجزىء الواقع ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه. (توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت، ترجمة سعد هجرس، ص 160).

هل ما نشهده في العالم العربي هو ثورات؟ بالتأكيد لسنا أمام النسخة التقليدية من الثورات، إذ أن ما يجري هو تغيير في أنظمة الحكم يعتمد آليات الاعتراض الشعبي، وفي أحيان مواجهات جزئية وفي أحيان أخرى مواجهات شاملة، لكن النتائج هي تغيير في النظام، ما يشكل مجرد بداية للعملية، تعديل في الدستور يفتح الطريق ربما على تغيير الدستور وتغيير الطبقة السياسية وسياسات الدولة الداخلية والخارجية.

إذن إن ما نشهده يأخذ من الناحية الشكلية ومن حيث النتائج القريبة شكل انتفاضة، لكن من حيث العملية المترتبة عليها والقابلة للتدحرج إنما هي ثورة، والناتج المباشر لها هو تغيير في رأس النظام وفي السلطة التنفيذية، لكن ثمة استمرار لبعض هياكل النظام الأساسية كالجيش والمخابرات والأجهزة الدبلوماسية والبنية الإدارية. إذن نحن أمام صنف جديد من الثورات: ليس هناك قيادة فردية للثورة، ليس هناك زعيم رمز وليس هناك إيديولوجية واحدة للثورة، وليس هناك تخطيط مسبق لانفجارها، فالثورة تنتج قيادتها الجماعية بعيد اندلاعها، وتنتج خطابها في مجرى تحققها.

إن العالم العربي في بناه السياسية المعاصرة، ما قبل التحولات، إنما ينتمي إلى العالم القديم، حيث الاستبداد امتداد للدولة السلطانية التاريخية، وحيث الهياكل السياسية إنما هي تقليد واستعارة للمؤسسات الغربية دون منظومة العقلانية السياسية التي قامت عليها الدولة الحديثة والتي تتجلى أولاً بسيادة القانون (راجع نزيه ناصيف الأيوبي في كتابه: العرب ومشكلة الدولة)، وحيث جهدت هذه الدولة لولوج روح العصر فإنها شكلت «تحديثاً دون حداثة» بحسب مصطلح «برهان غليون» في معالجته لمحنة الدولة العربية المعاصرة (راجع كتابه: الدولة ضد الأمة).

لا شك أن العالم العربي على أبواب مرحلة جديدة، جاءت صاخبة أكثر مما كنا نتوقع ونظن، ولا تقتصر في نتائجها على الأحداث والوقائع، إنما على الأفكار أيضاً، والأمر الذي يستدعي عدم الركون إلى الأفكار السياسية ذاتها دون تمحيص ومراجعة.

إن مرض بعض الإيديولوجيات، وهي منظومات الأفكار التي يضعها البشر لأنفسهم لتفسير وفهم ما يحيط بهم من ظروف ووقائع، يكمن في تحول تلك الإيديولوجيات إلى بنى اسمنتية غير قابلة للتكيف والتطور، (بحسب «ميلتون روكيتش: راجع كتاب عبد الله العروي «مفهوم الدولة»)، مما يسمح لأسئلة الواقع المتغير أن تتسلل إلى تلك الإيديولوجيات فتؤدي إلى تفجيرها. وها نحن أمام مرحلة استثنائية، من حيث وطأة تأثيراتها، إنها أكثر من حصاة في بركة الركود العربي، أنها زلزال بتموجات وارتدادات سريعة أو متباطئة ومتلاحقة، بيد أن مما لا شك فيه، أن المسارات طويلة ومتأرجحة وغامضة.

إن النظريات الكبرى تولد من خلال التأمل في الأحداث الكبرى، في أزمنة استثنائية، حيث الركود في المسارات لا يعني شيئاً، بينما في التحولات حفز على الفهم والمراجعة والاختبار.

لذا ثمة صلة لا يمكن نكرانها، بل علينا لحظها بشيء من الجرأة وقلة التحفظ، في مستويات المراجعة، نظرياً وعملياً، أي ما يتصل بالعلم والنظرية والوعي السياسي. فلا يقتصر الأمر فقط على التحدي المعرفي الذي تواجهه النظرية الاجتماعية – السياسية في قدرتها على الإحاطة بالمباغت والمفاجئ (راجع مقالتنا حول هذه الإشكالية في جريدة السفير المنشورة في 4 شباط الماضي)، إنما أيضاً في التأثير على موضوع علم الاجتماع السياسي نفسه، أي ما يتصل بإدخال موضوع جديد على هذا العلم، وفي السؤال عن وظيفته ومداه وقدرته، وفي السؤال عن البعد العملي المتمثل بالوعي السياسي والمشروعات السياسية.

إننا نقصد بالعلم، علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي، اللذين اقتربا من بعضهما كثيراً، كما يشير «موريس دوفرجييه» وعلماء آخرون كثر (راجع كتاب دوفرجييه: علم الاجتماع السياسي)، بحيث لم يعد المائز بينهما فقط، أن يكون علم السياسة هو علم الدولة، وان علم الاجتماع السياسي هو علم السلطة، بل بات كلاهما علم السلطة، ولم يعد علم السياسة أكثر تركيزاً، على المؤسسات السياسية، بل بات كذلك، كما علم الاجتماع السياسي شديد الاهتمام بالوظائف والتشكيلات السياسية على حد سواء.

للأسف، كان لمعظم موضوعات علم السياسة ومفاهيمه أن تولد في رحم التجربة الغربية، انطلاقاً من هيمنة تلك التجربة على ما عداها من تجارب في المجتمعات الأخرى، بما فيها مجتمعاتنا التي بدت مستلحقة وتابعة، والتي جرى إخضاعها لإشكاليات ومنهجيات هي في أحيان كثيرة غريبة عنها ولا تصلح لها.

ربما كان علينا، بتأثير التحولات العربية الراهنة، ليس فقط أن نستعيد ثقتنا بأنفسنا ومجتمعاتنا سياسياً ومعنوياً، بل أن نستعيد تلك الثقة كذلك بمفاهيمنا التي تملك قدرة تفسيرية للظواهر التي تختص بها مجتمعاتنا، على غرار ما فعل يوماً «ابن خلدون» الذي لا زلنا نأكل من خبزه المنهجي رغم مرور قرون عديدة.

ازعم في هذا السياق، أن التحولات العربية الراهنة، لديها القابلية لإعادة تصويب وظيفة علم الاجتماع بمفهومه الوسيع متضمناً بالطبع فرعه علم الاجتماع السياسي وتوأمه علم السياسة.

لقد ولد علم الاجتماع في الغرب مع «سان سيمون» الذي لقب بأبي علم الاجتماع، وكانت التسمية التي أطلقت وقتذاك «الفيزياء الاجتماعية» بتأثير علم الفيزياء الذي يفرض وجود فيزياء فيزيائية وفيزياء كيميائية. كان جوهر الفكرة ومرتكزها الأساس هو «مفهوم الحتمية» الذي تقوم عليه العلوم المحضة والعلوم التطبيقية، وقد مثَّل الجيل الثاني والثالث لهذا الاتجاه «اوغست كونت» الذي لقب بدوره مؤسس لعلم الاجتماع، وواضع تسميته، و«إميل دوركهايم» الذي قال بشيئية الظاهرة الاجتماعية.

في الواقع كان أولئك المؤسسون يفترضون شبهاً بين القوانين الطبيعية والقوانين الاجتماعية بالاستناد إلى مفهوم «الحتمية»، وكان ثمة اعتقاد بإمكانية فهم كامل للظاهرة ولقوانينها وبالتالي لمساراتها المستقبلية، بيد أن المفارقة أن علم الاجتماع، كلما أوغل في نضجه وتنامي مساره، كلما اقترب من «مفهوم الاحتمالية» عوض «مفهوم الحتمية»، وقد كان لدخول العلوم الإحصائية وأدواتها العلمية دوراً جوهرياً في تعزيز «النزعة الاحتمالية» بديلاً عن النزعة الحتمية، أي أن المزاوجة مع العلوم المحضة دفع بعلم الاجتماع إلى مزيد من التواضع بدل الاطلاقات المنهجية التي رافقت بداياته.

إن التحولات الفجائية التي تتوالى في العالم العربي، والتي اعترفت كل اطر الدراسة الأكاديمية والاستخبارية، بعجزها المسبق عن التوقع بحدوثها أو التنبؤ بلحظة انفجارها، ربما شكلت محطة تاريخية، ذات اثر حاسم على طبيعة العلم نفسه، أي علم الاجتماع وعلم السياسة، وبتقاطعهما الجلي في علم الاجتماع السياسي، إذن نحن أمام مأثرة عربية في وقت تعزُّ فيه المآثر، ستدفع العلم إلى مزيد من التواضع الذي آل إليه مساره، فإذا كان العلم قد انتقل من «الحتمية» إلى «الاحتمالية»، فإننا بصدد انتقاله من «الاحتمالية» إلى «التفسيرية»، دون أي إضافة مبالغة تتصل بقدرته على التوقع أو التنبؤ. وعلى علماء الاجتماع والسياسة، أن ينصرفوا إلى تفسير الظواهر بعد تشكلها ودراسة الثورات بعد انفجارها، والسعي لبناء النسق مفهومياً بهدف الفهم والتحليل، لكن «لحظة البوعزيزي» ستعكر على رهط العلماء هؤلاء صفو ركونهم إلى قدراتهم الواثقة، في بناء المسارات المستقبلية للظواهر. إن «لحظة البوعزيزي» اقرب إلى أن تكون «سندروم Syndrome» لأنها تزامن أو تناذر مجموعة أعراض ترتد إلى سبب واحد لكنه مولد لنتائج غير محسوبة، إن «البوعزيزي سندروم»، ستقطع على المفاهيم مطامحها وادعاءاتها وستكشف غرورها المقيت، وستظهر عجزنا العلمي عن الإحاطة الشاملة بالظواهر الإنسانية.

علينا هنا، أن نحذر المبالغات والقطعيات، ذلك أن أقصى ما نتوسله من العلم هو الفهم والتفسير، وحيث تجدر الإشارة إلى أن «ماكس فيبر» كان قد أشار إلى علم اجتماع الفهم. للدلالة على تمييز علم الاجتماع الذي يدرس ظواهر إنسانية، بما يسمح للدارس أن يتمثل الظاهرة ويفهمها لأنه ينتمي إلى الحقل الإنساني للدراسة، على غير ما هي عليه الحال في حالة دراسة مادة كيميائية أو صخرة في مختبر على سبيل المثال، حيث موضوع الدراسة حالة مفارقة.

إن دراسة النسق الاجتماعي – السياسي للظاهرة، أمر طبيعي. بيد أن لحظة التحول وعتبة القطيعة الفجائية، التي تشكل «البوعزيزي سندروم» نموذجها الأمثل ومبدأها الذي يجب أن يدخل علمي السياسة والاجتماع من بابهما العريض، كمبدأ غامض، له قيمة المعامل الكيميائي الذي يغير التركيبة الكيميائية برمتها، ولربما صح القول هنا أن نستعير دلالة «باولو كويلو» في رائعته الروائية «الخيميائي» لنقول ان «البوعزيزي سندروم» هي خيمياء الواقع الاجتماعي- السياسي. حيث الغموض سيد الموقف، وحيث التأثير والنتائج، تبدو وكأنها رقية صوفية، أو كأن فعلها هبط من السماء تعبيراً عن إرادة إلهية نافذة، وهي على كل حال، بصورة أو أخرى، «عودة الميتافيزيقا» إلى حلبة العلم، بعد أن ظن كثيرون أنها غادرت إلى غير رجعة.

مما لا شك فيه أن كثيرين سيجهدون في محاولة عقلنة «البوعزيزي سندروم» بيد أن ذلك لن يكون مقنعاً كفاية، بل سيشي بشيء من «الانتهازية المعرفية».

إن ما نخلص إليه من الناحية المنهجية بالاستناد إلى ما سلف، هو أن على العلم أن يرتد إلى وظيفته التفسيرية التي تشكل الطور الثالث في تطوره دون أية مبالغات، بعد أن طوى ادعاءاته المتولدة عن «الحتمية» « و«الاحتمالية». فما نصبو إليه هو بناء النسق بهدف فهمه وتفسيره، وليس بهدف الجزم والتنبؤ، لأن لحظة الانفجار التي تشيد عتبة التحول، إنما ترتبط بلحظة غير قابلة للتوقع المسبق، كما أنها غير قابلة للعقلنة إلا جزئياً، ولهذه الأسباب فهي اقرب إلى الميتافيزيق منها إلى المبادىء الامبريقية أو الواقعية.

إلا أنه على كل حال، لا يقتصر الأمر على ذلك، إذ ثمة موضوع جديد للحراك الاجتماعي، وهو بدوره لا ينضبط كعنصر محدد لا من حيث تكوينه أو من حيث نتائجه، وهذا يعني أننا أمام موضوع جديد لعلم السياسة وعلم الاجتماع السياسي العربي، ويعني كذلك أن ثمة حاجة ماسة لإعادة بناء النظرية السياسية…، بما يترك تأثيرات على بنية الوعي السياسي نفسه.

ولأننا لا نجد تسمية أخرى، فإننا سنستعين بمفهوم «الكرامة» الذي تذهب دلالاته في أكثر من اتجاه، وهو مفهوم كلي ديني ومدني في الآن نفسه، ففي القرآن الكريم: «ولقد كرَّمنا بني آدم» (الآية..) والكرامة هذه شاملة، وهي حقيقة كونية تبدو مخالفتها مناقضة لطبيعة التكوين الإنساني، وهي عامة لأنها تطال الناس جميعاً دون تمييز عرقي أو ديني، لذلك فإن قيمتها وتطبيقاتها فردية ومجتمعية في آن. لذا إن مفهوم الكرامة عابر للفوارق ومتجاوز للإيديولوجيات، وهو مدني لأنه يعبر عن الحقوق الطبيعية المادية والمعنوية للإنسان. وقد حرك هذا المفهوم بالفعل المجتمعين الأهلي بتكويناته الأولية، والمدني بتكويناته الطوعية.

لم يكن هناك دافع واحد، ثمة تداخل عوامل لا تختزل في التحليل الاقتصادي الذي يتصل بالجوع والبطالة ولا تختزل كذلك بالتحليل السياسي الذي يرتكز على سياسات النظام المذلة تجاه الدور الأميركي وإسرائيل والقضية الفلسطينية، إنه كل ذلك وفقاً لعملية تراكم وتداخل، لعبت دور المحرك لقطاعات الجماهير واتجاهاتهم المختلفة.

بيد أنه يجب أن يؤخذ بالحسبان، في هذا السياق، ما بات يمثله الفساد من استفزاز حاد لمشاعر الشارع العربي، في ظل تفشي حالات الفقر والتفاوت الاجتماعي وتوسع دائرة المنتفعين الذين يشكلون قاعدة أي نظام، وربما صح القول ان الشارع العربي لم يعد بمستطاعه التهاون مع ممارسات الفساد المنظم التي تنخر بجسد مؤسسات الدولة في كل مكان في العالم العربي، وكذا الحال فيما يخص قيمة الحرية، الحرية السياسية والاعتقادية وحرية التعبير عنهما، والتشديد على القيمة المركزية لمبدأ المشاركة وتداول السلطة. إن استيعاب دور مفهوم الكرامة بوصفه بنية كلية تتجاوز التحليل المجتزأ، الذي ينزلق إلى اختزال حركة الشارع ببعد محدد أو وفقاً لعامل أوحد دون سواه، من شأنه أن يساعد بصورة جوهرية على فهم ميكانيزمات تحريك الشارع العربي واتجاهاته والكيفية التي يجب أن تعتمد في التعامل معه…

وعلى نقيض ما يذهب إليه على حد سواء «ماركس» و«الكسي دي توكفيل»، على الرغم من اختلافهما بين بعضهما البعض، عندما ذهب الأول إلى القول باستقلال الاقتصاد والثاني باستقلال السياسة في تكوين المجتمع الحديث، مع الإشارة إلى التيارين الثوريين في القرن الثامن عشر، الثورة الصناعية والثورة الديمقراطية اللذين كانا يصنعان العالم الجديد….

لقد كان لـ«الكسي دي توكفيل» في مؤلفه المرجعي (الديموقراطية في أميركا – 1835) نظرة بديلة، إذ طرح علماً جديداً للسياسة ضرورياً لعالم جديد، علماً يعنى بتطور الديمقراطية، وتكوين مجتمع حديث… ففي منهجه كان يعزو للنظام السياسي الديموقراطي فاعلية مستقلة في تحديد الوضع العام للحياة الاجتماعية، وقد تبلورت فكرة استقلالية السياسة على أيدي مفكرين لاحقين، بينهم «ماكس فيبر»، وأصبحت قطباً رئيسياً للنظرية السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر…، وقد شكل هذا الاتجاه مجابهة مع الماركسية من «فيبر» إلى «كيتانو موسكا» (الطبقة الحاكمة 1923) إلى «فيلفريدو باريتو» (رسالة حول علم الاجتماع العام 1916)، فيما يتصل بالقول بأهمية القوى السياسية المستقلة في نظرية النخب عند كليهما. (راجع توم بوتومور في كتابه: علم الاجتماع السياسي).

في الواقع وضع ذلك علم السياسة في معضلة بين نهجين في التفكير، يمكن طرحهما على نحو متطرف، للتأكيد على استقلال تام للسياسة، أو على تبعيتهما التامة لقوى اجتماعية أخرى، لا سيما ما يتصل بالمستوى الاقتصادي…

طبعاً قبل ذلك، كان «هيغل» قد اعتبر الدولة قضية كلية، في قبالة «ماركس» الذي كان يعتبرها عنصراً تابعاً في عملية اجتماعية شاملة، وبعد ذلك كان لأطروحات أخرى أن تبرز على غرار ما ذهب إليه «هنتغنتون» في النصف الثاني من القرن العشرين، في كتابه «النظام السياسي في مجتمعات متغيرة» في إثارة مفاهيم الديموقراطيات المستقرة والتحديث والتنمية والتمييز بين الأقطار التي تجسد حياتها الاجتماع والتواصل والمشروعية والتنظيم والاستقرار، وتلك التي تفتقد إلى هذه الصفات، وبهذه الطريقة أبدى اعتزازه بالاستقرار باعتباره القيمة السياسية العليا المتجسدة بأكمل أشكالها في الحياة السياسية للمجتمعات الغربية. (بوتومور، المرجع نفسه).

في محاولة فهم انفجار التحولات العربية التي لم تتبلور بشكلها النهائي بعد، هل نحن نشهد ولادة عالم عربي جديد بما يتعدى التغيير الذي يستند إلى تطلع محدد يمكن صياغته وفهمه بالاستناد إلى عامل محدد…. أي بما يتجاوز كون المسألة سياسية صرف أو اقتصادية صرف أو حتى كليهما معاً، وهل نحن في السياق ذاته أمام موضوع جديد في علم السياسة هو «مفهوم الكرامة» الكلي التكوين.

في الواقع، لأن ما يحصل كان مفاجئاً ولأنه لم ينحصر في دولة عربية دون أخرى, ولأنه يشبه العدوى الجماعية المتنقلة، ولان التحليلات على اختلاف اهتماماتها تصيب جزأ من الحقيقة، نحن أمام ظاهرة مختلفة.

لا يقتصر الأمر على مواجهة صلبة مع الاستبداد، أو الثار من صيغة الدولة العربية المعاصرة التي أخفقت جذرياً، أو إعادة النهوض بمجتمعات مترهلة وراكدة، ولا صنع الموقع الحضاري والاستراتيجي لهذه المنطقة على خريطة العالم… أو الثأر المحموم من كل التاريخ المخزي في الصراع مع إسرائيل وضرورة إنتاج مقاربة مختلفة للقضية الفلسطينية، إنه كل ذلك في الآن نفسه، وعلى الرغم مما تشكله المسألة الإسلامية – القومية وقضية فلسطين من مكانة مركزية ولا تزال، إلا أن الأبعاد الأخرى الوطنية راحت تشغل حيزاً متداخلاً يصعب عزله أو تهميشه، وإن مجموع ذلك يشكل بنية التحريك العربي في هذه المرحلة من تاريخنا، وهذا بالضبط ما نسميه بأنه «بنية كلية» أو «مفهوم كلي».

نحن أمام عملية تاريخية في سياق صنع عالم عربي جديد، وهذه العملية فتحت الباب أمام مرحلة انتقالية غامضة المآل، لكنها تواجه عوامل تاريخية أيضاً في المحافظة على الوضع القائم، عوامل إعاقة أو عرقلة أو مواجهة، مثل التشكيلات القبلية والجهوية والطائفية داخلياً. أو النظام الدولي بأدوات السيطرة الغربية عليه، والتي تسعى إلى إبقاء المنطقة خزان بشري راكد، وخزان نفط سيال، وخزان استبداد ينتمي للعالم القديم.

ماذا يعني ذلك من ناحية عملية؟

لم يعد ثمة من إمكانية لتحريك الشارع العربي تحريكاً تغييرياً بالاستناد إلى قضية واحدة، المرحلة بمعناها التاريخي هي مرحلة القضايا المتعددة، وثمة اتصال وثيق بين التحرير والتغيير، بين التنمية والاستقلال، وبين الحرية والنهوض، لم يعد ثمة من إمكانية للفصل بين هذه القضايا، لأن ثمة تواطؤاً وتآزراً بين الاستبداد والاحتلال والتبعية والتخلف.

إن مشروعات القضية الواحدة، هي مشروعات جزء من الساحة وليست كل الساحة، وهي لن تكون قادرة على احتواء كل مكونات الشارع العربي. كما لن تكون قادرة على قيادة عملية التغيير الشاملة، ما لم تمتلك الاستعداد إلى التحول إلى مشروعات شاملة.

وهي على أي حال، عملية شائكة ومعقدة بيد أن الفكر السياسي العربي، يجب أن يخطو هذه الخطوة، باتجاه الخروج من اختزال شمولية التغيير ببعد واحد ومستوى واحد..

إن دعاة الديمقراطية الغارقين في سحرها الاختزالي، رغم أهمية مسعاهم، سيقعون حتماً في الابتسار الذي لن يكون قادراً على الإحاطة بشروط النهوض واشكالياته في العالم العربي، والذي يستدعي ولادة ديمقراطيات مناضلة أو مقاتلة، والذي يستدعي كذلك تعميق المسألة الديمقراطية وليس بتبسيطها، عبر ارتكازها على معادلة علاقة الرضا والقبول بين الحاكم والمحكومين بتطبيقاتها غير الحصرية. والتي قد لا تترجم بالصيغة النمطية الكلاسيكية الرائجة للديمقراطيات الغربية.

وبالمقابل، لم يعد مبرراً المضي في سياسة الانشغال عن قضايا الإصلاح والتغيير وتحديات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ووضع حد للفساد، لقد باتت المسائل السيادية متداخلة مع المسألة الاجتماعية، وتكاد المنعة الاجتماعية والممانعة السياسية أن يكونا من الناحية الموضوعية شيئاً واحداً وجزءاً من منظومة متصلة، وعلى أي حال فإن المسار العملي قد اتخذ هذه الوجهة فعلاً رغم أن التجربة لم تنضج بعد، أما الفكر السياسي العربي فلا يزال غير مواكب بالمستوى الذي بلغته أو تحتاجه التجربة.

لا تهدف هذه المعالجة إلى تهفيت العقلانية السياسية، وهي ما يحتاج اليه على نحو أساس عالمنا العربي، إنما على العكس من ذلك، تهدف إلى إعادة الاعتبار لها من خلال رسم حدودها وإظهار مدى حاجتها للآمال والآفاق الرحبة المخبأة وراء الإرادات الحرة. ثمة مجال في الواقع الاجتماعي غير قابل للضبط وثمة تحولات فجائية تقفز من خارج الحسبان… إنه شكل غامض من أشكال تجاور العقلانية السياسية مع الميتافيزيقا، فتغطي الأولى بنية النسق السياسي- الاجتماعي، بينما تغطي الثانية العتبات، والتحولات الفجائية التي لا يأخذها أحد في حسبانه، سوى أننا نعطي لأنفسنا القدرة اللاحقة على تفسيرها.

لقد عاشت المجتمعات العربية ركوداً غير مبرر على مدى عقود من السنوات، رغم ما لحق بهذه المجتمعات من حوادث وعواصف فاجعة، كان عليها أن تفجّر غضب هذه المجتمعات وتخرج ما في داخلها من احباطات، إلا أن هذا لم يحصل، يُستثنى من ذلك ظاهرة المقاومة التي لها سياقها الخاص، والتي شكلت تعبيراً مبكراً عن علاقة التجاور الخلاَّق بين العقلانية السياسية والميتافيزيقا، ولنقل الإيمان ببعده الغيبي، وبوصفه محركاً ثرياً للإرادات الحرة. لقد كان الركود العربي ظاهرة غير عقلانية وغير مفهومة وغير مبررة. ثم عندما نهضت هذه المجتمعات على النحو الذي نشهده الآن، بدت كذلك مفاجئة خارج أي حسبان، ولأنها بدت غير مفهومة كفاية في لحظة انبثاقها، فقد أربكت النظرية، في حين أنها في حقيقتها تعيد الاعتبار للنظرية، من حيث أنها ترسم لها حدودها.

على مدى هذه المقاربة وفي ثناياها المختلفة، كان ثمة خيط رفيع يجمع أجزاءها ويسوقها في وجهة واحدة من المستوى الأكاديمي النظري إلى المستوى السياسي العملي، من موضوع العلم بوصفه مفهوماً كلياً إلى النظرية السياسية التي تأنف التفسير ببعد واحد إلى المقاربة العملية التي تعيد صياغة مفهوم التغيير وفقاً لترابطه مع مفاهيم أخرى، إن ما نحن بصدده هو ثوراث غير مأسورة ببعد واحد. ربما كان الأمر على شبه ما، بما كان «ماركيوز» يسعى إلى تجاوزه، عندما انتقد الوضعية الغربية التي أنتجت الإنسان ذا البعد الواحد (The one dimensionel man)، والتي سحقت الكرامة الإنسانية وحوَّلت الإنسان إلى مستهلك بالكامل.

إن إرادة الإنسان العربي الراهنة تكسر كون الإنسان أسير حاجاته فقط، إلى كونه إنساناً تحركه تطلعاته أيضاً.

فهل التغيير آت؟ هذا ما سنشهده على الأرجح، لأنه بالفعل قد بدأ لتوِّه، فما يحصل لا يعيد تشكيل الواقع السياسي فحسب، إنما أيضاً ومع مرور المزيد من الوقت، ستتبدى لنا بوضوح أكبر التغيُّرات التي لحقت بالإنسان العربي نفسه، وهي على كل حال قد لاحت ولا يصعب التقاطها، وكذلك التغيرات التي ستصيب النخب الثقافية والسياسية والأحزاب على اختلاف اتجاهاتها ليبرالية ويسارية وإسلامية.

فما نقرأه من رؤى وخطابات واطروحات للإسلاميين في مصر وتونس يدعُ للتأمل العميق. ربما هذا ما يفسِّر عبارة «اوليفيه روا» الباحث الفرنسي المتخصص بشؤون الحركات الإسلامية، في معرض تحليله لدور الإسلاميين في الثورة المصرية، عندما قال: «الإسلاميون لم يختفوا لكنهم تغيَّروا». فما نشهده هو مصالحة للرؤية الإسلامية الحزبية مع ضرورات التواصل والانفتاح والاعتدال… والواقعية. إن الإسلاميين باتوا اقلَّ إيديولوجية وأكثر سياسة، وراحت نظرتهم إلى السلطة تتحرر من الجموح الإيديولوجي لصالح تفكير أكثر انجذاباً إلى المصلحة المجتمعية الشاملة.

إن اكتمال الرؤية بهدف فهم المشهد العربي برمته الذي يرتكز إلى التحولات الراهنة، يستدعي كذلك تركيز التحليل، داخلياً على دور الشباب، لناحية شواغلهم وميكانيزمات التعبئة والتحريك لديهم، من زاوية ميكروسوسيو- بوليتيكية، وليس كلية وعامة فحسب، ويستدعي خارجياً تحليل دور النظام الدولي بقواه المهيمنة، وتحديداً أميركا وأوروبا، اللتين تؤديان دوراً مباشراً في مسار التطورات، وإن ذلك يساعد على الحؤول دون الوقوع في غلواء المقاربة البنيوية التي تركز على العوامل الداخلية فقط دون العوامل الخارجية… إن هذا ربما يفرض علينا تتمة ما، لكن في كل حال، ثمة استدراك لا بد منه، هل وقعت هذه المقاربة في المبالغة والاستعجال؟ وهل تنطوي على رومانسية ما تناقض ما سعت إليه أصلاً؟ ربما، وربما كان علينا أن نتريث قليلاً، وان نتحّفظ في إطلاق الاستنتاجات، بانتظار أن نتبيّن نتائج الثورات العربية ووجهتها والمدى الذي ستبلغه، بيد أن علينا أن لا ننكر في أي حال، الوظيفة التحفيزية للأفكار، ولا سيَّما عندما تكون نتاجاً لثقافة عضوية تولد من قلب خندق المواجهة.

 

([) أستاذ جامعي ونائب في البرلمان اللبناني

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى