راتب شعبوصفحات الرأي

نهاية الوطنية الكاذبة/ راتب شعبو

 

الثورات العربية التي وسمت تاريخ هذه المنطقة، وربما العالم، في مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، والتي قاد أغلبها إلى كوارث فتحت مجتمعاتها على احتمالاتٍ خطيرة من ضمنها التفكك، كانت، على الرغم من كل شيء، تحمل مؤشراً على تحول مهم في مسار هذه المجتمعات، هو إعادة الاعتبار إلى الهم الاجتماعي الذي كان زمناً طويلاً مغلوباً للهم الوطني.

تاريخ المنطقة هو تاريخ استعمارات متوالية، الأمر الذي شكّل، لدى شعوب المنطقة، عقدة “استعمارية”، عزّزها الاحتلال الصهيوني الاستيطاني لفلسطين وتفاعلاته المستمرة. كانت الذات القومية المهانة بعمق في أساس المبالغة في الشأن الوطني، ودفع الهم الاجتماعي إلى الخلف. نحن نجوع كي نؤمن السلاح للجيش الذي يستعد للمعركة “القومية المصيرية”، ونسكت عن استبداد السلطات، لكي نتيح لها التفرغ لصد “الهجمات الإمبريالية الشرسة”. هذا الاستنفار “الوطني” الدائم شكّل، على طول الخط، مصدر شرعيةٍ لما لا شرعية له، أو لنقل إنه حيّد موضوع الشرعية السياسية التي تعني إحياء العلاقة بين السلطة والمجتمع.

أتاحت فكرة العدو الخارجي المتربص دائماً “للعدو الداخلي” مجالاً مريحاً لإحكام السيطرة على المجتمع. فكرة الاستعمار الخارجي الذي لا يخرج من الباب إلا لكي يدخل من النافذة كان من شأنها تعزيز الاستعمار الداخلي، حين جعلت كل سياسات السلطات فوق المساءلة، فهي سلطاتٌ في حالة حربٍ مع عدو “شرس”، لا يكف عن محاولات سلب الأمة حقوقها القومية، ولا يقبل بأقل من تقويض الأمة العربية.

على هذا، كان يبدو أي تحسينٍ تقوم به السلطات، على المستوى الاجتماعي، مهما يكن (افتتاح مشفى عام، أو مدرسة، أو طريق زراعي ..الخ)، إنجازاً كبيراً للسلطات (في سورية يعتبر أيضاً منحة ومكرمة من القائد)، لأنها استطاعت أن تحقق هذا على الرغم من انشغالها

“استعاد الهم الاجتماعي، في الثورات العربية، موقعه في الواجهة التي اغتصبت منه لصالح همّ وطني كاذب” بالمعركة المصيرية التي تتطلب حشد كل الطاقات، والتي تجري على قدم وساق، ولو أن الشعب لا يدري بما يجري، فهي معركةٌ معقدةٌ وعميقةٌ وخفية. ألم يقل بشار الأسد إنه رد على الغارات الإسرائيلية على دمشق، وإن الإسرائيليين يعرفون ذلك؟ لا يعرف الشعب السوري، ولا غيره، كيف رد، أو ما الذي جرى، أو هل جرى أصلاً أي شيء، لأن أمور “المعارك المصيرية” معقّدة وخفية. هكذا صارت المعركة القومية المصيرية والشأن الوطني موضوعاً ميتافيزيقياً غير مدركٍ وغير محسوس، الملموس الوحيد منه هو استمرار السلطات “الوطنية” بتفويض من هذا الموضوع، تماماً كاستمرار الملوك، في زمن آخر، يحكمون بتفويضٍ إلهي.

تلازمَ خط الاستنفار الوطني المزمن هذا مع خط الخسائر الوطنية المتتالية. كان هذا أوضح من أن يُستر، لكنه لم يفض إلى ثوراتٍ وطنية مع ذلك. لم تأت الثورات العربية لتحاسب الحكام على فشلهم الوطني المكشوف، بل على انحطاطهم السياسي والأخلاقي، في ربط غريزيٍّ اجتماعيٍّ صحيح بين هذا الانحطاط وتلك الخسائر.

استعاد الهم الاجتماعي، في الثورات العربية، موقعه في الواجهة التي اغتصبت منه لصالح هم وطني كاذب. وقد استبعد الهم الاجتماعي، لكي يتاح للسلطات “الوطنية” أن تعيث فساداً باسم قضيةٍ “وطنية” صالحة لإخفاء كل الفشل الاجتماعي والسياسي، وحتى الوطني، للسلطات. تحولت القضية الوطنية إلى ملاذٍ مناسبٍ للسلطات الفاشلة اجتماعياً وسياسياً ووطنياً أيضاً. يكفي أن تجيد السلطة رفع الشعارات الوطنية والكلام الصاخب والمستمر عن مؤامراتٍ وتحدياتٍ ومراحل عصيبة .. إلخ، لكي تفوّض نفسها بحكم الناس وسرقتهم وإهانتهم وقتلهم ..إلخ، حتى من دون أن تحقق أي شيء في الموضوع الوطني.

في الموضوع الاجتماعي، لا تستطيع السلطات أن تماطل كثيراً. الفقر وأزمة السكن والبطالة والضمان الصحي والتعليم والفساد والتشبيح والتباين الهائل في توزيع الثروة واحتكار جهاز

“استبعد الهم الاجتماعي، لكي يتاح للسلطات “الوطنية” أن تعيث فساداً باسم قضيةٍ “وطنية” صالحة لإخفاء كل الفشل الاجتماعي والسياسي” الدولة وفلتان الأجهزة من الحساب حين تتجاوز على حقوق الناس وكرامتهم ..إلخ، قضايا ملموسة، ويمكن أن يقاس عليها بصورة محدّدة ومباشرة نجاح سلطة أو فشلها، ولا يتاح لسلطةٍ أن تتهرب منها إلا بالاختباء وراء قضيةٍ بعيدةٍ وغامضةٍ وميتافيزيقية، مثل القضية الوطنية “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. واليوم، يجري تصنيع قضيةٍ ميتافيزيقيةٍ حديثةٍ هي “مكافحة الإرهاب”، لكي تحل محل القضية الوطنية التي اهترأ ثوبها. الغرض واحدٌ دائماً، هو إيجاد ملاذ لفشل السلطات في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

لم يكن للهم الوطني حضورٌ يذكر في الثورات العربية، كان الهم الاجتماعي، الحرية والكرامة والعدالة، هو المسيطر. في ميدان التحرير، كان الشعار “خبز، حرية، كرامة إنسانية”، لم يكن لاتفاقية كامب ديفيد مثلاً الحضور الذي انتظره “الوطنيون”، دع عنك أن يكون رفض هذه الاتفاقية أساس الثورة المصرية، كما قال حينها إعلام البعث الأسدي في سورية، محاولاً وضع نفسه خارج دائرة استهداف الثورات العربية. في سورية أيضاً، لم يكن موضوع الجولان حاضراً، ولم تشكل الضربات الإسرائيلية لسورية أي “لم شمل” وطني بين النظام ومعارضيه، على العكس، كانت اللامبالاة وغالباً “الشماتة” واضحةً لدى معارضي النظام. كما أن معارضين سوريين زاروا إسرائيل من دون أن نجد رد الفعل الصاعق المتوقع، والذي كان يمكن أن يحرق أي سياسي يفعلها. البرود الوطني واضحٌ جيداً في هذه الثورات، وهو ما يفيد بنهاية حقبة تحويل الوطنية إلى دينٍ واستعباد الناس بها، ولا شك أن الوطنية التي تخضع لمثل هذا التحول هي وطنية كاذبة.

ليس في هذا أي تسويغ للاحتلال، أو تراخ في الحقوق الوطنية، كما قد يحاول، أو يحب أن يفهم، أحد من “الوطنيين”، بل فيه تمرّد على كذبٍ وطني مستمر، واستعادة حقيقةٍ ثابتة هي أولوية الاجتماعي على الوطني، ولاسيما حين يكون الموضوع الوطني مزمناً، كما هو حالنا. أي فيه ما يقول إن القضية الوطنية هي قضية عدالة اجتماعية أيضاً، وبالدرجة الأولى.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى