صفحات سوريةعمر كوش

نهج الإنكار وسياساته


عمر كوش

حين نجحت الثورة التونسية في إسقاط النظام الاستبدادي في تونس، لجأت الأنظمة العربية الاستبدادية الأخرى إلى إنكار حالات التشابه بين نظمها السياسية والنظام التونسي، وسارع قادة وساسة ومثقفي الأنظمة في كل من مصر وليبيا وسوريا إلى القول إن تونس ليست مصر وليست ليبيا وليست سوريا، وحاولوا إنكار وجود مظاهر ومواطن الاستبداد والطغيان والفساد في هذه البلدان، بالرغم من أنها تشكل في كل هذه البلدان، ومن لفّ لفها، القاسم المشترك بينها، والموضوعات الرئيسة لنقاشات وكتابات عدد غير قليل من المثقفين النقديين والمهتمين بالشأن العام خلال سنوات مديدة.

استمر نهج الإنكار حتى اندلاع الثورات في كل من مصر وليبيا واليمن وصولاً إلى هروب زين العابدين بن علي وتنحي حسني مبارك، وبقي أنصار النظام الليبي السابق يتمسكون به حتى مقتل العقيد معمر القذافي.

أما في سوريا فقد كان الإنكار، سياسة ونهجاً، العنوان الرئيس لخطاب جميع المسؤولين في أجهزة النظام ووسائل إعلامه، بل وحاول مناصرو النظام، من قوميين ويساريين متقادمين، تسويق مقولة فارغة، مفادها أن الثورات أطاحت نظامي ابن علي وحسني مبارك؛ لأنهما من نظم الاعتدال، وعقاباً على سياسات الإذعان والسير في ركب المخططات الأمبريالية والصهيونية في المنطقة، وبالتالي فإن نظم الممانعة والمقاومة عصية على الثورات الشعبية؛ لأنها نظم شعبية وتقف في وجه الهجمات والمشاريع الأمريكية والصهيونية.

واتخذ الإنكار أشكالاً متنوعة منذ بداية الحراك الاحتجاجي السوري، جسدتها ممارسات وسياسات تنفي وجود احتجاجات شعبية، سلمية الطابع، تطالب بالحرية والكرامة، وبتغيير النظام نحو دولة مدنية تعددية وديمقراطية. وتنفي كذلك حالات القتل والقمع والاعتقال والملاحقة. وراح ساسة النظام يروجون لنظرية المؤامرة، من خلال تصوير النظام هدفاً لمؤامرة خارجية، وما استتبعها من تصوير المحتجين بصورة المغرر بهم وتتلاعب بهم أيد خارجية، وعملاء لقوى لا تريد الخير لسورية، وأطلقوا عليهم تسميات مندسين ومهلوسين ومخدرين وصياصنة وعرعوريين وسلفيين وعصابات إجرامية وإرهابيين وسوى ذلك.

كان الميل إلى إنكار وجود أزمة سياسية ووطنية عامة واضحاً وعاماً، وسياسة رسمية، بل طاول الإنكار وجود معارضة وطنية للنظام، ورميها بتهم العمالة والخيانة والارتهان للخارج. وهنالك من قادة ومناصري النظام من كان يصر على مدى أكثر من الأربعة عشر شهراً الماضية على أن «سوريا بخير»، وأن الأزمة «خلصت»، وبعض أبواق النظام وساسته حدّد أكثر من موعد لنهاية الثورة والخلاص من الحراك الاحتجاجي الثوري.

ويشير نهج الإنكار ليس إلى حالة متعددة المظاهر والمركبات فقط، بل إلى انتفاء السياسة ومصادرتها، واغتيال صوت العقل لصالح الجنوح إلى النهج الأمني والعسكري، الذي لا يعرف سوى لغة القمع، والتوغل في استخدام العنف المنفلت من عقاله، والذي حصد -ومازال يحصد- الآلاف من أرواح السوريين، إلى جانب عشرات آلاف الجرحى والمفقودين، فضلاً عما يزيد عن مليون مهاجر ومشرد داخل مختلف المناطق السورية، وأعداد غير معروفة من الذين نزحوا إلى تركيا ولبنان والأردن وسواها من بلدان العالم. ولعله يفسر إصرار أجهزة النظام على مصادرة الفضاء العام، ومنعها الناس من الوصول إلى الساحات والأمكان العامة، والاعتصام فيها، حيث حرصت منذ بداية الثورة في الخامس عشر من مارس من العام الماضي على عدم إتاحة الفرصة أمام المتظاهرين كي يصلوا إلى أي ساحة كانت، والحالات التي حصلت في مدن حمص وحماة ودير الزور قوبلت بالقمع الشديد وبالرصاص.

وتتجسد مصادرة الفضاء العام في إغلاق الحقل السياسي، ومنع التواصل والاجتماع العام، وبالتالي منع أي نقاش أو حوار بين عموم الناس، يتناولون فيها مشاكلهم وهموهم، ويبحثون فيه عن ممكنات ومعالم طريق الانتقال السلمي نحو مندرجات دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تضمن المواطنة وحقوق المواطن، وتنهي احتكار السلطة الذي دام فترة تزيد عن الثمانية والأربعين عاماً.

وقد عمل النظام خلال اكثر من أربعة عقود خلت على إعاقة أية فعالية لا تخدم اسمرار بقائه في الخكم وتمجيده، لذلك كان خطاب السلطة يركز على إعاقة معرفة السوريين ببعضهم وبما يجري في بلدهم، وتركهم لمخلفات ثقافة ريفية، تنهض على نرجسيّة وطنيّة، عنوانها الجهل والتجهيل. وهو أمر يساق ليس على السياسة فقط، بل على الفكر، الذي يحكمه منطق مصادرة السياسة بمعناها المدني الواسع، وبما يشير إلى ترويج أن المشكلة في البلاد ليست قائمة في النظام السياسي المتقادم، بل في التركيبة المجتمعية، التي تحضتن الإرهاب والمؤامرات، وترتهن لقوى الخارج، عربياً وإقليمياً ودولياً، مع تجاهل ما سببه النظام من شروخ اجتماعية عميقة، بوصفه المانع الرئيس لتشييد وحدة وطنية، أساسها المواطنة والديمقراطية والتعددية.

ويصدر نهج الإنكار عن عقل جامد، شعبوي التفكير والإيديولوجيا، يسكنه هوس المؤامرة، ويرمي كل مشاكل وأزمات الداخل على الخارج، ممثلاً بالاستعمار والصهيونية العالمية، ودول النفط، ومعها القنوات الفضائية المغرضة التي تفبرك أحداث الداخل، وتهوّل من حجم الأزمة. وهو عقل تآمري، يقسم الناس إلى قسمين، فسطاط معنا، وآخر ضدنا، ويبيح فعل أي شيء لإسكات وقمع وتصيفة الفسطاط الآخر. ومازال هذا العقل يرفض كل تحولات المشهد السياسي السوري، الذي يختلف اليوم كثيراً عن ما كان عليه قبل الخامس عشر من شهر مارس من العام الماضي، حيث بات من غير الممكن التراجع عن الحراك قبل الانتقال إلى سوريا جديدة

عمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى