صفحات الثقافة

نيكانور بارّا: رقصة الشاعر المضادّ الأخيرة/ نجيب مبارك

 

 

لم تتأخّر رئيسة جمهورية تشيلى ميشيل باشليه في إعلان  الحداد الرسمي في البلاد  عقب وفاة نيكانور بارّا، آخر شعراء تشيلي الكبار وأحد “أعظم كتّابه عبر التاريخ”، فجرَ الثلاثاء عن عمر مئة وثلاثة أعوام (103).  فهذا الشاعر المعمّر والمشاكس، الّذي كان يصف نفسه بـ”الشاعر المضادّ”، يستحقّ مثل هذا التكريم وأكثر، ليس في بلاده فحسب بل وخارجها أيضاً، بالنّظر لمكانته الأدبية والشعرية العظيمة في الآداب اللّاتينية-الإسبانية خلال القرن العشرين، ولتأثيره الكبير على أجيال من شعراء اللّغة الإسبانية، من خلال مسار حياته وإبداعه الغنّي والفريد.

حياة راقص الكويكا

قبل أعوام، اعتزل هذا الشاعر الكبير العالمَ في قريته الساحلية الصغيرة “لاس كروثيس”، رافضاً إجراء أيّ حوار مع أيّ كان. هو الّذي وُلد قبل أزيد من قرن، في الخامس من سبتمبر عام 1914 ب”سان فابيان دي أليكو”، في منطقة شيلان بالتشيلي، من أسرة متواضعة لكنها أنجبت العديد من الفنانين المشهورين، مثل أخته الموسيقية العالمية فيوليتا بارا صاحبة أغنية “شكراً للحياة” الشهيرة. وبسبب تكونيه العلمي العميق في الفيزياء والرياضيات، حصل بارا على منحتين للدراسة في جامعة باراو ( الولايات المتحدة) وجامعة اوكسفورد (المملكة المتحدة). وبعد عودته، قام بتدريس الفيزياء، كما أدار مدرسة المهندسين في جامعة تشيلي قبل أن يدرّس الأدب.

كما سبق له أن حصل على الجائزة الوطنية في الأدب التشيلي، وعلى الجائزة الشعرية سانتياغو دي شيلي، وعلى الجائزة الدولية لكتاب أمريكا اللاتينية، وعلى جائزة خوان رُولفو الأدبية الرفيعة، وعلى العديد من الجوائز الشعرية والأدبية المهمة الأخرى داخل بلاده تشيلي وخارجها. لكنه لم ينل جائزة ثيرفانتس المرموقة، التي تُعتبر  بمثابة نوبل في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية، حتى بلغ سنّ الثامنة والتسعين عام 2012.  وخلال حفل تسلم هذه الجائزة أبدى تواضعاً مفاجئاً حين اعتبر هذا الاستحقاق ممنوح عن”الكتاب الذي لم أكتبُه بعد”، حسب قوله.  لكنّه في حوارات سابقة لم يكن بمثل هذا التواضع، إذ لا أحد ينسى تصريحه الشهير، الّذي ينسب فيه الفضل لنفسه في تجديد الشعر : “كلّ شيء يسير إلى الأسوأ منذ عصر النهضة (…) وعلى مدى قرون، كان الشعر هو جنّة المعتُوه الرسمي، حتى جئتُ أنا وامتطيت أُفعوانيتي الروسية”.

الشعر المضاد وفنّ الهدم

“أشعر بالقرف من الأدب.. مثلما أشعر به من الأدب المضادّ”. هذه واحدة من جمل نيكانور بارا المفارقة والصادمة، وهي تختزل ما يمكن أن نصف به شخصيته:  عبقري، مستفزّ وصاحب رؤيا. هذه الشروط الثلاثة اجتمعت فيه دفعة واحدة من أجل تأسيس مشروع شعري طموح وفريد، قائم على القطيعة مع الماضي والابتكار الجديد الذي يخلخل مسلّمات الهوية الأدبية، وليس الشعرية فقط. ذلك أنّ بارّا فتح فعلاً أبواباً جديدة، حين أعاد الاعتبار إلى اللغة المحكية في أبعادها المتعددة الأصوات، بلغة مستفزة ومنزوعة القداسة، لأن “الشعر المضاد يبحث عن الشعر، من خلال الفصاحة”،  حتى وصف النقاد مشروعه الجريء ب”فنّ الهدم”.

في كتابه الشعري الأول، اختار السير على نهج شعر الثلاثينيات، ويبدو عليه تأثير واضح من غارثيا لوركا. لكنه حين شرع في كتابة “قصائده المضادة” بين 1938 و1950، لم يكن يدري أنه يقوم بابتكار شيء غير مسبوق يحتوي “مفهوماً” جديداً للشعر.  لكنه انتبه لاحقاً إلى ذلك حين عاد لإلقاء الضوء على هذه التجربة، معتبراً أنّ الشعر قد فشل ووقع في مرحلة فراغ خلال الثلاثينيات بعد غياب الطليعيين. كما أن الشعر المكتوب بالإسبانية خلال هذه الفترة، بالنسبة إليه، كان غارقاً في البلاغة الفارغة التي سيؤدّي استمرارها لا محالة إلى العدم الشخصي. وحين قام ببحوث لمعرفة أصل هذا الداء، توصّل إلى أنه ينحدر من عصر النهضة.  وبالتوغّل أكثر في التاريخ، عثر أخيراً على حيوية الشعر المباشر مجسّدة في القرون الوسطى، وخصوصاً تلك التي كانت تُمارس في الكرنفالات الشعبية.

تزامن هذا الاكتشاف الأدبي والشعري مع اكتشاف آخر موضوعي: لاحظ نيكانور بارّا مبكّراً مظاهر الانحلال خلال تلك المرحلة في تشيلي، وهيمنة السياسات الخاطئة، وهشاشة القناعات التي ترسخت على مدى عقود. لهذا، قرّر أن يكتب شعراً مباشراً، يشبه حواراً مع رجل الشارع، حواراً بين مَن يتكلم ومَن ينصت، كما في الشعر الشعبي. وهو شعر يظلّ حيّاً في كلّ زمان ومكان لأنه شعر موجّه للناس أجمعين. وقد كان بارّا شديد اليقظة في التقاط كل التعابير  والجمل المحكية الّتي يمكن أن تنطوي على غنى في الأصوات، وشرع من خلالها في تفكيك عالم برمّته لبناء عالم جديد، تؤثّثه لغة الحياة اليومية مقابل البلاغة المتخشّبة والهرمسية البائدة.  ومعه لم يعد للأسلوب المتكلّف أو الاستعارة مكان، لأن اللغة صارت بحدّ ذاتها استعارة. وهو في اقتراحه هذا استنفذ كل أصناف الكتابة الشعبية بلا استثناء.  بل إنه طالب في إحدى القصائد بأن تُمنح له جائزة “نوبل للقراءة”، بدل “جائزة نوبل” التي ظلّ سنوات طويلة من مرشّحيها الخالدين، لأنه كان يعتبر نفسه “قارئا مثالياً” نهماً بالدرجة الأولى، يقرأ حتّى الإعلانات المضيئة في الشوارع، مثلما يقرأ كتابات جدران المراحيض أو توقّعات لعبة القمار.

ضد “اللغة المؤدّبة”

ما هو الشعر المضادّ حسب نيكانور بارا؟ إنّه مقابل صورة الشاعر الذي لطالما اعتُبر امتداداً ل”الإله”، يقترح نزع القداسة تماماً عن الشعراء.  وفي مواجهة الطابع العاطفي الغالب، يقترح أن تكون السّمة المميّزة للشاعر هي فقدان أيّ صفة متعالية. وفي مقابل “اللغة المؤدّبة”، يقترح استعمال لغة المحادثة اليومية، ولغة الشوارع الخشنة وحتى التعابير السوقية والجنسية الصادمة. وعكس العمق والشمولية والجدية، يقترح التجزيء والسّطحية والدعابة.  وبهذا المعنى، حسب الناقد لويس إنييغو مادريغال، ف”الشعر المضادّ” فتح أمام الشعراء ” فضاء من الحرية على أنقاض البناء الذي انهار تحت الضربات. وقد استوعب الشعر التشيلي هذا التحوّل وتبنّاه. وهكذا، نجد عدداً كبيراً من شعراء النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن وقفوا على الحدود الممكنة ومظاهر القصور في شعر الجيل السابق، أسهموا في إغناء الشعر الإسباني المعاصر”.

كما يمكن تفسير الشعر المضادّ عند بارّا، بأنّه توغّل في لغة عالم سفلي راكد بقدر ما هو مُزهر. لغةٌ شعبية تتضمّن حتى النكات والسخرية، سواء في مضمونها المباشر أو في مغزاها المجازي. ولهذا تراه يحذّر في صدر أحد كتبه: “المؤلفُ غير مسؤول عن الإزعاجات التي يمكن أن تسبّبها كتاباته للقارئ”. إنّه شاعر مجدّد، متمرّد، مفاجئ. مزيج من الشاعر المحبوب والشاعر الملعون. “نصف ملاك ونصف شيطان”. لكنّه يرى أنّ هنالك سوابق للشعر المضاد نجدها في كوميديات أرستوفانيس وانتقاده للمجتمع الأثيني، وفي الإسقاطات الفرويدية النفسية، وفي تحوّلات شارلي شابلن المفاجئة، وفي أسلوب كافكا في الوصف. ومع ذلك فإنه يقدم تعريفاً أكثر إيجازاً: «القصيدة المضادّة ليست سوى القصيدة التقليدية معزّزة بالنسغ السوريالي، سوريالية كرويلية أو كما تشاؤون تسميتها”. أو يعرّفه شعراً في إحدى قصاءده: “ما هو الشعر المضاد: أهو عاصفة في فنجان شاي؟/ لطخة ثلج على صخرة؟/  قصعة مملوءة بفضلات بشرية/ مثلما يظنّه الأب سالفاتييرا؟/ أهو مرآة تقول الحقيقة؟/ أم صفعة على وجه رئيس جمعية الكتّاب؟/ (فليحفظه الرب في ملكوته المقدس)/ أهو تحذير للشعراء الشباب؟/ ضع إشارة  X /  على التعريف الذي تراه صحيحاً “.

نون باء/ باء نون

ليس من السّهل أن تكون شاعراً تشيلياً وأن تكتب الشعر بعد هؤلاء العظماء الثلاثة: غابرييلا ميسترال، بيثينتي هويدبرو وبابلو نيرودا. اثنان منهما حائزان على جائزة نوبل للآداب: ميسترال ونيرودا. لكن نيكانور بارّا تحدّى الجميع واختار الطريق الصعب لحفر اسمه الخاصّ ونجح في العثور على صوته المتفرّد أمام هؤلاء الكبار. وطبعاً، لقد تعلم بارّا منهم الكثير، فقد أخذ من ميسترال الكلمة العارية اليائسة، والإخلاص للحياة، والحس الدرامي بالوجود، والتجذر في الشعر الإسباني. لكن العلاقة الأكثر تعقيداً كانت هي علاقته مع نيرودا، الذي يكبره بعشرة أعوام، حيث كان يقف على النقيض من تجربة هذا الشاعر الكبير، ويعتبر أنه جلب للقصيدة التشيلية النشيد والتراتيل، وليس الحياة. وبالنسبة إليه، فإن نيرودا صار كلاسيكياً بحلول الخمسينيات، رغم رنّة شعره الكوينية، وتفاؤله البنّاء، وصقله المستمر لمفرداته، بينما ظلّ بارّا يؤكد بثبات أنه نصير حازم للأرض الصلبة، يغرس جذوره في الوجود الإشكالي، متخلّياً عن كل يقين مسبق، ونازعاً الوهم عن النشوة، وغامساً ريشته في أقوال ومأثورات مواطنيه.  ولهذا وصف أحد النقاد هذه العلاقة الصدامية والملتبسة بين بارّا ونيرودا وصفاً طريفاً من خلال لعبة المرآة:  إذا وضعنا الحرفين الأولين لأحد هذين الشاعرين أمام المرآة سيظهر اسم الشاعر الثاني: نون باء (نيكينور بارا) تنعكس فتصير باء نون (بابلو نيرودا).

يقول بارّا في إحدى القصائد: “يجب تغطية كلّ شيء بالبنفسج/ تواضع/ مساواة/ إخاء/ يجب ملء العالم بالبنفسج… على سبيل التّغيير”. وكم كان محقّاً في وصيته هذه ، خصوصاً بعد أن ترجّل أخيراً كما يليق بشاعر “راقص على حافة الهاوية”، شاعر العبث والسخرية المستفزة، أو “الشاعر المضاد” الّذي نزع القداسة من الشعر، منحازاً إلى كتابة أقرب إلى اللغة المحكية، هو الّذي كان يردّد دائماً :”لا أؤمن بالكلمة وإنّما بالفعل، ولا تحكموا على ما أقول وإنّما احكموا على ما لا أقول”. رحل إذاً آخر شعراء تشيلي الكبار، نيكونار بارّا، وعزاؤنا ما ترك لنا من أعماله المتمرّدة والمتجدّدة، مثل: “رقصة الكويكا الطويلة”، “أشعار الصالون”، “قميص المجانين”، “أعمال فنية”، “خطب ومواعظ مسيح إلكي”، “خطب ومواعظ مسيح إلكي الجديدة”، “أغنيات روسية”، “طرائف بارا لتضليل الشرطة”، “قصائد غير منشورة” “أغاني بدون عنوان”، “قصائد وقصائد مُضادة”، “العقبة الكأداء”، “قميص القوة”، “أوراق بارا”…وغيرها.

ضفة ثالثة

الستارة السوداء التي تفصلنا عن الموتى/ نيكانور بارا

ترجمة: أحمد يماني

للشعر التشيلي موقع خاص داخل اللغة الإسبانية وخارجها، تم تكريمه بجائزتي نوبل للآداب: جابرييلا ميسترال عام 1945 وبابلو نيرودا عام 1972. هذا بالإضافة إلى أسماء أخرى كبيرة ك “بيثنتي ويدوبرو” أحد كبار مؤسسي الحداثة الشعرية في أمريكا اللاتينية و”بابلو دي روكا” و”جونثالو روخاس” الحاصل على جائزة ثيربانتس، أرفع جائزة للآداب في الإسبانية، والشاعر والروائي روبرتو بولانيو والشاعر “نيكانور بارا” المولود عام 1914  وصاحب مشروع الشعر المضاد. أسس نيكانور بارا بقصيدتة المضادة تيارا سرعان ما انتشر بطول أمريكا اللاتينية. القصيدة المضادة قصيدة مخالفة تنحو ضد الشعر بالمعنى السائد. هنا تكف الأنا البطولية عن الاشتغال، كما في حالة نيرودا على سبيل المثال، وتحل محلها ذات حديثة، ساخرة ومتهكمة على وجه الخصوص، قصيدة تتأمل وتستقصي وتتقلب بين أشكال شعرية وغير شعرية عدة مستفيدة من المسرح والسينما والبوب أرت، تتوسل لغة أقرب إلى لغة المعيش تجاورها مقولات فلسفية وصياغات سوريالية مخففة ومفردات قادمة من شتى الحقول العلمية والصناعية والتجارية والدينية والسياسية متضافرة جميعها في نوع من الكوميديا السوداء، مع محافظة على طاقة شعرية لا تكف للحظة عن استنطاق اللغة والخروج بها إلى قصيدة تشتغل على كائن يومي في تخبطاته المقيمة. تجدر الإشارة هنا إلى المختارات الوافية التي أعدها وترجمها أحمد حسان للشاعر نيكانور بارا ونشرت في مجلة “الكتابة الأخرى” عام 1992، وأعيد نشرها في كتاب عن مطبوعات المجلة نفسها عام 2001.

 

هنا ثلاث قصائد للشاعر لم تترجم من قبل إلى العربية.

 

الأفعى

 

خلال أعوام طويلة كان محكوما على بعشق امرأة تافهة

مضحيا من أجلها، ومعانيا من إذلالات وسخربات لا تحصى،

كنت أعمل ليل نهار كي أطعمها وأكسوها،

نفذت بعض الجرائم وارتكبت بعض الأخطاء،

وعلى ضوء القمر قمت ببعض السرقات الصغيرة،

وتزييفات لوثائق مثيرة للشبهات،

تحت طائلة الوقوع في قلة الحيلة أمام عينيها الخلابتين.

في ساعات الرضا اعتدنا التوافد على الحدائق العامة

والتقاط صور معا ونحن نقود زورقا،

أو نذهب إلى مقهى راقص

حيث نسلم أنفسنا لرقص لا يكبح

كان يمتد حتى الساعات الأولى من الصباح.

عشت أعواما طويلة سجين فتنة تلك المرأة

والتي اعتادت التواجد في مكتبي عارية تماما

منفذة تلويات من الصعب تخيلها

بنية أن تلحق روحي المسكينة بمدارها

وخاصة، أن تبتزني حتى آخر سنتافو.

منعتني بصرامة من إقامة علاقة مع أهلي.

انفض عني أصدقائي بفضل أهجيات مشهرة بي

كانت الأفعي تنشرها في جريدة من ممتلكاتها.

متقدة حتى الهذيان ما كانت تعطيني لحظة هدنة

مطالبة إياي بشكل قاطع أن أقبل فمها

وأن أجيب دون إبطاء عن أسئلتها البلهاء

الكثير منها عن الخلود والحياة الأخرى

موضوعات كانت تخلق في حالة يرثي لها

دويا في الأذن، غثيانات متقطعة، إغماءات مبتسرة

كانت تعرف كيفية استغلالها بتلك الروح العملية التي تميزها

مرتدية ملابسها على عجل دون إضاعة وقت

وتهجر مكتبي تاركة إياي مبهوتا.

 

استمر هذا الوضع لأكثر من خمس سنوات.

من حين لآخر كنا نسكن معا غرفة مستديرة

ندفع إيجارها بالنصف في حي راق قرب المقابر.

(في بعض الليالي كان علينا أن نقطع شهر عسلنا من أجل

مواجهة الفئران التي كانت تتسلل من النافذة).

 

كانت الأفعى تحمل معها دفتر حسابات دقيق

تدون فيه حتى أقل سنتافو اقترضته منها؛

ولم تسمح لي باستعمال فرشاة أسنانها التي أهديتها أنا نفسي لها

وكانت تتهمني بأنني دمرت شبابها

ومطلقة من عينيها شررا تستدعيني للمثول أمام القاضي

وأن أدفع لها في مهلة معقولة جزءا من الدين

فهي تحتاج لهذه النقود من إجل إتمام دراستها

حينئذ كان على الخروج إلى الشارع والعيش من إحسان الناس

النوم على المصاطب في الساحات،

حيث كان البوليس يجدني مرات كثيرة محتضرا

بين الأوراق الأولى للخريف.

لحسن الحظ لم يمتد ذلك الوضع كثيرا،

لأنه في مرة محددة كنت فيها في إحدى الساحات كذلك

متخذا وضعا أمام إحدى الكاميرات الفوتوغرافية

غشيت عيني يدان أنثويتان لذيذتان

بينما صوت محبب إلى سألني من أكون.

أنت حبيبتي، أجبت بكل صدق.

يا ملاكي! قالت هي بشكل عصبي،

اسمح لي أن أجلس على ركبتيك مرة أخرى.

حينئد استطعت التنبه إلى أنها جاءت الآن

مزودة بمئزر قصير.

كان لقاء لا ينسى وإن كان مليئا بعلامات متنافرة:

لقد اشتريت قطعة أرض، ليست بعيدة من المذبح، صرخت،

أفكر أن أبني هناك شيئا كالهرم

حيث يمكننا أن نقضي فيه آخر أيام حياتنا،

لقد أنهيت دراستي، وأصبحت محامية،

وفي متناول يدي مال كثير؛

لنقم بعمل تجارة مثمرة، نحن الاثنان، يا حبيبي، أضافت،

بعيدا عن العالم سنشيد عشنا.

تكفي حماقات، رددت، إن خططك تثير ريبتي.

فكري أنه بين لحظة وأخرى يا امرأتي الحقيقية

يمكن أن نسقط في البؤس الأكثر رعبا.

لقد كبر أبنائي بالفعل، والزمن مر،

وأنا أشعر بإنهاك عميق، دعيني أستريح للحظة،

أحضري لي بعض الماء، يا امرأة،

وتحصلي لي على قليل من الطعام،

فأنا ميت من الجوع.

لا يمكنني العمل ثانية من أحلك،

كل شئ انتهي بيننا.

 

العجوز الصعب

 

كان هذا عجوزا صعبا

فاجأوه مرة يغسل جهاز راديو بصابون ومقشة صغيرة

كان ينكت طماطم في الموائد

اخترع إناء لصنع الزبدة من الفراء

كان يصحو مبكرا ويقول

لدي ملل. ماذا يمكنني أن أفعل.

 

 

 

الشرك

 

في ذلك الوقت كنت أتجنب المناظر مفرطة الغموض.

كمريضي المعدة الذين يتحاشون الأكلات الدسمة،

كنت أفضل البقاء في البيت جاليا بعض المسائل

المتعلقة بتكاثر العناكب،

مع هذا الهدف كنت أحبس نفسي في الحديقة

ولا أظهر أمام الناس إلا في ساعات متأخرة من الليل؛

أو كذلك أمضي بسلوك متحد لابسا قميصا على اللحم

اعتدت إطلاق نظرات نزقة ناحية القمر

محاولا تجنب نلك الأفكار السوداء

التي تلتصق بالروح الإنسانية كالكلس الحجري.

في العزلة الشعرية كنت أتحكم في نفسي بشكل مطلق

ذاهبا من هنا إلى هناك بوعي كامل بأفعالي

أو كنت أتمدد على ألواح قبو الخمور

لأحلم، لأخترع ميكانيزمات أو أحل مشكلات طارئة.

تلك كانت اللحظات التي طبقت فيها منهجي الحلمي الشهير

الذي يقوم على تعنيف الواحد نفسه والحلم بما يشاء

وتحريك مشاهد تم تحضيرها مسبقا بمشاركة الما وراء.

بهذه الطريقة تمكنت من التحصل على معلومات قيمة

تتعلق بسلسلة من الشكوك التي تلم بالكائن:

سفريات للخارج، اضطرابات إيروتيكية، عقد دينية.

لكن الاحترازات كلها كانت قليلة

إذ أنه لأسباب عصية على التحديد

بدأت أنزلق بشكل آلي عبر نوع من السطح المائل

كانت روحي تفقد سموها كبالونة تنفقأ

وكفت غريزة البقاء عن العمل

والغريزة الخاصة بتحوطاتي الأكثر جوهرية

كانت تسقط لا محالة في شرك التليفون

كهاوية تجذب كل ما يحوطها

وبيدين مرتعشتين كنت أدير هذا الرقم الملعون

والذي اعتاد للآن أن يتكرر آليا في منامي.

كانت تلك لحظات من الشك والبؤس

كنت فيها، كهيكل عظمي واقف على قدمين أمام مائدة الحجيم تلك

المغطاة بكريتون أصفر، أنتظر ردا من الطرف الآخر من العالم.

النصف الآخر من كينونتي سجين في حفرة.

كان الضجيج المتقطع للتليفون يولد في وقعا كذلك الذي تخلفة

الماكينات الثقابة لأطباء الأسنان،

يرصع روحي كإبرات مرشوقة من عل

حتى، عندما حان الوقت المعلوم، بدأت تنضح وتتلجلج في حمى.

كان لساني الذي يشبه قطعة بيف استيك من لحم البقر

يتوسط كينونتي ومحدثتي

كتلك الستائر السوداء التي تفصلنا عن الموتى.

لم أكن أرغب في الاستمرار في تلك المحادثات مفرطة الحميمية

والتي، رغم ذلك، كنت أنا نفسي أستحثها بشكل غشيم

بصوتي اللاهث المشحون بالكهرباء.

كان إحساسي بأنني أنادى باسمي العمادي

بتلك النبرة الأليفة القسرية

يخلق في توعكا ممتدا،

اضطرابات موضعية من الغم كنت أحاول تلافيها

عبر منهج سريع من الأسئلة والأجوبة

خالقا في هذا الغم حالة من الهيجان الإيروتيكي الزائف

كان في النهاية يأتي ليرتد على أنا نفسي

في شكل انتصابات بازغة وإحساس بالفشل.

حينئذ كنت أضحك قسرا وساقطا بعد ذلك في حالة من الوهن العقلي.

تلك المكالمات العبثية كانت تمتد لعدة ساعات

حتى ظهرت صاحبة البنسيون من وراء الساتر وقطعت بشكل فظ

تلك الغزلية الرعوية الغبية،

تلك التلويات التي لملتمس أمرا من السماء

وتلك الكوارث التي تصيب روحي بكآبة بالغة

والتي لم تنته تماما بإغلاق الهاتف

حيث أننا، إجمالا، اتفقنا على أن نلتقي في اليوم التالي

أمام نافورة من الصودا

أو على باب إحدى الكنائس التي لا أرغب في تذكر اسمها.

 

 

ترجمة عن الاسبانية

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى