رستم محمودصفحات سورية

“الإسلام الكردي” إذ يستيقظ/ رستم محمود

بعيد هجوم تنظيم «داعش» الإرهابي على قرية تل معروف الكردية وهدمه المقامات الدينية لشيوخ آل الخزنوي، ظهر في النقاش البيني الكردي السوري العام حديث عن «الإسلام الكردي»، المتباين روحياً واجتماعياً وسياسياً عن نظرائه في الإسلام. مركز هذا الحديث العام كان مزجاً من مدخلين متراكبين، ثقافي-اجتماعي يتمحور حول إبراز العمق الروحي-الصوفي واللاعنفي و «العلماني» لـ «الإسلام الكردي»، وسياسي ينتبه الى ضرورة عدم خسارة القاعدة الاجتماعية الكردية المحافظة لمصلحة التنظيمات السياسية غير الكردية، ولدحض ما يروج عن الأحزاب الكردية بأنها «علمانية» و «شيوعية»، في شكل يوحي وكأنها مناهضة للدين والمتدينين.

منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، حين صعدت نزعات دينية-إسلامية، إيديولوجية وسياسية، في مختلف مجتمعات المنطقة، لجملة من الأسباب الموضوعية، كنكوص التنمية وعنف الأنظمة المستبدة وتأثيرات حرب افغانستان وصراعات الحرب الباردة، لم يطل جموح الموجة الدينية القاعدة المجتمعية الكردية، ولا النخبة السياسية الكردية، وذلك لطبيعة المظلومية القومية الكردية في دول المنطقة، التي أبقت التيار القومي بحيويته الإيديولوجية والسياسية، والممتزج بالماركسية اليسارية بأشكال مختلفة. والأمر الآخر أن الأنظمة التي كانت تقمع الطموحات الكردية وتحجر عليها، كانت قد حملت ملامح نزعات إسلام سياسي واضحة للغاية، فجافى الأكراد الإسلام السياسي لصلته بتلك الأنظمة.

آنذاك كانت إيران في سنوات ثورتها الإسلامية الأولى. وفي تركيا، كان مشروع تورغوت أوزال المحافظ والمتحالف مع التيارات الصوفية، يشكل النزعة الإسلامية الأولى في تاريخ الدولة التركية، والتي هيأت القاعدة الشعبية لصعود تيار نجم الدين أربكان ومن ثم حزب العدالة والتنمية. نظام صدام حسين كان قد بدأ يطرح وجهه الإسلاموي، خصوصاً بعد انكشافه التام عقب هزيمته في حرب الخليج الأولى، حتى أنه قاد حملة إبادته للأكراد العراقيين تحت تسمية ويافطة سورة قرآنية، هي «الأنفال». استمر ذلك التناقض السياسي المجتمعي الموضوعي بين الأكراد وهذه الأنظمة «الإسلاموية»، بأشكال مختلفة قرابة أربعة عقود تقريباً.

وثمة ملامح في مختلف البيئات الكردية، تسير عكس ذلك السياق التقليدي لتموضع الأكراد الذي نما بالتقابل مع مواقع الإسلام السياسي. الأهم في ذلك شهدته كردستان العراق، حيث سيؤدي التفكك الموضوعي المتقادم لـ «التحالف» الشيعي الكردي إلى استنهاض «إسلام» كردي مضاد لـ «الإسلام» الشيعي الذي يمسك بسلطة الدولة المركزية، وبينهما ينشب النزاع خصوصاً في منطقة كركوك المتنازع عليها، حيث تتمركز الطبقة الاجتماعية الكردية الأكثر محافظة. هذا الميل الإسلامي-السنّي الكردي في العراق، المناهض لنظيره الشيعي، أخذ حيويته من تعمق الصراع المذهبي في المنطقة، وشملت مسيرته أكراد إيران أنفسهم، بعدما اكتشفت الأحزاب القومية الكردية في إيران أن نزعتها اليسارية-القومية لا تستطيع مجاراة طاقة النظام على تعبئة الشارع الكردي الإيراني بقوة أجهزة الدولة وخطابها الإسلامي العمومي.

على أن محور بناء «إسلام كردي» سياسي يلقى أصعب تحدياته في سورية وتركيا، حيث يتأسس بالمنافسة مع «الإسلام السنّي» نفسه وبهويته. فقد تنبّهت نخبة حزب العمال الكردستاني السياسية في تركيا، منذ عقد، إلى أن أهم مدخل لسيطرة حزب العدالة على القاعدة الشعبية الكردية في جنوب شرق البلاد (ثمة 79 نائباً برلمانياً كردياً من حزب العدالة والتنمية، مقابل 31 نائباً كردياً من حزب السلام والديموقراطية – القومي الكردي)، يعود الى قدرة حزب العدالة والتنمية على استغلال الخطاب والمشاعر الدينية. لقد سعى الحزب القومي الكردي لمناهضة هيمنة حزب العدالة على المناطق الكردية، من خلال جذب شخصيات كردية محافظة ومتدينة، وبالذات منهم زعماء الطرق الصوفية المنتشرة في المناطق الكردية، حيث وصل الأمر إلى إقامة الصلوات خارج الجوامع، لأن الدولة لا تجيز الخُطب باللغة الكردية. ولتفنيد الدعاية التي تلاحق الحزب القومي الكردي الموسوم بأنه «ماركسي»، راح كثيرون من زعمائه يشاركون في كل المناسبات الدينية.

على أن أكثر ما يثير الدهشة، هو التقارب المتنامي بين حزب السلام والديموقراطية الكردي وبين تنظيم «حزب الله» التركي الذي نفّذ حملة الاغتيالات ضد المتمردين الأكراد في بداية التسعينات، إلى أن قمعته أجهزة الاستخبارات التركية أواسط ذلك العقد، وهي الأجهزة التي سبق أن دعمته في حربه ضد المتمردين الأكراد. والتقارب هذا، نتج أساساً من «التفهم الكردي» الذي بدأ «حزب الله» يبديه مع هيمنة حزب العدالة والتنمية، حيث بات يتبنى شعار «الحكم الذاتي» كحل للمسألة الكردية في تركيا.

وقصارى القول إن الأكراد شكلوا، في هذه الدول الأربع، احتياطاً موضوعياً لأشكال من العلمنة والمدنية والحيوية السياسية، لأن المجتمع الكردي لم يدخل «الكسل السياسي» الذي دخلته كتل كبيرة من مجتمعات هذه الدول، وكان للأسلمة السياسية فيها دور بارز في ذلك «الكسل». واليوم ثمة ما ينكسر في ذلك، لأن النخبة السياسية الكردية باتت تكتشف قدرتها على استغلال الحيوية الدينية الكردية في التصارع المذهبي، وكذلك أن بناء «إسلام كردي محلي» هو المحرك السياسي الوحيد للحفاظ على الطبقة الكردية المحافظة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى