صفحات الرأي

هل خرجت الإمبريالية من منطقتنا؟/ بدر الإبراهيم

 

 

كتب روبرت كابلان مقالاً في “فورين بوليسي”، يشير إلى ضرورة إعادة الإمبريالية إلى المنطقة العربية، نظراً لما تشهده هذه المنطقة من انهيار الدول، وغياب الاستقرار. يؤكد كابلان أن الانهيارات التي تشهدها المنطقة توضّح غياب الحل لانهيار الإمبراطورية العثمانية، وأن هذا الانهيار أطلق العنان لصراعاتٍ إثنية وطائفية، على الأرض والحدود. كذلك، إن الانفجار الداخلي للعراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، وانفجار سورية بعد الربيع العربي، أنهيا حدود سايكس-بيكو التي رسمتها الإمبريالية البريطانية والفرنسية، إضافة إلى أن سياسة عدم التدخل في المنطقة التي مارستها إدارة باراك أوباما عززت حالة الفوضى، حيث غاب بحسب كابلان، دور أميركا في تنظيم استقرار المنطقة.

لا يختلف كلام كابلان كثيراً عن التنظير للاستعمار عند أنصاره في الغرب، بوصفه أمراً جيداً من ناحيتين: الأولى، حفظ الاستقرار والنظام في العالم، الذي يخضع لهيمنة القوة الإمبريالية، والثانية القيام بمهمة انتشال المجتمعات الخاضعة للهيمنة من تخلفها، عبر المساهمة في بناء مؤسساتها، ونشر قيم الديمقراطية فيها. في الحالتين، لا توجد إشارة عند هؤلاء لكل كوارث الاستعمار في العالم الثالث، وما قامت به الإمبريالية الأوروبية، ثم الأميركية، من إفقار لشعوب العالم الثالث، ومساهمة في تكريس تخلفها الصناعي والاقتصادي، عبر طرق مختلفة، تغيرت عبرها وسائل الاستعمار، من الاحتلال المباشر إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية، ولم يتغير جوهر الإمبريالية، من حيث نزوعها إلى التوسع السياسي والاقتصادي، واستخدام الدول المهيمن عليها أسواقاً خاصة للإمبراطورية المُهَيمِنَة.

“ينادي كابلان بعودة الإمبريالية إلى العالم العربي، فقط لأن إدارة أوباما تخففت من أعباء الدخول في كل تفاصيل المنطقة” نلحظ في مقال كابلان، الذي يدعو إلى عودة الإمبريالية إلى منطقتنا، أنه يتجاوز الدور السلبي الذي لعبته الإمبريالية في إشاعة الفوضى في المنطقة، وهو عندما يتحدث عن أزمة الدولة والهوية في الوطن العربي، وعن هشاشة بعض الدول، يحيل ذلك إلى مدى تجذّر هذه الدول تاريخياً، لكنه يتحدث باقتضاب عن دور الإمبريالية الأوروبية في تشكيل حدود هذه الدول، وتركيبها بهذا الشكل الذي لم يتمكن من استيعاب مكوناتها الاجتماعية، وأدى، مع تراكم أمور كثيرة، إلى الانفجار الذي نشهده. ساهمت الإمبريالية في بناء منظومة غير قابلة للاستقرار، وقسّمت المجتمعات العربية بشكل اعتباطي، فكانت النتيجة أن التناقضات الكامنة التي أسهم الغرب في تغذيتها انفجرت بالشكل الذي نراه اليوم، ويزيد الاشتعال وجود تدخلات غربية مباشرة في أكثر من بقعة عربية.

أيضاً لا يلحظ أنصار الإمبريالية في الغرب أن الإمبريالية تحالفت مع الديكتاتوريات غالباً، وعندما قررت الإمبريالية الأميركية نشر الديمقراطية في العراق، قسمته طائفياً، وأشعلت فيه الفوضى، ولا يمكن تحليل وضع العراق الحالي، والاحتراب الأهلي فيه، من دون العودة إلى نظام بول بريمر، وكيف غذّى الاحتلال الأميركي تقسيم المجتمع العراقي، وأبرز التناقضات الهوياتية بين مكوناته. النموذج العراقي (الأقرب زمنياً والأوضح من حيث دور الإمبريالية الأميركية فيه) ينفي مساهمة الإمبريالية في حفظ الاستقرار، وفي محاربة “التخلف” في المجتمعات المهيمن عليها، بل إن هذا النموذج يثبت المساهمة المباشرة للإمبريالية، في نشر الفوضى، وإعاقة كل تقدم باتجاه ديمقراطية حقيقية، أو اقتصاد وطني مستقل، يقوم على الإنتاج.

ينادي كابلان بعودة الإمبريالية إلى العالم العربي، فقط لأن إدارة أوباما تخففت من أعباء الدخول في كل تفاصيل المنطقة، وهو أمرٌ لا يعني التعفف عن التدخل، أو توقفه، وإنما هو معالجة أميركية للأعباء الكبيرة، والكلفة العالية، المادية والبشرية، للتدخلات الأميركية في المنطقة، وخصوصاً بعد التخبط في العراق. اعتمد أوباما سياسة تقليل الكلفة، والحفاظ على الخطوط العريضة في شبكة المصالح الأميركية في المنطقة، من دون الدخول في تفاصيل كثيرة، لمعالجة أزمة الإمبراطورية الأميركية التي اكتشفت حدود القوة في العراق وأفغانستان. لكن، لهذه الإستراتيجية رمزها التدخلي، وهو الطائرة بدون طيار التي تقوم بالتدخل، وتقتل وتدمر، بأقل كلفة ممكنة، وقد قصفت في اليمن على مدار السنوات الماضية، من دون أن نغفل التحالف الدولي الذي تقوده أميركا ضد تنظيم داعش.

لم تخرج الإمبريالية الأميركية لتعود، فهي موجودة بقواعدها العسكرية، وهيمنتها الاقتصادية، وبوجود إسرائيل أيضاً، ويعود انكفاؤها الجزئي إلى تراكم الفشل عندها، وهي ليست غائبة عن مشهد الفوضى العربي، إذ إنها مساهم أساسي فيه، وإن كانت قد تركت فراغاً ما، يملأه الفاعلون الإقليميون، فهي لا تخرج من المشهد بالكامل، وتحاول إدارته بما يحفظ مصالحها، وتخوض صراعاً من أجل البقاء قوة مهيمنة، أمام عناد روسيا، وصعود الصين، ولا تقبل النخبة الحاكمة في واشنطن، بخسارة الهيمنة على النظام العالمي، لصالح هذه الدول المنافسة.

على الرغم من أن الهيمنة الأميركية صانع أساسي للإشكالات الكبيرة، وحالة الفوضى التي نمر بها، إلا أن أقلاماً عربية تصر على التهوين من الدور الأميركي في صراعات المنطقة، مع أنه يلعب دوراً واضحاً في تشكيل الصراع الإقليمي، وتغذيته، على مدار العقود الماضية، فيما تبدو أقلامٌ أخرى منزعجة من الانكفاء الأميركي الجزئي، وبدلاً من استثمار التراجع الأميركي، لبناء مشروع عربي استقلالي، والتنظير له، يلجأ كثيرون إلى مطالبة الأميركيين بمزيد من التدخلات، لينصروهم على خصومهم، داخل العالم العربي، على طريقة كابلان، حيث يرى هؤلاء أن أميركا لا تتدخل عندنا بما يكفي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى