صفحات الثقافة

هاجسون بالمصير


عقل العويط

يريد الناس العاديون والعارفون حلولاً سحرية وفورية للأحوال المتأزمة في العالم العربي. ولا يزال كثرٌ منهم يتوجسون مما ستؤول إليه الأمور، ويستشهدون من جهة بالمصير الغامض لثورتي تونس ومصر، ومن جهة ثانية بالطرق المسدودة في ليبيا واليمن والبحرين، ومن ثالثة بالانتفاضة الشعبية المستمرة في سوريا وبالدم الغزير الذي تريقه آلة القمع بدون هوادة هناك.

من حق الناس أن يقلقوا، وأن يضعوا أيديهم على قلوبهم. من حقهم أن يقيسوا بعقولهم الموضوعية وعواطفهم المتأثرة، الإيجابيات والسلبيات المترتبة على الثورات القائمة. أنا شخصياً يلتهمني التهيّب، و”أعدّ للعشرة” قبل أن أكتب كلمة واحدة في المسألة، لكن من واجبي النقدي أن ألفت القرّاء الى خطورة الاحتماء بـ”الطمأنينة” السلبية، و”استطابة” القبول بالواقع الاستبدادي المستمر منذ خمسين عاماً، أو دفن الرؤوس في الرمال، بذريعة عدم معرفة مآل الثورات وماذا يخبّئ لنا المستقبل.

لقد حصل زلزال سياسي كبير منذ أواخر العام الفائت، لا يزال في عزّ ثورته، وتتفاعل تردداته من مشارق بلاد العرب الى مغاربها. بناء عليه، لم يعد في الإمكان موضوعياً تجاهل مفاعيل هذا الحدث التاريخي، الذي سيواصل حفر مجراه البنيوي في الزمان والمكان العربيين، الى أن ينجز أشكاله ومؤسساته في الدول العربية المعنية.

فليعرف الهاجسون بالمصير، وأنا منهم، أن الركون الى حال سياسية مستتبة، لا يمكن أن يتحقق قريباً. فالمنطقة العربية في عين الزلزال، وستبقى، إلى أن تستكمل تشكيل عناصرها الجيوسياسية في المستقبل الدؤوب الذي يُصنَع، يومياً وعلى مدى طويل، بالخبرات والتراكمات، ولن يكون ماركة جاهزة، أو وصفة متوافرة لدى ثائر أو مفكر. أقول بفجاجة، لنفسي ولكل المهجوسين بالمصير: ليس هناك كبسة زرّ تستطيع أن تخترع لنا الدولة العربية الديموقراطية، أو تصنع المستقبل السياسي الآمن. نحن، جميعنا، نصنع هذا النوع من المستقبل.

قبل أيام أرسل إليَّ مواطن مثقف، ومناضل، كتاباً “أدبياً” يعبّر فيه عن خوفه العميق من إطالة عمر هذا الزلزال الكياني. لمعرفته المفرطة بهول اللحظة التاريخية، وباستحالة الانتقال الهادئ والسريع والآمن الى الديموقراطية في ظل الديكتاتوريات الهمجية، “فضّل” هذا المواطن، على سبيل التقريظ الأدبي من جهة، والتعبير عن القلق من جهة ثانية، أن “يفشّ خلقه”، ظاهرياً، بـ”أهله” من المثقفين والمفكرين السياسيين التنويريين العرب، السابقين والحاليين، لأنهم “سمّموا” عقله بأفكارهم. سأنشر مقطعاً من هذا الكتاب، تاركاً للقرّاء أن يتبصروا في المسألة العربية الراهنة.

مما كتب: “إذا رأيتم هؤلاء المفكرين والكتّاب، فاجلبوهم على الفور، من أمكنة إقامتهم. قيِّدوهم من أرجلهم وأيديهم والأعناق، لئلا يفلتوا. وإذا كانت مجهولةً أمكنةُ إقامتهم هذه، فعلِّقوا صورهم في ساحات العواصم والمدن، وعلِّقوها أيضاً في الشوارع العامة، بل في الأزقة والدساكر والقرى، بل حتى في المقابر، واكتبوا نبذاً عن سيرهم وحيواتهم وأعمالهم، مع إعلان يغري المواطنين وعابري السبل بجوائز وفيرة في حال كشف النقاب عن مخابئهم. فهؤلاء مجرمون علنيون. خطيرون. جيئوا بهم على الفور، حال القبض عليهم، وباشروا محاكماتهم العلنية. لكن، ربما لن تكون ثمة حاجة الى محاكمات في مثل هذه الأزمنة. لا لزوم لأي عمل ديموقراطي مماثل. وإن شكلياً. اعدموهم على الفور. نيشِنوهم. علِّقوا مشانقهم. جرجِروهم. اسحلوهم. افتحوا رؤوسهم واستأصِلوا كل ما يمتّ الى أفكارهم وكتبهم وآرائهم بصلة. ثم احرقوا جثثهم. لكي لا يبقى أثر منهم. اعدموهم بلا شفقة. إنهم يستحقون ما يستحقون. وليكونوا عبرة لكل الحالمين والموعودين والمثاليين والموهومين والدونكيشوتيين والتنويريين. وإذا خطر لأحد أن يسأل لماذا أريد أن أفعل بهؤلاء الأصحاب هذه الفعلة الشنيعة، وهم أساتذتي وقادة رأيي، فسأقول له لماذا: أريد أن أعرف لماذا غرّر هؤلاء المفكرون والكتّاب بنا؟ لماذا ضحكوا على ذقوننا؟ لماذا سمّموا عقولنا وأرواحنا بالأفكار الرومنطيقية والإصلاحية؟ لماذا نبشوا قبور عقولنا وأرواحنا؟ لماذا حرّكوا مياهنا العربية الآسنة؟ مضت خمسون عاماً ونحن نعيش في ظل الديكتاتوريات، ألم يكن من الأفضل لنا ولأولادنا أن نواصل العيش الميت هكذا؟”.

هذا القلق الوجودي قد يكون مشروعاً، بل هو مشروع. لكن الاستسلام له يقتل جنين الحرية الذي ينتفض في رحم هذه المنطقة العربية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى