صفحات العالم

هلوسة مسيحية


ساطع نور الدين

موقف ماروني أملته اللحظة السورية الصعبة، يتوج مسارا سياسيا منعرجا للطائفة التي لا تزال ومنذ اربعة عقود تحاور دمشق ثم تقاتلها ثم تحالفها أكثر مما كانت تفعل مع بيروت، وها هي اليوم تكتشف انها صارت وحيدة، منعزلة، خائفة اكثر من اي وقت مضى منذ ربيعها الاخير العام ١٩٧٦.

لكنها هذه المرة تستورد خوفا مسيحيا مبالغا فيه من سوريا وتجدد بواسطته خوفها التاريخي من الغلبة الاسلامية وتدفعه الى حدود المس بمحرمات لم يسبق للطائفة ان اقتربت منها، حتى في ذروة الحرب الاهلية والجنون الاسلامي اليساري الفلسطيني في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

ليست مبالغة مارونية مزدوجة، لان الأشهر العشرة الماضية من عمر الثورة السورية لم تشهد حتى الان مآسي على الطريقة اللبنانية، ولم يتعرض المسيحيون بالذات للذبح على الهوية ولا للتهجير. كان حظهم اوفر من بقية الطوائف السورية التي تمارس ذلك السلوك البربري، والتي تعتبر المسيحي شريكا راهنا في حلف الأقليات المفتعل، او حليفا لاحقا في الدولة المدنية والتعددية المقبلة. كان حظهم افضل بما لا يقاس من نصيب أشقائهم العراقيين، وسيبقى، لان طرفي الصراع الداخلي في سوريا بحاجة اليهم الان وفي المستقبل.

الموقف الذي صدر عن الاجتماع الماروني في بكركي يوم الجمعة الماضي، هو اشبه بهجرة معاكسة الى مسقط رأس مار مارون في سوريا، الذي يبدو ان اعادة ترميمه مؤخراً من قبل الطائفة وبعض رموزها لم يكن عبثا او مصادفة. لعل هناك حنينا الى الوطن الام الذي يستدعي تعاطفا استثنائيا مع عذاباته الراهنة!

الخوف الماروني والمسيحي المستورد من سوريا الان مصطنع الى حد بعيد، وهو ينم عن انتهازية سياسية تفوق تلك التي عبرت عنها الطائفة وتياراتها وأحزابها عندما اكتشفت متأخرة خيار المقاومة لإسرائيل وأميركا او خيار الدولة والمؤسسات، من اجل ان تحفظ حصتها في السلطة والإدارة.. من دون نجاح يذكر في العلاقة مع الشريكين المسلمين اللذين لا بد انهما يشعران اليوم بالصدمة لاقتراح حفظ الصوت المسيحي للمسيحي والمسلم للمسلم من دون اي تقاطع او تفاهم او حتى تواطؤ على الناخبين اللبنانيين.

لا يمكن التعاطي مع الاقتراح الماروني، ذي الاصل الارثوذوكسي، وذي الافق المسيحي العام، باعتباره ورقة مساومة على مطلب النسبية وعلى التقسيم المصغر للدوائر الانتخابية، الذي لا يشكل نقطة خلاف جوهرية مع غالبية المسلمين. ثمة اعلان عن الرغبة في الافتراق، او الانعزال، حسب التعبير الأخرق الذي اطلقه اليسار خلال الحرب الاهلية، عن الشريك المسلم الى حد الفيدرالية.. التي تحولت الى عقيدة وطنية والى ممارسة يومية في العراق.

تحويل الخوف، سواء كان صادقا او مفتعلا، الى أيديولوجيا والى خطة عمل سياسية، لا يبشر بان المسيحيين والموارنة قد قرروا البقاء في الوطن، والدفاع عنه، واللقاء مع شريك مسلم، ما زال يفترض انهم حجته ومصدر قوته في مواجهة الاصولية الاسلامية، وما زال يظن ان في رؤوسهم عقلا !

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى