صفحات الثقافةهيفاء بيطار

طيـور نـورس ناصعـة البيـاض

 

هيفاء بيطار

لا يمكنني خداع نفسي، فأنا لم أذهب إلى البحر للسباحة ولا هرباً من الحر الرطب الخانق، بل لأنني آمنتُ بأنه لم يبقَ لي من هروب من حرقة الألم الذي يئن بداخلي طوال الوقت إلا أن أرمي نفسي في البحر… بالتأكيد سيبلسم البحر جروح روحي، سيطفئ جذوة الألم المتوهجة منذ أشهر كجمرة أطمرها بوشاح اللامبالاة.

الشاطئ الأزرق، شاطئ اللاذقية الجميل، لاحت اللافتة وأنا في التاكسي، أرمق الطريق المقطع بحواجز إسمنتية بأسى، اللافتات المعلقة في الفراغ، والملصقة على الجدران مع وجوه مبتسمة تذوب في دموعي التي لا أعرف لِمَ تشاكسني دوماً وتحرجني، زجرتُ نفسي ما بك يا امرأة، ألا يحلو لك البكاء إلا في التاكسي…

تأملت لافتة لفتاة مبتسمة وعبارة: إذا سألتموني ما طائفتي، طائفتي سوريا…

تحف بهذه اللافتة صور شهداء، مهما اختلفت أسماؤهم، فعبارة الشهيد البطل توحدهم، من حسن الحظ أن نظارتي الشمسية سوداء وكبيرة، تلقفت الدمعة الأولى من دموعي وأنا أمسح وجوه الشهداء بنظرة، تفتق سؤال محرج في خيالي، كما لو أنه فقاعة انبثقت من فراغ روحي: كيف سنتعامل مع الموت؟! كيف سأتعامل مع شعب ذاهب إلى الشهادة ؟ شباب بعمر الورود، هم جنود، ومنشقون، وثوار، ومندسون، هم كل شيء ما عدا إنسانا… أنا أيضاً لم أعد إنسانة، لستُ سوى مجرد كائن مصدوم، الموت حولي أحدث في روحي صدمة مروعة، كما لو أن الموت هو القدر المحتوم لأحبائي…

تلقفت دموعي بمناديل ورقية، اعتقد السائق أنني أمسح عرقي، فقال : الحر لا يطاق… قلت له أجل… كان يضع منشفة قذرة على كتفه يمسح بها وجهه متأففاً… تأملت وجهه في المرآة الأمامية للسيارة، يا للبؤس الذي تعكسه ملامحه… وعند ترجلي من التاكسي وجدتني أمام صورة كبيرة للرئيس، كتب تحتها بخط غليظ وباللون الأحمر، إلى سيد الوطن، من نصر إلى نصر…

تحولت تلك العبارة الرشيقة من نصر إلى نصر إلى مطر من الشهداء…

لم أستطع أن أمنع شهقة دهشة وأنا أرى المدى الأزرق المترقرق بأشعة الشمس، والرمل الناعم الذهبي يغويني أن أطمر جسدي به. كنتُ أعرف أنني أقف على شفا الانهيار، لكنني أتظاهر أنني متماسكة…

كنت الصخرة الصابرة التي تمتص وتمتص، عارفة أن لحظة الانفجار قد تكون قريبة جداً… لكنني كنتُ واثقة أنني لن أنهار لسبب وحيد، أنني كنت أحس أن روحي متوحدة مع أرواح المتألمين والمظلومين والشهداء، ومشروع الشهداء…

كنتُ أستمد قوة هائلة في روحي هي قوة حب عنيد، يأخذ زخمه من الإحساس بالعدالة والحق والحرية… كنتُ أؤمن أن الحرية هي قدرنا المحتوم، وليس الموت… وكنتُ أتحول إلى محاربة شرسة للدفاع عن آلاف الشبان الذين يزجون بهم إلى الموت بعد أن يزرعوا في عقولهم إيديولوجيات هدامة…

اقتربت من البحر، نظرتُ إليه بوله، وجدتني أصرخ صراخاً أخرس، لا أصدق، لا أصدق أن هناك بؤر الموت في وطني الحبيب… لا أصدق، بالتأكيد كل الإعلام خاطئ، انظروا إلى البحر والمدى اللامحدود، انظروا إلى العناق الحميم بين البحر والسماء…

الشمس عمودية وحارقة، تصب أشعتها على الأحياء والأموات، على الأبرار والأشرار، ياه ثمة رائحة في الهواء تتحدى رائحة الموت، ثمة رائحة تدوخني، هي مزيج من رائحة اليانسون وزهر العسل، رائحة لا يمكن أن تكون وهماً أو هلوسة، وإلا فكيف فجّرت تلك الرائحة كل هذا التوق في روحي، أغمض عيني وأهمس لنفسي إنها رائحة الهوى… هوى وطن، وهوى إخوتي في وطن. أخذتُ أغبّ الهواء، وأنا أشعر بأنني أصطاد ذرات الهوى من الهواء، رميتُ نفسي في البحر فمازحني قائلاً: دموعك أكثر ملوحة من مائي…

وجدتني أقول له تزداد ملوحة الدموع كلما ازداد الحزن…

مسح جسدي بدفقات من مائه الدافئ، وجدتني أهذي وأقول غير عارفة هل أحدث نفسي أم أحدث البحر: لم آتِ لأسبح بل أتيت لتذوب آلامي في الماء، ولتنطفئ جمرة الألم في روحي.

أغمضتُ عيني وأنا مستلقية على ظهري وشعرتُ بخفة رائعة، ابتسمت وأنا أشعر بأنني قشة، تمنيتُ لو كنتُ قشة، لأنها لا تنزف…

حملتني المياه المالحة الدافئة إلى البعيد، أسلمت نفسي كلياً للأزرق الشافي، وأحسستُ أنني أنسحب شيئاً فشيئاً من عالم فاحش الوحشية والقسوة. وحين فتحتُ عيني ذهلتُ من وشاح رمادي كبير يحيط بجسدي، فزعت، يا إلهي ما هذا، ضحك البحر وقال: إنه حزنك الكثيف تسلل من مسامك، ابتسمت وأنا مبهورة بحالتي، ثمة شيء يضيء في روحي، ثمة شعور كان ضائعاً تماماً وتمكنتُ من استعادته، السعادة…

وكطفلة سعيدة أخذت أخبط في الماء، كنتُ أحس بحالة من هياج الفرح، كما لو أنني استعدتُ عافيتي النفسية غير المخربة بالموت، لم يعد حرير روحي مثـّقـباً بالرصاص، أية معجزة تحققت واستطاع البحر رأب ثقوب وصدوع روحي، وإطفاء جذوة الألم المشتعلة داخلي…

شعرتُ بقوى لانهائية في روحي، ورغبتُ أن أسبح حتى ألامس خط المدى حتى أتلاشى في ذلك العناق بين السماء والبحر… صرخت فرحة باكتشاف أضاء في عقلي كومضة، في ذلك الخط تولد الحرية…

كنتُ أقفز من البهجة، مفتتنة باكتشافي الذي قررت أن أعلن عنه حال عودتي إلى الأرض… أتوغل داخل الماء وأنا أفكر أنني يجب أن أملك شجاعة الحياة… وألا أترك للموت أن يهزمني…

ووجدتني أدندن بأغنية الحياة حلوة بس نفهمها، وتحولت الدندنة إلى صراخ الحياة حلوة… لم أكن أتبين طبيعة مشاعري لكني كنتُ أحس بذلك الزخم الهائل في روحي، ها أنا أقترب من خط المدى، من خط عناق البحر مع السماء حيث تولد الحرية، لكن ماذا دهاني، لِمَ ألهث بتلك الطريقة ! لا يجب أن أتعب، عيب عليّ أن أتعب… حسناً لن أوبخ نفسي، سأرأف بها، سأرتاح قليلاً، استلقيت كالمصلوبة والبحر يحملني برأفة، أغمضت عيني هاربة من وهج الشمس، لم أعرف ماذا حصل في تلك اللحظة، في تلك البرهة القصيرة من الزمن الأشبه برفة جفن، ثمة صراخ أليم، موجع، وأصوات سقوط من علو شاهق، يا إلهي إنهم يحفون بي، الشباب المذبوحين الذين ألقوا بهم في نهر العاصي… فتحت عيني وحدقت بوجوههم المحتقنة، وعيونهم النازفة، ونافورة الدم المتدفقة من أعناقهم المذبوحة، اصطبغ الأزرق بالأحمر، كانوا يبرطمون بكلام لا أفهمه، ونظرات عيونهم النازفة تتجاوزني، كأنهم يحدقون بمشهد مروع، فاحش القسوة…

ماذا يقولون، كيف لا أفهم حرفاً واحداً مما يقولون ؟! ولماذا لا ينظرون إليّ، بدؤوا يتكاثرون، وطفت جثث كثيرة مذبوحة على سطح الماء، لم أصدق ما أرى، بالتأكيد أنا أهذي، صرتُ أحاول أن أقبض على الماء، وتسلطت عليّ هذه الفكرة بجنون، حتى أحسستُ أنني تحوّلت إلى قبضة، لماذا هذا الهوس بالقبض على الماء، لكن الماء كان يتسلل من بين أصابعي كوجودي تماماً. كنتُ أنزف وجودي، وهؤلاء ينزفون دماءهم… ولم تعد نظراتهم تتجاوزني بل انصبت علي دفعة واحدة، وصار كلامهم مفهوماً، سألوني بصوت واحد: هل أنت حية أم مذبوحة؟

وحين هممتُ أن أجيب اكتشفت أنني لا أعرف الجواب، لسؤال اعتقدتُ أنه بديهي… تخثرت الكلمات في حنجرتي كما تتخثر الدماء في أعناقهم المذبوحة بالساطور أو السيف أو السكين…

تحسستُ عنقي، اكتشفتُ أن فيه ثلماً، وضعتُ سبابتي في الثلم فأحسستُ بألم الطعنة، لكني لا أذكر متى طـُعنت ولا من طعنني…

لكن سائلا شفافا كالدمع اللزج خرج من ثلم عنقي… تعجبتُ من نزفي اللا لون له، ضج الشباب المذبوحون بالضحك، وقالوا: نزف الروح لا لون له…

لم أستطع أن أحتمل المشهد، لقد رميتُ نفسي في البحر ليداوي جراحي، فهل أراد أن ينتقم مني … كيف وصل شهداء نهر العاصي إلى البحر؟…

سأعود إلى الشاطئ، وسأرتمي على الرمل الناعم كالحرير، لعل الرمل أكثر رحمة من البحر… وهنت قواي، وخفتُ أن أغرق، لكنني غذيتُ في نفسي التوق للوصول إلى بر الأمان… إلى الشاطىء… ثمة سرطان ينهش أحشائي، أحسه تماماً شعور يشبه الجوع الكافر، شهوة آثمة تفتك بروحي، سميتها شهوة العدم، الموت حولي يريد ابتلاعي كما ابتلع الآلاف. شهوة العدم والموت تلاحقني في الماء، فعليّ أن أصل شاطىء الأمان، تهاويت على الرمل وقواي نزفت من مسامي، كنتُ ألهث كأني ألفظ أنفاسي، كان نزيف روحي عديم اللون يتدفق من ثلم في عنقي، ياه كم تشاكسني الذكريات، كيف أنسى متى ذ ُبحت ومن ذبحني ؟! يا لقسوة الشمس، أحسها تجففني، وتـُبخر نسغ الحياة في عروقي، انتظمت أنفاسي وشعرتُ أنني أغفو، عبرت ذهني عبارة، من التراب وإلى التراب نعود، وتخيلتُ جسدي يغور في الأرض مطمئناً وسعيداً، متدثراً بالتراب . هل غفوتُ أم انخطفت إلى عالم آخر، لأنني حين فتحتُ عيني وهممت أن أقوم لم أستطع، كنتُ مُسمّرة مكاني، ويداي وقدماي مكبلتان، شعرتُ بقماش خشن يلفني، لم أعرف من دثرني بهذا القماش الخشن وأنا غافية فوق الرمل، لكن صوت ضحكات عذبة أشبه بالزقزقة ثقبت أذني، وكمن يتلقى صفعة مدوية تعيده إلى صوابه، رأيتهم حولي مدثرين بكفن أبيض، شهقت، إنهم أطفال الحولة، وقبل أن تكتمل شهقتي وعيتُ أنهم أطفال سوريا، هربوا من قراهم ومدنهم وبيوتهم، هاجروا مع أكفانهم إلى البحر…

مشلولة من الذعر والألم، حدقت بوجوههم الطفولية الجميلة الشاحبة، ثمة حلم واحد يطوف فوق عيونهم نصف المغلقة، حلم الطفولة المنتهكة، المذبوحة… صرت أئن وأنا أهذي، أحبائي، أحبائي…

زجروني، اسكتي، أنت تشوشين الموسيقى الرائعة التي نسمعها…

سألتهم أية موسيقى… قالوا: عصافير الجنة تغني لنا…

هممت أن أسألهم فللحال أخرسوني، وقالوا لا نريد أن نسمع صوتك، لا نريد أن نسمع صوت الكبار…

تركوني مسمرة على الرمل، عاجزة عن الحركة، وتحولت أكفانهم إلى أجنحة وحلقوا كطيور نورس ناصعة البياض تهاجر إلى حيث تتوق روحها…

لم أكن واهمة أبداً، ولم يمسني الجنون، ولم أخشى أن أفقد صوابي من هول الصدمة، لكني وجدتهم بأم عيني يطيرون باتجاه خط المدى حيث يتعانق البحر مع السماء، حيث تولد الحرية.

شعرتُ بقبضة قوية تمسكني من معصمي، وتقتلعني من مكاني، حدقت بوجه الغريب، قال لي قلقاً : أنا المنقذ، انتبهتُ أنكِ تتململين في مكانك، كأنك على وشك الإغماء، ما كان يجب أن تنهكي نفسك بالسباحة في عز الظهيرة…

قدم لي كأساً من الماء، شربته على مهل، وجدتني أكرر بتعجب وشيء من سخرية، المنقذ، المنقذ… تركني وعاد إلى صومعته العالية التي بالكاد تتسع له، وبجانبه ثمة إطار يشبه دواليب السيارة، إطار الإنقاذ…

هل ما شربته ماء ؟! هل قدم لي المنقذ ماء الحياة، أم ماء مسموماً … أهو منقذ أم قناص، وهل إطار الإنقاذ إطاراً لإنقاذ الغرقى أم حبل مشنقة …

لن أذهب إلى البحر بعد الآن…

(كاتبة سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى