صفحات العالم

هل بلغت سورية نقطة اللاعودة؟

 


جورج سمعان

انتقدت صحيفة «واشنطن بوست» بشدة الرئيس باراك أوباما وإدارته. ووصفت موقفه مما يجري في سورية بأنه «مخز». وعزت هذا السكوت إلى اعتقاد واشنطن باستمرار الحاجة إلى نظام الرئيس بشار الأسد في التسوية السلمية في المنطقة. ولم يخف بعض المعارضين السوريين، في تصريحاتهم، خيبة أملهم من هذا الموقف، خصوصاً عندما يقارنونه بالموقف المختلف من النظام في طرابلس.

والواقع أن موقف إدارة أوباما يندرج في إطار سياسة عنوانها «الحوار» والانخراط مع دمشق بدل القطيعة والمواجهة. هذه جربتها الإدارة السابقة، خصوصاً إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ووجدت واشنطن نفسها معزولة وبعيدة عما يجري، كما عبر أكثر من مسؤول أميركي حالي. ولكن حتى في عز المواجهة مع «محور الممانعة» رفض أركان الرئيس بوش الإبن كل الدعوات إلى تغيير النظام السوري. فضلوا الحرص على بقائه… على رغم كل الاتهامات التي ساقوها إليه بـ «دعم الإرهاب» في العراق و «زعزعة الاستقرار» في لبنان ودعم المقاومتين اللبنانية والفلسطينية. رفعوا شعار تغيير «سلوك النظام». وإلى اليوم ترى الولايات المتحدة أن لا غنى عن دمشق والتحدث إليها كلما قويت شوكة «حزب الله» وحركة «حماس». أو كلما كانت هناك حاجة إلى إيصال رسائل معينة إلى الحزب أو الحركة. وهذا ما دفعها إلى إعادة تعيين سفير جديد لها لدى سورية قبل أشهر.

ومنذ اندلاع الحراك في سورية ميزت واشنطن بين موقفها مما يجري في هذا البلد عن مواقفها مما جرى ويجري في بلدان عربية أخرى. ومثلها فعلت حكومات عربية انخرطت بأشكال مختلفة حيال الحراك في البحرين وليبيا واليمن. وساد اعتقاد راسخ بأن الولايات المتحدة لا تزال تراهن على وجوب بقاء النظام مكررة دعوته إلى أجراء أصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية. وهكذا رأى بعض العرب الذين يخشون من الفوضى التي قد تعبر إلى لبنان والأردن الجار الشمالي لشبه الجزيرة. لكن اللهجة الأميركية والأوروبية حيال ما يجري تزداد حدة مع تصاعد العنف الذي يرافق ارتفاع وتيرة التظاهرات وانتشارها على مساحة البلاد، من باب مزيد من الضغط وليس من باب التحريض أو الانخراط في سياسة اسقاط النظام، كما بدأ المتظاهرون السوريون يطالبون.

هذه السياسة الأميركية – الصمت والانتظار – ليست جديدة. اعتمدتها مع الرئيس علي عبد الله صالح قبل الحراك وأثناءه. كانت بحاجة إليه في حربها على الإرهاب عموماً وتنظيم «القاعدة» خصوصاً. وصبرت ودول الخليج ولا تزال في انتظار توافر البديل الذي عليه التزام مجريات المعركة على التنظيم… وكذلك توفير الأمن المطلوب في باب المندب الذي تعبر مضيقه أكثر من ثلاثة ملايين برميل من النفط يومياً إلى الغرب. فضلاً عن أن دول مجلس التعاون لا ترغب في رؤية جارها الجنوبي يغرق في حرب أهلية قبائلية وجهوية ستترك آثاراً مدمرة على الاستقرار في كل شبه الجزيرة. كل هؤلاء يريدون انتقالاً منظماً للسلطة من أجل اداء دور في اختيار دقيق للخلف.

والجميع يتذكرون أن واشنطن انخرطت في حوار مع دمشق. تقدمت إليها غداة الحرب على العراق وسقوط نظام صدام حسين بلائحة من المطالب. حاور السوريون وناقشوا. كانوا قلقين. لم يفعلوا ما فعله العقيد القذافي الذي استدار مئة وثمانين درجة وتخلى عن «برنامج أسلحة الدمار الشامل» وعن… كل الذين ساعدوه في السعي إلى هذا البرنامج. وسعوا يومها إلى شراء الوقت. حاولوا المقايضة بين تنفيذ المطالب الأميركية وما يمكن أن يحصلوا عليه: من «كلمة سياسية مسموعة» في مستقبل العراق، ومن إعادة الإعمار فيه، إلى مسائل أخرى تخص لبنان والقضية الفلسطينية والجولان. وبلغت المفاوضات حد تبادل أوراق عن شكل الحكومة السورية الجديدة المطلوبة بوجوه جديدة ووجوب غياب أخرى. وأوراق عن تحديث معظم البنى والمؤسسات وعلى رأسها الاقتصاد. ومع تبادل الأوراق بين الأميركيين والسوريين عبر إحدى الدوائر الديبلوماسية الخليجية، كان الوضع في العراق يتجه نحو مزيد من العنف… فطار «ربيع دمشق» ومعه كل الوعود بالتغيير. وراجت أحاديث عن معارضة الحزب «القائد»، وأخرى عن «مراكز قوى» قاومت التغيير المطلوب، مما كان يسيء إلى صورة الرئيس الأسد وموقعه وقدرته على اتخاذ القرارات.

وساق الأميركيون الكثير من الاتهامات إلى سورية بدعم «الارهاب» في العراق، وببناء «حلف الممانعة» مع إيران والحركات التي ترفض «مسيرة السلام» في المنطقة، وعلى رأسها «حزب الله» وحركة «حماس». ولا حاجة إلى سرد ما تلا ذلك من أحداث مفصلية، في لبنان وغزة خصوصاً، حتى بدء اندلاع الثورات العربية، وإطاحة حكومة الرئيس سعد الحريري والتفاهم السعودي – السوري… ومعها كل المساعي الغربية والعربية لتغيير سلوك النظام وإعادة التوازن إلى علاقات دمشق، العربية والإيرانية.

هذه الوقائع قد يرى إليها بعضهم تأكيداً لمقولة الدوائر الرسمية في دمشق اليوم أن سورية مستهدفة لأنها «تمانع وتقاوم»، وأن ثمة قوى خارجية وراء الحراك. لكن المواقف تبدو خلاف ذلك. بعض قادة المعارضة ينتقدون واشنطن – ومعها أوروبا وقوى عربية – لأنها لا تزال تبدي حرصاً على النظام. لم تناشد المجتمع الدولي التدخل. لم تدع مجلس الأمن إلى التحرك. بل فوجئت بالحراك العربي العام، «من المحيط إلى الخليج». لذلك كان طبيعياً أن تتحرك مع قوى خارجية أخرى للحفاظ على مصالحها. هذا ما فعلت في تونس ومصر، وهذا ما تفعله في ليبيا واليمن. إذ لا يمكن العالم في ظل «العولمة» وترابط المصالح أن يقف مكتوفاً.

تدخل الأتراك والقطريون وغيرهم لتقديم النصح والمساعدة لإبعاد «الكأس» عن سورية. ونادت أميركا وأوروبا بوجوب إجراء الإصلاحات الداخلية المطلوبة. وبديهي لهذه القوى أن تعيد طرح إصلاح ما تراه «خللاً» في سياسة سورية وانخراطها في ما يمكن تسميته «المشروع الإيراني» للشرق الأوسط. وهو مشروع تناهضه أنقرة ومعظم العواصم العربية وعلى رأسها الخليجية، فضلاً عن المجتمع الدولي. كما أن أصواتاً سورية معارضة لم تخف اعتراضها على سياسة النظام حيال إيران «وحزب الله» تحديداً. ما يجعل إعادة النظر في هذه السياسة شعاراً من الشعارات المطروحة. من هنا الاتهام الأميركي المتكرر لدمشق بالاستعانة بإيران في مواجهة الحراك الداخلي. ومن هنا يرى بعضهم أن الحراك في سورية يستهدف الجمهورية الاسلامية أيضاً والقوى الحليفة.

وهذه السياسة هي ما يقلق اللبنانيين من احتمال لجوء سورية – بعد اتهاماتها لفريق منهم بالمساهمة في الحراك دعماً بالمال والسلاح – إلى ترحيل بعض الضغوط التي تتعرض لها إلى الساحة اللبنانية. وهذا ما يعقد مهمة الرئيس المكلف نجيب ميقاتي في تأليف الحكومة الجديدة وتوجب الانتظار.لأن ثمة من ينتظر ما سيحصل في دمشق. فإذا تطورت الأحداث نحو الأسوأ – وهو الخيار المرجح – قد تلجأ طهران إلى دفع حلفائها إلى الإمساك بالوضع في لبنان عبر حكومة «صافية الولاء». وهي رغبة قد لا يكون ميقاتي قادراً على تحمل نتائجها، هو الذي جهد عبثاً منذ اليوم الأول إقناع الناس قبل أن يقنع نفسه بأنه يتمتع بتأييد سعودي وخليجي وغربي لتشكيل الحكومة!

خلاصة القول ان الحراك في سورية لم تعد تنفع فيه مقولات النظام عن «الأيدي الخارجية» و «العصابات المسلحة». هل جاوزت أعداد هذه العصابات أعداد القوى الأمنية؟ وهل تنتشر العصابات بمثل هذه السهولة في كل ساحات التظاهر في معظم المدن وفي بلد كان نظامه يتغنى بأنه الأكثر أماناً؟ والسؤال بعد «الجمعة العظيمة» هو هل دخلت سورية مرحلة اللاعودة؟ وهل يمكن أن يستمر الموقف الأميركي والأوروبي على حاله بعد سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا؟ يبدو أن النظام اختار الحل الأمني، واختار الناس مواصلة الاحتجاج والمطالبة بحقوقهم، بصرف النظر عن مواقف الخارج… والنتيجة معروفة. وهذا ما يقلق الوسطاء من تركيا إلى قطر على بلد فيه كمّ من الاتنيات والطوائف والمذاهب والقبائل أيضاً.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى