صفحات سورية

في الهوية

عبير اسبر

    في مثل هذا الوقت من العام 2008، كتبتُ روايتي “قَصْقِصْ ورق” اعتقدت حينها أني أنهيت كل الإشكالات الجوهرية والمسائل الأخلاقية المتعلقة بأزمات”الهوية” وتداعياتها، فبعد تأملات دامت أكثر من اللازم، كتبتُ ما كتبتْ، وطويت تلك الصفحة حتى النهاية، لم أكن أعلم أني سألاحق بأسوأ كابوس يعصف بالأديب، وهو تجسّد فكرته من حبر على ورق، إلى فرانكشتاين متقن، يطارده في نومه الأكثر هناء. فأنا كاتبة من سوريا، هكذا قالوا لي! وتصريح بسيط كهذا لا يبدو مسلماً به، فما الذي يعنيه لي اليوم أنّي من سوريا؟ هو سؤال الهوية مجدداً، إشكال اعتقدت بكثير من الجهل أني حسمته في روايتي، عبر نفي الهويات الضيقة ورفضي الانصهار في قوالبها، حيث ناقشت مفاهيم الأنوثة والذكورة، ناقشت الطوائف والانتماءات العقائدية، رفضت الأبعاد الجغرافية للأوطان، صرحت بأني مواطنة كوزموبولتانية تنتمي للكون، ولا من مفاضلة بيني وبين ورقة شجر، ولا أمتلك بإنسانيتي قوامة على كوكب الأرض أكثر مما يملك قرد يحمل موزته.

    لكن هذا الهراء كله، قفز من كتابي دفعة واحدة، صفعني في وعيّ، تجسد لي مثل وحش خرافي برءوس عدة. بسبب سؤال اعتقدته بسيطاً وهو ليس كذلك

    باعتبارك كاتبة سورية ما رأيك بـ.؟

    يتطلع المحتجون الآن إلى النخبة السورية التي خذلته، فما رأيك السبب وراء سكوت معظم المثقفين و.?!

    وهكذا تتوالى الأسئلة المخلِصة والمغرضة، المهتمة بالمعرفة، أو السعيدة بإشعال حرائق الردود مهما كانت، والمأزق الذي أُحشر فيه لا يساعدني على الخلاص، يسألونني باعتباري سورية وأنا لا أعلم إن كنت كذلك!؟

    فقد سبقني إلى تلك المعرفة المحتجون في الشوارع والمعارضون في الأحزاب والشهداء في جنازاتهم. سبقني الشبيحة والرعاع والقناصة وأبواق الإعلام المزداد هشاشة وغباء! الكل سبقني إلى سوريا التي يعرف، ويحارب ويُقتل ويقتل لأجلها، وأتُرك أنا لكفري العتيق. وتتداعى الذاكرة باحثةً عن الأسباب.

    فسوريا هي بلد اللافصاح بامتياز، ريفنا تتحكم بجماله، الطبيعة البكر ومواسم الوفرة، ويترك لفوضى ذوق قاطنيه، دمشق العاصمة الأقدم والأجمل، تخجل من غنجها، تخجل من عراقتها، أتحرك فيها كمن يتحرك ضمن ديكور مستعار، نصفه شوارع وأحياء بشعة بلا هوية، مرافق عامة من جامعات ووزارات ومكتبات بنيت بهاجس أمني، كتل مسلحة ببشاعة البيتون وصلادته ترصف تخدمياً، تسفلت تخديمياً، تمد كهرباءها ومياهها تخديمياً، وكل ما هو جميل متقن يعد رفاهية مستغياً عنها، قد تجرح بإتقان مظهرها فقراء البلد المصر على اشتراكيته حتى بعد تهالك الاشتراكيات، بينما يترك الفقراء لفقرهم والمدينة لتداعيها، أما النصف الآخر من المدينة يعيش على عمارة محنطة من بحرات دافقة حتى الملل وياسمين ذابل وعطفات ضيقة، عمارة امتصت سكرها ودهشة أسرارها، المطاعم والفنادق، ومسلسلات “البوجقة” الفلكلورية، التي تحكي عن شوارب الرجال، وعذرية الصبايا اللواتي يحملن شرف الشام وأهلها.

    لكل هذا النكران والغضب على المكان النابذ، حاربت سوريتي فييّ، لست ممن يؤمنون بحب الأوطان حباً لامشروطا، فكل مكان أمرّ به، أسكنه، يجب أن يقدم لي الأسباب الكافية كي أقتل لأجله، أنفى، أذبح وأعذب، فلا عواطف تسفح كرمى لعيون وطن لم أناقشه فيي، ولا حروبٍ تخاض لأجل رايات لم أرفعها، لكن حضرتْ سوريا الآن، غنت أغنيتها، فوقعتُ بالعشق.

    ربما أتركها وأهاجر، ربما اُعتقل وأُعطب للأبد بالحقد وبتصفية الحسابات، ربما أخرس تماماً بموت اختياري، لكني الآن تورطت بها وانتهينا. موت شبابها جرني من عنقي كي أفصح، أخلاق من اعتنقها بلداً، أجبرني على الانحياز واللحاق بعابري طرقاتها.

    لكن السؤال يظل معلقاً! هل فعلا خيّب المثقفون السوريون الشارع السوري؟ حسنا باعتباري سورية مشككة أقول ربما! لكن كل هذا لا يهم، فقد سبق الشارع المثقفين وتركهم للانتظار، وأنا مثلهم ما زلت أسكنها، محنة الانتظار.

الاهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى