صفحات العالم

الإحساس بالسوريين «يا الله ما إلنا غيرك يا الله»

ماجد كيالي

يحتاج السوريون اليوم، إلى من يدعمهم، ويساندهم، ويتعاطف معهم، بأي شكل من الأشكال، وبأي صورة من الصور، ولكنهم يحتاجون أكثر من كل ذلك إلى من يحسّ بهم، بآلامهم، ومعاناتهم، وعذاباتهم، فغياب مثل هذا الإحساس، هو ما يثقل على السوريين، أكثر من أي شيء أخر، وهو الذي يفاقم من شعورهم بالوحدة، وبأنهم تركوا في مواجهة مصيرهم، وهذا هو مصدر صيحاتهم في المظاهرات والحارات والبيوت: «يا الله يا الله ما إلنا غيرك يا الله».

لا شكّ أن ثورة السوريين تتضمّن ثغرات ومشكلات ونواقص، وهي كأي ثورة غير منزّهة من الأخطاء والانحرافات، فهذه وتلك من طبيعة البشر ومن طبائع الصراعات السياسية، لاسيما في المراحل الانتقالية، حيث يسود نوع من عدم الاستقرار، وحيث تظهر على السطح كل المعادن، الأصيلة والرديئة، النفيسة والرخيصة، ولاسيما أننا نتحدث عن ثورة عفوية بكل معنى الكلمة، كانت انطلقت من نقطة الصفر تقريبا في علاقة السوريين بالسياسة.

لكن هذا كله لا يغطّي ولا يبرّر للبعض عدم التعاطف ولو الإنساني مع جراحات السوريين وعذاباتهم والظلم الواقع عليهم، منذ أزيد أربعة عقود، ولا اعتقاد البعض بأن هذه الثورة جلبت الفوضى، لكأن البلد كانت تعيش حالة نظام، ولم تكن من الأصل تعيش حالة فوضى وتهميش للدولة والمجتمع والأفراد، وللماضي والحاضر والمستقبل، منذ 42 عاما، أي منذ باتت تقبع في أسر عائلة اعتقدت ان البلد دانت لها إلى الأبد.

والحال فإن سوريا هذه كانت أصلا في حالة عطالة، وشلل، في ظل حكم القائد الواحد، والقائد الخالد، فقد تم تغييب أو تهميش السوريين، فالقائد لاشيء قبله ولا بعده، فهو صانع سوريا، وباني مجدها، فهو وحده التاريخ، والسوريون من دونه لاشيء.

والأنكى من كل ماتقدم أن ثمة من يحمّل السوريين، أي الضحايا، مسؤولية قتلهم بالطائرات والدبابات والمدفعية، وضمن ذلك تدمير ممتلكاتهم وبيوتهم، ومعه تدمير عمران سوريا، وتخريب نسيجها المجتمعي، مع أنه واضح تماما من يقوم بكل ذلك، وواضح تماما من يمتلك هذه الأسلحة.

إزاء كل ذلك، ما المطلوب؟ هل المطلوب من السوريين الخنوع والقبول بالذل والهوان والعيش خارج التاريخ؟ أليس هذا هو معنى العيش في ظل نظام «سوريا الأسد إلى الأبد»؟ ثم ماهي السياسة أو ماهي الأخلاق السياسية التي تبيح للبعض اتخاذ قرار بشأن بقاء شعباً بأكمله أسيراً لعائلة تتوارث البلد، وضمنه أن يبقى هذا الشعب يعيش في خوف ورعب مقيمين، تحت رحمة نظام أمني، يتحكم بكل شاردة وواردة، وفي ظل نظام صادر الزمان والمكان، والبشر والحجر.

حقاً هذا شيء لا إنساني، وقاسي، وصعب، وغير مسبوق، وليس له علاقة بمجرد قصور أو انحراف في الوعي السياسي فقط، وإنما هو فوق ذلك ينمّ عن قصور مريع في الإحساس السياسي والأخلاقي أيضاً، فهذا هو معنى إنكار مظلومية المظلوم، والأنكى مطالبته باعتبار الظلم، والحرمان من الحرية، وامتهان الكرامة الانسانية، منّة، ونعمة، ينبغي أن يسبح بحمدها!

نعم ينبغي الإحساس بالسوريين، ليس من أجلهم فقط، بل من أجلنا أيضا، من أجل انسانيتنا، وحقنا في الحرية والكرامة، من أجل أولادنا، ومن أجل مستقبل افضل لنا.

نعم ينبغي الإحساس بالسوريين العاديين، أهل البلد من أبناء الضيع والأرياف، وسكان الضواحي والعشوائيات، والقاطنين في الأحياء الشعبية وحارات المدن العميقة، الذين يمنحون سوريا اسمها، ولونها، ونكهتها، الشوام والحلبية والحماصنة والحوارنة والديرية والرقاوية وأهل الساحل والجبل، على تعدد لهجاتهم، وتباين أمزجتهم، وتنوع عاداتهم وشكل لباسهم، واختلاف نمط دبكاتهم وأهازيجهم.

المعنى من ذلك أن ثورة السوريين لا تستمد أهميتها، فقط، من كونها ثورة سياسية، أو باعتبارها ثورة ضد الاستبداد، فثمة كثير من الثورات من هذا الطراز، وإنما تستمد أهميتها من تميزها بشيء أكبر وأغلى وأهم من كل ماتقدم، وهو يتمثل في أنها هي بالذات التي مكّنت السوريين، وبعد عقود من التهميش والضياع والمحو، من اكتشاف ذواتهم، والتعّرف على حقيقتهم، كبشر عاديين، يحق لهم أن يحبوا أو أن يكرهوا، وأن يتفقوا أو أن يختلفوا، وأن يفرحوا أو أن يحزنوا، لاعتباراتهم هم، وبسبب حاجتهم هم إلى ذلك، وليس لاعتبار أخر، يخصّ «الأب القائد» أو «الرئيس الخالد».

المهم الآن أن الثورة السورية التي كانت تعتبر من سابع المستحيلات قبل عامين، باتت تعرف اليوم بأنها الثورة الأكثر ادهاشاً، والأكثر صعوبة وتعقيداً، والأبهظ ثمناً، بين ثورات الربيع العربي، بل إنها باتت تعرف أيضاً بأنها الثورة اليتيمة، أي التي تعتمد فقط على تضحيات السوريين وشجاعتهم وتصميمهم، وعلى التوق للحرية لديهم، أكثر من أحد أخر في هذا العالم.

هكذا ثمة ثمن باهظ تم دفعه في الثورة السورية، من أعمار السوريين وعمرانهم ومعاناتهم، لكن هذا لا يقلل من اعتبار هذه الثورة الأكثر مشروعية، بين الثورات الشعبية العربية، على رغم كل المشكلات، إذ يكفي انها اقتلعت أسطورة «الأسد إلى الأبد»، ويكفي أنها أنهت الخوف من قلوب السوريين، مع صيحة «الشعب السوري ما بينذل»، ويكفي أنها وضعتهم على مسرح التاريخ، كفاعلين أحرار يقرّرون مصيرهم، وإن بطريقة فجّة أو صادمة.

قصارى القول فقد يمكن للبعض أن لا يتعاطف سياسيا مع السوريين، وحتى ولا مع أهداف ثورتهم، لكن عدم التعاطف، وعدم ابداء أي حساسية، ولو حتى أخلاقية، لما يحصل لهم، لاسيما مع 70 ألف شهيد واضعافهم من المعتقلين والجرحى، ومع أربعة ملايين نازح ومتشرد، وكل هذا الخراب في البيوت والعمران، فإن عدم التعاطف الأخلاقي إنما ينمّ عن وجود شيء مرضي، ولا إنساني، وغير أخلاقي، في أحوال مجتمعاتنا ونخبها السياسية والثقافية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى