صفحات الناس

مجد السوري الذي انقذته خيطان الصوف من “الجحيم”/ صهيب أيوب

 

 

يمرر مجد زرزور يومياته بخفة. كأن يترك هاتفه الخلوي في الشقة التي يتقاسم غرفها مع بعض أعضاء فرقتي “طنجرة ضغط” و”خبز دولة” السوريتين، ويخرج الى عمله بعد الخامسة عصراً، غير آبه للوقت. فهو سيد نفسه في شارع الحمرا، الذي جعل منه نجماً فوق “بلاطة” مرتفعة قرب مقهى “دانكن دوناتس”.

المكان حوّله، منذ عامين، الشاب الآتي من حي الميدان السوري، الى ملتقى عابر للبنانيين وسوريين واجانب من دون كلفة تذكر. يكتشفون حيوات بعضهم. يتبادلون سجائرهم امامه، بعد أن استهوتهم اعماله اليدوية في صناعة ربطات شعر واساور من خيوط ملونة تبقى متدلية من “شنطته” السوداء على ظهره، وإلى جنبها “قنينة” ماء وبعض العبوات الكحولية التي تخفف من عبء المساء. فهذه الخيوط أنقذته من قسوة اللجوء بعيداً من عائلته ورفاق حيّه، وطورت هوايته في التصميم والرسم التي شاءت ظروف الحرب السورية ان تمنعه من اكمال شهادتها، ولتصبح أشبه بمهنة لا يحس انه مقيد بها. جعلته اكثر تحرراً، وساعدته في انجاز 19 وشماً في مختلف انحاء جسمه النحيل، “هيدي القصص ما كان فيني اعملها بدمشق”، يقول وهو يدخن سيجارته.

يكمل الشاب العشريني المشهد الصاخب، الذي يمزج حياة السهر في “مترو المدينة”، مع لاعبي “سكايت بورد” ومغنيي الراب وشلل الفتيان من راقصي الـ”برايك دانس”. يجلس القرفصاء وهو يمازح رفاقه الخارجين من نومهم المتأخر، والذين يعمل بعضهم في بارات الحمرا. يتجمعون حوله من دون ان تزعجه جلبتهم وهم يرشفون القهوة، “والا ما رح يكون للبلاطة معنى”، يقول بابتسامة فرحة، محاولاً ربط عقدة ملونة بشعر فتاة تخبرنا انها تداوم كل يوم مع رفيقاتها في الجلوس قربه. “بضلو البنات حولي”، يضيف بشيء من العبث، وهو يؤكد انه الوحيد الذي جذب المارة ورواد مقاهي الحمرا الى حرفته، التي تبدأ اسعار قطعها من 5 آلاف ليرة وتنتهي عند حدود الـ20 ألفاً كحد اقصى.

ما يهم مجد ان تكون مساحته فوق “البلاطة” مع زبائنه شاغرة. يجلسون او يتفرجون عليه وهو يصنع من الخيوط شرائط مختلفة الاشكال. تعلم بعض تصاميمها من فتاة المانية، كانت تتخذ من درج ملاصق لمقهى “تاء مربوطة” مقراً، في مهنة ليست مهنة، هي “فن يدر المال” وفق ما يقول، وهو يحرك يديه بسرعة، مستعيناً بأسنانه بدلاً من المقص، في انهاء اسوارة بنفسجية. “الاشكال يمكن اختراعها مثل الطبخات. لكن الاصول يمكن تعلمها. التركيبة تحتاج الى ذوق ونظرة”، يحكي عن عمله، الذي ينتهي احياناً عند الثانية فجراً، “بعد ما يخلصو الناس من الحمرا”. يتنقل مجد بين الحمرا ومار مخايل وبدارو، وهو معجب بشلل الاجانب الذين يجدون فيه شخصاً ظريفاً وممتعاً، فتعلم منهم اللغة الانكليزية وتعلم بعضهم العربية منه، وصاروا يقصدونه لحكاياته الغريبة، “احياناً احكي اشياء لا معنى لها او هلوسات. لكني احب ان اروي حكاية ما”.

واستطاع على الرغم من هلوساته، انقاذ حياته من جحيم بيروت. نام بعد وصوله منذ 3 سنوات من سوريا على رصيف الكورنيش البحري. عمل في صالون حلاقة في عين المريسة، ثم استقر فوق الرصيف، لكن هذه المرة مشتغلاً بخفة عشرات الاساور القماشية الزاهية بألوان حادة. “لولا الخيطان كنت بعدني طفران”، يقول بعفوية، وهو يفرد خصلات شعره الشقراء، ويضيف بحماسة: “تعلمت من الشارع ومن اذواق الناس تصاميم جديدة وصرت اخترع ما اجده ملائماً لشخصية كل واحد منهم. انا لا اعتبرهم زبائن. هم رواد بلاطة الدانكن مثلي. يفتشون عن مكان لا يكلفهم. يسلونني ويعزفون موسيقاهم ويرقصون”.

حين تتجاوز “غلة” مجد الـ200 الف ليرة لبنانية في اليوم، يصنع اساور وربطات مجاناً للعابرين، “لا يهمني المال. اكتفي بما لدي. واعد نفسي غنياً. في الحفلات الموسيقية في مار مخايل وسهرات بدارو احصل على مال كثير. في احدى المرات حصلت على 800 الف في ليلة واحدة. احس اني اكتسبت عملاً لا يتطلب مني سوى بضع دقائق من الصبر، وسرعة بديهة وبعضاً من شغف”، يقول، وهو يعبر عن طموحه في تطوير امكاناته في تصميم الثياب ايضا، لكنه حالياً لا يملك محترفاً خاصاً به، “هيدا الشي ما فيني اعملو بالشارع”. يروي عن بدايات تعلمه الخياطة: “تعلمت منذ عمر الـ 12 ان اقصر ثيابي بنفسي واصممها كما يحلو لي. كانت امي تماطل في اتمامها. فأعمل وحدي في تصميم ما احبه. وصرت مع الوقت اهتم بالامر. صممت حذائي الذي انتعله بنفسي”.

يحلم مجد بالسفر الى اوروبا ودراسة تصميم الازياء وصناعة الاكسسوارات اليدوية، ويعمل على اتمام اوراقه، “ليس مهماً كيف نعيش، المهم ان نتعلم العيش ونسعى الى احلامنا”، يقول بلهفة وهو يجزم انه سيعيش نجماً في شوارع اوروبا كما يعيش في بيروت.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى