صفحات سوريةهوشنك أوسي

هل تعود تركيا وأكرادها إلى دوّامة العنف: هل سوريا أو إسرائيل هما مصدر تفجّر الأوضاع؟


هوشنك اوسي

تحوّلات المشهد التركي وازدياد سخونته، والانزلاق الدراماتيكي نحو العنف والعنف المضاد بين تركيا وأكرادها، بخاصّة بعد الهجوم النوعي الذي شنّه مقاتلو حزب العمال الكردستاني، قبل فترة، على ثماني مواقع عسكريّة تركيّة، في محافظة هكاري (جولميرك)، قتل فيها 81 جندي تركي، دفعت العديد من المراقبين إلى محاولة الخوض في خلفيّات هذا التحوّل، كلٌّ من زاويته. لكن، بعض هذه القراءات، لم يلامس جوهر المشكلة، وشابها الانحياز لوجهة النظر التركيّة والموقف التركي، دون الأخذ بمبرّرات ومواقف الطرف الآخر، أي حزب العمال الكردستاني، كي تكون القراءة متوازنة. جاءت قراءات الحدث على مستويين. الأوّل: ربط الحدث بشكلٍ فوري ومباشر بما يجري في سورية من انتفاضة شعبيّة: أنّ ازدياد العنف في تركيا، ولجوء الكردستاني إلى قعقعة السلاح بهذا الكمّ والنوع، منشأه “انتقام” النظام السوري من الدور التركي في دعم المعارضة السوريّة والعسكريين المنشقّين، وكنتيجة لتوتّر العلاقات التركيّة-السوريّة؛ مع أنّه رغم كل التهديدات التركيّة بفرض عقوبات على نظام الاسد، لم يصل التوتّر بين البلدين لمستوى قطع العلاقات الدبلوماسيّة، وطرد السفير السوري من أنقرة! هكذا بنى أصحاب وجهة النظر هذه، وهم لقسمٍ كبير منهم معارضون سوريون، تحليلهم على فرضيّة: أنّ كلّ عمل عسكري يقوم به العمال الكردستاني ضد تركيا، هو بـ”الضرورة”، ضد الانتفاضة السورية، ومع نظام الأسد، دون الأخذ، بحيثيّات المشهد التركي، بعمق وجديّة ومحاولة الإحاطة بكل جوانبه وتفاصيله الداخليّة التركيّة.

لا يفترق المستوى الثاني كثيراً عن الأوّل، لجهة إحالة الأزمة التركيّة إلى منشأ خارجي، وتبنّي الموقف التركي، مع فارق زجّ إسرائيل في الأمر، باعتبارها تمدّ وتدعم الكردستاني بالسلاح والتقنيّة والتدريب حسب رأيهم. أصحاب وجهة النظر هذه، غالبيّتهم إسلاميون منحازون للتجربة التركيّة، ولطالما قاموا بالتسويق لها في العالم العربي والإسلامي. ولكن هؤلاء أيضاً يتجاهلون منسوب العداوة السياسيّة والأيديولوجيّة التي يكنّها حزب العمّال الكردستاني لإسرائيل. ذلك أنّ تل أبيب، لم تكتفِ بدعم تركيا عسكريّاً وأمنيّاً ولوجستيّاً، وحتّى سياسيّاً ودبلوماسيّاً، طيلة فترة صراعها مع العمال الكردستاني (30 سنة تقريباً) وحسب، بل شاركت، بشكلٍ استراتيجيّ وفاعل، في اختطاف زعيم الحزب، عبدالله أوجلان، من العاصمة الكينيّة نيروبي في 15/2/1999.

الكردستاني ومساعيه السلميّة

تأسّس حزب العمال الكردستاني في 28/11/1978، وكانت أيديولوجيّته خليط من اليساريّة الثوريّة والميول القوميّة الكرديّة، كموقف من اليسار التركي، الذي كان ينتمي له مؤسّس الحزب عبدالله أوجلان، وتجاهل هذا اليسار للقضيّة الكرديّة. تبنّى الحزب شعار تحرير “كردستان الكبرى” (التي تتوزّع أجزاءها على أربعة دول؛ تركيا، ايران، العراق وسورية)، وبناء نظام اشتراكيّ فيها. وبدأ كفاحاً مسلحّاً ضدّ الدولة التركيّة في 15/8/1984، لتحقيق هذا الهدف. ثم تراجع عن طروحاته وشعاره في الدولة القوميّة، وبات يميل لتبنّي الخيار السلمي سنة 1993، حين أعلن أوجلان وقفاً لإطلاق النار من جانبٍ واحد، إفساحاً للمجال أمام المساعي السلميّة، والوساطة التي كان يقوم بها، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، والرئيس العراقي الحالي، جلال طالباني، بطلبٍ من الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال. إلاّ أن هذه المساعي باءت بالفشل، بعد انزلاقٍ مفاجئ نحو العنف، وقتل عناصر الكردستاني لـ33 جنديّ تركي، (قيل فيما بعد بأن أطراف في الدولة الخفيّة بتركيا، كانت وراء ذلك، عبر اختراق الكردستاني)، والموت المفاجئ للرئيس التركي (وقيل أنّه اغتيل لأنّه وافق على الحوار مع أوجلان والكردستاني). ولكنّ، الكردستاني، بدأ رويداً يقدّم التنازلات تلو الأخرى، بخاصّة بعد اختطاف وأسر زعيمه أوجلان في نيروبي، وصار يتبنّى الدولة التركية الوطنيّة الديمقراطيّة، اللامركزيّة، التي يعترف دستورها بالشعب الكردي، ويضمن له حقّ الإدارة الذاتيّة لمناطقه، جنوب شرق تركيا (كردستان تركيا) ذات الغالبيّة الكرديّة.

طرح الكردستاني مبادرات سلام وأعلن عن وقف إطلاق النار من جانبٍ واحد، ثلاث مرّات قبل اختطاف أوجلان، وأربع مرّات بعد ذلك. والحقّ أن حكومة حزب العدالة والتنمية، قد حظيت بالحظّ الأوفر من المبادرات السلميّة، قياساً بالحكومات القوميّة السابقة لها. هذا ما مهّد السبيل أمام “إنجازات” و”نجاحات” سياسات أردوغان الاقتصاديّة، وبل أنعشها. إذ أنّ الحرب بين الطرفين هي التي كانت تنهك الاقتصاد التركي أصلاً. منذ شهر تموز/يوليو من العام الماضي، وتركيا تتفاوض مع أوجلان في سجنه. في حين استمرّ هذا الأخير في طمأنة حزبه، بأنّ الحوارات واللقاءات الجارية معه جادّة، ووصلت إلى مرحلة متقدّمة من التفاهمات المتّفق عليها. وكان يدعو دوماً حزبه للتهدئة، ويستجيب الأخير له. لكنّه في تصريحاته، كان يحذّر أيضاً من تبعات المماطلة والتسويف، ومن عدم الالتزام بما تمّ الاتفاق عليه. كما حوّل الزعيم الكردي وجهة التفاوض إلى قيادة الكردستاني في جبال قنديل، وأوروبا أيضاً، في مسعى لإشراكها في العمليّة السلميّة.

ثمّ أتى التصعيد الأخير بين الكردستاني والدولة التركيّة، بعد أن أحسّ الأوّل بعد انتخابات حزيران/يونيو 2011 بأنّه خدع، ناهيكم عن حملات التمشيط التي شنّها الجيش التركي في المناطق الكرديّة جنوب شرق تركيا وحصدت أرواح العشرات من مقاتلي الكردستاني، بالرغم من الهدنة والمفاوضات الجارية. هكذا أعلن الكردستاني بأنّ العمليّة النوعيّة التي قام بها مقاتلوه على المواقع العسكريّة التركيّة الثمانية، في محافظة هكاري، أتت ردّاً على استهداف الطيران التركي، لثلاثة من قيادييه، بينهم رستم جودي، يوم 10 تشرين الأوّل/أكتوبر2011.

الكردستاني وسورية

هرب زعيم العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من تركيا إلى سورية في صيف 1979، مستشفّاً نُذُر حدوث انقلاب 12 أيلول/سبتمبر الدموي عام 1980، بقيادة قائد الجيش وقتئذ، الجنرال كنعان إيفرين. ولم تتشكّل لأوجلان وحزبه علاقات مباشرة مع النظام السوري إلاّ بعد الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982. إذ توسّطت فصائل فلسطينيّة بين الكردستاني والسلطات السوريّة لمنح أوجلان حرية التحرّك بين سورية ولبنان، ولمقاتليه المرور من تركيا إلى لبنان لتلقّي تدريبات عسكرية في سهل البقاع. كما سمح للكردستاني بالنشاط الجماهيري بين الكرد والعرب السوريين في كلّ محافظات سورية. استفاد النظام السوري من علاقته بالكردستاني إلى أقصى الحدود القصوى، لجهة استنزاف تركيا، وإشغال الكرد السوريين بـ”الثورة الكردستانيّة في تركيا”، وتجاهل مظالمهم وقضيّتهم وحقوقهم في سورية. في الوقت نفسه، استفاد الكردستاني من علاقته مع النظام السوري، وشكّل في سورية قاعدة جماهيريّة كبيرة، قدّمت نحو 5 آلاف مقاتل فقدوا حياتهم في الصراع العسكري بين الحزب الكردي وتركيا، بالإضافة إلى وجود ما يزيد عن ألفي مقاتل كردي سوري حاليّاً في صفوف العمال الكردستاني، العديد منهم تبوّأ مناصب قياديّة حسّاسة عليا؛ منهم: القائد السابق للجناح العسكري في الحزب، باهوز أردال [1]؛ والقائد الحالي للجناح العسكري، نورالدين صوفي؛ والقيادي البارز في الهيئة السياسيّة للحزب رستم جودي [2]؛ بالإضافة إلى أنّ العشرات من القيادات الميدانيّة العسكريّة والتنظيميّة، هم من الكرد السوريين، كشاهين جيلو، آلدار خليل، زاخو زاغروس، هيفيدار شيار، روناهي أحمد، خبات ديريك.

في خريف 1998، كادت الحرب بين سورية وتركيا تندلع، حتّى وقّع الطرفان اتفاقيّة أضنة الأمنيّة، والتي خرج بموجبها أوجلان من سورية وتنقّل بين موسكو وأثينا وروما، ريثما تمّ اختطافه من نيروبي. في عهد الرئيس الحالي بشّار الأسد، وجدت هذه الاتفاقية تطبيقاتها العمليّة في مكافحة دمشق للعمّال الكردستاني. هكذا سلّمت دمشق ما يزيد على 100 من عناصره إلى السلطات التركية، ناهيكم عن اعتقال ما يزيد على 1200 من قيادات وعناصر حزب الاتحاد الديموقراطي السوري، (الأوجلاني التوجّه)، وزجّهم في السجون. وبالتالي، انقطعت علاقات النظام السوري بالعمال الكردستاني، وبل انخرط النظام، وبشكلٍ قوّي واستراتيجي في المساعي التركيّة لتصفيّة هذا الحزب. على ضوء الانتفاضة السوريّة، وتدهور العلاقات بين نظام الأسد وتركيا، حاولت دمشق إحياء علاقاتها مع الكردستاني، في مسعى لاستخدامه كما في السابق، ورقة ضغط ضدّ أنقرة. إلاّ أن المصادر أكّدت، بأنّ هذه المحاولات، قد باءت بالفشل.

الكردستاني واسرائيل

يجهل الكثيرون أنّ حزب العمال الكردستاني حمل السلاح ضدّ إسرائيل إبّان الغزو الاسرائيلي للبنان صيف 1982، قبل حمله السلاح ضدّ تركيا في صيف 1984. إذ انخرط الكردستاني في المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة والفلسطينيّة وقتئذ، وفقد 11 من مقاتليه، وأصيب العديد منهم بجراح، وتمّ أسر آخرين، أفرج عنهم مع الأسرى الفلسطينيين والاسرائيليين، بعد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان إلى تونس. كما رفض الكردستاني كلّ محاولات الاستمالة الإسرائيليّة، حين كان يحظى بحضورٍ قوّي في لبنان وسورية مطلع الثمانينات وحتّى نهاية التسعينات. دون أن ننسى أنّ التحالف الاستراتيجي العسكريّ والأمنيّ والاقتصادي بين أنقرة وتل أبيب الذي أبرم سنة 1996، على زمن الحكومة الائتلافيّة لحزب الرفاه الاسلامي وحزب الطريق القويم (يمين الوسط) بقيادة طانسو تشللر، قد جعل إسرائيل تنخرط، وبقوّة في حرب تركيا على الكردستاني. هكذا انخرط جهاز الموسّاد بشكلٍ مباشر ورئيسيّ في تتبّع حركة أوجلان، بعد خروجه من دمشق في خريف 1998، حتّى اختطافه. بعد ذلك، حاولت الدولة العبرية إجراء اتصالات بالعمال الكردستاني في أوروبا، وتمّت دعوة بعض قياداته السياسيّة إلى تلّ أبيب، إلاّ إنّهم رفضوا أيّ شكلٍ من أشكال العلاقة مع إسرائيل. أتى هذا الرفض من موقف إيديولوجي وصل حدّ التزمّت، أثار انتقادات العديد من الأوساط الكرديّة، التي كانت ترى فيه أمراً لا يتناسب وقواعد اللعبة السياسيّة، وضرورة الأخذ بالمصالح على حساب المبادئ؛ خاصّة أن العرب والفلسطينيين، توصّلوا لاتفاقيّات سلام مع إسرائيل!

العدالة والتنمية والقضيّة الكرديّة

أطاح رئيس الوزراء التركي أردوغان، قبيل خوض الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، بكلّ قيادات حزبه ذات الأصول الكرديّة، وضمنهم نائبه في رئاسة الحزب، دنغير مير محمد فرات، بالإضافة الى العشرات من البرلمانيين من أصول كرديّة، في مؤشّر واضح على طغيان التيّار القومي التركي على حزب العدالة والتنمية. بالتالي، خسر هذا الحزب المزيد من الأصوات والنواب مقابل حزب السلام والديمقراطيّة (حزب كردي موالي للعمال الكردستاني). ترافق ذلك مع ضغوط سياسيّة، إذ شطبت طلبات ترشيح العديد من القيادات البارزة في الحزب الكردي من اللوائح، ثم أعيدت تحت ضغط الشارع الكردي. ثمّ منع ستة برلمانيين كرد من دخول البرلمان، لكونهم سجناء سياسيين [3]. فقاطعت الكتلة الكرديّة (30 برلمانيّ) جلسات البرلمان احتجاجاً على عدم الإفراج عن زملائهم الستة. ثم عادوا للبرلمان، كبادرة حسن نيّة. إلاّ أنّ حملات الاعتقال استمرّت وطالت قيادات وكوادر حزب السلام والديمقراطيّة، وبينهم رؤساء بلديّات انتخبوا ديمقراطيّاً. حتّى وصل عدد النشطاء السياسيين والحقوقيين والإعلاميين الكرد الذين تمّ اعتقالهم منذ 2009 ولغاية الآن، ما يزيد عن 2500 ناشط، بتهمة “دعم الإرهاب”. كل ذلك وأوجلان يدعو للتهدئة وضبط النفس. إلاّ أنّ الأخبار انقطعت عن هذا الأخير منذ أكثر من شهرين ونصف؛ ومنعت الحكومة التركية محاميه من اللقاء به، تارةً بحجّة سوء الاحوال الجويّة، وتارةً بحجّة تعطّل الزورق الذي سيقلّ المحامين إلى سجن جزيرة إيمرالي. يأتي ذلك وسط استمرار حملات التمشيط العسكريّة والقصف الجوي والمدفعي العنيف لمعاقل ومعسكرات الكردستاني في جبال قنديل، في المثلث الحدودي العراقي-التركي-الإيراني.

هكذا يبدو أنّ الحكومة التركيّة مصرّة على اتباع الخيار العسكري، ومحاولة فصل القضيّة الكرديّة عن حزب العمال الكردستاني. في حين لم تفعل هذه الحكومة شيئاً، خلال سنين حكمها التسعة، في إطار تهيئة الرأي العام التركي لقبول حل سلمي وديمقراطي. هذا ما أكّده الكاتب والصحافي التركي محمد علي بيراند، في عاموده بصحيفة “حريّة” التركيّة [4]، بعد الهجوم الذي شنّه مقاتلو الكردستاني على المواقع العسكريّة التركيّة، وردّة فعل الحكومة والإعلام التركي حيال ذلك، حيث كتب تحت عنوان “مع الأسف، ما زلنا غير مستعدّين للسلام”، وقال: “كنت أعتقد أنّنا شبعنا آلاماً ومعاناة. كنت أعتقد أن المواطنين الترك والكرد قد يئسوا من نزف الدماء والحروب. كنت أعتقد أنّنا أخذنا العبرة الكافية من تجاربنا السابقة. لكن يبدوا أنّني أخطأت. إذ لا الحكومة، ولا المعارضة، ولا الرأي العام التركي، مستعدّون للسلام”.

* كاتب وصحافي كردي

 [1] راجع مقابلة الكاتب معه في صحيفة الحياة، 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2007.

[2] اغتيل في قصف جوّي لمناطق جبال قنديل في 10 تشرين الأول/أكتوبر2011.

[3] يجيز القانون التركي للسجين السياسي الخروج من السجن في حال فاز في الانتخابات النيابيّة.

[4] صحيفة حريّة التركية، 17 تشرين الأول/أكتوبر2011، http://www.hurriyetdailynews.com/n….

لوموند ديبلوماتيك بالعربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى