صفحات العالم

المؤامرة الكبرى على سوريا


سمير كرم

لا يمكن أحدا أن يعرف مدى فظاعة الأكاذيب الإعلامية العربية التي تحيط بأحداث سوريا ما لم يكن يطلع بصورة يومية على ما يكتبه الاعلام الغربي من دون توقف عن هذه الأحداث نفسها.

الاكاذيب الاعلامية العربية التي تبث من خلال الفضائيات ـ امتدادا من السعودية الى المغرب مرورا بمصر ـ عن احداث سوريا تنفيها أولا بأول الحقائق التي يبثها الاعلام الغربي، بشكل خاص الاعلام الاميركي، والمسألة هنا لا تقتصر على الاعلام الغربي التقدمي او اليساري. ان متابعة اخبار سوريا عبر الكتابات اليومية لصحيفة «تقليدية» مثل «نيويورك تايمز» تكشف للقارئ عن الحقائق بصورة لا تكاد تختلف عما تنشره صحيفة الحزب الشيوعي الاميركي اليومية. ذلك ان احدا لا يستطيع في ظل النظام الاميركي ان يحول صحيفة اميركية الى أداة طيعة في يد وزارة الخارجية الاميركية او حتى وزارة الدفاع او وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية. ما تفعله الصحيفة الاميركية هو انها تنشر الاكاذيب التي تبثها أي من هذه الجهات ـ بما في ذلك الوفد الاميركي في الامم المتحدة ـ ثم إذا تبين في اليوم التالي او بعد ايام او اشهر ان للحقيقة ما تقوله فإنها لن تتردد في نشره. اما الاعلام العربي فإنه لا يستطيع ان يخرج من الطريق الذي ترسمه الاستخبارات الاميركية والديبلوماسية الاميركية. فهذا الطريق هو ذاته ما تتبعه الحكومات العربية من الالف الى الياء.

اذا كان في هذا غموض فإن مثلا واحدا يكفي ليشرح الامر. الاعلام الغربي ـ الاميركي بشكل خاص ـ عزا مذبحة «الحولة» السورية الى ما سماه قوات النظام السوري وظل لايام طويلة يردد اقوال المسؤولين الاميركيين والفرنسيين والانكليز والهولنديين، وربما اهتم ايضا بما تردده اجهزة الاعلام السعودية. وهذه اقوال اكدت وراكمت الاعتقاد بأن المسؤولية عن تلك المذبحة البشعة تقع على كاهل «النظام السوري». ولكن ما ان لاحت الحقيقة التي تكشف وتؤكد من المصادر المباشرة ان مسؤولية هذه المذبحة انما تقع على عاتق «المعارضة» حتى وجدت هذه الحقيقة مجالا للنشر على صفحات الصحف الاميركية وفي ارسال الفضائيات الاميركية والاوروبية. في الوقت ذاته، لا تجد الحقيقة مجالا في الاعلام العربي فتستمر السعودية بلسان وزير خارجيتها، اي الدبلوماسي الاول فيها، في ترديد الاكاذيب عن مسؤولية النظام السوري وضرورة التدخل من القادرين عليه لوقف المذابح. وما يقوله السعودي يستمر في ترديده القطري والاماراتي والبحريني وكذلك الحال بالنسبة للاعلام المصري. الذي يقع تحت تصور لا يمكن التخلص منه بأن في سوريا ثورة كما ان في مصر ثورة مع ان الوضعين مختلفان اشد ما يكون الاختلاف بين ما يجري في مصر وما يجري في سوريا.

عندما أكد شهود عيان ان المذبحة في الحولة السورية ارتكبتها عناصر المعارضة كتب الصحافي الاميركي جون غليزر (9 / 6 / 2012) «ان المذبحة التي راح ضحيتها اكثر من تسعين سوريا والتي أطبقت على اهتمام العالم وجددت الدعوات الى حرب ضد نظام بشار الاسد يمكن ان تكون قد نفذت بواسطة مقاتلي الثورة حسب تقرير جديد. يقول التقرير الجديد في واحدة من الصحف الالمانية البارزة هي «فرانكفورتر الماني تسايتونغ» إن المجزرة ارتكبها في الحقيقة المتمردون على نظام الأسد، وإن معظم الضحايا القتلى كانوا اعضاء في الاقليات العلوية والشيعية التي يؤيدها الأسد الى حد كبير. وتنقل التقارير عن خصوم للأسد لا تذكر أسماءهم اعترفوا بضلوعهم في المذبحة». ويضيف التقرير انه «فور وقوع المذبحة فإن مرتكبيها يفترض انهم صوروا ضحاياهم ثم وصفوهم بأنهم ضحايا سنّة في شريط فيديو بث على شبكة الانترنت. ان التصريحات الاولية للشهود العيان للمذبحة ـ التي بثتها المصادر الاعلامية الغربية الكبرى ومنظمة مراقبة حقوق الانسان – وصفت المذبحة بأنها من عمل القوات السورية ومدفعيتها الثقيلة. ولكن روايات شهود عيان آخرين مثل أعضاء دير سان جيمس في القارا في سوريا ذكرت ان الهجوم جاء من متطرفين سنة حاولوا بعد ذلك ان يضعوا المذبحة في اطار مذبحة ارتكبها النظام على امل ان يؤدي هذا الى حدوث تدخل خارجي لعزل الاسد».

كأنما اصبح الاعلاميون العرب من غير قارئي الكتابات الاعلامية الغربية (…)

لكن الامر يصل الى حدود لا يمكن تجاهلها. لقد نشر موقع «غلوبال ريسيرش» البحثي، وهو موقع اميركي، حديثا شغل اربع صفحات من الحجم الكبير لسيدة روسية تعمل صحافية مستقلة في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات. تؤكد السيدة كوتشينيفا «ان الوضع في سوريا ليس مماثلا على الاطلاق للكيفية التي يقدم بها في الاعلام الواسع». وتقول الصحافية الروسية «انني دائما ما اصاب بغضب شديد حينما يكتب صحافيون ان التظاهرات الجماهيرية تجري في سوريا خلال الاشهر الاخيرة. هذا ليس صحيحا… ان اعدادا قليلة جدا تشارك في التظاهرات التي رأيتها وتجرى خصيصا للاستعراض امام الصحافيين كاحتجاجات يتم تصويرها على شرائط الفيديو لخمس او عشر دقائق قبل ان يتفرق الناس تماما. وفي بعض المدن حيث تسيطر العصابات بصورة مؤقتة فإنهم يجبرون الناس على الخروج في تظاهرات».

وتواصل الصحافية شهادتها لتقول «ان الشعب يريد استقرارا. هناك فوضى لا لزوم لها. كانت سوريا واحدة من اكثر البلدان امانا في المنطقة. تستطيع هناك ان تترك كيسا بداخله نقود في الشارع فإذا عدت بعد يومين فإنك تجده في المكان ذاته. اما الآن ولسوء الحظ فإن الوضع لم يعد كذلك. الناس خائفون. شيء ما كان مصدر فخرهم قد سرق منهم … أخبرني الناس ان العصابات هي التي اطلقت النار على بيوتهم وليس الجيش. انك اذا رأيت دخانا اسود على شريط فيديو صوّر بواسطة جهاز هاتف محمول فليس هذا الدخان نتيجة نيران مدفعية اطلقها الجيش بل هو دخان من احراق اطارات … ان المآسي الانسانية تبدأ في مدينة ما حينما تقع بأيدي العصابات».

وتضيف الصحافية المستقلة «ان هناك اعدادا كبيرة من المرتزقة (جنود البحث عن المال) يوجد شيشان ورومانيون وفرنسيون وليبيون وأفغان. وقد حدث شيء بالغ الغرابة مع المرتزقة الأفغان. بعض منهم وقعوا في الأسر وسئلوا ماذا تفعلون هنا فأجابوا بأنهم كانوا يطلقون النار على باصات اسرائيلية. اننا نحارب العدو لنحرر فلسطين. قد يبدو هذا امرا مثيرا للضحك ولكنه حقيقي. ان هؤلاء مندهشون حقا: هل نحن في سوريا؟ كنا نظن اننا في اسرائيل… انني على ثقة من ان مراقبي الامم المتحدة الثلاثمئة سيرون الحقيقة. فهل سيجبرون على ان يكذبوا؟ هذا امر صعب».

من المؤكد ان حديث الصحافية الروسية بهذا المضمون لن يجد طريقه للنشر في الصحافة السعودية او القطرية او الاماراتية او غيرها من صحف الاعلام العربي الذي يبدو انه هدف الاكاذيب الغربية عن ما يجري في سوريا.

كذلك لن يجد طريقه الى النشر في الاعلام العربي ما يكتبه المعلقون الاميركيون عن احداث سوريا وتحليلاتهم عن هذه الاحداث وما ترمي اليه الدول العربية والغربية المتورطة في تسليح العصابات داخل سوريا لايجاد المناخ المرعب الملائم للتدخل عندما يبدو ان التدخل العسكري الخارجي ـ من جانب حلف الاطلسي بقواته البحرية والجوية بشكل خاص ـ يمكن ان يحقق النتائج المرجوة. لن يجد طريقه للنشر في الاعلام السعودي ـ مثلا ـ ما كتبه المعلق الاميركي جوشوا لانديس (8/6/2012): «لنكن واضحين. ان واشنطن تسير وراء تغيير في النظام بواسطة حرب اهلية في سوريا. ان الولايات المتحدة وأوروبا ودويلات الخليج تريد تغيير النظام، ولهذا فإنها تجوّع النظام في دمشق وتطعم المعارضة. وقد فرضت العقوبات على سوريا. وهي مشغولة الآن في دفع النقود وإرسال امدادات الاسلحة من الخليج لتصل الى المتمردين. وتتوقع ان يغير هذا ميزان القوة لصالح الثورة. هذا اقصى ما تستطيع الولايات المتحدة ان تفعله. ان الرئيس باراك اوباما لا يريد التدخل مباشرة في سوريا لاسباب واضحة وهو محق في حذره. فقد فشلت الولايات المتحدة مرتين من قبل في بناء دول في الشرق الاوسط… لا يستطيع المرء ان يقارن ليبيا بسوريا… تعداد سكان سوريا اربعة امثال التعداد الليبي، وبالاضافة الى هذا فإن فرصة الولايات المتحدة لانهاء القتل في سوريا بواسطة القوة الجوية وحدها فرصة ضئيلة».

وليس هناك اي احتمال لأن ينشر الاعلام العربي ولو مقتطفات من بحث البروفسور الاميركي مايكل شوسودوفسكي (8 / 6 / 2012- غلوبال ريسيرش). في هذا البحث المهم يقارن البروفسور الاميركي بين ما يحدث في سوريا الآن وما ارتكبته الولايات المتحدة من قبل في كوبا في عام 1962. كانت الخطة هي هي، حدث يتم انتاجه بواسطة اعداد هائلة من القتلى. وكان اسم العملية الاميركية ضد كوبا في ذلك الوقت «العملية نورث وودز» وكانت من وضع البنتاغون. وكانت تقوم على قتل مدنيين بأعداد كبيرة في الجالية الكوبية في مدينة ميامي الاميركية وكذلك اغراق عدد من السفن التي يملكها المهاجرون الكوبيون، بهدف تبرير شن حرب على كوبا. ان الولايات المتحدة تكرر العملية نفسها في سوريا عن طريق قتل اعداد كبيرة من المدنيين كجزء من عملية سرية اميركية. الهدف هو دق طبول الغضب للرأي العام العالمي لصالح عملية تدخل اميركية اطلسية ضد سوريا.

وجهة نظر الباحث الاميركي ان السبب الحقيقي لما تمهد له اميركا في سوريا ـ وهو ما فشلت في تحقيقه من قبل ضد كوبا قبل خمسين عاما ـ ليس سوريا على وجه التحديد بل ايران. ان الادارة الاميركية تعتقد ان نزع سوريا من وضعها الحالي يعود بضرر استراتيجي على ايران. انه «يقطع صلة ايران بالبحر الابيض المتوسط. وهذا امر من الاهمية بحيث يستحق المخاطرة التي ينطوي عليها». وهو يضيف مؤكدا ان هذه العملية يجري البحث بتنفيذها بين واشنطن وتل ابيب منذ نحو عشرين عاما.

ولا تختلف هذه المعلومات عما يقوله محلل اميركي آخر ـ هو جيمس روبين ـ (2/6/2012 ـ فورين بوليسي) حيث يؤكد ان هدف الحرب الاميركية ـ الاسرائيلية ضد سوريا هو «حماية اسرائيل» وان «المرتزقة الذين تتولى رعايتهم الولايات المتحدة ليقاتلوا في سوريا يتلقون تدريباتهم في السعودية وقطر. هذا فضلا عن القوات الخاصة البريطانية والفرنسية والقطرية والتركية التي توجد الآن بالفعل داخل سوريا». والهدف الحقيقي هو ـ حسب معلومات روبين ـ يتجاوز حدود سوريا ويرمي اساسا الى تحقيق مجموعة اهداف ذات ابعاد اقليمية: «زعزعة استقرار سوريا وإضعاف ايران وتمكين اسرائيل من ممارسة سيطرة ونفوذ اكبر على الدول العربية المحيطة بما فيها لبنان وسوريا».

[[[[[

اعتذر اذ امضي حتى الختام في سرد ما قاله الكتاب الغربيون ـ الاميركيون خاصة ـ في هذا الصدد اعترافا بتفوقهم. ويقول شوسودوفسكي بالحرف الواحد: «ان ما نحتاجه بالفعل هو تغيير النظام في الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل».

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى