صفحات الثقافةمحمد كتيلة

هل سيقبل الشعب بأقل من رؤية الطغاة الأغبياء في القفص ؟؟


محمد كتيلة

في هذه الأيام التي لا شكل لها ولا لون أو مذاق، المسحوبة من عادياتها والشجون والأفراح، المعبدة بالدم، المغمسة بالهم والغم، المفصولة نهاراتها عن لياليها عن ثوانيها، عن المعنى، المنطق، الربح والخسارة، عن الحق والباطل، المعفية من حسابات الزمن القديم، والعالقة بين رحى الغضب المعمم في الأرجاء والميادين والأحياء الشعبية والأزقة المخنوقة والقرى المحروقة  والأرياف المدمرة عن بكرة أبيها وأمها وأهلها، وبين إتساع رقعة القتل المشاع والمجازر الرهيبة المتخمة بروائح الدم والجثث البريئة المتفسخة… أجدني وقد لا أجدني، وكأنني لم أتغير أبداً، مدفوعاً بقهر مرير وغريب، لأتذكر أكثر مما هو في الذاكرة وما أفرَغْته من سنوات الغيظ والقيظ والجور والتعب وما تلاها من إرتهان قسري للمنفى، على صفحات متكسرة ناشفة ممتقعة، لا هي بيضاء ولا صفراء، في كتاب عن الجحيم الذي كنت أموت فيه أنا وغيري، وسط دمشق وزنازينها، الجحيم الذي كنت فيه ضيفاً بريئاً عليه كسجين سياسي مختطف من لا حياته كلاجئ، لم يألف النظام/اللانظام وممارساته الشيطانية المرعبة في سوريا ، وأكثر ما كنت أمقته وأجن وأقرف منه، تلك الشعارات الترابية الكابية الكاذبة، المرفوعة في أعالي السماء، والتي لم تكن تهمه أو تخصه، لا في ظاهرها ولا في باطنها، ما عدا ذلك البريق واللمعان السحري الذي كان يجذب ويشد أكثر البشر، إستخفافاً واحتقاراً للعروبة والقضية الفلسطينية ولمفهوم الوطن، وأجلهم وضاعة وغباء وفقداناً للمروءة والشرف وتصاريف الحياة…ومن المقرف الأقرف، أنهم لا زالوا يشكلون السياج الواطئ، لنظام لا يليق به أي وصف، إلا بما هو أقل من الكلام العادي المبتذل، وهيهات أن تجده في أردأ القواميس وأكثرها فحشاً وقذارة.

في ساعات الحرب الكريهة هذه، أفكر في الهرولة مسرعاً الى الوراء الوراء، وبأقصى مما لدي من أقدام بالية مهترئة، لأصل إلى عربات ذاكرتي العتيقة المخلخلة، المفعمة بالنزوف والقروح والجروح، المزدحمة بكل أشكال القتل الوحشي والوحل الآدمي، وبكل أقاصيص عذابات السجون والمعتقلات وتواليها، وبالألم الممزوج بالقهر والفزع والخوف… أعود مكرهاً إلى هذا الوراء المستمر إلى الآن، فأجده أمامي في كل لحظة إرهاق وتعب، كيوم هرم وطويل، بلا ضفاف أو أجنحة، بلا أرض أو سماء وآن له أن يتغير، ويجب أن يمحى من الوجود و الوجوه المترفة بالإرهاق والخيبات المتلاحقة والوهن، من الأرواح التي تآكلت وأضحت عرضة للذباب، من البيوت المنهارة فوق رؤوس أصحابها، وأن يفصل فصلاً نهائياً من الهواء والماء ورغيف الخبز، وأن ينقرض من حياة البشر المليئة بالتعاسة والحسرات والشكوى والندم…. وأسأل كل من لم تنتابه لحظة قلق ووخز في القلب والروح والضمير: لماذا اقترن الرصاص والدم الوردي بنداء الحرية ، لماذا اقترن الغباء بالسلطة، وكيف لهؤلاء السفلة القتلة، أغبى الأغبياء، أن يحكموا الشعب والبلاد والماضي والحاضر، وأن تتغلغل وجوهم الممسوخة القذرة في حكايا الأطفال وحليبهم وأحلامهم وكراريس المدارس… يا للمهزلة، يا لبؤس البشرية، وسحقاً سحقاً للعبودية والظلم !!!

هذا رصاص وصوته صوت العدم  القادم من باطن الألم، فلو ابتعدت عنه ومهما ابتعدت سيصيبك  بداء كراهية الحياة، ولو اقتربت منه وتشممت رائحته في الأجساد الملقاة على قارعة الطريق وفي حاويات القمامة، ستعلم وتتعلم أن المسافة الفاصلة بين الموت والحياة ما هي إلا وهم ولا تحددها سرعة الرصاصة، بل موقفك النهائي ممن يطلقها وممن يتلقاها دفاعاً عنه وعنك وعن كل شعور إنساني في الدنيا، لايقبل القهر أو الضيم وهذا البؤس الذي لا يرحم.

طلع النهار من أجسادهم المطرزة بالرصاص، المفتتة بالقذائف والصواريخ، ملطخاً بالدم والأشلاء والصراخ والبكاء المر والأنين الممزق، وغاب نهار وألف نهار، في أرواح الذين عذبوا وشردوا وطردوا من لقمة الخبز،من نومهم المسروق، من أيامهم التي لم تكتمل ولم تصل…..  منا من أوقدت الإنتفاضة في ذاته السجينة نار الذكريات الأليمة، ومنا من اقترب من حافة الإنهيار المعنوي والوجودي، أما هم فلقد غادروا ودون علم منا، بعد إنقطاع الحمل واسوداد المدى الشاسع في رحاب سوريا.

وأخيراً… في ساعة الحسم الأخيرة، غادروا وبشق النفس، غادروا لأول مرة وآخر مرة، كل ما كان يجعلهم في عداد الموتى، بعد أن انتصف القرن الحديدي وحل الموعد والميعاد، وأعلنوها نهاية لكل النهايات…هؤلاء هم، من نعرف ولا نعرف ،أبناء وبنات الوطن المسجى على غروب الشمس…. غادروا كل ما فيهم من سخط ومقت وأحزان دفينة، وابتعدوا عن الصمت وجباله وأهواله، مسافة تكفي لموت الطاغية في آخر المطاف وسحقه بالأقدام العارية… ساروا غير عابئين بمن تركوا، وغيرهم لا زالوا يرزحون في الذل والإنحطاط، وخاصة من تقلدوا أوسمة الدفاع عن قرف النظام البائد الهالك المتهالك، والذي بات مكشوفاً في الساحات، لكل عين جريئة حرة، ولكل أذن تستطيع أن تسمع لو أرادت ذلك، ولعمرها الآن إن سمعت أو لم تسمع !!

لن يسأم الثوار الأحرار ولن يكلوا ولن يملوا، بعد أن إندلع الفجر من بين أصابعهم التي مدَّت الوطن/كل الوطن بعزة النفس والشموخ ومعنى الكرامة الإنسانية ورفض العبودية والإذلال، ولا بعد ان يثوي الجمر ويختفي الشبيحة المارقون في ظلالها والرماد، ويهدم المعبد على المعبود والعابد القديم للأبد!!

السفلة القتلة، أحفاد حثالة التاريخ، عندما اقتلعوا أظافر الأطفال وأشعلوا النار في قلوب الأمهات والرجال وفي أجساد الالاف  من الأبرياء العزل وظنوا أنهم إحترقوا وصاروا من أهل الرماد، ما فطنوا يوماً أو أنهم تناسوا أنهم كانوا يشعلون الثورة ويؤججون الغضب في القلوب المتجمرة التي هبت هبوب النار والبركان .

صفحة  مأساوية دامية وقاسية، من صفحات البطولات والعذابات الإنسانية الشاقة ستطوى، وأخرى ستمد أعناقها البيضاء للرياح التي غيرت مصبات التاريخ، رغم الويلات والجراح، وستخلد عليها جميع الأرواح التي أزهقت فتكاً وحرقاً وتنكيلاً وفاضت بها المدن والقرى والأنهار وبدءاً من الجنوب وليس نهاية في الشمال.

أفقنا ذات نهار ولا زلنا فيه… صحونا على وطن الشآم، على وطن غاب طويلاً في غياهب  الظلمات، الساعة كانت، المائة إلا نصف قرن من العبودية والأصفاد في منتصف آذار، فهل سيقبل الشعب بعد أن ينجلي النهار بأقل من رؤية الطغاة الأغبياء في القفص وراء القضبان ومهما تكن الحلول السياسية القادمة ؟؟؟ وعلى ما يبدو أنها إقتربت من أبواب القيامة.

كاتب فلسطيني يقيم في كندا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى