إياد الجعفريصفحات المستقبل

النخبة المنتظرة في سوريا/ إياد الجعفري

 

 

إذا أردنا أن ندرس المشهد الميداني والسياسي السوري من منظار مدارس النخب السياسية، يمكن لنا أن نلحظ ثلاث مجموعات من النخب: نظام الأسد والنخبة المحسوبة عليه. مجموعة نخب التنظيمات المسلحة الفاعلة في الميدان السوري، في مقدمتها، نخب التنظيمات الإسلامية. وأخيراً، مجموعة النخب السياسية غير المسلحة.

يعتقد معظم المراقبين للشأن السوري أن المجموعة الأخيرة، مجموعة النخب السياسية غير المسلحة، هي الأقل وزناً وتأثيراً في المعادلات الحاكمة للمشهد السوري. لكن على خلاف هذا الرأي، يبدو أن مستقبل سوريا سيتحدد على يدّ هذه المجموعة من النخب، رغم ما يظهر من تشتتها، وصراعاتها، وتبعية بعض رموزها لقوى إقليمية، وعجزها عن القيام بأدوار فاعلة في الواقع السوري.

ونقصد بمجموعة النخب السياسية غير المسلحة، المعارضة السياسية السورية، والتي تضم طيفاً واسعاً من التنظيمات والأجنحة والشخصيات، بدءاً بالائتلاف الوطني المعارض، مروراً بتيار بناء الدولة، وهيئة التنسيق، وليس انتهاءاً بشخصيات من وزن معاذ الخطيب ومُريديه، ومجموعة عمل قرطبة….إلخ

***

في مطلع القرن العشرين، وتحديداً، بعد أن أجهضت فرنسا التجربة الوليدة لمملكة فيصل بن الشريف حسين، سلّم السوريون قيادتهم لزعاماتهم المناطقية، كحالهم طوال قرون الحكم العثماني، وقبله المملوكي، الذي كان فيه للقيادات التقليدية، القبلية، والطائفية، والجهوية، والمناطقية…الكلمة الأبرز في سياسة البلاد.

في ذلك الوقت كانت نخبة سياسية، وُلدت من رحم البورجوازية المدينية، خاصة في دمشق وحلب، تشق طريقها في عالم السياسة. يمكن أن نقول أن ولادة هذه النخبة كان قبيل الحرب العالمية الأولى بسنوات قليلة. لكن بنيتها كانت خليطاً من شخصيات شابة، وأخرى عتيقة لها باع في الشأن العام منذ العهد العثماني.

لم تكن هذه النخبة محطّ تأييد واسع من جانب غالبية السوريين، وكانت وجهة النظر السائدة أن نخبة الساسة تلك من المثقفين المتحدرين من البيئة البورجوازية، ميالون للفرنسي، وللتفاهم معه. لذلك لم يكن من السهل تقبّل تلك النخبة، ولولا أنها كانت تضم رموزاً، كما قلنا، كان لها باع في الشأن العام منذ العهد العثماني، وتحظى بتقدير من جانب وجهاء المناطق بسوريا، لكانت، على الأغلب، اندثرت، قبل أن تنقلب دفّة الرأي العام السوري.

مع بدء عهد الانتداب الفرنسي، انجرت القيادات المناطقية بسوريا وراء عمليات الكفاح المسلح المناوئة للفرنسيين، والتي بدأت منذ الخطوات الأولى لهم على التراب السوري. وبعد عقدٍ من الكفاح المسلح ضد الفرنسيين، تُوج بالثورة السورية الكبرى التي دامت ثلاث سنوات، ثبت للسوريين أنهم غير قادرين على تحمل الكلفة الباهظة لهذا الأسلوب في مقاومة الفرنسي.

في تلك اللحظة التاريخية التي تغير فيها مزاج السوريين بخصوص كيفية مقاومة الفرنسي، والتي تراجعت فيها شعبية المقاومة المسلحة، ارتفعت أسهم النخبة السياسية المدينية، التي درجت على التعامل السياسي مع الفرنسيين، فيما تراجع نفوذ القيادات التقليدية التي تحجمت بعد فشل تجربة التمرد المسلح المديدة.

من يُراجع تجارب النخبة السياسية المدينية خلال عقد العشرينات من تاريخ سوريا، عقد الكفاح المسلح ضد الفرنسي، يلحظ تعثر تلك النخبة، وتشتت شخصياتها، وضآلة خبراتهم. لكن منذ مطلع الثلاثينات، وبعد تراجع أسهم الكفاح المسلح والقيادات المناطقية التي ارتبطت به، كانت الخبرة السياسية لتلك النخبة قد صُقلت، وقدراتها التنظيمية قد تطورت. ومن ثم قادت تلك النخبة مساراً طويلاً من الكفاح السياسي، المشوب بالتمردات المسلحة المحدودة، ضد الفرنسيين، تُوج بنجاح، وكفاءة، في تأسيس الكيان السوري الموحد، بلا انتداب فرنسي، في ربيع العام 1946.

***

يمكن إسقاط تلك الحقبة من تاريخ سوريا، على ما نشهده اليوم، خصوصاً على صعيد دور النخب السياسية السورية المعارضة، سواء تلك التي في الداخل، أو تلك التي في الخارج.

فطول أمدّ الصراع المسلح، وانعدام آفاق حسمه، تزيد من الحاجة لتلك النخب كوسيط بين الأطراف المسلحة، من المعارضة والنظام على حد سواء، وكوسيط بين الداخل والخارج.

فالقوى الإقليمية والدولية اللاعبة في المشهد السوري لن تكلف قيادات مجموعات مسلحة بتمثيل مصالحها على الصعيد السياسي، بل ستكلف شخصيات سياسية من المعارضة، أو من أوساط النظام.

وكذلك الأمر مع نخب المجموعات المسلحة المعارضة، ومتنفذي الأمن والجيش على ضفة النظام، فهم لن يختاروا شخصيات عسكرية لتمثيلهم في أي ترتيب سياسي مُرتقب للبلاد، بل سيختارون شخصيات سياسية، سواء من المعارضة، أو من أوساط النظام.

في تلك اللحظة التاريخية، تلك التي يصبح فيها طريق العمل المسلح مسدوداً، وطريق العمل السياسي مُتاحاً، بل وملحاً لجميع الأطراف، حينها سيكون لتلك النخبة السياسية المعارضة الدور الأبرز في إدارة المشهد السياسي السوري، وإدارة التناقضات بين أفرقائه الميدانيين، بصورة تكفل رسم معالم سوريا المستقبل.

وفي تلك اللحظة التاريخية، ستكون خبرات العثرات السابقة التي مرت بها تلك النخبة، بمختلف أجنحتها وشخصياتها، كفيلة بصقل قدراتها على العمل السياسي الكفء، وعلى إدارة دفّة البلاد، ربما لفترة فقط، هي اللازمة لإعادة تأسيس الكيان السياسي السوري، مرة أخرى، لكن هذه المرة على أسس جديدة.

هل ما تزال تلك اللحظة التاريخية بعيدة؟…يبقى ذلك رهناً بتطورات الصراع الميداني، وقدرات الأطراف المحلية، والإقليمية الممولة لها، على تحمل لعبة عضّ الأصابع، وصولاً للحظة التي يصبح فيها إنهاء الأزمة السورية ضرورة مصلحية حاسمة لأحد الأطراف الدولية الفاعلة، على الأقل. وتحديداً نقصد هنا الغرب، وبالذات، الولايات المتحدة الأمريكية.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى